جابر عصفورحذر الدكتور جابر عصفور من التخلي عن الديموقراطية، واعتبر ذلك «كارثة عظمى تتضاءل معها السلبيات، والطريف ان بعض الذين يعادون الديموقراطية يطلبونها لكي يتحولوا الى دكتاتوريين جدد». وأضاف رئيس المركز القومي للترجمة في مصر قائلا إن كثيرا من جماعات الاسلام السياسي التي تهاجم الدكتاتورية باللسان تريد ديموقراطية توصلها إلى الحكم فإذا وصلت تصبح هناك دكتاتورية جديدة ولكن بسفك الدماء هذه المرة.

جاء ذلك في ندوة حوارية استضافته فيها القبس اثناء وجوده في الكويت للمشاركة في احتفالية مجلة العربي بيوبيلها الذهبي مؤخرا، تحدث فيها د. جابر عصفور عن قضية الديموقراطية في العالم العربي بالاضافة الى قضايا أخرى تتماس مع خبراته العديدة في مجال الثقافة والتعليم، كما رد فيها على الاتهامات التي وجهت إليه مؤخرا من قبل بعض اعضاء مجلس الامة حول موقفه من غزو الكويت عام 1990.

***

... لا يخشى لومة لائم ولا يصادر اعتراض معترض

نرحب في القبس بالدكتور جابر عصفور في لقاء نتمنى ان يكون لقاء مفتوحا على المزيد من الاسئلة التي نبحث عن اجابات لها لدى هذا الرجل الكبير.
نرحب به عرفانا بجميله الذي لا ينكره احد على الثقافة العربية المعاصرة على اكثر من صعيد.
نرحب به مثقفا موسوعيا، وكاتبا تنويريا، ومترجما ناقلا لأهم ما قرأه من أفكار نقدية، وناقدا اجترح العديد من النظريات الأدبية انطلاقا من دراسات تطبيقية موسعة للتراث والراهن الابداعي العربي.
نرحب به مفكرا دؤوبا، ومحاربا شجاعا ضد كل قوى الظلام والتخلف والتطرف بكل أشكاله.
نرحب به أكاديميا قضى شطرا كبيرا من حياته في تدريس الادب في جامعات عربية وأجنبية مختلفة، والاحتفاء بالتجارب الشعرية والروائية ومبشرا بها بفرح وتفاؤل.
نرحب به مؤلفا رفد المكتبة العربية برفوف كاملة من الكتب التي تناول فيها كل الدوائر المعرفية التي تقاطعت في شخصيته..
نرحب به كاتبا صحفيا يكتب كلمة الحق من دون ان يخشى لومة لائم، ولكن أيضا من دون أن يصادر اعتراض معترض ولا رأي مخالف أو مختلف.
نرحب به ناقدا علمنا كيف نقرأ القصيدة، وكيف نصمت في حرم الجمال، ذلك الصمت الذي يؤدي بنا الى الاستيعاب والفهم والتفاعل.
نرحب به رجلا أصر دائما على الامل، وراهن كثيرا على المستقبل، وحاول دائما فتح باب الغد بمفتاح التراث من دون الارتهان لمعطياته.
لقد اقترب جابر عصفور من السلطة في مصر من دون أن يرتهن لها، وعمل رئيسا لأعلى سلطة ثقافية في القاهرة من دون أن يتحول الى جزء من النظام.
أتى إلى المجلس الأعلى للثقافة فحوَّله إلى شعلة للتنوير وأعاد إليه الروح المفقودة بين دهاليز البيروقراطية، وبث فيه من الافكار والمشروعات ما جعله مؤهلا كي يعيد لمصر دورها الريادي في الثقافة العربية المعاصرة، ولم يتركه، الى موقع ثقافي أخر، الا بعد أن اطمأن على غرس الكثير من الاسئلة في ارض أعدها لمستقبل الثقافة في مصر.
ونحن اذ نلتقي به اليوم في هذه الندوة نستذكر كل مآثره، ومن ضمنها أيامه الجميلة استاذا للأدب العربي في جامعة الكويت قبل ربع قرن من الزمان تقريبا.

سعدية مفرح

***

*سعدية مفرح: هناك الكثير من الحوارات اجريت معك حول النقد والثقافة والأدب، لكن الجديد هذه المرة اننا نريد ان نسألك عما أُثير أخيرا عبر أكثر من سؤال وجه إلى وزير الإعلام، من قبل أعضاء في مجلس الأمة الكويتي حول مشاركتك او حضورك إلى الكويت على خلفية كتابتك مقالا في الأهرام بعنوان «مخاطر الدولة الدينية»، ضمن سلسلة مقالات (8 مقالات)، وتساءلت وجهات النظر الأخرى بطرف خفي عن موقفك من الكويت، وشتمك الذات الإلهية، فما هو تعليقك؟

د. عصفور: ابتداء انا اشكر الشخص او العضو الكريم الذي وجه السؤال الى وزير الاعلام، اولا لأنه اتاح لي ان اعرف ما يكنه لي الكثير من المثقفين في الكويت من تقدير.
ونبدأ بمسألة مناهضتي غزو الكويت. هذا السؤال يتهمني بأنني كنت فرحا بمناسبة غزو الكويت وأبديت شماتة، وهذا ذكرني بأمر في غاية الاهمية، وعزيز على نفسي، فعندما سمعت بأنباء الغزو لأول مرة كنت في مبنى الاهرام، على موعد مع الاستاذ لطفي الخولي، عليه رحمة الله، وفجأة استمعت الى الأنباء من راديو ترانزيستور يحمله احد زائري الأهرام، وعندما عدت الى البيت، اتصل بي الاستاذ الشاعر قاسم حداد وهو موجود حي يرزق والحمد لله، وقال لي «نحن المثقفين في البحرين نريد ان نكون ضمن حملة من المثقفين العرب لمهاجمة الغزو وتأييد اخواننا المثقفين في الكويت»، قلت له طبعا «انا حاضر»، قال: اذاً سننتظر منك مقالا بأسرع ما يمكن بحيث ينشر هذا المقال في عدد خاص من مجلة «كلمات» للدفاع عن الكويت والتضامن معها. وفعلا ارسلت هذا المقال، وعنونته «إلى تلميذي علي في الكويت»، وجعلت الخطاب في هيئة رسالة اوجهها الى تلميذي علي واحثه على الصمود، وعلى المقاومة مع زملائه واقرانه، وفي الوقت نفسه ادنت هذا الغزو ادانة صريحة وجادة ايضا، وكل ما اذكره ان في هذا الوقت بالذات لم يكن احد يجرؤ على قول كلمة سلبية في حق صدام حسين او افعاله، لكني فعلت ذلك، اولا اقتناعا مني بمناهضة صدام حسين واي ديكتاتورية في الحكم، واي دكتاتورية تحاول ان تفرض نفسها على ارادة شعب عربي، مهما كان هذا الشخص، وذهب المقال ونشر في مجلة «كلمات».

حادثة السقاف
و بالمناسبة لي في ذلك حادثة اخرى جعلني اتذكرها سياق الكلام.. اذكر انني مرة كنت في جامعة صنعاء استاذا زائرا بدعوة من صديقي الحميم الدكتور عبدالعزيز المقالح، وكان الاستاذ احمد السقاف مد الله في عمره موجودا في جامعة صنعاء، والتقينا في ديوانية عميد كلية الطب في جامعة صنعاء، وكان السفير العراقي حاضرا، وتبارى الحضور في الدفاع عن صدام حسين في مواجهة تهديدات اميركا، الى ان جاء دوري في الحديث، فقلت لهم بالنص ان اي حاكم ديكتاتور لا بد من ان يؤدي ببلده الى الدمار، وان هذا هو الأمر الذي حدث في التاريخ، ومازال يحدث، فأقام الاخوان ثورة عارمة عليّ، لأن صدام حسين كان يُنظر اليه في ذلك الوقت على انه بطل قومي، لكني كنت ارى وما أزال ان اي بطل قومي يتمتع بصفات الديكتاتور، لا بد من ان يؤدي ببلده الى الدمار.
فالديكتاتورية ليست طريقا الى التقدم على الاطلاق، مهما كان الشعار الذي ترفعه هذه الديكتاتورية او العالم الذي تختفي تحته، وغضب مني الحضور ومنهم الاستاذ السقاف، وغاضبني.. و اذكر ان الاستاذ عبدالعزيز المقالح حاول ان يصلح من غضبة الاستاذ السقاف.. المهم.. انا حاولت بقدر الامكان ان اخفف من غضب الاستاذ السقاف احتراما وتقديرا لشأنه، وقبل الرجل في النهاية بعض كلماتي التي اكدت فيها مودتي واحترامي له.. وعدت الى القاهرة ومضت الايام، ولم يمر وقت طويل حتى حدث الغزو، وفوجئ الاستاذ السقاف وصعق مما حدث.
وبالطبع غير الاستاذ السقاف موقفه.. الطريف انني كنت في المغرب العربي الاقصى، وكان هناك حوار يدور معي، عمله محرر تلفزيوني سعودي، وجاء كلام في المشرق وفي المغرب وفي السياسة وفي الفكر العام واكدت فيه ما أؤكده دائما وهو ان مستقبل العرب مرهون بأمرين: وجود الدولة المدنية، والديموقراطية.
وكان الاستاذ السقاف بالمصادفة يجلس لمشاهدة هذه الحلقة مع زوجه مدالله في عمرها، فبعد ان انتهت الحلقة، قال لزوجه فيما كتب لي، «تصوري هذا الرجل كان موقفه بالنسبة لصدام حسين كذا قبل الغزو بسنوات، وانا غضبت منه لما قاله: «فقالت له زوجه اذا اكتب له خطابا وصف له ما حدث، فتفضل الرجل مشكوراً وارسل لي خطابا شخصياً غاية في العذوبة، ولا ازال محتفظاً بهذا الخطاب محبة له وتقديراً لدوره ومكانته الشعرية.

.. وحادثة زيد!
هاتان واقعتان تدلان على انني اصلاً ضد صدام حسين منذ البداية، وقبل ان يحدث الغزو بسنوات.
وانا ارجع غضبي على صدام حسين وكرهي من نظامه في الحكم الى حادثة بالغة البساطة، حدثت لي في العراق نفسه، وكانت هذه آخر زيارة لي للعراق قبل الغزو بسنوات.
كنت ذاهبا الى المربد، واستضافني صديق لي وزميلي هو د. علي عباس، وهو موجود وحي يرزق، يعمل الان رئيساً لجامعة البصرة. وكنت جالساً في بيت د. علي، ودخل ابنه زيد (الآن اصبح رجلاً كبيراً) يحمل استكانات الشاي، وكنت انا وعلي نتحادث في شؤون السياسة، وما يحدث في بلده، وقلت له رأيي ايضا في مسألة الديموقراطية والدكتاتورية، وحين دخل زيد، وضع الدكتور علي اصبعه على فمه، ان اسكت، فاندهشت، خرج زيد، او اخرجه ابوه، فنظرت اليه مستطلعاً فقال لي: «اسكت» لأنهم يجندون الطلاب في المدارس الاولية والابتدائية لكي يكونوا طلائع البعث، ومما يكلفونهم به، انهم يطلبون منهم ان يكتبوا تقارير عما يحدث في بيوتهم.. تصور؟.. ان طفلا بريئاً نقل ما يحدث في بيتهم، وكان حواراً بين ابيه وبعض الاصدقاء عن مثالب صدام حسين، وقرئ التقرير، فاستدعي الاب وحكم عليه بالاعدام، ولم يكتفوا بذلك – عليهم لعنة الله – ولكن اتوا بالطفل الى التلفزيون، واذاعوا كيف ان صدام تبنى الطفل وانه كرّمه، واعتبره بطلا منذ الطفولة»، فتخيل هذا المشهد.. فقلت لعباس علي علوان.. لعنة الله على هذا الحاكم»، وخرجت من العراق وقررت الا اعود اليه ثانية، وبالفعل منذ ذلك الوقت الى الان لم اذهب الى العراق.
وطلبت مني مجلة الحياة ان اكتب عن ذكرياتي في العراق مرة، فكتبت مقالة كاملة حكيت فيها هذه القصة وانتم صحيفة وتستطيعون ان تراجعوا المقالة في ارشيف «الحياة».

علينا تقبل الديموقراطية

*وليد النصف: تحدثت عن الديموقراطية، هل ثمة ديموقراطية تستغل للتجني على الناس ايضاً؟

د. عصفور: انا رأيي ان هذا مفيد، انت عندما تطبق الديموقراطية في مجتمعات غلبت عليها الدكتاتورية لقرون وعقود، فلابد ان تحدث سلبيات. هذه السلبيات علينا ان نحتملها، وعلينا ان نواجهها بالعقل، وبالحجة.. ولا ننزلق في شباك خصوم الديموقراطية، لانك لو انزلقت في شباكهم، لأصبحت مثلهم. رد عليهم بطريقة الجدل بالتي هي احسن، والرد على الحجة بالحجة، والمنتصر في النهاية هو من يملك حجة منصفة وعادلة، وعاقلة، ولمصلحة الناس في النهاية. اما هؤلاء فهم كالزبد الذي يذهب جفاء في آخر الامر، رغم انهم يتسترون، او يتمسحون باسم الدين.
هذا لا ينبغي ان يخيفنا، يتمسحون باسم ما يريدون وباسم الدين، ويستشهدون بما يريدون من آيات الله العزيز الحكيم. المهم ان تتقبل هذا..
وهذه لازمة من لوازم الديموقراطية، وباعتباره بعض آثار الديموقراطية السلبية، لكن التي لا ينبغي ان تدفعنا الى التخلي عن الديموقراطية، لان التخلي عنها كارثة عظمى تتضاءل معها السلبيات. ولا بد في مرحلة من هذه المراحل في كل العالم العربي ان ينفلت عيار هنا ويستغل تيار هنا هذه الديموقراطية، والطريف ان بعض الذين يعادون الديموقراطية يطلبون الديموقراطية لكي يتحولوا هم الى دكتاتوريين جدد. وانا رأيي ان كثيرا جداً من جماعات الاسلام السياسي التي تهاجم الدكتاتورية باللسان لانها تريد ديموقراطية توصلها للحكم، فاذا وصلت الى الحكم تصبح هناك دكتاتورية جديدة، ولكن بسفك الدماء هذه المرة.

العقل مرجعنا

اذكر مثلا هذا الحديث القدسي الذي يشكك فيه بعض علماء الحديث لكن دلالاته مهمة. واذكر انه موجود في كتاب احياء علوم الدين للغزالي، حديث يقول معناه «ان اول ما خلق الله، خلق العقل وقال له بعزتي وجلالي ما خلقت خلقا اكرم علي منك، بك اثيب وبك اعاقب»، فإذا كان هذا الحديث المنسوب الى الله وهو حديث قدسي حتى لو كذبه بعض علماء الحديث، يحمل هذه الدلالة للمسلمين، فيجب ان يكون العقل مرجعنا الى جانب آيات القرآن الكريم وسنة رسوله الكريم، هذا مرجعنا ودليلنا، ولنا بعد ذلك ان نستعمل العقل في كل شؤون دنيانا، على اساس القاعدة التي تقول «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».
هذا هو الاساس، ننطلق من العقل ونرد به على من يريد ان يطفئ نور الله في الأرض، ومن المفارقة، باسم الله.

دينية.. وجنسية

*د. نبيل حاوي، قرأنا بالأمس احصاء يقول إن أكثر الكتب مبيعا هي الكتب الاسلامية فما رأيك؟.. هل هناك تفسير من المفكرين والشعراء والادباء والكتاب والمسرحيين الذين لديهم حلول غير غيبية في المجتمع،ام المشكلة تكمن في الجمهور؟

د. عصفور: فيما يتصل بانتشار الكتب الدينية، انا اضع معه انتشار الكتب الجنسية والروايات الهابطة والمجلات التي تستغل جسد المرأة، هذا هو الوجه الآخر لذلك، انا اعتقد ان السبب فيه يرجع الى تقصير جهتين، اولا الحكومات العربية، وثانيا هيئات المجتمع المدني، ولو ان هيئات المجتمع المدني واجهت هاتين الظاهرتين اللتين هما وجه عملة واحدة بتقديري، ان الناس مكبوتون ولا يفهمون من الدين الا معانيه السلبية، وهي المعاني الرائجة من خلال وسائط اعلامية مؤثرة، واساليب اتصالية اعلامية غير مباشرة، وتربية خاطئة، تراث قديم متراكم، كل هذه عوامل مساعدة، لاحظ مثلا انك عندما تدعو الى اقامة دولة مدنية والى دعم تجمعات المجتمع المدني والدولة الدينية وتتحدث عن افكار حداثية مثلا، فأنت لا تستند الى جذور عميقة في الثقافة العربية، وان الثقافة العربية تغلب عليها التقليدية، فأي واحد يتحدث في هذه المنطقة من التطرف الديني يستند الى جذور راسخة في الثقافة العربية، هي جذور متخلفة ورجعية، وعنده الاصل ما يستند اليه، وينقل لك افكارك الحديثة، تتحدث حديثا غريبا عن الثقافة العربية التقليدية بالطبع، او عن قارب ينطلق منها ويعتمد عليها. الحل هو ان تتضافر جهود الحكومات والجمعيات والمؤسسات التي تمثل المجتمع المدني، لا بد ان الاثنين يسيران بخطين متوازيين في سبيل اشاعة الاستنارة والتفكير العقلاني في كل شيء، حتى في فهم الدين واعادة تأويل النصوص الدينية لمصلحة العقل الذي نحن فيه، وليس لمصلحة الماضي المتخلف، عندنا ماض ذو عصور مزدهرة جدا، كانت الفلسفلة فيه تعلم في كل مكان، وكان الجدل يتم بالحسنى وكان هناك بالمناسبة من الملاحدة من يجادلهم رجال الدين بعقلية منفتحة، وعلم الكلام مثلا نشأ بسبب الدفاع عن الدين الاسلامي في وجه المتشددين والملاحدة، وانتصر المسلمون في المعركة بسبب عقلانية الرد، وعقلانية الحجج، هذا للأسف انتهى مع عصور الاظلام، انت تعرف في عصور الاظلام كان يغمط حق كتب الفلسفة في الميادين، هذا للأسف موجود، وذاك للأسف موجود، اعد الى الذاكرة العربية عصور الازدهار، عصور المجادلة التي هي احسن، اعد الى الذاكرة العربية الأعلام والمفكرين ا لذين دافعوا عن العقل، اين ابن رشد مثلا في ما كتب عن فصل المقال ما بين الحكمة والشريعة؟ اين ما كتب الكندي مثلا عن ضرورة الافادة من كل علوم الدين؟ هذا لا تجده سائدا الآن لسبب بسيط لأن هؤلاد لا يطبعون من كتب التراث الا كتب عصور التخلف والتعصب،

*د. نبيل حاوي، ولكن هيئات المجتمع المدني مقيدة في بعض الدول العربية، او السلطة تمزقها، او تحولها الى مجرد ادوات دعائية او تعتبرها خصوما كما حدث في مصر..

عصفور: ومتى سمحت الحكومات طواعية لهيئات المجتمع المدني بالعمل؟، هي التي تتقبل هذا في البداية، لكن مع النضال المجتمعي السلمي والمطالبة بحقوق الديموقراطية للمواطنة، لا بد ان تنتصر في النهاية على الاقل انظر الان في مصر..
هيئات المجتمع المدني لجأت الى سلاح جديد، هو سلاح الاضراب.. ولم يكن مسموحاً به ابداً من قبل، لكن مع تراكم التجربة الديموقراطية، المتغيرات الكمية تتحول الى متغيرات كيفية. الان لم يعد احد، لا من الحكومة ولا من اي جهة يستطيع ان يوقف حركات الاحتجاج التي تأخذ شكل جماعات. عندك جماعة 9 مارس، عندك جماعة كفاية، عندك أكثر من جماعة نشأت حديثاً من بين المجتمع المدني، وتطالب بكل ما هو ضائع من حقوق الديموقراطية، الحكم المدني، مقاومة حتى نظام التوريث في الحكم، الى الدرجة التي جعلت الرئيس مبارك ينفي انه سيورث الحكم لابنه، وجعلت جمال مبارك ينفي انه سيرث الحكم، هذا مكسب.. مع المقاومة والرفض السلمي.. السلمي لان غير السلمي قد يؤدي الى حرب اهلية.. لابد ان مؤسسات المجتمع المدني سوف تنتزع المزيد من الحقوق.
وانا اعتقد ان هذا حدث. لانه بالتأكيد لو تأملت جماعات المجتمع المدني في الدول العربية مع وجود فوارق طبعاً، ستجد ان هذه الهيئات انتزعت حقوقا اصبحت ملك الناس، ولا احد يستطيع الرجوع عنها، المهم النفس الطويل والمواصلة خصوصا انه عندنا رواسب في انظمة الحكم لا تزال باقية ومترسخة كالحجر.. الحجر نفسه يمكن انه يذوب ويمكن ان يتحطم قطعة قطعة. ولن يتحقق ما نحلم به في جيلنا، لكن على الاقل فلنعمل لكي يأخذ ابناءنا منا الشعلة.. ونحن في هذا، للاسف بين المطرقة والسندان، مطرقة الدكتاتوريات الحكومية احيانا، وسندان الجماعات الاصولية المتطرفة احيانا أخرى.. وعلى فكرة، انا عندما اقول الجماعات المتطرفة، لا اعني بها جماعات الاسلام السياسي فحسب، هناك جماعات اصولية متطرفة في كل اتجاه.. الناصري المتعصب اصولي، لا يقل خطورة عن الاصولي الديني، كل من يقوم بالغاء الآخر ولا يعترف الا بحضوره ويرى الاخر خائناً، ينبغي استئصاله معنويا او ماديا، هو اصولي متطرف، لا يقل خطورة عن المتطرفين من الجماعات الاسلامية.

*وليد النصف: اين يمكن ان نرى نقطة تفاؤل في هذا الجو الثقافي والسياسي الغائم؟

- د. عصفور: عندكم في الكويت على سبيل المثال مجلس امة قوي، مؤثر.. هناك صوت اعلى فيه وليكن هو صوت جماعات الاسلام السياسي، لكن هذه الجماعات لم تصل بعد الى فرصة تغيير النظام الديموقراطي للدولة، وهي تجد في داخل البرلمان تياراً مدنياً يقاومها ويبادلها الحجة بالحجة، واحيانا العنف الكلامي بالعنف الكلامي، ولذلك هي لم تنتصر الى الان في الكويت، لماذا؟ بسبب بالغ البساطة، هو ان هناك من المجتمع المدني، قوى مقاومة تستطيع ان توقف مدها، وهي الى الان توقف مدها فعلا، مصر على سبيل المثال، كان يمكن في زمن السادات، وهي تحالفت مع السادات ان تتحول الى دولة دينية. وبدليل انهم بدأوا في مجلس الشعب اعادة النظر في الدستور وتغييره، لكي يتناسب ويكون تطبيقاً للشريعة الاسلامية، هذه المحاولة بالمناسبة لم تفلح ولم تنجح، لان هناك فارقاً بين تطبيق الشريعة الاسلامية وبين استلهام روح الشريعة الاسلامية، وروح الشرائع الدينية بشكل عام. ونجح الدستور المدني والدولة المدنية، والان الناس يتحدثون بحرية في مصر عن ضرورة الغاء المادة التي تنص على ان الدين الاسلامي هو المصدر الاساسي للتشريع، ويتحدثون عن الديانات الاخرى، ويريدون تعديل الفقرة لكي يكون الدستور المصري استلهاما لجميع الشرائع السماوية، وهذا احترام لحق الاقباط المصريين لانهم مواطنون، ولهم ما للمواطنين من حقوق وعليهم ما على المواطنين من واجبات، فعلى الاقل هناك بعض نقاط الضوء هنا وهناك، هذه النقاط كأنها ثغرات في جدار التخلف، المهم ان هذه الثغرات تقوى بالعمل الدؤوب. انتم عندكم، والحمد لله، في الكويت صحافة حرة الى حد كبير، هذه الصحافة الحرة لحسن الحظ ذات طابع مدني، هي تدافع بحكم وجودها وبحكم طبيعتها عن المجتمع المدني، هذا الدفاع في رأيي الشخصي يعرقل كل الجهود الرامية الى تحويل الكويت الى دولة دينية.

المثقف بين المطرقة والسندان

*سعدية مفرح: كيف تنظر إلى دور المثقفين العرب في راهننا مقارنة بدورهم الريادي.. الان اصبح دورهم اكثر انسحابية في كثير من البلاد العربية؟

- د. عصفور: دعيني اولاً اعلن تعاطفي مع المثقف العربي، المثقف العربي مسكين، فهو واقع بين المطرقة والسندان، خصوصاً اذا كان مثقفاً مستنيراً عقلانياً، مطرقة الحكومات المستبدة من ناحية، وسندان الجماعات المتطرفة بكل انواعها واتجاهاتها من ناحية اخرى، ومع ذلك لديه كارثة ثقافية، انه يتطلع الى بلاد التقدم الكامل، خصوصا اذا كان يعرف لغات اخرى، ويتأثر فيها. وفي الوقت نفسه عليه ان يعيش الواقع المتردي المتخلف في العالم العربي من حوله، وعليه ان يستفيد من اقصى درجات التقدم لمواجهة اقصى درجات التخلف. هذه مسألة ينبغي ان تحسم للمواطن المثقف العربي، وتجعلنا نقول كان الله في عونه.
بعد ذلك، المثقفون ينقسمون الى فئات. فئات تحاول ان تصل عن طريق تبرير السلطة، وتجميل صورتها وفئات تحاول ان تقول كلمة الحق، مهما حدث لها.
طبعا، انا اذكر قصيدة امل دنقل الشهيرة «مقابلة خاصة مع ابن نوح» ان المثقف الحقيقي الاصيل هو الذي يهاجم ويعبر عن آرائه صراحة في بلده.
أنا شخصيا لا احترم المثقف الذي يهاجم مصر مثلاً ونظام الحكم وهو خارج مصر آمنا، عليه ان يكون في مصر يقود مع زملائه حملة للتصحيح، وحملة لاشاعة افكار العدالة ومع الحرية ومع التقدم ومع ضروررة تأصيل وترسيخ المجتمع المدني.
انما المناضلون من الخارج، الذين يتمنطقون ويتشدقون بالحرية والعداء لأوطانهم، هؤلاء في تقديري اراهم مثقفين – بصراحة – جبناء.

*سعدية مفرح: في بداية الحوار تكلمنا عن سلسلة المقالات التي كتبتها أخيراً في جريدة الاهرام حول «اخطاء الدولة الدينية» هل واجهت ردود افعال غاضبة حولها؟ وكيف واجهتها؟

- د. عصفور: «يووه كتير» انا مصر على أن اواجه ومنذ سنوات ردود افعال وهجوما متعدد الاتجاهات في احدى المرات الأصوليون الماركسيون اتهموني بانني اصبحت عميلاً للحكومة، لانني قبلت ان اراسل اعلى مؤسسة ثقافية في الدولة، وهي المجلس الاعلى للثقافة. وقالوا ان هذا نوع من التحالف مع الدولة وان الدولة اشترتني والحمد لله، ويبدو انها اشترتني بلا ثمن! لانني لم احصل الى الان على شيء متميز. . هذا امر اول.
الامر الثاني اتهمت بأنني احاول ان اجمل صورة النظام، لكنني اشتغلت في المجلس الاعلى لمدة 15 سنة الى ان حققت حلمي القديم وهو انشاء المركز القومي للترجمة، وكان هذا الانشاء من امانيَّ التي كان تحقيقها شيئاً سعيداً جداً، وتوليت بقرار جمهوري رئاسة المركز القومي للترجمة، والى الان، انا رئيس المركز القومي للترجمة، لانني ارى ان اي نهضة عربية لن تبدأ الا بالترجمة، نريد ان نتكلم عن الديموقراطية.. الناس لا يعرفون الديموقراطية..
نريد ان نتكلم عن حقوق الانسان، وبالمناسبة انا اشك ان 90% من المثقفين العرب قد قرأوا الاعلان العالمي لحقوق الانسان

تواصل المثقفين

*عدنان قاقون: على الرغم من تعدد وسائل الاتصال لا نشعر ان هناك تواصلا بين الادباء والمثقفين العرب، ما السبب برأيك؟

- عصفور: انا سأنظر للجانب الايجابي.. هناك تواصل بين الادباء والمثقفين العرب في المؤتمرات، لكن للاسف هذه المؤتمرات تتوقف على من يديرها، لو كان من يديرها قوميا فسيستطيع ان يجمع كل الادباء والمثقفين العرب. انا شخصياً كمثال، عندما توليت المجلس الاعلى للثقافة قلت منذ البداية هو مجلس اعلى للثقافة العربية، وعلى هذا الاساس بدلاً من ان تكون الدعوة موجهة الى عشرين شخصا، كنت اوجه الدعوة لـ 150 و 200، وكانت مشكلتي دائما مع وزير الثقافة انني اطالب بميزانية اكثر من الميزانية المقررة. وكنت احصل عليها، بالمحبة بالتقدير، بالاحترام، بالعراك.. المهم كنت احصل عليها.
نجحت في فصل المجلس عن السياسة، فلم يصدر عن اي مؤتمر من مؤتمرات المجلس برقية تأييد الى الحكومة او الى رئيس الجمهورية. لم يحدث.
ان وسيلتنا هذه لجمع المثقفين عبر المؤتمرات واللقاءات الدورية، ستجعل منهم انداداً متحاورين، متكافئين.. صحيح عندنا جزء من العقلية العربية على صعيد المنافسات والغيرة وغيرها من العيوب الفظيعة التي ورثناها في ثقافتنا، لكن هذه كلها اشياء يمكن ان تزول وتتقلص على الاقل مع اللقاءات. تخيل مثلا عندما يأتي الى مصر وحتى الى غير مصر، ادونيس واحمد عباس صالح على ما بينهما من عداء معلن وغير معلن، بالتأكيد سيصطدم كلاهما بالاخر، فيضطر الى السلام والتحية، ويقل الاختلاف، والاماكن واسعة جداً لكن المهم ان نسير في سكة دفع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني مثلا لاتاحة الفرصة للمثقفين للحوار.

*عدنان قاقون: كونك كنت رئيسا للمجلس الاعلى للثقافة في مصر الى متى ستبقى الرقابة سيفا مصلتا على كل عمل فكري؟

- د. عصفور: اظن الى وقت قصير جدا.

*عدنان قاقون: ما الرسالة التي توجهها للحكومات بهذا الشأن؟

ـ د. عصفور: انا وجهتها خلاص، على الاقل الى الحكومة المصرية، وهي الغاء الرقابة، لان هذه الرقابة شيء من الحفريات المتحجرة التي لابد ان تنتهي مع الوقت الآن اصغر طفل يستطيع ان يفتح الانترنت واحسن منا ومن الكبار.

*أركون وإدوارد سعيد والعربية

د. نبيل حاوي: بما انك رئيس المركز القومي للترجمة لماذا لا نركز على الترجمة من العربي الى اللغات الأخرى؟ فمثلا محمد اركون يتقصد أن يكتب بالفرنسية رغم انه يعرف العربية بشكل جيد جدا، ويقول في مقابلة له «انا اكتب بالفرنسية فقط» ويترجم له آخرون كتبه للعربية لانه بهذا الفعل يتوجه للعالم الغربي بتقديرك هل نحن منفتحون اكثر على ثقافة الآخرين على ثقافة الانسان الاوروبي الآن؟ ام نحن اصبحنا بموقع المهمشين؟
د. عصفور: سأفشي لك سرا من اسرار اركون، لانه صديقي واعرفه شخصيا، اركون يحسن الكتابة بالفرنسية، اكثر من العربية، وانت عندما تكتب هناك ما يسمى بالرهائف من المعاني او ظلال المعنى Connotations هذه الـ Connotations انت عندما تمتلك العربية تعرف تستخدمها، تعرف تستخدم جملة تؤدي معنيين او اكثر من معنى تلعب باللغة وان تبدي في ظاهرها ما يؤكد ويشير الى باطنها، طالما انت متمكن من اللغة، تفعل بها ما تشاء هذه هي حالة محمد اركون وادوار سعيد، فادوارد سعيد بالمناسبة لم يكن يعرف العربية، كان يتكلم العامية فقط لكنه درس في بيروت اللغة العربية من جديد، وصار يتكلم بها لكن لا يحاضر بها.
كما الكتابة بالعربية، وهذا اجربه عندما اذهب زائرا في احدى الجامعات الاجنبية انت تجد ان الكتابة باللغة الاجنبية اكثر تحررا، لا قيود داخل اللغة، اللغة وهي تمثل التراث والتقاليد والمجتمع والمجتمع في داخل اللاوعي والتراث في داخل اللاوعي يجعل لك نوعا من الرقابة الذاتية.

لكل جيل نقاده

*محمد النبهان: ساحاول ان أجرك لمنطقة النقد والشعر.. قلت انت مرة في مقابلة «ان مهمة المثقف الحالي هي البحث عن قراءة فكرية جديدة» ومن هذا اسأل: عندما خرج شعراء الستينات والسبعينات برز معهم نقاد واكبوا حركتهم وكتبوا عنها ولا يزالون حتى الآن.. اسأل: ماذا فعل هؤلاء النقاد في البحث عن اصوات شعرية جديدة؟ وكيف ترى المشهد الحالي؟

د. عصفور: الاجابة التي تأتي على ذهني فورا ان كل جيل يخلق ليس شعراءه فقط، وانما نقاده أيضا، لا بد ان تقفر حركة مواكبة، هناك شعراء يواكبهم نقاد من جيلهم، هذا سيجلعهم، خصوصا النقاد، أعمق فهما لابناء جيلهم، وهم معهم في المشاكل نفسها، معهم في مواجهة التحديات الابداعية نفسها، هم اقدر على فهمهم.

*محمد النبهان: برأيك وخبرتك ومتابعتك هل لدينا نقاد من هذا الجيل؟

د. عصفور: جيلكم؟ على الاقل هناك نقاد.. أنا شخصيا اقرأ في المقالات في الصحف والمجلات نقادا شبانا متميزين جدا، ليس فقط في مصر ولكن في كل الاقطار العربية، لان الوضع اختلف، يا أخي في الرواية مثلا انا كنت لا اتصور ان يحدث طفرة في الرواية السعودية، الآن، في الفترة الاخيرة لم يظهر روائيون فقط، ولكن روائيات جاذبات انتباه العالم العربي كله، وكأنما المرأة كانت مكبوتة قدراتها الابداعية في داخلها، وفجأة انفجرت في السنين الاخيرة.

*محمد النبهان: في مجلة الشعر الاميركية يقول احد النقاد ان الشعر الاميركي جاهز اليوم لشكل جديد في ظل الحداثة التي هي محرك اصابه التعب ولا يزال الشعراء ينوعون عليه. كيف تنظر لهذه الفكرة عربيا في ظل فوضى الاشكال الشعرية؟

د. عصفور: الذي حصل في ما يتصل بقصيدة النثر على وجه التحديد، انه حدث نوع من التغيير، يبدو ان شعراء قصيدة النثر الرواد حرصوا على ان يكتبوا الشعر، القصيدة المنثورة بطريقة الشعر الحر، لكن في رأيي انه كان من الافضل لهم لو لجأوا الى الطريقة الاصلية، لو قرأت قصائد رامبو مثلا او بودلير، او حتى والت ويتمان فستجد انها مكتوبة بطريقة الاسطر، لم نأخذ هذه الطريقة، لاننا كنا نريد ان نوهم القارئ ان هذا شعر، فيشبه في ظاهره الشعر الحر وفي باطنه قصيدة النثر. انا كنت افضل من البداية، ويا ليت يحصل الآن، ان قصيدة النثر تكتب كما تكتب قصيدة النثر الغربية نفسها من دون حساسية، ومن دون محاولة لتقليد شكل الشعر الحر.
لكن سؤالك الاساسي، هناك فوضى، ولا اسميها تحديدا فوضى.. اسميها تعددا خلاّقاً.. «الفوضى الخلاقة» في الوقت الذي استخدمتها كونداليسا رايس، صرت اكره كلمة «الفوضى الخلاّقة» لان كلمة الفوضى هذه تحتاج انقلابات كثيرة لمصلحة اميركا. نحن لدينا قدر هائل من التعدد.. التعدد هذا هو الفورة التي سنتخرج منها شكلا أو شكلين متميزين في المستقبل.
لغات أخرى

*سعدية مفرح: نرجع لموضوع الترجمة باعتبارك مدير المركز القومي للترجمة.. قمتم بترجمة ألف كتاب أو اكثر ولكن كان التركيز على اللغات الغربية مثل الانكليزية والفرنسية، *وحتى الاسبانية، أين اللغات الأخرى؟ أين العالم الآخر؟ أين الأدب الهندي والياباني والصيني والفارسي واللغات الأخرى وغيرها؟

د. عصفور: اول مبدأ من مبادئ الترجمة في المركز هو ضرورة الترجمة عن اللغة الاصلية مباشرة من دون وسيط، ولذلك تجد ترجمات المشروع القومي الذي أصبح لاحقا المركز القومي، ترجمة اصلية من دون وسيط، وترجمنا ألف كتاب بهذا المبدأ الذي التزمنا به عن 31 لغة، ولاول مرة تترجم الى اللغة العربية كتب عن اللغة الصينية، واللغة اليابانية، واللغات الافريقية مثل السواحلية، مثل الهوسة والكوسة.. لغات تسمعها الناس وتسأل من أين أتيت بها؟ واللغات الاوروبية المهجورة مثل الصرب كرواتيا، لكن لا تنسي ان الثقافتين الانكليزية والفرنسية هما الثقافتان الغالبتان على العالم، وطبعا لا بد ان تكون نسبتها كبيرة، مع هذا عملنا أخيرا اتفاقية للتعاون في الترجمة ما بيننا وبين كوريا أيضا.

*سعدية مفرح: هل تجد ان المركز القومي للترجمة يمكن أن يكون فرصة أو موقعاً مناسباً للحوار مع الآخر على صعيد مستويات أخرى غير المستوى الأدبي المباشر؟

د. عصفور: طبعاً كيف ننفتح على الآخر من غير أن نعرفه؟ وكيف نعرفه إلا من خلال لغته الأصلية. ونحن لدينا ممرحلتان في المركز، المرحلة الأولى تتمثل بالترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية لأن الثقافة العربية في حالة مرض وتحتاج إلى ما يقويها، ثم تبدأ المرحلة الثانية بنقل ما عندك من العربية إلى اللغات الأجنبية، ولكن من دون مجاملة، لأنك تعرفين بلادنا.. إذ قد يأتيك وزير ألّف كتاباً لا يساوي شيئاً ويقول لك ترجميه لي، وإذا لم يترجم الكتاب، يحارب المركز ونحن ننتظر خمس سنوات على الأقل حتى نكون قد وقفنا على رجلينا وأسسنا تقاليد، وعندئذ وننطلق.

قبول متزايد

*وليد النصف: كيف هو المشروع، وما مدى قبوله من ناحية الشعراء؟

د. عصفور: القراء عددهم يتزايد.. بعض الكتب بيعها أكثر، وبعض الكتب متخصصة ولها قراؤها مثلاً لدينا كتاب اسمه «الجينوم» كتبه أشهر عالم في الولايات المتحدة، وترجمه المرحوم أحمد مستجير، وهو من كبار العلماء العرب في هذه المنطقة، غير ان الكتاب حتى الآن مبيعاته قليلة جداً، لكننا ترجمنا كتابا اسمه «الحرب الثقافية الباردة»، وتحت هذا الاسم عنوان فرعي «من يدفع للزمار؟»، والزمار هنا يرمز الى الكاتب بشكل عام، والكتاب يكشف دور المخابرات الأميركية في دعم المؤسسات الثقافية واختراقها، وتقرأ هذا الكتاب فتجد فيه معلومات من أعجب ما يمكن عن العالم العربي، قد تكون لا تعرفها لغاية الآن. هذا الكتاب أعدنا طبعه عشرين مرة.

*محمد النبهان: اثرت قبل قليل مسألة تلبية مطالب وزير او يغلق المؤسسة، كيف نحل هذه المشكلة؟ ومن ناحية اخرى مهم جدا تصدي المثقف للعمل في المؤسسة الثقافية، وتقديم رؤى جديدة وعدم تركها لموظفين لا يعون قيمة الثقافة.. لكن في ظل خطر الوصاية الذي تحدثت عنه، كيف يتم الامر، لا سيما انك ترأست المجلس الاعلى للثقافة؟

د. عصفور: تريد رأيي؟ هذا يتم مع مثقف ضعيف، لكن وانت داخل مستغنيا معنويا وماديا فلن يستطيع احد ان يفرض عليك رأيا. اصدقائي حذروني اول استلامي للمجلس الاعلى للثقافة، ان الحكومة سترعاه وتتولاه وتوجه خطاه، فقلت لا احد يرعاه ويتولاه ويوجه خطاه الا انا، ولحسن الحظ، حقيقة، كان الوزير فاروق حسني اولا صديقا، وثانيا لديه ايمان بالرسالة التي احملها والرؤية الثقافية التي اريد عملها. كانت المشكلة تأتي من مجلس الشعب، بمعدل كل عشرة كتب مترجمة. كانت جماعات الاسلام السياسي في مجلس الشعب تعترض على كتاب، وتتّهم المجلس بمن فيه بالكفر والالحاد وغيره، بيد اني من النوع الذي لا يخاف، العمر واحد والرب واحد.. من يعرف مصيره او قدره.. وبهذه الجرأة قدرت ان اوسّع المجال.

حسني مبارك.. أفضل

*سعدية مفرح: لكن قيل ان سياستك هذه هي التي جعلتهم يستبعدونك من المجلس الاعلى؟

عصفور: لو الحكومة استفادت مثلما الشعب استفاد، اهلا وسهلا، بالتأكيد هم استفادوا.. انظري.. اللعبة فيها طرفان
الطرف الأول هو مصلحة الناس، حققيها أولاً، إذا مصلحة الناس أفادت الحكومة فأهلا وسهلا.. هل الحكومة عدوي مثلا؟ هم أصلا مواطنون، والمفروض أنهم وطنيون، فطالما انهم ملتقون معنا على الهدف.. هناك أمر أنا متفق فيه مع الحكومة وأعلنها: أنا أفضل حكم حسني مبارك رغم كل الدكتاتورية الموجودة وكل عرقلة الهامش الديموقراطي وتضييقه، على حكم آية الله فلان الفلاني أو من يكون من الناس تحت «العمة» أو العمامة.. حكم حسني مبارك ما يمكن ان يفعله هو ان يضعني في السجن، وبعد فترة سأخرج، لكن أخونا «أبو عمامة» فهات السيف «يا جدع»!

حكومات أكثر مدنية

*وليد النصف: لماذا الحكومات في الأنظمة التقليدية أكثر ثباتا وانفتاحا على شعوبها من الحكومات الانقلابية؟

د.عصفور: أنا رأيي ليس لأنها بدوية أو تقليدية بل لأنها أكثر مدنية.. بمعنى أن الحكومات التي تصبح أكثر تساهلا مع المعارضة هي حكومات متقدمة، مدنية الطابع في الغالب، وليس مهما انها تنتمي الى البداوة او الى الحضارة. هي طبيعة تركيب عقلي لهذه الحكومة تجعلها أقرب إلى الحكم البدوي أو غير البدوي. وبالمناسبة، تعتمد في بعض الحالات على عبقرية الأشخاص.. نحن مجتمعات القيادة الفردية لا تزال مهمة فيها، ففي الكويت مثلا ما حصل في عهد عبدالله السالم، وهذا الانفتاح الهائل الذي شهدته الكويت والتسامح الذي لا يزال موجودا نتيجة تغلغل أفكار الحكم المدني في ذهن الحاكم آنذاك لكن لو تغلب على هذه العقلية المدنية عقلية اخرى، لبدأ الانحدار.

أنا هرّبت العراقيين

استغللت المجلس الأعلى للثقافة بتهريب مجموعة من الأدباء والمثقفين العراقيين من العراق، أقولها لأول مرة، على فكرة، بشكل علني. ومنهم مالا يقل عن خمسة أو عشرة أحياء عادوا للعراق وأخذوا مناصب مهمة.. كنت أدعوهم لحضور مؤتمر عن الرواية، مثلا، أو عن القصة أو عن الشعر، ومنهم الاستاذ علي عباس علوان، فكنت أوجه للواحد منهم خطابا رسميا ويأخذ اذن لحضور المؤتمر بعد صعوبات، يأتي الى القاهرة، ومن القاهرة يدبر طريقه للهرب.

أنت نجحت في الامتحان يا بابا؟!

أنا شخصيا، ظلوا يخوفونني من أن ارسل بابنتي، عليها رحمة الله، إلى اسبانيا لكي تحصل على الدكتوراه بقولهم كيف تجلس بنت في مدن غربية لها عادات غربية وتدرس الدكتوراه لسنوات؟ قلت لهم أنا واثق من تربيتي لابنتي، وأستطيع أن أزج بها في النار وستخرج سالمة، وبالفعل، رحمة الله عليها، ماتت اخيرا، ذهبت الى اسبانيا وحصلت على الدكتوراه في الأدب الاسباني وعادت الى مصر. واذكر جيدا انها ـ كجزء من مكر الابناء بالآباء ـ أني كنت في زيارتها فأخذتني لمشاهدة فيلم فيه بعض المشاهد الجنسية، وجلست.. شاهدت بعض المشاهد وكانت خفيفة، ومع هذا كنت في صدمة، وحالة قلق وتوتر، أجلس أم أمشي؟ وأأمرها أن تمشي؟ قلت في نفسي «أنا ربيتها كي تواجه هذه الأمور» فجلست، وكأني جالس على نار، بعد أن انتهى الفيلم وخرجنا نظرت الي وقالت: «أنت نجحت في الامتحان يا بابا» هذا هو وعي الأولاد. فأنت ربي أولادك في الداخل، علمهم أن يستخدموا العقل، علمهم أنهم باستطاعتهم بأنفسهم أن يوازنوا بين الصواب والخطأ، وأن تستقيم شخصياتهم بمعرفة الحق لوحدهم.

***

أدارت الندوة: سعدية مفرح
أعدها للنشر: محمد النبهان
حضرها: رئيس التحرير وليد النصف، والزملاء سهيل عبود وجاسم اشكناني ود.نبيل حاوي وعدنان قاقون وسعود الغشام وعلياء الدواس.

القبس
28/01/2008