(رأى أن السريحي أكبر من الغذامي، وسرد تفاصيل هروبه من الباب الخلفي لـ «أدبي جدة»)

علي الرباعي
(السعودية)

محمد الثبيتيحين يذكر محمد الثبيتي، تحضر صورة الشعر المحتفظة بجماليتها وحداثتها، والمتكئة على الموروث الغائر في مناجم بعيدة، لا يبلغ مداها إلا شاعر له أجنحة جامحة به نحو التحليق باتجاه الحلم، ومانحة قدرةً على التمرد، ليصطف المتعبون حول جمر غضى هذا البدوي المعتّق في وجع القرى الفائق من فقر المدن، مطالبين بالمزيد من مهج الصبح والشاذلية، والقهوة المرة المستطابة. إنه مركز بوصلة يستحكم ببراءة في مؤشرها، ليحرك محور اللغة، ويديره صوب المفردة الناعمة، القابلة للتداول في السعودية والعالم العربي، قاطعاً على نفسه العهد بطهي قصائده على نار الجودة الهادئة. وللحوار معه قصة بدأت من جدة ومرت بأبها واكتملت بين منزل الثبيتي في مكة، وشاطئ عروس البحر، التي يأنس بها ولها مطالباً بالتمهل في الحوار، مفضّلاً التحرك بحسب المراحل، منتصراً لرغبتنا في مقابل مزاجيته الخاصة، ولم يبخل علينا «متهجي الحلم والوهم»، «نديم عاشقة الزمن الوردي»، «عابر التضاريس»، «مغرّب القوافل»،

و«مهجّر المطر»، بإجابات نصنّفها في خانة الجديد. إلى نص الحوار:

* لنبدأ من الجوائز. فما بين جائزة البابطين وجائزة سوق عكاظ الكثير من الدلالات والمعطيات. ما تعليقك على هذا الاستحقاق؟

- لست كما يعرف المقربون مغرماً بالجوائز، ولم أبحث عنها، ولا أشغل نفسي بها، فمهمتي الأولى تقديم نص جيد، احتراماً لذائقة المتلقي، وما نلته سابقاً وربما ما سأناله لاحقاً، يدخل دائرة التقدير والتتويج لمرحلة الثمانينات والقصيدة الحديثة، وليس تكريماً لمحمد الثبيتي شخصياً.

* يقال: إن لجنة «سوق عكاظ» لم تمنحك الجائزة إلا بعد تعهد بالحضور؟

- هم أكبر من المطالبة بتعهد، ولم أمانع في موضوع الالتزام بالحضور، إذ توقعوا أن يحول بيننا حائل أو طارئ، فالتزمت شفوياً وحضرت كما تعرف.

* بين حرمانك من جائزة نادي جدة الأدبي مطلع التسعينات، وعودتها إليك أخيراً، مسافة مرصوفة بالأسئلة، كيف أنت مع الحالين؟

- هناك صدمة طاولتني وأنا أحرم من حق رشحني له رواد بحجم علي الراعي ومحمد الشنطي، وتم بفعل فاعل تخريب ليلة عمر كنت عريسها، فخرجت من باب خلفي بعد أن رأيت مشاهد وملامح تنز بالتوتر والرغبة في خلق أزمة، وتحويل «التضاريس» إلى وثيقة إدانة. ولا أخفيك أنني شعرت بالانتصار، على رغم كل ما حدث، وتيقنت بأنني في مسار صحيح يتطلب المواصلة، وكان أن نلت بعدها جائزتين خليجية ومحلية، ويبقى الأهم تصاعد وتوسع جمهوري ومتابعي شعري منذ التسعينات حتى اليوم.

* هل اقتصر الأذى على حجب جائزة نادي جدة؟

- يا ليت، ولكنني فوجئت بعدها باستدعاء من جهة معينة في مكة، وحضرت عندها مراراً، محاولين إرغامي على تفسير شعري بعد تأويله من جهتهم، مؤملين الخروج بإدانة، ولم أزد في ردي على أنني مسلم وشاعر، كبقية الشعراء العرب على مر العصور، إلا أن المفاجأة كانت في تحويلي إلى المحكمة، وكم أكبرت القاضي حين رفض نظر القضية، لأنها ليست من اختصاصه، وأعفاني من المثول بين يديه، ليحاول أحد أعضاء تلك الجهة الحصول على شرح موجز مني يتضمن إعلان مقصدي ونواياي، من خلال بعض نصوص «التضاريس»، ولم أنج منهم إلا بعد تلقيهم توجيهاً من أحد الفضلاء.

* إذاً تضاريسك وعرة؟

- خرجت من مسالكها ومهالكها أصلب عوداً، كما ترى.

* يرى بعض النقاد أنك متأثر بالنفري، فما تعليقك؟

- لست ممن يسلم بالتأثر بما يقرأ، إلا أنني أتمثل كثيراً مما تختزنه ذاكرتي من تجارب وأطروحات فكرية وإبداعية ونقدية، ويمكنك وصفي بالمريض بالقراءة، خصوصاً في البدايات.

* ألا تؤمن بإلهام الشاعر ومعاونة الجن؟

- أبداً هذه أساطير، ولم يثبت لي أن شاعراً جديراً دخل الشعر من هذه الأبواب المستحكمة فينا شعبياً. وأسلم بالموهبة، لكنها لا تكفي، بل تفتقر المواهب للقراءة والاطلاع والسماع في كل فن من الفنون، وأن تحيا الحياة وتعيشها بكل تفاصيلها ولا تعايشها فقط كما يفعل البعض.

* هل يعني ذلك أن جيل الحداثة قارئ مميز؟

- في حالة البعض نعم، والبعض الآخر ربما يرتكن للموجز والملخّص والغنية بما تجود الضفاف، من دون غوص في الأعماق، ولذا طاول الفقر تجاربهم.

* ما حظ ملهمتك من خيالك؟

- حظها في الواقع لا في الخيال وفضلها كبير.

* من ينافسك ومن تنافس؟

- وهل نحن في سباق راليات أو هجن أو مزايين؟ المبدع يكتب بمعزل عن الآخرين، فلكل منهجه وآليته، ولم أضع في ذهني أن أكتب لأتجاوز فلاناً أو علاناً، فالشعر حالة تفرض نفسها عليك، ومتى فرضت نفسك عليها فسدت.

* متى رددت: «أريد من زمني ذا أن يبلغني/ ما ليس يبلغه من نفسه الزمن»؟

- لست المتنبي لأردد ما قال، ولا ريب أن طموحه كان مختلفاً، وأكبر من طموحنا، فعلى المستوى الشخصي لا أطمح إلى أكثر من صحة البدن، ومزيد من الوعي والنضج الفكري والاجتماعي.

* هل تنام عن الشوارد ليسهر الخلق؟

- هذه علاقة جدلية بين الشاعر وجمهوره، ربما يصح أن أتعمّد النوم لكنني لم أعمد إلى جرّ جمهوري إلى السهر والخصام، إلا أنه من حقهم أن يسهروا ويخاصموا.

* هل أنت مؤدلج أم ملتزم؟

- كل إنسان منتم مؤدلج من دون شك، والمسلم بالطبع مؤدلج، إلا أن الالتزام بقضية أو إشكال، مناف للفنية بل ومناقض لها.

* ما مدى تأثيرك في غيرك من الشعراء من مجايليك، أو من جاء بعدك؟

- ليس لدي ما أقوله، إذ ليس من الصعب أن يكتشف الشاعر نفسه في الآخرين، كما يكتشفه الناقد أو القارئ العادي، ومن الصعب أن تطلع على كل التجارب وتحكم عليها، فلا مجلات متخصصة في الشعر ولا ملاحق أدبية مؤثرة وأثيرة، شبيهة بملاحق مرحلة سابقة، إضافة إلى أن أية تجربة تحتاج إلى فترة زمنية كافية ليمكن الحكم عليها، ودرس مدى تأثيرها في الآخرين، وعلى رغم ما مرت به المرحلة السابقة من تدافعات، إلا أنه لم يفكر أحد ما في دراسة التجربة الشعرية الحديثة بموضوعية وحياد، سواءً على مستوى فردي أم جماعي. إذ لم تدون فترة القصيدة الحداثية في دراسات، لا من حيث تاريخيتها، ولا تداعياتها، ولا تجارب رموزها، ولا حتى تجارب من جاء بعد جيلنا، بخلاف الحركة الحداثية في بلدان عربية أخرى، فهناك من وثقها، وقدم عنها دراسات وبحوث متخصصة.

* «حكاية الحداثة» ألا تعد دراسة أو توثيقاً للمرحلة؟

- إطلاقاً لا يمكن أن تعد حكاية الغذامي دراسة أو توثيقاً، بل هي وجهة نظر شخصية من رجل له صيته، فجعل من نفسه مركزاً والبقية يدورون حوله، ولو كتب أي حداثي تجربته سيجعل نفسه مركزاً كما فعل الغذامي، وما نحتاجه هو الموضوعية التامة عند تدوين التجربة، خصوصاً أنها موجودة وقائمة ورموزها أحياء. فالمرحلة لم تغيّب تاريخياً حتى نجهد في البحث عنها ونستعيدها، فهي سيرة ومسيرة موثقة من خلال الأندية الأدبية والملاحق الثقافية، ومسجلة بالصوت والصورة، ما يعني سهولة الخروج بتصور كامل من دون الإذعان لادعاءات المدعين، بأنهم من صنعوا الحداثة ومن ساندوها، وذللوا صعوباتها بذاتية واجتهادات مؤسفة.

* هل من أدعياء للحداثة؟

- أكثر من أن يقعوا تحت حصر.

* من هم آباء التجربة الحداثية في السعودية؟ وهل من أبناء؟

- لم يوجد للجيل الذي نحن منه آباء في الداخل، وعلى رغم توافر أسماء مهمة، كحمزة شحاتة والعواد وطاهر زمخشري، إلا أنه من النادر أن تجد لأحدهم ديواناً مطبوعاً أو كتاباً في المكتبات، وقلة كانوا يتداولون ما يتوافر بحكم رابطة الصداقة، ووشائج القرابة مع الرواد أنفسهم، وللحق فإننا لم نعرف تجربة مميزة صادرة عن مثقفينا، بل كل ما صدر في تلك المرحلة يمكن وصفه بالمتواضع.

* معنى هذا توافر الآباء عربياً وعالمياً؟

- أجل بالطبع، ولو استحضرنا الآن عدداً من الشعراء السعوديين في تلك المرحلة كحسن القرشي، فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل مقارنته باللبنانيين كبشارة الخوري مثلاً، أو بدوي الجبل في سورية، فتجارب الشعراء العرب ثرية، والثري يمكن أن يؤثر.

* وماذا عن الأبناء؟

- الساحة تعج بأسماء عدة شعرية، ربما لا نعرف أكثرها إلا في مناسبات ولقاءات عابرة، ولا يمنع أن يكون منهم المتأثرون بجيلنا.

* لتجربتك نكهتها الخاصة، ما سر هذه الخصوصية الشعرية؟

- حلمي أنا الذي لم يفارقني ولن يبرحني «كتابة قصيدة صادقة»، على رغم ما يعتريها من نزق وما تستدعيه من جنون، وهما ما أعدهما جزءاً من تجربتي، إلا أن الصدق ركيزة أساسية في نص محمد الثبيتي، وهكذا يجب أن أكون.

* ألا يشغلك «الكم الشعري» وإصدار المجموعات الشعرية؟

- أبداً ليست الكثرة والوفرة هاجسي، ولربما فاقت قصيدة واحدة ديواناً، ولربما يعدل ديوان عشرات الدواوين، فالقصيدة الجيدة هي الأهم، وربما قرأت نصاً للشاعر العراقي حامد الراوي ليس معروفاً، ونصه الشهير «مولاي» حي لم يمت، في حين يمكن أن يكون صاحبه مات، فيما يظل معظم الشعر ميتاً، وإن تراكم في مئات الدواوين لشاعر واحد.

* ما محفزك لكتابة نص جديد؟

- لم أستطع أن أقبض على اللحظة الأولى والوميض الابتدائي، إلا أن احتلال الفكرة لمشاعرك يولد الرغبة في الكتابة، ما يعني وجود خلق جديد، فأستسلم كلية، وأبدأ من خلال آليتي الخاصة، إذ لكل شاعر آليته. وهنا ربما أكشف سراً للمرة الأولى، إذ أبدأ بكتابة مقطع، وفجأة أجد على لساني كلاماً كأني سمعته من قبل، ما يجعلني أسأل الأصدقاء والمقربين ممن اشتهروا بزخم قراءة الشعر، إن كانوا سمعوا بهذا المقطع من قبل؟، خوفاً أن أنسب لنفسي ما ليس لي، وكثيراً ما توقفت في النص ومعه لزمن، وحدث هذا معي في «التضاريس» و «تغريبة القوافل»، و «المطر»، و«موقف الرمال موقف الجناس»، ومن بعد اعتدت على هذا الأمر وسهل تجاوزه.

* ما مدى التأثر بما تختزنه الذاكرة من تجارب وذكريات؟

- أية تجربة تمر بك من الطفولة والمراهقة والشباب وما بعده، فكل المشاهد المؤلمة والجميلة والمفرحة والمحزنة تختزل، وتعود للظهور في لحظات معينة سواء للفنان أو الإنسان العادي، وتستدعي الحالة الشعرية ما يناسبها، وما يدخل في موضوع القصيدة، لكنه لا يمكنك أن تتصور كل ما ستقول، وإلا تحولت إلى ناظم، والفرق كبير وواضح بين النظم والشعر.

* أين شعرت بتجلّي المختزل من تجربتك في نصك؟

- في «موقف الرمال موقف الجناس» كتبت: «ضمني ثم أوقفني في الرمال، ودعاني بميم وحاء وميم ودال، واستوى ساطعاً في يقيني، وقال» ... فالجناس لم يكن وارداً، فالمقطع الأول من القصيدة كتبته وكأني أحفظه، وأستذكره عن غيري في سبع ساعات أو ثمان.

* بم ترد على ما يقال إنك اشتغلت بالقصيدة ولم يشغلك سواها؟

- أنا لم أفكر في هذه المسألة كثيراً، هناك من تضطره الظروف إلى أن يكتب ليأكل خبزه، فتأتي بعض التجارب مستنزفة أو مشوهة، لأن صاحبها مكلّف بالكتابة، أما أنا فتوظفت وعمري 20 عاماً، ولم أجبر على الاندراج في سلك الكتاب المنتظمين لا شعراً ولا نثراً، ويكفيني كشاعر أن أكتب نصي الشعري المتقن بعيداً عن التكلف والاستنزاف.

* ما درجة فشل مشروع أعداء الحداثة؟

- كتاب القرني واجهه سقوط سحيق، ولو كنت مكانه لأخفيته وأحرقته، فما كتب عار أمام الأجيال المقبلة. ليس لأنه تناول الحداثة وكفّر الحداثيين، بل لأنه تجاوز سلوك تعامل المسلم الحقيقي العفيف والمترفع عن تصيّد أخطاء الناس، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.

* ما تعليقك على قول الناقد سعيد السريحي إنك كسرته شعرياً بتضاريسك؟

- يجب أن أفخر بما قال السريحي، فهو شاعر وفنان كبير، أخفى النقد كثيراً من وهجه الشعري، وحين أقارن بداياتي بقصائده الأولى أخجل منها، فالأفضلية له شعرياً في البداية بشهادة كثيرين.

* ألا يعد هذا تواضعاً منك؟

- لست مضطراً لاصطناع التواضع، والله هذه حقيقة، وهو ليس بحاجة لشهادة مني.

* كيف انعكست عليك أزمة احتلال الكويت، بوصفك أحد رموز المربد؟

- لم تنعكس بشيء، فمنذ زيارتي الأولى للعراق عام 1984، نذرت على نفسي ألا أكررها، على رغم محاولات جاهدة من الملحق الثقافي العراقي، واستعداده لتذليل جميع الصعوبات في سبيل معاودة المشاركة، إلا أن المرة الأولى كانت كافية لمعرفة حقيقة الوضع، ولم يسجّل علينا الوقوع في تدبيج المدائح، فالوضع كان بائساً ومنظر الصغار والصغيرات حين اصطفافهم على مدخل البصرة لانتظار القطار الذي يقل المثقفين أدمى قلبي، لأن معظم من في القطار لا يستحقون تلك الوقفة البريئة والناضحة بالبؤس والتعب، والبصرة شاحبة ومحاصرة بالمتاريس، وتلك كلها دلالات تؤذن بسوء ما سيأتي، فاكتفيت بما تولّد من قناعات، وبما سمعته من أصدقاء هناك، وعرفت حجم الزيف الذي كان يعيشه العراق.

* ما مدى تأثير الأفكار في جمالية النص؟

- هذه إشكالية، فليس من المناسب أن أرصد وأدبج الأفكار لتعبئتها في النص، وأنا مع الفكرة التلقائية التي هي من روح النص، وتحضر بعفوية، والشاعر نتاج فكرة وجمالية، بشرط الدخول في البنائية بشكل طبيعي بعيداً عن الشعارات.

* ما سر حرصك على إلقاء شعرك من الذاكرة من دون اعتماد على الورق؟

- اكتشفت لذة الإلقاء من الذاكرة، إذ يستمتع الشاعر الذي يعتمد على حفظه، برؤية جمهوره ورصد تفاعلهم الآني معه، ولا أخفي سراً حين أقول إن العودة للمكتوب أمامي يورطني بالوقوع في الأخطاء، وربما لذلك علاقة بتكويني.

* ماذا عن العودة للمعاجم والمراجع اللغوية؟

- لا غنى لشاعر عن العودة للتراث اللغوي والشعري، للتحقق من صحة بعض المفردات ودلالاتها، خصوصاً المتماسة مع النص القرآني والنبوي.

* كيف تقرأ هوية قصيدة النثر العربية؟

- ربما لم تتحدد ملامح هوية قصيدة النثر، ولم تجد قبولاً يليق بها في عالمنا كمشروع تحديثي، إما لتعذر فهمها أو لاستسهال البعض كتابتها، لتخرج ضعيفة مهزوزة، فلا توصل فكرة ولا جمالية، لكنها ظاهرة موجودة، ويمكن أن تضع لنفسها مكانة في المستقبل، علماً بأن قصيدة التفعيلة التي هي امتداد طبيعي للقصيدة العمودية، ما زالت مثار جدل بين النقاد حول مشروعيتها، وهكذا تكون علاقة المحدث بالتقليدي، وعلاقة قصيدة النثر بالقصيدة العربية.

* من يلفتك من الأسماء الشعرية الجديدة؟

- من حسنات برامج الفضائيات الشعرية، تعريفها بأسماء شعرية جديدة وجيدة، لم نكن سمعنا بها من قبل أو قرأنا لها، ولتعذرني من استعراض الأسماء، فلربما أغفلنا تجارب جيدة لم نطلع عليها، ما يخل بمنطوق الحكم، ولا يجوز الحكم على تجارب المبدعين غيابياً.

* حاول الدكتور عبدالله الغذامي أن يمرر فكرة تبنيه مشروع الحداثة في السعودية، أين تقف من تمريره؟

- موقف التعجب والدهشة، فالغذامي للحق وللتاريخ لم يكن معروفاً حين بدأنا تجربتنا كشعراء، ولم يشتهر سوى بعد أمسية جدة الشهيرة، واستفادته من حركة الحداثة ومنا نحن، لا ينكرها إلا مكابر.

* كيف ترى الغذامي ناقداً؟

- أعيدك والقراء إلى مقدمة كتبها عن ديوان الشاعر حسين عرب، وهي مثبتة في مطلع الديوان. ومن يقرأها ستتملكه الحيرة، إذ ليس من المنطق أن تكون هذه المقدمة بقلم هذا الناقد الكبير القادم بمنهجيات ونظريات غربية «بنيوية وتفكيكية»، نظراً إلى التقليدية والمدرسية التي كتب بها تلك المقدمة. ولا بأس بالتذكير بالقراءة العميقة لـ «انتهت» الواردة في نهاية نص للصيخان نشر قبل سنوات في «عكاظ»، وظنها جزءاً من النص، فذهب يقرأها نقدياً، وفي «ملحق الأربعاء» دبج سلسة مقالات عن بيت الشعر لعله «الناس للناس من بدو وحاضرة»، ولا تجد في قراءته ملمحاً يشير إلى البيت المذكور.

* إذاً هل يمكن أن نسأل عن الفرق بين الغذامي والسريحي؟

- كبير جداً. السريحي كناقد شعري مبهر، فهو صاحب ذائقة شعرية متفردة، يقرأ النصوص المدهشة فيهتز بها طرباً، ويكتب بعد استيعاب كامل للنص، ليخرج بنص نقدي مواز لنصك، فلا وجه للمقارنة. ولا زلت آسى على السريحي المستهلك في أروقة الصحافة، إذ إن مشروعه هو المشروع النقدي السعودي المتفرد، منذ رسالة الماجستير في شعر أبي تمام، و»الكتابة خارج الأقواس»، لكنه شغل بمهنة المتاعب، فالرجل قامة كبيرة، ولا ألومه في اختياره وعمله، ما دام أنه وجد فيه نفسه.

* ما تعليقك على مشاريع وزارة الثقافة ؟

- متفائل جداً بما خطته الوزارة، ومبتهج بالانفتاح الثقافي والمعرفي، وبالانفراج الرقابي والتحرك الواعي، وما معارض الكتاب إلا شواهد على ما أقول، ونتطلع لما هو أفضل وأجمل وأوسع.

* تلازم الثبيتي والصيخان في الأمسيات يثير أسئلة؟

- تلازم عفــــوي من المنظمـــين. وعبدالله صديقي، شهادتي فيه غير موضوعية، كوني معجباً به وبشعره.

***

من مطوف للحجاج إلى جوّاب للآفاق الشعرية

* من وادي «الشروط» التابع لمركز لغب في محافظة بني سعد، بدأت رحلة الحياة والشعر لصوت يعد الأميز اليوم بين جيله. ولد محمد الثبيتي عام 1952 وتربى في أسرة متوسطة الحال بين أب وجد يقرضان الشعر ويعشقان القراءة. وفي مكتبة البيت الدينية نشأت علاقته الحميمة مع القراءة ولم يكد ينهي المرحلة الدراسية الابتدائية حتى أجهز على كل الكتب المتوافرة في مكتبة الأب، ولم يفته أن يحضر محاورات الشعراء الشعبيين، وحفلات الرد ومسامرات والده وجده الشعرية، لتأسس اللبنة الأولى لعالمه الشعري.

وعندما لاحظ والده نبوغه ونهمه المعرفي نقله إلى مكة المكرمة، ليكمل تعليمه في كفالة إحدى جداته، ليظفر الطفل البدوي في رحاب الجدة والأقارب ببغيته من كتب تراثية ومجلات حققت له سلوة نفسية، عوضته الحرمان من أبويه وكانت جدته أول جمهور يعرض عليها مواهبه ويستعرض معها مهارته في قراءة السيرة الهلالية والزير سالم وعنترة. وخلال ثلاثة أعوام أتم دراسته في المرحلة المتوسطة. ولتأكيد العصامية خصص أوقات الإجازة للعمل مطوفاً للحجاج والمعتمرين في المسجد الحرام، مستغلاً مردودها المادي المتواضع في تأمين حاجاته وشراء الكتب.
وفي كل فرصة يعود فيها إلى أهله يمر بمكتبة السيد في الطائف، ليتبادل مع صاحبها كتباً أنهى قراءتها بروايات وقصصاً ودواوين ليحقق له السيد مبتغاه بأسعار زهيدة، بل ويخصه بما ينسجم وميوله بما يتوافر معه من ريالات وأحياناً بالمجان، لأنه تحول إلى صديق لرجل معرفي وماهر بنوعية الكتب الملائمة لذوق زبونه الجديد.

ومن معهد المعلمين الثانوي في مكة المكرمة، دشّن التجربة الشعرية عبر محاولات أولية خجولة، يذكر منها محاولته في السادسة عشرة من عمره حين كتب قصيدة معارضة لإحدى قصائد شوقي منها إذا جاد الزمان لنا بيوم، وصالاً جاد بالهجران عاما، وبعد التخرج بدأت رحلة العمل معلماً في مدرسة المطعن في جازان، وهناك تشكّلت علاقة جديدة مع الأساتذة العرب الوافدين، وطرقت مسامعه معلومات ومعارف غير مسبوقة. ومن خلال مكتبة العقيلي كان تأمين زاده المعرفي.

ولم تخل تلك التجربة من توافقات ومفارقات تراوح بين الكوميديا والتراجيديا.
بعد عام انتقل إلى مكة معلماً في إحدى مدارسها، موشوماً بآثار الملاريا التي تشبثت به أعواماً. ثم عاد حنينه إلى الدراسة لتحصيل مؤهل أعلى، وهذه المرة بالانتساب لقسم علم الاجتماع في جامعة الملك عبدالعزيز، فحصل على بعد أربعة أعوام على «الليسانس». وكان أصدر وقتها ديوانه الأول «عاشقة الزمن الوردي»، وأهدى نسخة منه لوزير المعارف حينها الدكتور عبدالعزيز الخويطر. ولرغبته في العمل الإداري طالب بنقل خدماته لإدارة التعليم في مكة، إلا أن هدفه لم يتحقق لحاجة المدارس في تلك الفترة للمعلمين السعوديين لندرتهم.

الحياة
22/01/2008