اسكندر حبش

سعيد الباز«ضجر الموتى»، مجموعة شعرية أولى للشاعر المغربي سعيد الباز، الصادرة حديثاً عن منشورات وزارة الثقافة في المغرب، والتي حازت مؤخراً «جائزة بيت الشعر» في المغرب للديوان الأول. لكنها أكثر من مجموعة أولى، إذ تفاجئنا بمتانتها وبمناخاتها وأجوائها، لتفرد لصاحبها مكانة حقيقية في المناخ الشعري المغربي والعربي. حول المجموعة والكتابة، هذا الحوار.

* لنبدأ بسؤال تقليدي، هل لك أن تقدم نفسك مع بداية هذا الحوار؟

شاعر مغربي ولدت في بداية الستينيات بالدار البيضاء أكبر المدن المغربية في فترة كان فيها أمل المغاربة كبيراً بالمستقبل بعد أربع سنوات من الاستقلال، لهذا السبب سمّاني والدي سعيد... وقد لاحظت فيما بعد، أنّ الكثير من المغاربة قد حملوا مثل هذه الأسماء... ربّما كان هناك إحساس وافر بالسعادة. بحكم وظيفة والدي مدرساً ومدير مدرسة جبت معه رفقة العائلة جنوب المغرب فتعرفت على صحاري الواحات والرمال، والتنوع اللغوي والإثني وأحيانا حتى الديني، هذا التعدد وضرورة التكيّف مع الأوضاع الأكثر تناقضاً جعلني فيما بعد قليل الوثوق بما أسميه بالأوهام الجماعية وثبات الرؤية إلى العالم، حتى الكتابة واختيار الشعر قد جاءا فيما يشبه التورط أكثر ممّا هو قرار أو إرادة، هو احتدام للكثير من صور الذاكرة للأمكنة المحاصرة بالرتابة، والإيقاع الثقيل للزمن اليومي، لذلك بدأت الكتابة بشكل فردي بعيدا عن الجماعات الشعرية (هذا أتى فيما بعد) وعن الانتماء السياسي والنقابي كما كان شائعا وضروريا في ذلك الزمان.

هامش المشهد

* بدأت الكتابة منذ فترة طويلة، لكنك لم تنشر مجموعة إلاّ مطلع هذا العام، ,2008 لماذا هذا التأخير في النشر؟

لست مسؤولاً عن هذا التأخير، حينما تأتي من هامش المشهد الشعري ـ وهذه هي الوضعية الأكثر قلقا في المغرب ـ يعاملك المركز الثقافي الرسمي بنوع من الإقصاء الناعم والوديع، وإذا أضفت إليه كونك أجهل الناس بأساليب «الماركيتينغ» الأدبي التي يبرع فيها البعض في تقديم أنفسهم أكثر من تقديم أعمالهم، يمكنك حينئذ أن تفهم بالتحديد لماذا تبدو من بعيد بعض التجارب الشعرية، رغم أهميتها، عبارة عن جزر معزولة وشبه مهجورة، وتجارب أخرى رغم كونها عادية تبدو كما لو كانت أشبه بقارات شعرية. للأسف كتابي الشعري «ضجر الموتى» يحمل إشارة دالة في بدايته تقول إنّ نصوصه قد كتبت مابين سنوات 1990 و,2000 ولم أستطع لتلك الأسباب نشرها في كتاب، رغم أنّ معظم نصوصه قد نشرت في ملاحق أدبية مغربية ومجلات عربية. الكتاب في حدّ ذاته كان قد رقد رقدة أهل الكهف في مكاتب وزارة الثقافة أكثر من ست سنوات، ولم يفرج عنه إلاّ مطلع هذا العام. وهو إلى الآن، لم يوزّع توزيعا كاملا. إنّه أشبه بإشاعة رغم نيله جائزة بيت الشعر...

* عن مجموعتك، حزت على جائزة بيت الشعر بالمغرب للديوان الأوّل ما هي الجائزة، وما تعني لك؟ بالأحرى ما تعني الجوائز الأدبية اليوم في العالم العربي؟

للجوائز خطورتها، لأنّ هناك ما يسمى بلعنة الجائزة، لا سيما إذا كانت ذات حمولة رمزية مثل جائزة بيت الشعر. أنا الآن في العقد الرابع من عمري أشتغل على كتابي الثالث بنفس الإيقاع والأجواء السابقة عن الجائزة. لقد أضافت إليّ أصدقاء شعراء كثيرين... لكنّ عزلتي ظلت مقيمة في كياني. للعزلة طريقتها في التفكير ومن الصعب تغييرها.
أمّا الجوائز في العالم العربي فهي تكشف في بعض الحالات عن الوضعية المتأزمة للثقافة والإبداع، فمع كلّ جائزة ينشأ لغط حول لجان التحكيم أو الحائزين هذه الجوائز وقلّما يتمّ الحديث عن الأعمال الفائزة وقيمتها المضافة، لأنّه بكلّ بساطة التقاليد الثقافية التي ينبغي أن تتأسس عليها هذه الجوائز شبه معدومة.
نصك ينحو كثيراً إلى الاشتغال باليومي والتفاصيل وبالأشياء العابرة، ما معنى هذا العمل بالنسبة إليك، هل هو احتفاء بهامش تعيشه، مع العلم أنّه هامش يثير الكثير من الدهشة.
} سؤال الذات والانخراط في وهم الكتابة، قد لا يعني بالضرورة بحثا عن خلاص ما. لكنه قد يعني الانتباه إلى اليومي والمنفلت والعصي على القبض هنا تشتغل عين الشاعر الذي تخلّص تماما من أسطورة الشاعر الملهم... هنا يحضرني قول الشاعر فرناندو بيسوا الذي أحبّه كثيرا «لست بشاعر، إنّي بالأحرى كاتب أبيات شعرية». لكل شاعر مادته الأولى، قد يأتي البعض من الذاكرة وقد يأتي آخر من الحلم والرؤى، وحتّى من الذهني الخالص، مشغلي ينطلق من مكان وزمن محددين، أنا كائن ليلي أكره الصباح لأنّه واضح جدا أو على الأقل يدّعي ذلك، رفقة الليل بكائناته سكارى متعبين، العابرين على أرصفة مدينة سياحية «أقصد مدينة أغادير» التي من المفترض أن تجلب إليهم المتعة... كلّ هذا الهامش والعابر يثير فضولي الشعري، ألتقطه بعين تريد أن تكون حاذقة. هي نفس العين التي تحدث عنها أنطونيو ماتشادو الإسباني «ليست العين عينا لأنّها ترى، هي عين لأنّها تراك» وثمّة أيضا شخوص هذا الهامش وهي تمتلك تواريخها الخاصة، فزوج الجارة له تاريخه الخالي من التجريد قد لا يعنيه ماذا قال فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، ولكنه سيعود إلى البيت من البار بكيس برتقال وقميص ممزّق الأزرار...

النص والنص المضاد

* ثمّة ما يلفت في قصيدتك البناء المتين. هل نعتبر أنّ البناء هذا وكأنّه محاولة للوقوف في موازاة اليومي والتفاصيل لكي لا تبدو القصيدة منفلتة بمعنى من المعاني؟

صحيح تماماً هذا الاستنتاج. النص يضمر في داخله نصّا مضادا، يد الشاعر تحصّنه بما يمكن أن نسميه بالبناء. وهناك دلالات عميقة لقضية البناء هذه، فبسبب الخراب المحيط بالذوات والأشياء، والإحساس العميق بالفقدان يجعلنا نتوكأ على هذا البناء الشعري كتعويض وملاذ أخير... قد يكون هذا محض وهم، أو عزاء. فكما قال قسطنطين كفافيس ذات مرّة «فكما خربت حياتك هنا، فهي خراب أنّى ذهبت».

* بهذا المعنى كيف يمكن للشعر أن يكون نداً للخراب؟

لقد تأسست اللحظة الشعرية العربية بالضبط على مقارعة هذا الخراب وامتداداته في حقول متعددة إنسانيا واجتماعيا وسياسيا، إنّه الكلام مقابل اللغة بمعناه الدوسوسيوري/ اللساني وهنا بالضبط، يخلق الشعر لنفسه المسافات الضرورية لاختراق اللغة بانزياحاته و إبدالاته ممّا ينعكس بالتالي على القيم الجمالية والفنية بصفة عامة...لذلك سيبقى الشعر هو صوت الخفي في الحياة وغير المعلن عنه... إنّه جسر مقاومة حين تسقط كلّ الجبهات.

* على الرغم من ثورة الاتصالات التي نشهدها اليوم، إلاّ أنّ ثمّة قطيعة ما في التواصل. كيف يبدو المشهد الشعري اليوم، وأين تقف تجربتك بالنسبة إلى الجيل السابق؟

إنّ ما يوحد العرب اليوم هو هذه القدرة الهائلة على خلق آلية التباعد واللاتواصل، خصوصا على المستوى الثقافي والإبداعي، رغم ثورة الاتصالات. الشعر المغربي الجديد شبه مجهول في الكثير من البلدان العربية، حيث تهيمن على المشهد الشعري المغربي نفس الأسماء المكرّسة إعلاميا والتي تقدّم كممثلة شرعية ووحيدة... وهذا هامش آخر تسبح فيه هذه التجارب المعزولة عن التفاعل مع نظيرتها في البلدان العربية. فقصيدة النثر تمتلك في نظري خصوصيتها في كلّ بلد عربي على حدة، وبدون خلق قنوات اتصال بين كلّ تجربة وعلاقتها بأخرى فإنّنا سنفوّت على أنفسنا فرصة البحث والنظر بصفة شمولية في واحدة من أكثر الثورات الفنية التي عرفها الشعر العربي في السنين الأخيرة. أمّا بالنسبة لي فأنا دائما متحمس لكلّ ما هو جديد وأرى أنّ الشعر ملزم بالبحث الدائم عن المغاير والمدهش وأن يكون أكثر طراوة وحيوية رغم أجواء الممانعة والريبة التي قد تحيط به أو تتلقاه. لأنّ ما يمكن أن يعتبره البعض اليوم هذيانات، سيصبح حقائق الغد.

* تعمل في ترجمة الشعر، ماذا أفادك ذلك؟

الترجمة ضرورية للكتابة الشعرية، لذلك مارسها الكثير من الشعراء، الترجمة تمرين مفيد للشاعر، ومشغل ثريّ يسمح باستكناه المفردة اللغوية وهي تنتقل بكل عفوية من نظام لغوي إلى آخر... والترجمة في النهاية حلّ لمشكلات تعبيرية يضعها النصّ المسافر على النص المستقبل. سبق لي أن ترجمت مبكراً لفرناندو بيسوا، جاك بريفيل، فيليب سوبو، آلان بوسكي، سيزاري بافيسي... وطائفة من الشعراء الملعونين. للأسف أهدرت تلك الترجمات ولم أتمكن من نشرها في كتاب، واكتفيت بنشرها في جرائد أو مجلات... بسبب واقع النشر وصعوبته في المغرب، رغم أنّ بعضها كان بمثابة مشاريع طوّرها آخرون.

السفير
3 يونيو 2008