حوار: سامح كعوش

سعد جمعةهو شاعر القصيدة القلقة، والنص الشعري الواقف في انتظار إشارة مرور تعلن أخضرها أنثى الحروف لتنكتب القصيدة بريشة قلب الشاعر، أو ترتكب بنيته العمد في الانتماء إلى الشعر الفاتن الحامل كل مفردات الدفء والحرية.

إنه الشاعر الإماراتي سعد جمعة، يحبو في خطوه على سراطها ليقع قربها حدّ التوحد بها، يخاطبها في مجموعته الشعرية الثالثة “سراطٌ نقيٌّ ... قربكِ” معلناً انكسار جرة الحب على حجر الانتظار، ففي الطريق إليها لا أحد، ولا معنى للحكاية لأن العيون لا ترى الشاعر في خفائه المحبب كأنه روح تسعى إلى الخلاص المفخخ بالموت الأبدي.

* بعد مجموعتك الشعرية الثالثة، ما هو التعريف الأقرب إلى الدقة في فهمك للشعر وعلاقته بحياة سعد جمعة كشاعر؟

- الشعر هو عملية التقاط الحياة ومحاولة تشكيلها من جديد برؤية الشاعر كنتاج للتراكم المعرفي والحسي والحياتي، من الطفولة إلى لحظة الكتابة، لأن لحظة الكتابة هي لحظة وجد يتماس فيها الحسي بالعقلي بالعاطفي والجسدي، فالقصيدة غالباً لا تكتب في لحظة واحدة، فاللحظة هي غيبوبة الشاعر التي تنتج نصاً شعرياً كاملاً أحياناً، أو نصاً مجتزأ يحتاج إلى إعادة تشكيله في اليقظة.
حياتي هي شعري والعكس صحيح، فالمجموعات الشعرية الثلاث التي قمت بإصدارها ملتصقة تمام الالتصاق بحياتي، فقد عشت نصوصي بكل تفاصيلها، وكان الحسي ذا تأثير أكبر من أي تأثير في الكتابة، والغيبوبة في الكتابة هي حالة اندماج كاملة مع الحياة نفسها لدى الشاعر.

* تبدو في المجموعة الشعرية الأخيرة “سراط نقي ... قربكِ” شاعراً قلقاً، إلى أي مدى يساهم القلق في تكوين شخصيتك الكتابية الشعرية؟

- الوجود قلق بكليته، ومن هنا يأتي قلق العاشق كما في مجموعتي الأخيرة “سراط نقي قربكِ”، لأن التجربة في المجموعة هذه مختلفة عما سبق في المجموعتين الشعريتين “الراقص” الصادرة عام 2000 عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت، و”دون مرآة ولا قفص” الصادرة عام 2005 عن دار أزمنة للنشر في عَمَّان، فالتجربة الشعرية في المجموعة الأخيرة تطرح نوعاً جديداً من القلق على الصعيد النفسي، على صعيد المفردة واللغة نفسها، لغة الكتابة التي تطرح مفهوماً انتكاسياً على مستوى الوجود، واستعادة للصوفية في حالة العاشق التي لا تتوفر إلا بقدر عالٍ من الشفافية للوصول إلى الشفاف الوجودي، والإيمان بالله.

* يقوم تشكيل العبارة الشعرية في المجموعة على ثنائية الأنا الشاعرة وهي الأنثى، لماذا المرأة تبقى في روح الشاعر وروحية نصه الشعري كحتمية ولازمة؟

- المرأة إنسانة موجودة في الحياة ليعشقها القلب ويتعلق بها، وفي الحالة العادية يحاول الإنسان أن يصل إلى لقاء ما بالمرأة، أما الشاعر وفي حالة توثيق هذه الحالة فهو يدخل في حالة هيام وعذاب وقلق وخوف من حالة الإنجاز والتحقق لحلمه في وجود امرأة في حياته وقصيدته.
المرأة كروح تمتزج بروح الشاعر الذي يصاب في غيابها بالعطش مما يدفعه إلى محاولة الارتواء من خلال البحث عنها، فيرتوي بها في تعبيره الشعري عن حالات القرب منها حيناً، والابتعاد عنها أحياناً.
تعتمد في نصك الشعري لعبة الثنائيات التماثلية حيناً والضدية أحياناً أخرى في ما يشبه التردد عن إكمال الشكل، كيف تتشكل مرآة النص العاكسة لديك في ظل ازدواجية الشكل اللغوي وامتناعه في السهل الذي تدعو إليه في كتابتك الشعرية السهلة الممتنعة معاً؟
- لعبة التناقض والتضاد في نصي الشعري تمثل واقع التضاد بين ضميرين عائدين إلى شخصين أو زمنين يدخلان في التضاد بينهما، والسخرية تأتي نتيجة لهذا التضاد، عندما يصل العاشق إلى مرحلة عدم الانصات إلى أحد، ورفضه أن يكون الآخرون عقبة أمام صعوده مراتب الحب.
التردد في النص بين أن يمضي الشاعر أو أن يتوقف، فكأنه يجمع بين مواقف الصراع مع الواقع نفسه، هو تجريب الشاعر الدائم في اختراع أشكال جديدة للعلاقات في النص الشعري، فالشاعر هو الخيميائي الذي يخترع المتناقضات ويحيلها شكلاً جمالياً جديداً، وصنعته هي خلق الكلمات لجلب المسميات ومزجها في بوتقة النص الشعري بكل جنونه وفتنته.

* حديث البدايات الشعرية ومراحل الطفولة والمراهقة، كيف يراه سعد جمعة؟ وما الذي يتوجب عليه القول فيه؟

- البدايات تكون دائماً في مرحلة الطفولة المبكرة، وإن كان احدنا لا يكتشفها إلا عندما يقف أمامها ليستعيدها كأنه يراها لأول مرة، ففي مرحلة الطفولة من عمري لم أعِ انني شاعر، ولكن مع الزمن، يمر الشاعر بمراحل عمرية مختلفة يتوجها بمرحلة تعارفه مع الكتابة، والكتابة في تلك اللحظة تكشف له عن عالم الأشياء الأخرى في انهيارها وسقوطها، ليتسع للشاعر حد التحديق في هذه الأشياء بكل تفاصيلها ووجودها الحميم والدافئ كشريط سينمائي متتابع، يبدأ المرء حين استعادته باكتشاف أنه يتشكل قبلاً ومن لحظة طفولته الأولى، في علاقته بالبيئة والمكان، وشكل الإنسان الذي يشاركه العيش في تلك البيئة.

* تحيل الطفولة إلى عالم فني حافل بالعناصر المحفزة على كتابة النص الشعري، ولكنك تشترط الاستعادية فيه لمراحل سردية كاملة، هل في ذلك تأثر بالحداثة والفلاش باك الروائي أو السردي؟

- أمي، الجد، الأزياء والعادات وطرق التربية، كلها يراها الشاعر بشكل مختلف يتحول عنده إلى استعارة ذكية يستخدمها الشاعر في نصه كعنصر فني. والخيال المستعاد من مرحلة الطفولة هو المؤثر الفني الأول في كتابتي الشعرية، فمرحلة الطفولة الساحرة التي امتزجت حياة الناس فيها بالمعاناة تشكل بالنسبة إلي حافزاً وملهماً يومياً للكتابة، والحياة في تلك المرحلة كانت عبارة عن عذاب يومي لكنه العذاب الجميل الذي نفتقده اليوم، مثل مشاهدة الجدة وهي تحلب العنز في الصباح، أو تحضر البيض من حظيرة الدجاج، والغرفة التي كانت مشرفةً على فضاء مفتوح، إلى شاطئ البحر صديق طفولتنا كأفق شاسع لا يحده إلا المدى الأخير للبصر، ورؤية الشمس عند الغروب، كلها مشاهد تحتفظ بها الذاكرة لتستعيدها شعراً.
مراحل الفصول والانتقال بين مشاهد الطبيعة التي شكلت الخيال بما يرسمه من تحديق هذا الطفل الذي كنتُهُ، في سواد الليل المتلألئ، في طفولته في رأس الخيمة، ومنطقة النخيل فيها، كمصيف للعائلة، هذه المراحل والمواسم الحياتية ساهمت في اتقاد الخيال الذي ضاع عند آخرين ولم يتحول إلى محفز دائم على الكتابة.
هذا الخيال المحتَفظ به من مرحلة عمرية ما، يحكي قصصا عن البشر الذين يحمل كلٌّ منهم قصته وحكايته التي تنتظر الشاعر كي يكتبها بالخيال العالي والرؤية الأعمق لهذا العالم.

* من هو الشاعر في رأيك؟ وهل صحيح أنه كائن فضائي غرائبي غير متحقق في الواقع إلا خارجه؟

- الشاعر كائن غرائبي أجل، وهو كائن متآمر، لكنه يتآمر على نفسه لا على غيره، وهو متآمر على نفسه بامتياز، فهو يغرق وحيداً وينجو وحيداً، ويحاول أن يطير ويحلق وحيداً، وهو الوحيد المبرر له من متعاطي الكتابة في أجناس الأدب المختلفة.
والشاعر واحدٌ ككائن، لكنه متعدد كحالات شعرية تبعاً للواقع أحياناً، ولظروف الحياة أحياناً أخرى، وللشطحات التي يقع فيها أثناء التفكير أو الكتابة أو تصور الأمور كما يراها بعين الشعر.
ولأن الشاعر صديق القمر وحارسه، فالقمر منارة الصيادين، والصيادون بهذا المعنى هم الشاعر نفسه، فعندما يشعر الشاعر بالجفاف عليه أن ينزوي بعيداً عن حداثة الحياة والمدنية المعاصرة وصخبها، ليتمدد وحيداً تحت ضوء القمر محدقاً فيه وسط السماء المفتوحة التي تتلألأ النجوم فيها لترتوي كما يرتوي بمشاهد البحر وأفقه الواسع والفضاء المفتوح.

* إلى أي مدى يتكامل الشعراء الإماراتيون في تجربتهم الشعرية مع الانقلاب الحاصل عربياً في مفاهيم القصيدة بكلاسيكيتها وتقليديتها؟

- الشعراء الإماراتيون غير منفصلين عن التجربة العربية في الشعر، وإن كانوا متأخرين زمنياً قليلاً عنها، فهم جزء لا يتجزأ من هذا العالم العربي، وهم جزء لا يتجزأ من الحركة الثقافية العربية كذلك، ومن الطبيعي جداً أن يتأثروا بالتجربة العربية المحيطة بهم، ومن الطبيعي أيضاً أن يسايروا عملية معايشة التغير الطبيعي في أدوات الكتابة في مسيرة التطور التاريخي للكتابة الشعرية العربية، والحياة العربية كذلك، وهذا أمر طبيعي كنتيجة لتراكم التجربة الشعرية والحياتيه العربية.
وقد استطاعت قصيدة النثر أن تعبر لتحتل مساحةً يحتفى بها في المنابر كغيرها من الأنواع الشعرية، والشعراء الإماراتيون هم الجزء المكمل لهذه الصورة في التجربة الشعرية العربية.

* أنت من الشعراء ذوي البعد الإنساني في التجربة الشعرية والوجدانية، فهل تساعدك البيئة المحلية على الامتداد نحو هذا الفضاء العربي والعالمي؟

- الاحتكاك بالتجربة العربية والعالمية لدى شعراء ومثقفي الإمارات بشكل عام، يمتد على زمن وعمر يزيدان على العشرين عاماً، إضافة إلى انفتاح المكان الإماراتي على المثقفين والمبدعين العرب، والتواصل معهم وتوفر منجزهم الإبداعي والأدبي عبر كتبهم في مكتبات الإمارات إلى جانب نظرائهم من الكتاب العالميين، كل ذلك يبرز التواصل الجيد ثقافيا بين المبدعين المحليين والعالميين، وقد صار الكلام عن هذا التواصل أمراً من الماضي كون العلاقة الخفية القائمة حالياً هي علاقة تواصل مع المنجز الإبداعي العربي والعالمي بكلّه، لتوفر أدوات التكنولوجيا الحديثة من انترنت وغيرها مما سهل الانتقال المعرفي والثقافي.

* كيف يرى سعد جمعة هذا الحراك الشعري الذي تشهده الساحة الثقافية في الإمارات في ظل الاهتمام الإعلامي المتنامي به؟

- التجربة الشعرية في الإمارات عبارة عن مجموعة تجارب فردية، فهناك عدد كبير من الشعراء، وإصدارات شعرية عديدة، وشعراء جدد يتوافدون على الساحة الشعرية ليخلقوا مشهداً شعرياً جديداً مختلفاً عن السائد والتقليدي، ففيه الشاعر يتمثل أكبر من أن يكون مجرد متسابق إلى موقع ثقافي ما، فهو الملتصق بالوجود والحياة، وقد يؤدي الشعر إلى موته، لا إلى وقوفه على منصة تتويج كمكافأة له على فعل الكتابة.

والشعر الجديد في الإمارات عملية بحث في الوجود والحياة والهوية وتدوين وتأمل واكتشافات ورؤية مستقبلية، إذ لم يعد الشعر صراخاً منبرياً، بل اقترب أكثر من الذات ليدخل فيها، والصراخ والمنبرية صارا من فولكلور وتراث الشعر، ولا يمكن لهما بأي حال من الأحوال، أن يكونا مشروع بحث وجودي ووجداني.

جمرة الإبداع

كل مبدع عندما يقبض على جمرة الإبداع داخله يتخلى عن الكون كله ليعيش حالته الإبداعية والكتابية ليترجم كل ما يكتنزه في ورق ليقدمه للعالم والحياة الآن وفي المستقبل، والمؤسسة بحد ذاتها هي المعوق الأكبر للمبدع في علاقته بالحياة، كون هذه المؤسسة تؤطره وتحكم وجوده في الحياة، فيؤدي أموراً من المفترض ألا يلزم بتأديتها ليتفرغ بطاقاته للإبداع والانتاج الأدبي، والمكان لا يخلو من مبدع في غزارة انتاجه نوعاً لا كماً، فالحياة الأخرى كعمل ونظام ومظهر اجتماعي ملزمة للمبدع، لا تسمح له بأن يعيش لينتج الإبداع دون غيره، الملكة الإبداعية تحتم على المبدع أن يؤمن بها وينتصر لها لتحقق له بالتالي الاكتفاء بعيداً عن الإطار الاجتماعي الذي يقضي على الحالة الإبداعية لديه بمجرد تحكمه بسلوك هذا المبدع.

****

نماذج من شعره

إلى أين

أيها الحب
الى أين تأخذ روحي ايضا،
وأنا بلا قلب هنا؟
هل سيكون لامرأة أخرى حب أكبر؟
الروح قد هامت
اني افقد الروح.. انها توشك أن تغادر عقلي وجسدي
أدعوها الى الحياة من جديد.. وتأبى
اللعب بالعمر
ما به يلعب بالعمر غير مكترث وغير بطيء وغير عجوز

بينما القلب مهشم بالعذاب وأسمعه
بدمعة يشير الى الوعي والى تجارب السنين وقليل من المعرفة
وحيد أنت قرب رمادك تتلوى
تتقهقر الى منطقة قد تخطيتها
تقف تحاول العدو
تعود وتسقط من باخرة الأيام العملاقة.. الى بقايا سفن
كيف له أن يخرج من هذا الشرك
أن يوقف الدمع المنهدر من عينيك المتوجعتين
ان ينزع الغبن الملتصق على وجهه؟
كيف يمكن ان تحال الى طائر أو هواء أو ماء أو غيمة تسرح بها الريح وتفتتها ولا تعود الى ذاتها.

في التيه

في الأبعد:
لن يراك في الطريق أحد ولن يكون للحكاية معنى، ولا لك
لن تظن بعد اليوم ان العيون تراك ولا لسانك سيزعج أحداً
في التيه تماماً تشبث ودع الخلاص المفخخ بالموت الأبدي ينأى عنك بعيداً
بالتيه ستنكسر عكاكيز الأمل، وتسقط جرة الحب على حجر

في التيه هواء عليل وقرب قلبك يسكن قلب سيتفتح لك دون حذر
لن تعد البيت بغير أمل ولن تعتني بالوقت في كل صباح، وسوف يكون الليل لامعاً كشامة في ضوء نقي
سيتعثر عدوك وربما ينكسر الطريق ويرحل الماء ويجف العرق
كل خوفك ربما يباح في نهر وقصيدتك تنأى بعيداً عنك
في التيه ستكون الأشجار قصيدة الهواء وحبات الرمل حروف المن

قولي

قولي احبك،
ولسوف اكتب لك قصيدة جديدة،
فيها روحي وقلبي
قولي اكرهك
ولسوف اكتب لك قصيدة جديدة
فيها روحي وقلبي

الجرة

الجرة التي انكسرت لم يتوقف معها نفسي
ورأيت قطرة دم ترفض البقاء في جسدي
في البدء اعتقدت ان قلبي هو من سقط
خلته تقلص الى أن أصبح قطرة دم
إلا أن الشعور الذي يرفع حرارتي، جعلني اضع يدي على صدري
تحسست نبضاته
فأدركت أنها مازالت تسكنه
سوف أعيش، وسأخرج من قصة حبي
واعرف أني لن اقدر على مغادرة عتبة الحب
من خصلات شعرك
أين تكمن القصيدة؟
ورخيصين نمر
وتمر الكلمات كما هي في دربي الأطول من الخطايا
وأراكم تسقطون في اللافهم وفي جولة الليل،
بينما القصيدة تعود من جديد
وتلثم فمي
مرتاب وخائف
والشدة التي تدعون خارج كياني الآن،
فهل تحدقون خارج روحي؟
وأمر دون عيونكم
قرب ليلة أخرى أنا فيها عارٍ من صحتكم
أحدق في اسمي وهو ثمرة على لسانك وشفتيك،
ألاحق الخيال الذي مر تواً من خصلات شعرك
وأتوه في قلبي وفي حكاية لم تكتمل،
عند معنى الوردة بين اصابعك
والابتسامة على شفتيك وبين حاجبيك

الخليج
19/04/2008