زياد العناني
(الاردن)

محمد الحرزيرى الشاعر السعودي محمد الحرز أنَّ حياتَنا العربية السياسية والاجتماعية والثقافية أساءت كثيراً إلى تطور الشعر، وجعلت منه رهينا للوظيفة الايديولوجية.
ويضيف الحرز الذي صدر له ثلاث مجموعات شعرية هي "أسمال لا تتذكر دم الفريسة" و"رجل يشبهني" و"أخف من الريشة أعمق من الألم"، أنَّنا لم نترك الوعي الشعري حرا وكمنّا في اللغة الموروثة، مبيِّناً أنَّ اللغة ظلت الحاجب الحقيقي بيننا وبين الشعر، إضافة إلى أننا اختزلنا الإيقاع فيها، ولم ننظر إلى ما هو أبعد من ذلك.
"الغد" التقت الحرز وكان هذا الحوار الذي تطرق فيه إلى تجربته، إضافة إلى تجليات المشهد الشعري السعودي وحساسيته وسماته الروحية والاجتماعية والثقافية.

* بداية دعنا نسأل عن الفرق بين مجموعتيك "رجل يشبهني" و"أخف من الريشة أعمق من الألم"
ما هو الجديد في مجموعتك الأخيرة "أسمال لا تتذكر دم الفريسة"؟

- تجربة "أسمال لا تتذكر دم الفريسة" انحازت قليلاً أو كثيراً حسب المتلقي في نظري عن بقية التجربة السابقة، وذلك لأنَّ المجموعة كانت تهجسُ بأخذ منطقة الشعر إلى النثر، أي أنَّ النصوصَ في أغلبها بُنيَت على أرضية النثر، وهنا مكمن الرهان الخطر تماماً لان مجرد السقوط في احدى الجهتين سيكون عليك إما أن تكون تقريرياً في جهة النثر أو أن تكون متخشبا في جهة الشعر.
المعادلة صعبة في تصوري، لأنَّ أغلبَ المنجز حسب متابعتي سواء كان منه المحلي أو حتى العربي لم يخل من هذا السقوط. إن هذا الخيط المشدود ما بين النثر والشعر هو المغامرة الأكثر وضوحاً في التجربة الحديثة. بالنسبة لي كانت النصوص السردية في مجموعة "أسمال لا تتذكر دم الفريسة" تستجلي مناطق مظلمة في حياتنا الاجتماعية والثقافية.
لقد وجدتُ أنَّ السردَ قادر على فتح الأبواب السرية لهذه المناطق والدخول إليها من جميع الزوايا والجهات، والسبب في ظني يعود إلى أنَّ مرحلة الطفولة كانت عميقة ومحمَّلة بالأساطير والموروث الشعبي، لكنها في الحياة اليومية فقيرة تماماً إلى ما يُغذِّيها شعرياً لذلك أجد في هذه النصوص فرصة سانحة للكشف عن جوانب مظلمة عاشتها حياتنا الاجتماعية والثقافية تحت ما نسميه بالضمير الجمعي. كانت النصوص مقترحاً بالنسبة لي لكي أكسر هذا الضمير على مصب اللغة، وأنْ أضع يدي على مفردات لها جو شاعري يعبر تعبيراً مباشراً عن مفردات الطفولة. وهنا اتساءل هل نجحت في ذلك؟ وأقول لا أعلم، لكنَّني مدرك تماما أنَّ الوعي بمفردة الألم على سبيل المثال تحوَّلت عندي إلى هاجس حقيقي أو إلى ما يشبه الثيمة التي بدأت في الديوان الأول "رجل يشبهني"، باعتبارها خيطاً نوستلوجيا يعكسُ أجواء الطقوس الدينية والشعبية التي تربيْتُ عليها منذ الصغر، غير أنَّ الثيمة تحولت لاحقاً إلى وعي مختلف بالنسبة لي. لقد تركتُ بيني وبينها مسافة لكي أتأمَّلها من العمق. لقد غاصت هذه المفردة في رؤيتي الشعرية كما أظن وأخذتُها إلى تلال عالية وإلى فضاء أحبه من النثر.

* كيف وفقت بأخذ مجموعتك من منطقة الشعر إلى النثر؟

- عندما تجدد الشعر الغربي في محاولة لتكسير منطق الخطاب لصالح منطقة الصورة أخذ الشعر إلى مناطق اكثر ارتباطاً بالحياة وبجميع تناقضاتها لذلك أصبح التناقض هو إيقاع الشعر من العمق. أصبَحَ متاحا كما قال صلاح ستيتية "أن ترمي سهمك في ليل الوضوح" أي بمعنى أنَّهُ كلَّما تقدَّمَت في الحياة وجدت تناقضاتها هي التي تغذيك من العمق.
نحن لم نفهم هذا الوجه من الوعي الشعري، وظلت اللغة الموروثة على الحاجب الحقيقي بيننا وبين الشعر ولذلك اختزلنا الإيقاع في اللغة فقط، ولم ننظر لها إلى أبعد من ذلك. كأنَّنا في المنجز العربي لم نستفد تماماً من هذا الوعي الشعري، بالحياة أولاً وفي اللغة ثانياً.

* برأيك كيف نستفيد من الوعي الشعري؟

- أساس الوعي الشعري في التجربة الغربية ارتبط بمفهوم الجمال، والأكثر تميزاً في هذا الارتباط هو أنَّ الشعر الغربي انفَتَحَ على عوالم وحضارات استفاد منها في إثراء تجربته الشعرية، والدليل على ذلك الشعراء الصعاليك الأميركيون الذين تعلقوا بالحضارة الهندية والصينية، يُضافُ إلى ذلك أنَّ النثرَ الغربي أخذ على عاتقه أن ينفتح على جميع الفنون كالرواية على سبيل المثال والفن التشكيلي، ناهيك عن السينما التي أثَّرت كثيراً في الوعي البصري للإبداع.
بالمقابل في التجربة العربية، الحديثة تحديداً هناك من استفاد من تلك التقنيات، مثل انطون أبو زيد وبسام حجاز لكنها ظلت محصورة في اسماء لم ترتق إلى ظاهرة، لكنَّ مربط الفرس هنا هو أنَّ حياتنا العربية السياسية والاجتماعية والثقافية أساءت كثيراً إلى تطور الشعر جعلت منه وظيفة ايديولوجية.
والغريب أنَّ تجربة "مجلة الشعر" فتحت الباب على استلهام التجربة الغربية، إلا أنَّ الملاحظ أنَّ الشعراء أنفسهم دخلوا في مرحلة الاستقطاب السياسي، بين الأدب من منظور ماركسي والليبرالي- مجازاً- وهذا الاستقطاب حدَّ كثيراً من تطور الشعر، وجعل من الشعر اشبه بالكنتونات، فهناك ما يُسمَّى بالشعر السياسي والغنائي في فصل تعسفي في النظرة إليه وإلى علاقته بالحياة العربية.

* لماذا تسيد النثر الشعري واستبعد النثر نفسه؟

- من أهمِّ المفارقات العجيبة أنَّ تسيد الشعر في الموروث العربي جاء على يد اللغويين من أمثال ابن جني وقدامة بن جعفر، وعندما تأسَّسَت تلك النظريَّة حاوَلَ الشعراء أنْ يُكرِّسوا تلك المعادلة فكانت التقاليد الشعرية التي ترسَّخَت أقوى بكثير من التأسيس لأيِّ مختلف.
وهنا أشار بعضهم إلى أنَّ الشعرَ العربيَّ هو الوحيد من بين جميع ثقافات العالم عاش قرونا في وزنه ولم يمس بسبب حالة التقديس.

* بعد معجزة النثر في القرآن الكريم لماذا بقي الشعر لقرون كثيرة هو النظام المتصدر، ولماذا لم نر قصيدة النثر ولم تظهر إلا في القرن الماضي؟

دعني آخذ الاشكالية من منطقة أخرى، يبدو لي أنَّ تأسيس التاريخ العربي الذي يخصُّ تطور التعاطي مع الأدب، لم يتصل مباشرة بالقرآن الكريم، وإنَّما اتصَلَ تحديدا مع نهاية القرن الأول، وبداية القرن الثاني؛ أي بعد التدريب المعرفي للثقافة الإسلامية، ثمَّ اختصر المثفقون (المعياريون) من أصحاب الأصول، وعلماء الفقه واللغة كل هذا بالمنطق الأرسطي الذي اتخذوه منظورا سلطويا لقراءة إشكالية النثر والشعر، أي أنَّ النثر اعتبر جزءا من المنهج الارسطي وليس جزءا من الحياة العربية.
إلا أنَّ النثر تسللَ من القرآن إلى جهة أخرى، فحط ركابه في أجزاء أدبية اخرى قلما انتبه لها المؤرخون لسبب أو لآخر، ونتيجة لكل ذلك ظلَّ الإيقاعُ مسيطرا على المخيِّلة، وهنا لا بدَّ من القول إنَّه كلما حاوَلَ النثرُ أنْ يفتح له فضاء التقاليد العربية بشكل رسمي ومسموح به داخل المؤسسة الرسمية، وجَدَ هذا الفضاء مغلقا، واستقرَّ في الهامش باعتباره من المسكوت عنه.

الغد- 6 ابريل 2011