محمد الحمامصي
(مصر)

إبراهيم السعافينتشكل التجربة النقدية للناقد العربي الكبير د. إبراهيم السعافين واحدة من أبرز وأهم التجارب النقدية العربية كونها جمعت بين التنظير والتطبيق وتابعت الإبداع العربي الروائي خاصة وأنجزت عددا مهما من الكتب والدراسات منها : تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام، نشأة الرواية والمسرحية في فلسطين حتى ,1948 تحولات السرد: دراسات في الرواية العربية، الرواية في الأردن، مدرسة الأحياء والتراث، المسرحية العربية الحديثة والتراث، وغيرها، هذا بالإضافة إلى حضوره ومشاركته الفاعلة في العديد من المؤتمرات الإبداعية والنقدية العربية والدولية.
وقد ولد د. إبراهيم السعافين في الفالوجه عام ,1942 وحصل على البكالوريوس في الآداب من جامعة القاهرة عام ,1968 وعلى الماجستير من الجامعة نفسها عام ,1972 وعلى الدكتوراه من تلك الجامعة عام ,1978 عمل أستاذاً للأدب العربي في الجامعة اليروك، ثم في الجامعة الأردنية، ويعمل حالياً في جامعة الإمارات العربية المتحدة، وكان رئيساً لجمعية النقاد الأردنيين، وهو عضو بالجمعية نفسها، وفي رابطة الكتاب الأردنيين، وفي الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.. وقد التقينا الناقد أثناء مشاركته في مؤتمر شوقي بمكتبة الإسكندرية وكان لنا معه هذا الحوار.

* بداية نود التعرف على مشروعك النقدي ملامحه وخصائصه ومرتكزاته وأبرز مراحله وتطوراته؟

يتمثل هذا المشروع بداية في قراءة النص الأدبي العربي في ظل المنجز الحضاري العربي، وهو ما يسميه بعض الدارسين بالتراث، إذ التراث ليس نقطة معزولة في الزمن وإنما هو حركة الزمن المتصلة منذ أبعد نقطة موغلة في التاريخ حتى اللحظة المنجزة الراهنة، ولذلك بدت معاينتي للنص غير منفصلة عن هذه الرؤية التي ترى حركة الأنواع والأشكال حركة في التاريخ، ولا يمكن أن تكون أبداً خارجه، وهو ما يؤكد اقتران المعياري والوصفي معاً، مع غلبة الوصفي على المعياري في التحليل الأخير. لقد ساعد تكويني الأكاديمي ولا سيما في مرحلة الدراسات العليا على قراءة التراث ولا سيما التراث الأدبي قراءة شاملة وعميقة إلى حد ما مما أتاح لي الفرصة الجيدة لرؤية منجزنا الأدبي والثقافي الحديث من خلال بصر بالمنجز الحضاري العربي، والمنجز الغربي الذي لم أنقطع عن التعرف عليه منذ أيام الطلب الأولى.
وإذا كان الشعر متصلا في رؤية النقاد بالإبداع الشعري العربي القديم فإن المشكلة تتصل بالمنجز القصصي، الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، وهو المنجز الذي سارع الدارسون من غير ترو ولا بصر بالشكل القصصي في المنجز الحضاري العربي برؤيته مستنبتاً في التربة العربية بلا جذور، مما أربك الرؤية إلى هذا الفن، وقراءته قراءة منقطعة عن جذوره في الحضارتين العربية والغربية معاً، وهو ما يغلب على معظم القراءات التي تتصل بمنجزنا الحضاري: شدة الإيغال في التعالم من دون بذل الجهد في القراءة المتبصرة التي تتيح الفرصة للتعرف على الأشياء بدل المصادرة على كل شيء.
لقد حاولت الربط بين نشأة الفنون القصصية والمنجز الحضاري العربي من خلال دراسة الرواية والقصة والمسرحية والمقامة، ومكنتني دراسة حركة الإحياء بتنوعاتها واتجاهاتها المتداخلة التي ينفتح بعضها على اتجاهات أخرى في التراث وفي الآداب الأخرى على متابعة مسيرة النص الأدبي من خلال ارتباطه بالجذور الثقافية وحركة المثاقفة معاً، ضمن حركة المجتمع بتجلياتها ومؤثراتها المختلفة.
باختصار أنا أرى مشروعي على اختلاف جزئياته وتفاصيله وعلى تعدد الكتب والبحوث والدراسات والمقالات إلى جانب النشاطات التي لا تدخل في صميم النقد الأدبي يرمي إلى إيجاد علاقة بل إلى ملاحظة علاقة قائمة على نحو ما بين النص الحديث والمنجز الحضاري العربي.

* وفي أي مرحلة يمضي الآن مشروعك النقدي؟

مشروعي النقدي على الصعيدين النظري والتطبيقي لم يكتمل بالضرورة، فمنذ أن نشرت بحثي المكثف إشكالية القارئ في النقد الألسني، وأنا أختبر المناهج والنظريات والآليات الغربية، وأحاول أن أرى جدواها في دراسة الإبداع دون انحياز لها أو ضدها، وإن كانت معرفتي بالمنجز الحضاري العربي والغربي قد حصنتني دون الوقوع في لعبة الانبهار أو القيام بدور المروج أو الوكيل للمنتجات والصرعات الجديدة. لقد قلت في سياق آخر إن النقد الغربي جاء من خلال جدل فكري وفلسفي بين حركات واتجاهات ونظريات ومذاهب تبدو فيها النقائض مولدة لحركة من الجدل الخلاق الذي يغني حين ينقض ويغني حين ينفي، لأن حركة الجدل أصيلة وليست مجتلبة من غير سياق.
إن مشروعي يسير في سياقه الذي يؤمن بالحوار الخلاق، والإفادة من المشروع النقدي الغربي دون أن نكون طرفاً هشاً في معادلة مضطربة أو غير متوازنة أو متكافئة. همنا أن نقرأ النص ونفسره في سياق حضاري دون عجمة أو انطواء. وعلينا أن نحذر من الوقوع في شكلية فارغة، تلعب على التقسيمات والتفريعات والجداول وقوائم المصطلحات التي تشير ولا تعني وتحدد ولا تفسر. لدي مشروع يعاين تحولات لغة الشعر العربي الحديث من خلال الواقع الإبداعي وتجنب فرض أحكام أو معايير أو خصائص ما أمكن، وأتابع معاينة تحولات السرد العربي وملاحظة ما أسميه واقعية جديدة تتجاوز الأصوليات المذهبية وفرض اليوتوبيات والحتميات التي لا تستجيب لحركة الواقع الإبداعي الذي ينزع في مجمله إلى الوقوع بين الحرية والضرورة، وهي معادلة تضمن حرية المبدع في التشكيل المفتوح وتضبط إيقاعه في حدود قواعد الفن الذي يحمل رسالة بلا ضفاف. أما الجانب النظري فهو منصب على الآليات والتقنيات والأفكار التي تساعدنا على الانضباط ضمن هذه الحركة التي تؤصل ولا تنعزل، وحتى لا ينشغل النقد بالصرعات الكاذبة أو الأوهام التي لا تعيش إلا في رؤوس أصحابها. وأنا بطبيعتي لا أميل إلى الانقياد السريع الدوغمائي للصرعات دون قراءة عميقة، ولا أتبنى ما هو مبهر ولا أسعى بطبيعتي إلى الإبهار لأنني أعتقد أن النقد يحتاج إلى علماء مفكرين فنانين لا إلى نجوم يعيشون في الضجيج الإعلامي وللضجيج الكاذب.

* بناء على ثراء هذه الرحلة المشروع هل نستطيع القول بأن لك رؤية نقدية خاصة هي تلك التي تنطلق منها في كتابتك وأيضاً هل لنا التعرف على ملامحها؟

لا أستطيع الجزم بخصوصية هذه الرؤية، لكنها مع ذلك تتميز في تفصيلاتها إن لم تكن تتميز في كليتها، وقد أشار إلى ذلك بعض النقاد والمبدعين ولا سيما لدى علي شلش الذي أشار في كتابه عن نقد الرواية العربية الى ريادتي في إثبات صلة القصة العربية بالجذر التراثي، لقد ارتبط مشروعي كما أشرت بتأصيل الإبداع العربي أدباً ونقداً، وملاحظة ثراء التراث السردي العربي الذي يعد شرطاً أساسياً لأي إبداع ولا سيما الإبداع القصصي والمسرحي. إن تجاهل خصوصية الإبداع يوقع في مطب السطحية والخواء والتعرض للاندثار.

نقد عربي

* في ضوء هذه التجربة العميقة والكبيرة مع النقد تنظيراً وتطبيقاً لماذا برأيك لم نشهد ولادة منهجية نقدية عربية أو قل تياراً أو قل مدرسة؟

في رأيي أن هذا السؤال يشير إلى أمرين مختلفين ولكن كل واحد منهما ذو صلة وثيقة بالآخر وهما: موقع الحضارة العربية والإسلامية والمنتج الثقافي في هذه المرحلة من التاريخ؛ فالمعطيات المختلفة تشير إلى أن الأمة بشكل عام في مرحلة تقوقع، والاكتفاء بردود الفعل في الأغلب، وهي من الناحية الاقتصادية والثقافية في مرحلة استهلاك فوضوي غير منظم، وهذا الاستهلاك لا يعني بالضرورة الرخاء، والأقرب إلى الصحة أن الاستهلاك ناجم عن أنها مكان للمواد الخام. كل هذا جعل الوضع الثقافي متخلخلا مضطربا غير مبني بناء تراكمياً ذا دلالة ثقافية واجتماعية واقتصادية بقدر ما يتضمنه من عشوائية تجعل النقد الجاد في الأغلب غير مطلوب وربما غير ممكن، ما يجعل الطابع الاستهلاكي في النظرية والتطبيق هو المرحب به. أما الأمر الثاني فهو طلب الخصوصية في عصر المثاقفة بل العولمة أخيراً، فالمطلوب من نقدنا العربي الحديث أن يكف عن البحث عن الخصوصية إلا في أضيق الحدود، فالنقد الآن أصبح عالمياً، وكل الأمم والثقافات تسهم فيه بقدر، وإن غلب عليه نقد المركزية الأوروبية الأميركية. لقد قلت في كتابي«إحسان عباس ناقد بلا ضفاف» إن منجز النقد العربي الحقيقي في العصر الحديث يكمن في النقد التطبيقي. ويجب أن أحذر من طبيعة العلاقة التبادلية بين النقد والإبداع، واختلال هذه العلاقة لصالح نقاد مهووسين بالصرعات وحظهم من الإبداع النقدي ضئيل. علينا أن نسهم بالدرجة الأولى الإسهام الحقيقي في النقد التطبيقي، ولا يعني هذا أن نترك التنظير لغيرنا، بل يتجلى التنظير في التعامل مع النص المبدع بلغتنا ومجتمعنا وزماننا ومكاننا وتراثنا بالمفهوم الشامل. إن الاتجاهات التي تشكلت كانت في الأغلب إيديولوجية أو مودات تأكد خواؤها من خلال انفضاض الناس من حولها كلما حلت موضة أو صرعة جديدة. وإذا ظهرت بوادر اتجاه نقدي قد يلفت النقاد لا يحظى بمتحمسين يتابعونه، وربما لا يحظى بقامات نقدية ذات بصيرة قادرة على المتابعة والتطوير إلى جانب ما يتعرض له النقاد الجادون من تجاهل أو محاربة في عصر صناعة الناقد النجم المحمل بقائمة لا تنتهي من ألقاب في غير موضعها.

* هل برأيك النقد العربي وحركته داخل حركتي الثقافة والإبداع بخير أو على ما يرام؟ وهل أنت راض عن أدائه؟

أميل إلى الاعتقاد بأن حركة النقد العربي في أزمة، بل إن كثيراً من النقاد الغربيين يعتقدون أن النقد العالمي في أزمة. بيد أنني لا أريد أن أبالغ وأميل إلى التبسيط في هذا المجال، ولكن أشير إلى أن هناك بؤراً نقدية في العالم العربي، لكنها في معظمها تقوم على الشللية وإن لم تكن شللية على الصعيد الفكري أو التنظيري أو الفلسفي بالضرورة.
الشلل النقدية في الأغلب تقوم على الخيارات المنفعية وغالباً المتبادلة كما يحدث في الدعوة إلى الندوات والمؤتمرات والتحكيم في المؤسسات المختلفة من الجامعات حتى مؤسسات الجوائز المختلفة، وهو ما يجعل النقد عشوائياً في الأغلب، لا ينمو من داخل الجهود المتراكمة في الفعل النقدي العربي بقدر ما يبدو فعلاً فردياً غالباً ما يبدو صدى لاتجاهات نقدية تنجم من حوار فكري وفلسفي في بيئة ثقافية وحضارية وفنية مختلفة في أسئلتها وفي صور إبداعها. على أن الصورة لا تبدو بهذه القتامة؛ فثمة جهود نأمل أن تتكامل بعيداً عن صور الغثاثة التي أشاعتها النجومية والسطحية والاستسهال في أوساط الحركة النقدية مما جعل الشقة تتسع بين الإبداع والنقد، ويغدو الناقد في الأغلب مستجدياً لرضا المبدعين الذين يجد الناقد لديهم المصلحة التي يبتغيها، فأمام النقاد جهود تأصيلية انفتحت انفتاحاً واسعاً على النقد العالمي بقوة دون ادعاء أو تعالم.

* وماذا عن النقد الأكاديمي وموقعه ودوره إن كان له دور؟

لا ينفصل النقد الأكاديمي عن حركة النقد عامة، ليس في العالم العربي وحسب، بل في العالم كله، فالكثرة من أبرز النقاد العالميين هم من النقاد الأكاديميين. على أن كثيراً من النقد الأكاديمي قائم على دراسات مكرورة في موضوعاتها ومناهجها، وهذا النقد متأثر بما تتأثر به الحركة النقدية عامة، ويغلب عليها عدم تمثل المناهج التي تنبني عليها، إذ قلما نحصل على جهود نقدية أصيلة، لكن النقد الأكاديمي هو المرشح لتطوير حركة نقدية أصيلة على الرغم مما يشكو منه الجو الأكاديمي من تعثر وأحياناً من تدهور في معايير المنتسبين إليه، حتى بات الحابل مختلطاً بالنابل، وأصبح اللقب العلمي يفرض نفسه على الجوهر، إذ يكفي لصاحب اللقب أن يردد عبارات قرأها مترجمة في كتاب ليكرس نفسه ناقداً لا يشق له غبار. إن سبب الأزمة يعود إلى النقد الأكاديمي لأنه الأصل وما تعانيه الحركة النقدية من تشظ وسطحية وادعاء وضمور في الرسائل والمؤلفات والمتابعات والمؤتمرات والندوات والصحف والمجلات أصله وجذره هو الجو الأكاديمي المرشح في أيامنا وفي جونا الثقافي والأكاديمي لمزيد من الانهيارات.

* هذا الازدهار الروائي العربي برأيك هل هو حقيقي وهل هذا الضجيج المادح لهذا الازدهار في محله مع ملاحظة ان هذا الازدهار كمي فقط من وجهة نظري الخاصة؟

هذا سؤال صعب، لأن الإجابة عنه تنصرف إلى الواقع الإبداعي عربياً وعالمياً؛ فقد شهدت الرواية العربية تطوراً حقيقياً على أيدي بعض الروائيين العرب ولا سيما نجيب محفوظ، لكن آفة الإبداع الروائي وربما ينسحب ذلك على فنون أخرى، عدم التراكم، فالبناء الروائي لا يتراكم، في الأغلب، من داخل حركة الإبداع الروائي العربي نفسه، أو قل من خلال التطور الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، بقدر ما يتطور من خلال التطور الشكلي في الفن، ما يجعل الروائي لا يباهي بما نشب في صدره من عاطفة، أو ما اصطاده في لحظة تأمل عميق من أفكار، بل بما يرى أنه مجاراة لتطور الأشكال العالمية؛ ما يجعل الإنجاز مجوفاً في الأغلب، فالشكل ضرورة المضمون الروائي وليس غاية يتعبد بها. وعلى الرغم من إيماني المبدئي بحرية المبدع فإن هذه الحرية لها شروطها الداخلية، فقد طرأت موجة عاتية من التجريب الشكلي التي ضيقت عالم المبدع وعالم التجربة معاً رافقتها أعمال متسلحة بالإيديولوجيا المباشرة التي ظهرت فاقعة على السطح، مثلما ظهر لون آخر من الروايات التي تتوسل بالجنس من أجل الرواج من دون موهبة روائية.
ليس العيب، مع ذلك، في التجريب أو الإيديولوجيا بأشكالها المختلفة والمتناقضة أو الجنس، لكن العيب في جعل هذه العناصر حاملاً للرواية مما يجعل جدارة الشروع بالكتابة موضع تساؤل. لقد كتب جيمس جويس رواية يوليسيس وهي في بؤرة التجريب، لكنه تجريب محسوب، يقيم تناصاً واقعياً مع يوليسيس القديم وعالم الملحمة وأحداثها التاريخية. كشفت الأعمال الروائية العربية المتميزة أن الواقعية التقليدية مع شيء من التعميم تتجه إلى واقعية جديدة، ولكن التجريب له جدارته باتجاه التراث أو العالم الداخلي، ليس هناك من حجر على حرية الإبداع، ولكني أتفق معك تماماً في القول بأن الكم كبير ولكن الكيف قليل بل ضئيل. وإذا كان يحلو لبعض النقاد تسمية هذا الزمن بزمن الرواية فأرى أنه حلم وطموح أكثر منه تجسيداً لواقع ماثل سواء على صعيد الكتابة أو على صعيد التلقي، ولكن يحق للناس أن يحلموا وأن يطمحوا.

«الرواية»

* كيف تنظر إلى الخصائص التي تميزت بها الرواية العربية على مستوى السرد واللغة والتكنيك؟

أنا من الذين يعتقدون أن الشكل الروائي العربي له خصائص تميزه من غيره من الأشكال، فإذا كانت العناصر الأساسية للشكل الروائي تتجسد من خلال اللغة ومستوياتها المختلفة ومن الأحداث والشخصيات والمكان والزمان والفضاء الروائي وغيرها فإن بناء هذه العناصر سيتأثر بلا شك بخصوصيتها، وقد ظهر أثر التراث والبيئة في بناء هذه العناصر، وتكفي معاينة نجيب محفوظ للوصول ببساطة إلى هذه النتيجة، وربما كان نجيب محفوظ أول من اعترف بخصوصية الشكل العربي؛ فقد مارسه فعلاً قبل أن ينتبه إليه تنظيراً وقد أشرت إلى أهمية هذا الصنيع في رواياته: حكايات حارتنا، وأولاد حارتنا، وليالي ألف ليلة، وملحمة الحرافيش، ورحلة ابن فطومة. ويمكن ملاحظة ذلك في رواياته وروايات نخبة من الروائيين العرب. لكن هذا التميز لا يعني عدم الالتقاء في الخصائص العامة للسرد واللغة والتكنيك في الرواية العالمية، بل لقد أفاد الغربيون أنفسهم من ديكنز إلى مركيز وكويلو من ألف ليلة وليلة ومن التراث العربي على صعيد الشكل والمضمون.

* وهل برأيك الأجيال الجديدة استطاعت الإضافة على المنجز الروائي العربي مع ملاحظة أن هذه الأجيال تتهم مثلا في مصر بالضعف والهزال؟

ثمة روائيون شبّان واعدون استطاعوا أن يقدموا روح أجيالهم، وربما روح المغامرة والجرأة، في المضمون والتشكيل، ولكن النمطية الطاغية حتى في الجرأة والمغامرة جعلت الإضافة تبدو هامشية وغير قادرة على لفت الانتباه، وأما من لفت الانتباه فقد لفتها بما يشبه «الفقاعة» أو «الومضة» التي تبهر حين نشوئها ثم لا تلبث أن تغيب عن العيان ومن الذاكرة. قال آرنولد كلاما عن «خواء» بعض العصور الأدبية، أرجو ألا يكون عصر خواء بانتظار إبداع حقيقي جديد.

* أيضًا في السياق نفسه هل أزاحت الرواية الشعر العربي وخلخلت مكانته، ودفعته صاغرا للتراجع؟

مع حبي للرواية وشغفي بها وإدراكي لوظيفتها وأثرها، ولكن الواقع لا يؤكد هذه المقولة.. قالوا: هذا زمن الرواية، ولكنه زمن لا يقبل فيه القراء على شيء تقريبًا.. الشعر باقٍ وأرجو أن تتطور الرواية، ويبدو أن كليهما في أزمة حقيقية، لأن الروائيين والشعراء هم المبدعون والجمهور معًا.

* أيضًا باعتبارك متابعًا للرواية كيف ترى تطورات الرواية عربيا. هي أكثر تطورًا في مصر عنها في سوريا، وفي سوريا عنها في الخليج، وفي الخليج عنها في المغرب العربي، أم أن التطور يمضي في سياق متشابه؟

من المعروف أن الرواية ظهرت وتطورت فيما كان يُعرف بدول المركز ولا سيما مصر وبلاد الشام، وظلّ الكتّاب في هذين القطرين إلى جانب العراق يطورون إبداعهم في هذا الفن، بيد أن كتّابًا آخرين من أقطار العالم العربي، في أقطار المغرب والسودان واليمن والخليج، كتبوا الرواية بعيدا عمّا يسمّى البدايات. أنا لا أرى الكاتب ينطلق من تراث قطره، قد أستثني الكتّاب المصريين قليلا، ولكنه يتابع إنجازات الروائيين الكبار في العالم العربي كله. الكتّاب الشبان يقرؤون لكل كتّاب العالم العربي تقريبًا، ولا يبدؤون من نقطة الصفر. إن البداية من تراث القطر وهم، ولذا فإن الرواية تعلن عن رموز متفوقين لها في معظم أقطار العالم العربي.. ليس نجيب محفوظ أستاذًا للأجيال التي تلت جيله في مصر. إنه أبو الرواية العربية بعد آبائها الأولين وأستاذ الروائيين. وتنبغي الإشارة إلى أن الرواية العربية منفتحة في الشكل والمضمون على الجهات الأربع، التراث والواقع والمنجز العربي والمنجز العالمي.

السفير
18 يناير 2008