عبد الرحيم الخصار
(المغرب)

صلاح بوسريفالدار البيضاء ـ القدس العربي
هناك حراك جلي اليوم في الساحة الثقافية المغربية، لا يعزي إلي حركة المؤسسة، بقدر ما يصنعه الكثير من الأفراد الذين تحولوا بفضل انشغالهم الدؤوب وجديتهم إلي مؤسسات، ويمكن للمتتبع الذي لا تخدعه العين أن يلحظ ذلك في كافة مجالات التأليف من النقد إلي الرواية ومن القصة إلي الشعر والفكر.
ووسط هذا الحراك تنشب أحيانا بعض المعارك السرية أو الظاهرة، أحيانا بسبب اختلاف وجهات النظر، وفي أحيان أخري بسبب قصر النظر.
وكي نقف عند حقيقة السجالات الثقافية المغربية فتحنا الحوار مع الشاعر صلاح بوسريف محاولين فهم وضعية المؤسسة الثقافية بهذا البلد الأمين، والوقوف عند العلاقة الملتبسة بين الراهن السياسي والمثقف.
في هذا الحوار يوجه بوسريف انتقاداته لبيت الشعـر واتحاد كتاب المغرب، وللنقد السائد، ولـ(ربابنة) الثقافة أيضا.
لصلاح بوسريف إسهامـات هامـة في المجال النظري، هي: رهانات الحداثـة 96، المغايـرة والاختلاف في الشعر المغربي 98، بين الحداثة والتقليد 99، فخاخ المعني 2000، مضايق الكتابة 2002، الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر2006 إضافة إلي أعماله الشعرية: فاكهة الليل 94، علي إثر سماء 97، شجر النوم 2000، نتوءات زرقاء 2002، شهوات العاشق وحامل المرآة 2006، شرفة يتيمة، ج1 خبـز العائلة، وهو ديـوان يجمـع بيـن الكتابـة والصوت.
يكتسي هذا الحوار أهمية كبيرة لأنه يساهم بشكل جدي وواع في إزالة العديد من الأقنعة، وفي رد الاعتبار لجلال وهيبة الكتابة عوض تقديس الأشخاص والمؤسسات.

*تقول في ديوانك حامل المرآة :
سيبدو الهواء عاريا
والشجر
سيبدو كما لو أنه فقد أنفاسه
أرجو أن يكون هواء الكلمات، من خلال هذا الحوار، بيننا، عاريا. هل كان هذا العمل الجديد، ردا شعريا علي وضعيات ثقافية محددة؟

قد يبدو عنوان الديوان عتبة، لاستشعار ما انتبهت إليه. فالمرآة، تحمل جملة من الأبعاد، وهي دال مفتوح علي أكثر من احتمال، لعل وضعية نرسيس، حين تنبه لآخره في الماء، تكشف عن حجم الخسارة التي قد تعترينا، ونحن ننظر إلي حقيقة هذا الآخر، في هذا الجسم الصقيل. فالمرآة، بقدر ما هي كشف، فهي فضح، وتعرية. الشعر، وفق هذا المنظور، هو رد دائم علي وضعيات، أو أوضاع، وهو نوع من الصراخ الذي يسبق إطلاق النار. فما نعيشه من وضعيات، تفاقمت فيها الجراح، والخيانات، فيها، تتوالي، وتتناسل، تجعل الكتابة تكون استنكارا دائما، لما يجري، ويحدث. الأمر، هنا، لا يخص وضعا ثقافيا ما، بل يسري علي كل الجسم العربي، الذي هو في تداع مستمر، تذكر الحديث النبوي، حول تداعي الجسم كاملا، حين تصاب بعض أطرافه بعلة ما... هو ما سيقوله نيتشه بطريقته الخاصة.
وأنا حين أشير إلي الجسم العربي، وفي الديوان، بعد إنساني لهذه المأساة، لاحظ وجود سقراط والمسيح، إلي جانب بشار مثلا، فإنني أبدأ من الجراح التي طالتني، لأذهب إلي غيري ممن طالتهم نفس الجراح، أو نفس الخيانات بالأحري. وما يجعل الجرح فادحا، هو أن تأتيك الخيانة من أهل بيتك! أو هكذا كنت أتصورهم، انظر ما يقوله المسيح عن أهل بيته في الديوان.
فكيف إذن، تريد الكتابة أن تكون خالية من موقف، أو تكون، بالأحري محايدة؟. لا يمكن، فالحياد في الكتابة، يشبه البرود الجنسي، لأن العلاقة، في هذا الوضع، هي وجود طرفين يتفاعلان، ويتبادلان شيئا ما. ليس ضروريا أن يكون تبادل المحبة، هو الأساس، قد يكون تبادل العداء حافزا، أيضا لاستشعار الآخر في ذاتك.. ولا داعي لاستحضار رامبو هنا.

*في هذا العمل تعود لتتقاطـع مع نصوص التوراة والإنجيل، وفلسفة لاوتسو، وسقـراط، ونيتشه، وأوفيد وطرفة بن العبد، وبشار بن برد، والغزالي والحلاج، وغيرهم؛ هل كنت تكنّ في هذا التقاطع مع نصوص الماضي، نوعا من عدم الرضي والارتياح علي الحاضر الثقافي؟ وما الذي يجمعك بكل هؤلاء المتمردين الكبار؟

لم أكن أتقاطع مع نصوص، بل مع حالات. وحين يكون الأمر متعلقا بالمتأملين، أو بمن يشتغلون بالتفكير، ومراقبة الوجود، يصبح الأمر أكثر فداحة. كل هؤلاء الذين ذكرتهم، طالتهم جراح هذا الوجود، وكانوا يستشعرون ما يجري من خلال التعبير عنه بالكتابة؛ بنقله من جرح شخصي، إلـي جـرح وجـودي. أليس وجـودنا علي الأرض هو نـوع من العقاب؟ ثمة خطيئة ما حدثت في أزل ما، نحن ما نزال ندفع ثمنها، وأن تدفع ثمن ما لم تفعله، فهذا هو أقسي جرح. ولعل ما ذهب بي إلي هؤلاء تحديدا، هو هذا الجرح الكبير الذي يطالنا دون هوادة، وهذا القتل الذي لا يفتأ يأكلنا، رغم مواجهتنـا له. فنيتشه، كتاباتـه كلها تعبير عن فداحــة ما جري في زمنه، واقرأ ما يقوله عن الألمان، والنقد القوي الذي وجهه لهم، وكذلك نص دفاع سقراط عن نفسه، فهو لم يكن دفاعا، بقدر ما كان إدانة. وهو نفس ما قاله الحلاج، وهو مصلوب، حين كانت أطرافه تمزق، كما لو كان هو مرتكب خطيئة هذا الوجود.
دائما هناك عدم رضي، وإلا ماذا سيكون ما نكتبه إذا كان اقتناعا بما يجري. خطاب الرضي، والقناعة، هو خطاب سلطة، خطاب من يبرر الهزائم، والمؤامرات، ويبرر القتل، أو يدعيه، في ما يكون هو القاتل الحقيقي. وأخطر أنواع الحروب التي قد تخوضها، هي التي تفرض عليك في الظلام..
لذا فالذهاب نحو الكبار، هو تحجيم لمن يسعون إلي إبعادك، أو لجم لسانك عن قول ما يجري، وتثبيته، وأنت تعرف، أن الكتابة، بعكس الكلام، هي تثبيت، كما يقول دريدا، فيما الكلام امحاء. هؤلاء يخافون الكتابة لأنها شهادة وتثبيت.
عشت عشر سنوات من العزلة، أغلقت باب اتحاد كتاب المغرب، وبعده بيت الشعر، وفتحت غرفا أخري لتأمل الذات، وما يحيط بها، ولإعادة النظر، فيما صار يشبه لديك الماضي الثقافي، هل كان البعد عن المؤسسة خيارا فرديا، أم أنك وجدت نفسك مدفوعا إليه؟ وما الذي يمكن للشاعر أن يكسبه أو يخسره، حين يترك هذه الفضاءات، ويجلس إلي ذاته من أجل الكتابة؟
أنت تعرف أن الشاعر ليس له ما يخسره. فهو دائما يوالي الخسارات. المؤسسات الثقافية، في العالم العربي، لا يمكنها أن تكون نافذة للمعرفة، فهي نافذة للكسب، لهذا يلتجئ إليها من لا علاقـة لهم بالكتابـة، ويحرصون علي تولي شؤونها، إما بدعم من الدولة، أو بدعم من الأحزاب، أو باستعمال الجامعة، وهذا أمر يحدث اليوم عندنا في المغرب بشكل قاتل، لتفريخ أصوات، يتم استعمالها في التصويت، للحصول علي المناصب. أو لصنع الأصنام، من خلال ما يكتبـونه عن أشخـاص دون غيـرهم، انظر ما ينشر عندنا من كتب ودراسات. نفس الشخص موضوعها، وهو من يشرف عليها، ومن يطبعها، أليس هذا تدليسا في حق المعرفة، وتحديدا في حق الشعر..

*أهذا هو الحق في الشعر!؟

المثقف، أو الشاعر المعني بالمشاريع الثقافية الحقيقية، سيجد نفسه، خارج هذه اللعبة، وسيجد نفسه، عاريا، يدافع عن مشروع لا أحد يرغب فيه.
فمشروع اتحاد كتاب المغرب، امتصه الحزب، ومشروع بيت الشعر، أكلته النزعات الفردية، ومنطق الهيمنة والاستحواذ، وهذه هي مصيبة الثقافة العربية، والعمل الثقافي، كما قال الشابي، الذي عاش نفس الوضع، لأنها تخرج عن سياقها الثقافي، وتتحول إلي سياقات الأطماع والمواجهات. ليست الدولة من خرب اتحاد كتاب المغرب، بل الأحزاب، والأفراد، ونفس الأمر ينطبق علي بيت الشعر، الذي هو أيضا أصبح محكـوما بمنطـق المحاصصة، وهذا ما جره إليه رئيسـه الأول، الـذي أقصي من أقصي، وقتل من قتل.. وجاء في نهاية المطاف ليدعي الموت والإقصاء.
ليس مهما أن تفشل في نظري هذه المشاريع، ليست المؤسسات هي من يبني المشاريع الكبري، وفق هذا المنطـق البليد الذي أشـرت إليه، بل الأفـراد، وليس من يدعـون اليتم والقتل، وهم لا يحيون إلا بالآباء، وهم من يسعون لقتل كل حالات الضوء التي تتبدي في أفق ما. لهذا فعزلتي ساعدتني كثيـرا، علي إنجـاز أعمالي، التي طالما أجلتها، والعثور علي الطرق التي أخوضها اليوم، في الممارسـة، كما في النظر. فابن خلدون حين كان متسكعا في أروقة السلطة، لم يستطع أن ينجز عملا مفيدا، هذا حدث له، عندما اعتزل في قلعة ابن سلامة في تونس، وكانت نتيجة العزلة، عمله الكبير كتاب المقدمة ، وهذا ما جعله حاضرا معنا اليوم، وليس بدسائسه، وأطماعه التي أشعلها من أجل أشياء تافهة.

*دعنا نقول الحقيقة دون أن يعني ذلك اليأس، ألا تري أن المؤسسات الثقافية بالمغرب تعيش حالة من الإهمال والنكران والتهميش الكبير، بحيث لا تجد لها أي صدي أو أثر في سيرورة الأحداث الكبري بهذه البلاد؟

هذا هو مصير كل المؤسسات التي تتقادم مشاريعها أو تموت. فكرة اتحاد كتاب المغرب، مثلا، أو اتحادات الكتاب، في العالم العربي، كما أشـرت في استطلاع، منذ أكثـر من سنة، وكما أكدت ذلك في رسالتي لرئيس اتحاد كتاب المغرب، لم تعد ذات جدوي، لأنها استنفدت ضرورتها، وأصبح الاتحاد يعمل دون مشروع ثقافي، ودون سياسة ثقافية واضحة، تستطيع أن تساير التغيرات الطارئة، وما أصبح يعتمل في الساحة الثقافية من مقترحات، لم تكن موجودة من قبل. حتي شريحة المنخرطين الجدد في الاتحـاد، الذين جـاؤوا إليه من الكتابة، وليس من الأحزاب، علي الاتحاد أن يتعامل معهم من منظور مغاير، لا باعتبارهم نصابا قانونيا، لتمرير، القوانين والبرامج، التي تتحول، فيما بعد إلي أداة لقمع الجميع.
هذه المؤسسات، لم تعد ذات مصداقية، وأنت تري أن عددا كبيرا من الكتاب والشعراء، لم تعد تعنيهم هذه المؤسسات، لأن ما سعوا لتغييره، وما كانوا يعملون من أجل بلورته، كتصورات، وبرامج، للخروج بها من وضع الغيبوبة، ووجهت، بتدخلات لا علاقة لها بالشأن الثقافي. يمكنك أن تقوم بجـرد بسيط لأسماء المنتسبين للاتحـاد، ستفاجأ بوجـود أشخاص، لا تستطيع أن تعرف مبرر انتسابهم لهذه المؤسسة، أو من هم في المشهد الثقافي في المغرب.
التهميش طال هذه المؤسسات من داخلها، وهذا ما كنا من قبل، نعيبه علي وزارة الثقافة، التي هي قطاع من قطاعات الدولة، وهي مؤسسة بدون سياسة ثقافية، ومشروعاتها منذ الاستقلال إلي اليوم باءت بالفشل. فحين تصبح المؤسسات، التي يفترض فيها أن تكون مستقلة، خاضعة لبرامج الوزارة، ولما يأتي من هذه الوزارة، فالأمر يضاعف من قلقنا، لأن هذه المؤسسات، أصبحت تبحث عن كل ما تتمم به تقاريرها الأدبية التي تتقدم بها للمؤتمر، وتراهن علي الكم، لا علي طبيعة عمل المؤسسة، والغرض الذي من أجله وجدت، فما الذي سيجعل من هذه المؤسسات تكون حاضرة، في ما هي، غير موجودة في الأصل..
نفس الأمر يسري علي بيت الشعر الذي تم تدميره، وتجميد مشروعه الشعري الذي أسسنا به لتصور جديد للشعر، وللعمل الشعري. والتحدي المطروح اليوم علي هذه المؤسسات؛ أن تستوعب، أولا، ما يجري في الساحة الثقافية بالمغرب، وأن تفتح حوارات، أو تعقد لقاءات للحوار، مع من يهمهم الأمر، لأجل البحث عن مخرج، وتفادي السكتة القلبية التي أصبحت وشيكة.
لا يمكن للعمل الثقافي أن يكون مجرد لقاءات نعقـدها هنا أو هنـاك، فهذا ما أصبحت تنجزه جمعيات محلية بطريقة أفضل من هذه المؤسسـات. كل مؤسسة، لا تحافـظ علي استقلاليتها، ولا يكون لها مشروع واضح، مبني في سياق حوار جدي، وعميق، مع ذوي الاختصاص، وبنـوع من الشفافيـة، وقبول كل الاختلافات الممكنة، لا يمكنها أن تخرج من نفق الهزائم التي تعيشها.

*هل قدر المثقف المغربي أن يغض الطرف عن الحياة العامة ويكتفي بالجلوس إلي طاولة صغيرة في الحانة كل يوم يندب حظه العاثر الذي لن يستقيم؟ ألا تري أن التاريخ السياسي الراهن أفرز المثقف الذي ترتاح له السلطة؟

السلطة لم تعد مشغولة بالمثقف، فتجربة ما سمي بالتناوب، أفسدت كل شيء، لأنها أقحمت، في استجابتها للحكم، أشخاصا محسوبين علي المثقفين، فكانت النتائج التي أفرزوها كارثية، ليس علي الثقافة فقط، بل علي المثقفين. لهذا أصبحت السلطة تتحدث عن التقنوقراط، باعتبارهم الخيار الممكن، في مواجهة انتهازية المثقفين، وتهافتهم. قلة من المثقفين، هم من نأوا بأنفسهم، منذ بداية اللعبة، عن هذا الفخ لأنهم استشعروا خطورة ما يجري، ولم يكونوا طرفا في حوار التناوب، لأنه لم يكن هناك حوار أصلا. فحين نقصي المثقف، من تقرير مصير بلد بكامله، ونعطي الكلمة، للسياسي، أو للمثقف الذي تربي في أحضان السياسة، أعني الحزب، النتائج، لا يمكن أن تكون إلا بالصورة التي آلت إليها، انظر ما حدث في وزارتي التعليم، والثقافة، مثلا.
المثقف كان دائما قوة اقتراحية، ولم يكن آلة لتنفيذ ما هو مقرر سلفا. فهو شريك، ولا يقبل أن يكون كومبارساً في مسرحية رديئة، بممثلين، تنقصهم الموهبة. أطلقت مؤخرا بيـانا للشعراء المغاربة تنـاول العديد من القضـايا الحساسـة والمحرجة، وأوردت فيه ما يلي:
أساء إلينا النقد. زاول علينا خدره، وحولنا إلي غابة، شجرها لا فرق بين أنواعه، شجرة واحدة تكفي لتسمية الغابة

*هل كنت تقصد أن المغرب ظل خلال العقود الأخيرة مظلوما شعريا، بحيث كان يشار، دائما وفقط، إلي أسماء قليلة، هي التي أوكلت إلي نفسها مهمة تمثيل أكثر من ثلاثة أجيال من الشعراء في هذا البلد؟

أرجو أن يقرأ المغاربة، وحتي غير المغاربة، هذا البيان، فهو نداء، فيه حاولت أن ألامس الممنوع، وما لا يسمح بقوله، أو ما يقال بنـوع من التخفي والتقية.

نقد الشعر عندنا في المغرب لم يبدأ بعد، وما يجري هو نوع من الكتابـات الصحافيـة المبتذلة، أو كتابات، تعمل بعض الشعب، في كليات محددة، علي الترويج له من خلال توجهات معينة، إلي درجة أن هناك، ممن يدعون الانتساب للشعر، يفرضون علي الباحثين، استنسـاخ طرقهم في الكتابـة، واستنسـاخ ما وصلوا إليه من نتائج في أطروحاتهم. ما أنجز من أطاريح حول الشعر المغربي، أعني المنشور منه، كان نوعا من القراءات التي وضعت قوانين لهذا الشعر، حتي قبل أن تشرع في قراءته، وهي اليوم، انتهت، ولا يروج لها إلا داخل الجامعة نفسها، لأنها لم تسهم في خلق أفق شعري جديد، ولا في فتح النص الشعري علي أراض أخري، بل ساهمت في تعطيل كثير من الانفراجات التي كانت بدأت تظهر آنذاك.

هذا ما جعل المشارقة آنذاك ينظرون إلي الشعر المغربي، بنوع من الازدراء، لأن هذا النوع من القراءات، وهو ما زال مستمرا إلي اليوم، في صور أكثر فداحة، كان يسعي لتكريس أسماء محددة، هي التي تجدها اليوم في كل مكان.

اليوم تغيرت الأمور، فوسائل الاتصال الحديثة عرت هؤلاء، وكشفـت عن حقيقة ما يجري في الأراضي الشعرية في المغرب. لهذا فأنا لا أري أن هناك من يمثل الأجيال المغربية بمختلف تنوعاتها، أو ينوب عنها في الكلام باسمها، لأن النصوص والتجارب أصبحت متاحة، وتقرأ في أكثر من مكان، ولا ينبغي أن نتعجل النتائج، أو يزعجنا ما يجري. فالإعلام، بالأسف، أفسد الثقافة، وروج لأمور، لا صلة لها بما هو حادث عندنا. إن أخطر ما يرعبني شخصيا، هو هذا النقد الذي أصبح يكتب بنفس اللغة، بنفس الكلام، وأصبح نوعا من استنساخ النتائج، كأننا بإزاء نص واحد يتناوب كل الشعراء علي نسخه، ولا فرق بين شاعر وآخر. هذه هي لحظة الحرج التي تفسد اليوم ما يجري، ليس في المغرب فقط، بل في العالم العربي. وهذا بعض ما أقصده بإساءة النقد.

نعم، نحن نعرف ربما ما الذي يقصده المشارقة حين يصفون المغرب بأنه بلد نقد، لكن دعني أسألك أين يوجد النقاد المغاربة الآن؟ وماذا يفعلون؟ صدر مؤخرا عمل شعري مميز لمحمد بنطلحة وقبله صدرت الأعمال الكاملة للشاعر محمد السرغيني المثقف المغربي الوازن الذي لم ينل حظه بعد في أوساطنا الثقافية، وربما هو الآن في غني عن هذا الحظ، لكن النقاد لم يكتبوا شيئا عن هذين العملين الكبيرين وعن غيرهما طبعا، ماذا ينتظرون؟

*هل ينتظرون أن تكتب الآلهة شعرا حتي يراجعوا أعمالها؟ وبالمقابل تجدهم يكتبون عن رؤساء التحرير العرب وعن أسماء نسائية من الخليج وما جاوره، ما الذي يقع؟

نحن نعاني من عقدة الآخر، وببساطة، يعود هذا إلي امتلاك هذا الآخر، الذي سميته المشرق، لإمكانات لتسويق كتاباته، من مجلات، وجرائد، ودور نشر، ومهرجانات، وقنوات فضائية... كلها تصلنا، وتوزع عندنا بشكل منتظم. وهذا ما خلق وهم الأسماء عندنا، دون قيمة الأعمال. هذا ما سيدفع، من تسميهم بالنقاد يذهبون إلي المشرق، لأنهم يبحثون عن مواقع لهم هناك، وكتاباتهم عن المشارقة هي نوع من جوازات المرور.

الأسماء المهمة في المشرق، لا أحد يكتب عنها، نظرا لأهمية مشروعاتها في الكتـابة والنظـر، وحتي حين يكتب عن هؤلاء تكون هذه الكتابات صحافية مبتذلة. محمد السرغيني، ومحمد بنطلحة، وأضيف عبد الله زريقة، وشعراء من الجيل الذي أنتمي إليه، ومن الأجيال التالية، تجاربهم، تتجاوز معارف هؤلاء النقاد، لأنهم لا يملكون المعرفة الشعرية الكافية للاقتراب من الشعر. هؤلاء هم من تعوزهم آلهة لتخرجهم من حالة البيات المعرفي الذي يعيشونه، إلي مراقبة الصيرورة، ومزاولتها. إن عجزههم عن مسايرة ما يحدث شعريا، هو ما يجعلهم يذهبون إلي غير الشعر. والذهاب إلي الكتابة عن رؤساء التحرير، وعن نساء من هنا وهناك، هو أحد مبررات هذه الدونية التي يعيشونها في رؤيتهم لما يجري. والنقد هو مشروع، هو رؤية، وكل ما لا صلة له بمشروع هذا الناقد أو ذاك، فلا داعي له. حين يصير النقد كتابة بدون أفق، فالنتيجة تكون بالصورة التي تكلمت عنها. نحن في المغرب، وخصوصا، في الشعر، ليس لدينا نقاد أصحاب مشروع نقدي واضح.

وكيفما كان الحال، فنحن لسنا في حاجة لهؤلاء، نحن في حاجة إلي الهدوء اللازم، لننكب علي مشروعاتنا، والمستقبل كفيل بكشف الحقيقة، أعني كشف قيمة ما نعمل علي إنجازه. هذا ما تعلمناه من تاريخ المعرفة منذ الإغريق إلي اليوم.

القدس العربي
23/05/2008