(بعد صدور مجموعته الثانية (جنازة الغريب)

حوار: عبد الوهاب أبو زيد

عبد الله السفعبد الله السفر كاتب عصي على التصنيف. هو شاعر وناقد وقاص لديه إيمان عميق بمفهوم الكتابة بعيدا عن قولبتها وتأطيرها وتقعيدها. يتضح في كتابته ولعه الشديد باللغة سواء أكتب شعرا أو سردا أو نقدا أو حتى مقالة عابرة. في هذا الحوار يتحدث السفر عن "طبيعة الكتابة المتأبية " لديه و " إيقاعها البطئ" ويتطرق لقراءاته ومتابعاته للإصدارات الجديدة التي ينفي عنها صفة النقد ، كما يعرض لمفهوم قصيدة النثر وما أثارته ولا زالت تثيره من جدل ، ويعلن رفضه لمفهوم الخصوصية ويربط ذلك بسقوط مقولة المراكز والأطراف التي تمت " إزاحتها إلى التاريخ" بحسب تعبيره.

* بين ( يفتح النافذة ويرحل ) وبين ( جنازة الغريب ) أكثر من 12 عاما. هل هو الإقلال في الكتابة أم الانصراف عن النشر والزهد فيه؟

- شيءٌ من هذا القبيل. طبيعة الكتابة عندي متأبيّة نافرة وليست سيّالة دفّاقة. ربما يمرّ العام والعامين لا أكتب فيها نصّاً واحداً. أحاول أن أفهم هذه الطبيعة وأعملَ على ترويضها، لكن النتيجة هي المشقّة ذاتها التي صوّرها أحد قدمائنا، لعله الفرزدق، بأنها تشبه خلع الضرس؛ شيءُ من الألم والمجاهدة والمكابدة لاستخراج العمل الإبداعي من مكامنه التي يختبئ فيها ويتحصّن. لا يخرج إلا وفقَ ذبذبة معيّنة؛ خفيّة سارية؛ تجعله يلين ويسلس ويمنح نفسه أخيراً. تركيب هذه "الذبذبة" عصيٌّ وعسير، شروطها غير معروفة ولا متاحة. منها ما يغوص مؤشرّها في اليومي وينتظر اللمحة التي تضغط على نواة المشهد وتحتكّ بما هو مفارق وجدير بالتظهير السردي أو الشعري. ومنها ما يخصّ الداخل الإنساني الشخصي ومغناطيسه الذي لا ينجذب إلا نحو أشياء بعينها تعمل بمثابة حاثّات أو مهاميز تضرب في الخاصرة، لتشير أن هذا الشيء؛ هذا الحجر لي وأحتاجه؛ ارفعْهُ وأعدْ صقلَهُ وعرّضْهُ لنور الكتابة.

* تتردد في نصوص ( جنازة الغريب ) مفردة الحنين كثيرا حتى إنك تقول في أحد نصوصك " صناعتي الحنين" . لأي شيء يحن عبد الله السفر؟ وما الأمر الذي يحن إليه أكثر من سواه؟

- في السؤال السابق تحدثتُ عن " الذبذبة " التي تدفع النص للاستجابة والخروج، أحسب أن "الحنين" مُحَرِّضي الكبير على الكتابة. ليست الكتابة الإبداعية وحدها، بل هو ما يسنّ شفرةَ القراءة عندي ويوجّهها. اِنتبهتُ إلى هذا وأنا أكتب عن إنتاج كثيرٍ من الأصدقاء والزملاء ومن تجمعني بهم محبة الحرف. أيّة كتابة تتأرّج بالحنين؛ تجدّني في مهبّها. أجد في رائحتها حلاوةً تندى ويغزر طيبُها كلّما بحثتْ عن الأماكن والأشياء والأشخاص الذين ما عادوا هنا، وثمّة "أثرٌ" ما زال يعمل وما زال يذكِّر ويحاول أن يصمد لئلا يتحلّل في كثافة النسيان، أو تبتلعه دوّامة الغياب الهائلة.. أتدبّر هذا الحنين، وأقلّب جمرة سطوته على الكتابة عندي، بوصفه السمة الأبرز بما يتجاوز حدّي الذاكرة والنسيان أو الحضور والغياب أو الامتلاك والفقد، وأتعرَّفُهُ حالةً من النُّعْمَى الهائمة المتخففة من ثقل الموجودات ومن شرطي الزمان والمكان؛ حالة من المجهولية والغَفْل تنأى عن قبضة شرسة أو رخيّة؛ حالة رَحِمِيّة خُبِرَتْ جيدا في الحواس، وهذه الحواس تعيش استحالة هذه الاستعادة، لكنها تظلّ إمكانية ،على قول أحد الأنثربولوجيين. إن العطش الذي يشقق الشفاه لا بد أنه يشير إلى جهة الفردوس. بهذا المعنى أتعرّف الحنينَ فيما أتعرّف الكتابة.

* يصاب القارئ بشيء من الارتباك إزاء تصنيف بعض نصوصك ويحار في نسبتها إلى الشعر أو السرد إذ يبدو أنها تقف على التخوم بين هذين الجنسين أو النوعين إن شئت. هل يزعجك مثل هذا الأمر؟ نحن على علم بالطبع بمسألة الكتابة العابرة للأنواع والأجناس ، غير أن الميل للفرز والتصنيف يبقى حاجة أو غريزة إنسانية ملحة فيما يبدو حتى لدى أولئك الداعين إلى تداخل الأجناس الكتابية بدليل تفضيلهم لأن يقدموا أنفسهم (أو أن يتم تقديمهم) بصيغة محددة دون سواها. ما تعليقك؟

- يتحدثون في علم النفس عن شيءٍ اسمه "منطقة الراحة" أو "منطقة الأمان" يميل إلى المكوث فيها الغالبية من الناس دون سابق تصميم أو وعيٍ أنّهم اختاروا هذه المنطقة التي تمثّل ما هو أليف ومعتاد ومتكرر، إنْ من جانب السلوك اليومي المعيشي، وإنْ من جانب الأفكار والمعتقدات والمفاهيم والعواطف. استجابة محددة معلومة ثابتة يجري برمجة الحواس والتصرفات وفقها، وأي خروج عن هذه المنطقة الأليفة يحمل في أطوائه الصعوبة والخطر والمجازفة نحو المجهول الغريب. إشارة مقلقة أن صاحبها بارحَ منطقة الأمان والراحة وأصبح في مكان يحتاج إلى استجابة مختلفة ونزوعٍ مغاير يتناسب مع هذا التحول. ولأن هذا المسلك يتنافى مع السهولة فسرعان ما يؤوب الشخص إلى ظلاله القديمة تهبه الأمان وراحة البال وهناءة عيشٍ غير مكدور. والأمر عينه ينطبق في العلاقة مع الأنواع الأدبية الصادرة عن معيار ثابت؛ يفرز ويقيم الحدود. هذا المعيار أعطاه الزمن رسوخا، ووثوقيّة غدتْ ميثاقاً يسوّر كل نوع أدبي بصفات قارّة ثابتة، ومحاولة خلخلة الأسوار بين نوع وآخر تقتضي ردّا حاسما يشتغل بآليات صارمة من العزل والتطهير والتنقية، يعود معها تاريخ التلقي إلى مجراه المعهود وسننه المألوف، حيث لا ينخدش أفق الانتظار ولا ترتجّ توقعات القارئ. ورغم تأكيد الناقد بارتون جونسون على أن (أي مثال نقي لنوع أدبي هو طير نادر في الحقيقة) إلا أن الكثرة تقول بهذا الطير النادر وتتشبث به وتراه عنوانا لازماً تطابق بينه وبين ما تتلقاه، وتغفل عن مسألة التطور والتحول وقابليات الاستنساب والاقتراض، وانفتاح أفق الكتابة على أعراف متنوعة تستصفي وتستدمج منها ما يرفد كتابةً تسعى إلى الإضافة والاختلاف والتجديد. وبعد ذلك لا يهم اليافطة المرفوعة على هذا النوع من الكتابة. القلق التصنيفي لا يشغلني ولا يزعجني تماما.. أكتب.. أكتب فحسب.

* هل يمكن القول بهيمنة الناقد فيك على الشاعر لجهة انشغالك بالقراءات النقدية العديدة والغنية التي كتبتها حول تجارب شعرية إبداعية كثيرة محليا وعربيا ، ولجهة حدة وعيك النقدي الذي يجعلك تقسو على ذاتك الإبداعية أكثر من غيرك كي لا تخرج إلا بما يرضي ذائقتك الإبداعية وبصيرتك النقدية؟

- لحظة الكتابة يصبح فيها الكاتب عاريا، وحده والبياض. تتخلّى عنه أدوات كثيرة ومنها النقد أو الحس النقدي. لا يعرف جودةَ ما يكتب أو سوءَهُ إلا في عيونٍ أخرى، بالتأكيد عينه ليست من هذه العيون. المسألة ليست نقدا ولا قسوة على ما أنتجه، لكن إيقاع الكتابة الإبداعية لديّ بطيء وشاق وعسير، بالإضافة إلى أن حوض التجربة الحياتية ضيّق، لا يفيض إلا نادرا، وفقيرك قنوعٌ بما يأتي، غير متعجّل ولا يشغله العدد. تكفيني بضعة نصوص تقولني وتؤشِّر على تجربتي في الكتابة.

* تتمتع بدربة ومراس طويلين في قراءة النصوص الإبداعية والشعرية منها على وجه الخصوص ؛ غير أن الملاحظ هو أن حضورك الإعلامي لا يوازي حضورك النقدي الفعلي ؛ ربما لأنك تتجنب الصدام مع الآخرين ولأنك كما أشار سعود السويدا في مقالته (النقد الإيروتيكي) لا تكتب إلا عن النصوص التي تحبها. لماذا لا تسعى للم شتات دراساتك وقراءاتك النقدية التي كتبتها بين دفتي كتاب؟

- ما أكتبه من متابعات وتعليقات على الإصدارات الإبداعية لا أعدّه نقدا حقيقيا بقدر ما هو مقاربة يقوم بها "قارئ" تذوّقَ واستمتعَ، وأرادَ أن يظهر فرحه بالعمل الأدبي ويتمنّى على الآخرين أن يشاركوه فرحه. لذا تجدني مقلاً وأكتب على نحوٍ متباعد شأنَ الكتابات الجميلة التي لا نظفر بها إلا على سبيل المصادفات الرائعة؛ قليلة ومفاجئة لكنها رائعة تحضّ وتستنفر على المقاربة وعلى الإعلان عنها. وهناك شيءٌ يخصّني في هذه المتابعات إذْ تفوتني أحيانا، إنْ لم أقل غالبا، بعض الأعمال التي تستحق الكتابة والتنويه. أعتبرها ثغرة فادحة لأنني لا أكتب التزاما أو أداء لدور. أكتب بمزاج خالص لا أعرف متى يواتيني وما هي محرضاته غير الإعجاب والفتنة. وهذا ما يجعلني أتأنّى في جمع متابعاتي وتقديمها للقارئ في كتاب. أشعر أن الصورة ناقصة، وتحتاج إلى إكمال.

* بعض النصوص لديك يتخذ شكل المقطوعة النثرية وبعضها الآخر يكتب في سطور متتالية متفاوتة الطول. ما الذي يحدد الشكل الطباعي الذي يظهر به النص الشعري على الورقة لديك؟

- النصوص التي خرجت في "يفتح النافذة ويرحل" وفي "جنازة الغريب" تعتمد بشكل مباشر على المكوِّن السردي حتى في القصير جدا منها. لهذا فإن السطور المسترسلة؛ السطور الكتلة، هي قوام هذه النصوص. وقليلة منها ما يأخذ شكل الكتابة المنثورة على أسطر متفاوتة الطول لها إيقاع بصري يرتكز بعضها على تكرار مفردة أو وحدات مشهدية تمثّل بنية ناظمة تقوِّي من الرسالة الجمالية وتعمل على تعميق الأثر. وبإجمال دفقة الكتابة والتجربة المكتوبة هما ما يحدّدان شكل النص على الورقة.

* السؤال السابق يقودنا إلى التساؤل عن مفهوم قصيدة النثر. هل لديك تعريف أو تصور واضح ومحدد ولو جزئيا لقصيدة النثر؟ بعض النقاد كما لا يخفى عليك بالتأكيد ينظر إلى شعر محمد الماغوط على سبيل المثال باعتباره يدخل في إطار الشعر الحر وليس قصيدة النثر وفق نموذجها الأوربي.

- تعلم أن غباراً كثيرا تطاير مع نشوء هذا الاسم عربيا منذ "لن" أنسي الحاج بمقدمتها وتنظير أدونيس المبكّر لهذا النوع من الكتابة، وقد أُريق حبرٌ كثيف في دراسات نقدية ورسائل جامعية تستقصي هذا المفهوم وتحاول ضبطه وتقعيده، لكن هذا الضبط والتقعيد يظل إجرائيا مدرسيا ضبابيا، لا يستجيب له حتى من أطلقه. رأينا شروط الإيجاز والتوهج والمجانية تغيب ـ مجتمعةً ـ عن كتابة الرواد، ويُستعاض عنها بشروط أخرى لا تلبث أن تتداعى في مسيرة تجربة شاعر واحد، لئلا نقول شعراءَ وأجيالاً تلي. إن الفضاء الذي تصنعه قصيدة النثر هو فضاء مفتوح عنوانه الحرية، ومع هذا العنوان لا تستطيع أن تضع تعريفا جامعا مانعا. التعريف، في كلمة، قيدٌ. كيف لك أن تضع قيدا على ما وسمته بالحرية والانطلاق . عماده التجريب والانفتاح على الذخائر والممكنات التعبيرية والجمالية من حقول الكتابات المختلفة ومن حقول الفنون البصرية؛ تشكيليا وسينمائيا... هذه الذخائر تطوِّر المفهوم الواحد إلى مفاهيم متعددة متشابكة تغني في مجموعها ما اصطلحنا علي بـ "قصيدة نثر" دون أن تخضعها لوسمٍ ناجز يلخصها مفهوميا. الكتابة الجديدة، ومن ضمنها قصيدة النثر، ليست بنت الراحة والاستقرار. حراك مستمر، ووسواس من النقص يدفع دائما إلى الاكتشاف والتجريب.

* شهدت الساحة الروائية العربية ما يشبه الانحسار في كتابة الرواية التجريبية من جهة ، في ظل الإقبال على كتابة الرواية التي تركز على العناصر التقليدية للرواية من جهة أخرى . يبدو أن سؤال ماذا نحكي قد أصبح أكثر إلحاحا وحضورا من سؤال كيف نحكي كما يشير بعض النقاد. هل يسعك أن تتصور حدوث مثل تلك العودة إلى "الأصول" في حقل الشعر خصوصا مع بروز أسماء تكتب القصيدة البيتية التناظرية التقليدية بشكل مميز ومختلف ومتطور مثل جاسم الصحيح في السعودية وأحمد بخيت في مصر ومجموعة من الشعراء العراقيين الذين أصدروا قبل سنوات بيانا شعريا يدعون فيه لكتابة ما أسموه " قصيدة الشعر" في تعارض واضح مع " قصيدة النثر" التي تبدو مهيمنة وطاغية على المشهد الشعري العربي؟

- نفير العودة إلى الأصول مؤشر إلى أزمات ذات شُعَب.. الانسدادات في أفق المجتمعات العربية، بعد فشل مشاريع الدولة القومية والاشتراكية، ووعيها باستحكام الأزمة جيلا بعد جيل، حين يلفي المجتمع نفسه معزولا عن العالم ـ بما هو حركة وتطور ـ لا يؤثر فيه وبات عاجزا ضعيف القدرة في تسيير أموره الحياتية والمعيشية دون حبلٍ ممدود من الخارج؛ فطفق هذا المجتمع يبحث عن سبيل للخروج يتجاوز به الخلل العميق الذي يتمشّى في مفاصله سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، فوجد من يشير عليه بالعودة إلى الأصول؛ استعادتها علاجا لجميع أمراض الحاضر وما أحدثته الأزمات من فجوة عميقة على صعد الحياة المختلفة، نظرا لاستجابة العجز الشاملة، غير أن إطار الحل بالعودة إلى الأصول بوصفه مرجعا يحمل جميع الإجابات والمخارج؛ ينصرف عن المواجهة والتدبر والعقلانية لفريضة التنمية الغائبة، بحسب أحد التنويريين، فيقع المجتمع في حلقة تكرارية مصفّحة بالألوان الزاهية ولا تتقدم خطوة حقيقية فاعلة، بل إنها تنتج التخلف وتعمّقه. انظرْ إلى الأسماء الطافحة اللامعة على السطح لتعرف مقدار الهوّة التي تتوسّع؛ فمن إعلام الدولة إلى إعلام القبيلة ومن الطبيب والجراح إلى السحر والرُّقَى والحجامة ومن الفتوى المدبِّرَة إلى الفتوى المدمِّرة والقائمة طويلة، والخلاصة يغيب الحاضر والهنا لصالح الغائب والهناك. هكذا أنظر إلى الصورة في شمولها لا إلى جزئية قد تعطيني إجابة ملتبسة مضللة. فعلى هذا النفير الحاد والتداعي إلى الأصول تندلع الخشية من " العودة إلى الأصول في حقل الشعر" بحسبانه عند "البعض" ليس اختيارا جماليا بقدر ما هو اختيار أيديولوجي يساهم في تكثيف الضباب على العيون وترسيخ حالة الهروب إلى الخلف استنكافا عن اجتراح الجديد والدخول في مغامرة المجهول وارتياد الآفاق المنذورة للابتكار. وبكل الأحوال إذا كان الاختيار جماليا فهو من باب الاختلاف والتنوع الذي يؤسس لإثراء المشهد، ولا مشاحة في الذوق، وننتظر بشغف من ينفخ روح التجديد في القصيدة البيتية ويكمل خطى القامات الكبيرة: الجواهري؛ البردوني؛ بدوي الجبل؛ عبد الرزاق عبد الواحد...

* هل استطاعت قصيدة النثر المحلية أن تكون لها سمات وملامح تميزها عن قصيدة النثر اللبنانية مثلا التي تتهم بمحاكاتها؟ وهل لك أن توضح للقارئ أهم تلك الملامح والسمات على افتراض وجودها بالطبع؟

- السؤال يضمر مفهوما لم يصمد طويلا، ويستعيد مقولة تحوّلت مع الزمن. هناك مركز ينتج ويبدع وهو النموذج، وهناك أطراف تستهلك وتعيد الإنتاج على صورة المثال. مرة يصير هذا المركز بيروت ومرة يصبح القاهرة وقليلا ما يكون بغداد. أحسب أن السنوات العشرين الأخيرة خلخلت هذه المقولة وإزاحتْها إلى التاريخ. فلم تعد المراكز تملك ثقلها وظلها المبسوط على كامل المشهد الإبداعي والفكري، ولا باتت الأطراف ملازمةً حالة اليُتم الإلحاقي؛ تتعيّش على نموذج تلك المراكز باعتبارها الحجة والمرجعية. حدثَ انفجار وتحوّل وتبدّل. كل طرف أضحى له حصة من المشهد تشير إليه بالأصالة والفرادة وبكتابة الأثر الشخصي. يستوي في هذا الفعل كثير من المدن العربية مغاربيّا ومشرقيّا، ويرفده بزخم متكاثر ومتصاعد ما يصدر عربيا في المهجر الأوروبي والإسكندنافي، ولا يغيب أثر التحوّل الاتصالي عبر شبكة النت ودوره في تعويم المراكز والأطراف وتداخل التجارب والصدى فيما بينها. ثمّة اتجاهات وأساليب وطرائق في التعبير غير محكومة ببقعة واحدة. التنافذ والتلاقح والتأثر والتجريب أخذ دورةً شاملة يغدو معها من الصعوبة بمكان فرز ملامح متعينة تضم تحتها نطاقا جغرافيا؛ تتحدّد به ولا تخالط نطاقا جغرافيا آخر. ومَن يطّلع على سلسلة الأنطولوجيات العربية التي صدرت في الجزائر خلال العام الماضي يرصد هذا التداخل ويعرف كم هو عسير توحيد ما هو متعدد ومتشابك. إن الانفتاح بين الشعراء في تجربة الكتابة هو السمة المائزة وسوف تجد مشتركات بين هؤلاء أكثر مما تجده بين شعراء البلد الواحد. خذ مثلا القصيدة ذات المرجعية البصرية (أحمد الملا؛ السعودية ـ عزيز أزغاي؛ المغرب).. قصيدة المكان (عيد الخميسي؛ السعودية ـ علاء خالد؛ مصر).. قصيدة إنشاء الأساطير (ماجد الثبيتي؛ السعودية ـ داليا رياض؛ العراق).. قصيدة الماوراء (علي العمري؛ السعودية ـ نزيه أبو عفش؛ سوريا).. لا أبحث عن "ملامح وسمات" عند بسام حجار وعباس بيضون وعبده وازن لأنهم من لبنان، ولا عنها عند إبراهيم الحسين وزياد السالم ومحمد الدميني لأنهم من السعودية. كل تجربة عند هؤلاء الشعراء قائمة برأسها لها فرادتها وخصوصيتها النابعة من ذات الشاعر الكاتبة وظرفه الحياتي ومرجعيته الإبداعية. مع انفجار المراكز والأطراف ذابت الحدود ومعها السمات والملامح الجزئية.


إقرأ أيضاً: