حاورتها: كوليت مرشليان

(عن حوارها الأخير مع الماركيز دوساد)

نويل شاتليقد تكون زيارة الكاتبة والباحثة الروائية الفرنسية نويل شاتليه إلى لبنان سبباً مباشراً للقائها ومحادثتها، وقد تكون مشاركتها في "صالون الكتاب الفرنكوفوني" في دورته الثامنة عشرة أيضاً مناسبة كافية لمحاورتها حول عدد كبير من الأسئلة التي تتصل بحياتها الأدبية الحافلة، غير أنّه ثمّة ما يتفوّق على هاتين المناسبتين وهو مضمون كتابها الجديد الذي وقّعته في "صالون الكتاب الفرنكوفوني" الذي اختتم أعماله ونشاطاته مساء الأحد الماضي، ولم تنجح شاتليه مساء حفل توقيعها هذا المؤلف الجديد من الإفلات من أسئلة فضولية كثيرة طرحها عليها زوّار المعرض وأكثرهم من حاملي كتابها بانتظار التوقيع: أسئلة من نوع: لماذا هذه المحاورة؟ ولماذا هذه الشخصية بالذات، لماذا هو؟ و"هو" هنا كان المقصود به "الماركيز دوساد" محور بحثها الجديد وعنوانه "حوار مع الماركيز دوساد"، الصادر حديثاً عن "دار بلوت". كتاب مشوّق شدّ القرّاء إلى منصّة عرضه، وتنقسم صورة غلافه إلى أربعة أقسام تواجه فيها عين المؤلفة نظرة ساد السوداوية والعنيفة والغامضة، تلك العين التي أقفلها حين مات على أسرار وحقائق لم تنكشف حتى اليوم حول مسيرته وحياته التي حفلت بتطرّف كبير في الحب والجنس والعنف والانحراف حتى أصبح رمزاً من رموز التصرّفات الإنسانية في منظار التحليل النفسي وصارت "السادية" وليدة شخصيته الغاضبة والمتمرّدة ركيزة من ركائز العلوم التي تتعلق بالسلوك البشري.

نويل شاتليه حاورت "الماركيز دوساد". وبأسلوب أو بآخر، هي حاورته، وهو في المقلب الآخر من الدنيا، واستخلصت إجاباته من كتاباته الخاصة، ونحن بدورنا حاورناها لنعرف منها تفاصيل هذه المغامرة الأدبية الفريدة من نوعها.
وفي اوتيل "لوباسيّو" وسط بيروت، حيث نزل كل المدعوين "صالون الكتاب" التقينا شاتليه ببساطتها وأناقتها وتحدثت بإسهاب عن حياتها والكتابة بشكل عام وكتابها الجديد الذي قد يوحي للوهلة الأولى للقارئ بأنه سيكون على شيء من الجرأة في الايروتيكية والإباحية الجنسية، وهي صفات مستمدة من عالم ساد الروائي، لكن الأمر مختلف كلياً، وما بحثت عنه شاتليه عند الماركيز لا يختلف كثيراً عن عالمها هي المتأثر بشدة بأكثر من مصدر وحي لديها، فهي أرملة الفيلسوف الفرنسي الراحل فرانسوا شاتليه وشقيقة رئيس الوزراء الفرنسي السابق ليونيل جوسبان، وقد لا تكون مصادفة على الاطلاق بأن تكون قد درست في هذا البحث نقطتين أساسيتين: ساد الفيلسوف وساد المفكر والايديولوجي والمناضل السياسي الذي راح كل نضاله في مهب الريح لمجرّد أن صفات مثل "المتحرر" و"الجريء" و"الفضائحي" في كتاباته الجنسية طغت على كل ما سعى إليه من فلسفة وفكر وسياسة.
سألنا شاتليه أولاً:

* في حوارك مع الماركيز دو ساد، جاء في المقدمة أنكِ تواجهتِ مع هذا الكتاب أكثر من مرّة وتحديداً ثلاث مرات، فهل يمكن أن توجزي لنا هذه العلاقة الغرائبية: كيف بدأت وكيف تطوّرت؟

ـ هذا صحيح، والمرّة الأولى كنت فيها شابة في بداية زواجي مع فيليب شاتليه وكان هو بصدد دراسة شاملة وطويلة ومعقّدة فطلب مني أن أساعده وكان جزء من هذه المساعدة يتلخّص في قراءة الماركيز دو ساد لوضع بعض الإشارات حول البحث المتعلق به. فكانت الصدمة الأولى وصولاً إلى تجربتي الحالية وقد تخلل الاثنتان تجربة ثالثة قبل سنوات أيضاً.

* تصفين هذه التجربة بالصدمة، ومن أين استمديت الجرأة لإعادة الكتابة عنه؟

ـ منه هو شخصياً. فقد مررت بخوف شديد وأنا أقرأه للمرّة الأولى. فكتاباته توقظ فينا كل الأحلام الخفيّة والهلوسات التي تطلقها مخيّلتنا ولا نجرؤ على قولها، فنجد انّ ثمّة مَن يقولها عنّا وثمّة مَن يفضحها عنّا. هذه الفضيحة التي يثيرها ساد في كل كتبه تصبح وكأنها النقطة الفاصلة ما بين المستتر والظاهر، أو ما بين حياتنا الاجتماعية وعالمنا الداخلي الخاص والحميم. أنا شخصياً جعلتني قراءة ساد أتعمّد بجرأته. تلك المعمودية والتي بعدها أصبحت واحدة من اللواتي يتجرأن على القول أو على الإشارة إلى مؤلفات هذا الكاتب من دون خوف أو تردّد.
ردّ القارئ

* كيف تحدّدين المرحلة العمرية لاستيعاب مؤلفات ساد، أو بكلام آخر، كم تختلف ردّة فعل القارئ أمام ساد ومؤلفاته إذا كان شاباً يافعاً أو في مرحلة النضج المتقدمة؟

ـ يختلف الأمر كثيراً وبقوّة. في التجربة الأولى تدهشنا جرأة القول والتعبير والإفصاح عن مكنونات داخلية خفيّة يكون الإنسان اليافع يعتبرها من المحرّمات التي لا يمكن المساس بها. وفي سن النضج ننظر إلى الأمر بشكل مختلف. فنحن هنا مع تجربتنا الخاصة بكل ما فيها من فرح وحزن وبكل إحباطاتها وخساراتها، فلا يمكن أن يبقى الشق الجنسي في مؤلفاته منفصلاً بالنسبة لنا كقرّاء عن فلسفة الحياة ككل، وعن كل التجارب الأخرى كالزمن والموت والحيرة أمام الأسئلة الكبيرة.

* وهل لهذه الأسباب أيضاً اخترتِ الماركيز دو ساد لتحاوريه وهو في المرحلة الأخيرة من حياته، وليس في مرحلة الشباب الصارخ؟

ـ آه، بالطبع. وتحديداً، أنا كمحاورة دخلت غرفته الصغيرة في سجن شارانتون في فرنسا حيث كان مسجوناً منذ أكثر من 25 عاماً بتهمة الفساد وتحريض الناس على الرذيلة. كان ذلك في العام 1813 أي قبل عام من موته، وكان يبلغ آنذاك الثالثة والسبعين. أحببت هذه الظروف لمحاورته، وأحببت أن يطلّ معي وفي حديثه على الماضي البعيد لأراقبه كيف ستكون ردّة فعله أمام كل ما فعله وكل ما كتبه. في بداية الكتاب هو عجوز ومنهك، حطمت قلبه وإرادته وجسده سنوات السجن تلك، لكن المفاجأة تكون مع إجاباته والتي من دون شك مستمدّة ومنقولة جميعها من كتاباته. فلا جديد في كلامه سوى أنه يبرّر "جرائمه" و"خطاياه" بنفسه وعلى طريقته. وقد لا يصح هنا تعبير "التبرير" لأنه هو شخصياً لا يعترف بأنه أخطأ.
المسرح

* ثمّة ما يشبه "النص المسرحي" هنا، وكأنّكِ رسمتِ المشهدية أيضاً مع الحوار، فهل تفكرين في نقله إلى الخشبة؟

ـ ربما وهذا يأتي لاحقاً، ولكن بالتأكيد لدى قراءة الكتاب نفكر في المشهدية وأنا دوّنت تفاصيل اللقاء وظروفه ومكانه: يجري الحوار تحديداً في 2 تشرين الثاني 1813 وأنا أصررت على هذا التاريخ لأنه يعني قبل عام على رحيله بالتحديد. في البداية أردت أن أصل قبل أن يتناول فطوره ويدعوني إلى مشاركته الفطور، وهذا ما أفعل ثم يرتاح قليلاً ونبدأ الحديث، وأتركه يرتاح ثم أعاود الحضور بعد الظهر.

* وكيف وصفت المكان وشخصيته وشكله، هل قمتِ بذلك من محض خيال أم أنكِ استندتِ إلى مراجع معينة؟

ـكان المرجع الأساسي هو كتاب موريس ليفر الذي قام بدراسة موسّعة حول هذه التفاصيل وأنا انطلقت منها.

* وهل لو حاورتِ ساد الشاب، أكنتِ توصلتِ إلى النتيجة التي أردتِ التركيز عليها؟

ـ بالطبع، كان الأمر سيختلف. فأنا هنا أمام التجربة "السادية" بعد أفولها مع أنني أصفه جذاباً في شيخوخته وكأنّه على وشك الانطلاق من جديد في مغامراته لو كتب له الإفلات من السجن.
فليست مغامرات ساد العاطفية والجنسية محض مرحلية أي متعلقة بالجسد الشاب ومتطلباته، بل أي اختيار فلسفي وإنساني وغرائزي. لكن هذا الأمر توصلت إلى فهمه على بُعد من التجربة تماماً، كما أظهرت ساد العجوز مع تعلّقه وإصراره على تلك المرحلة وكأنّها هي الحياة وسرّها وسبب استمرارها.
نضالاته

* جعلتِ الماركيز دو ساد يتحدث عن نضالاته السياسية وأفكاره وجعلتهِ يظهر في صورته المغايرة: المفكر والايديولوجي السياسي بعيداً عن صفة "السادية" التي ألصقت به ووحّدت صورته في اطار واحد، هل سعيتِ أولاً إلى ساد المفكر السياسي؟

ـ أجل، لأنني وجدت أنّ هناك إجحافاً بحقه، فمنذ أن اعتمدت صفة "السادية" المستمدة من شخصيته وطباعه وتصرفاته حتى التزم الجميع بهذه الفكرة وهي أنّ "ساد" فقط هذه التصرفات التي تعرف بها "السادية". لكن هذا الرجل كان حقلاً غنياً من الأفكار وهو عاش نضالاته السياسية العديدة وكانت له أفكاره الخاصة.

* لهذا جعلت صورته الأساسية في اطار الجماعة المعنية بعصر التنوير؟

ـ بالتأكيد، فهو بالنسبة لي ينتمي إلى عائلة التنويريين، شارك فكرياً ونضالياً في الحركات الثقافية في تلك المرحلة تماماً مثلما شارك فيها كتّاب القرن الثامن عشر مثل روسّو وديدرو ومونتسيكو. غير أن "ساد" ذهب أبعد من ذلك. فهو لم يكتب فقط على غرار هؤلاء للإضاءة على النفس البشرية في جهة الخير، بل أراد أن يصوّر الشرّ في النفس البشرية وإلى أين قد يؤدي بنا الشرّ. وهنا كان في أقصى التطرّف، ذاك التطرّف الذي يميّزه وحده والذي لم يجرؤ أحد حتى اليوم على أن يعيشه حياةً وكتابةً.
فهو درس الشرّ وفقط الشرّ في النفس البشرية، لذا أنا أعتبره فيلسوفاً لكن يمكن أن يكون الفيلسوف القاتم والمظلم في عصر التنوير. هنا بدأت المفارقة الكبرى في حياته الفكرية والفلسفية والأدبية. وبدلاً من أن نفهم هذه النقطة وهي أنّه خصص كتاباته لهذه الفكرة التي لم يفكر أحد بالمخاطرة لتناولها، ألصقنا به تهمات خطيرة وتم إعدام جزء كبير من شخصيته الفكرية مع هذا التطرّف بالحكم عليه: فحكم عليه بالسجن أكثر من ربع قرن وكان هذا الحكم الذي طاول جسده وكيانه وروحه، وكان الحكم الآخر الذي أطلقه نقّاد عصره بأن أعدم فكره أو جزءا منه. وأهمية "ساد" في عصر "التنوير" أنّه حاول أن يضع شيئاً من النور أو من "التنوير" في ظلمة هذا الجزء المظلم من حياة الإنسان وهو حياته الجنسية والغرائزية التي كانت في ذلك العصر تقع في ظلمة المخاوف والأوهام والأحكام القاتلة ضدّها. وقد حلّل بدقّة بعض الأفكار مثل "اللذة" و"الحب" و"الجسد" محاولاً عدم إبعادها عن المفهوم الإنساني بالمطلق. وذهب في تيار معاكس لجان جاك روسو الذي اعتبر ان الإنسان يولد خيّراً والمجتمع يفسده، وسمة الشرّ في الإنسان بنظر ساد موجودة فيه أساساً، أما كيفية التعامل معها، فهنا التساؤلات الكبيرة والمتباينة. من هنا كل كتاباته جاءت سوداوية مظلمة ومن دون أفق بالأمل.
لماذا؟

* لماذا برأيك كل هذه السوداوية في كتاباته؟

ـ يجب ألا ننسى أن معظم مؤلفات ساد كتبها في السجن ومن وراء قضبان السجن. إذن كتبها بروحية البائس والسوداوي. هو أطلق أولى مؤلفاته الإباحية ولم تكن سوداوية على الإطلاق. ولا نعرف لو أنه لم يسجن 26 عاماً كيف كان ليكتب؟ أو كيف كانت لتتحول مؤلفاته؟ وهنا يمكن القول ان الشر والألم في السجن أضافا شراً وألماً على كتاباته. ونلاحظ أنّه كلما كانت تنزل به عقوبة سجن جديدة ازداد شراسة وعنفاً في كتاباته. ولكن يجب ألا ننسى أنه أطلق فلسفة خاصة به وهي "فلسفة اللذة" الإنسانية التي عرف كيف يشرّحها ليجعلنا ندخل في أدق تفاصيلها.
اللذة

* وماذا علّمنا ساد باختصار عن اللذة، برأيك؟

ـ أظن أنّ "ساد" حاول أن ينقل لنا ما توصّل إليه شخصياً عبر تجاربه الخاصة وهو أنّ اللذة أو تجربة اللذة تجعل الإنسان ينضج ويفهم أكثر جسده وروحه. وهنا حين أقول "مفهوم اللذة" في فلسفته فلست في صدد الحديث عن كتابات عادية بل نحن هنا في اطار كاتب مراقب يتعاطى اللذة وكأنّها عنصر علمي يدرسة بروحية "العالم" أو "الباحث".

* وفي كل ما كتبه "ساد"، برأيك ما هو الإرث الفكري والفلسفي الذي تركه لنا، وماذا بقي منه اليوم؟

ـ بقي الكثير، ولقد تمتع "ساد" بصفة هائلة وهي الرؤيوية. فلو نظرنا اليوم إلى كل الأسئلة التي طرحها الإنسان في عصرنا هذا وحاول أن يجد لها حلولاً مثل الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة وإلغاء عقوبة الإعدام وغيرها من المسائل نجد أن "ساد" عالجها كلها وتوقّع لها حلولاً مستقبلية ولو بعد عصر أو قرن.
جوارب حبيبته الأخيرة

* أنهيت الكتاب على تفصيل دقيق وحسّاس وهو أن يتحدث "ساد" بعد كل هذا الضجيج في أفكاره على فكرة "الجوارب الدافئة" التي يبغي أن تشتريها له "مادلين" حبيبته الأخيرة.. فهل سعيت إلى إظهار وجه معين له؟

ـ أجل، وهو "ساد" الإنسان بكل بساطة، فأردت أن أقول انه على الرغم من كل هذه الجرأة التي عرف بها فهو ايضاً إنسان عاش ومرض وعرف اليأس وعرف الشيخوخة أيضاً، فهو يبدو في الفصل الأخير تعباً ويتحدث عن البرد ويحلم بجوارب حريرية جميلة، يجمع فكرة الدفء مع الجمالية لكي أقول: هو العجوز الذي يبحث عن الدفء، لكنه أيضاً ودائماً الرجل الذي يبحث عن الإغواء، لذا الجوارب دافئة. وهذا كي لا ننسى: إنه الماركيز دو ساد.

المستقبل
11-11-11