اجرى الحوار :
عبد الرّحيم الخصّار

مبارك وساطمبارك وساط هو دائماً على الحافة، قريبا مما يعتمل في براكين الحياة الإنسانية، ومما يعتمل أيضا في براكين لغة شعرية تبدو مستقلة وقائمة بذاتها، لغة الأحراج والأجمات والنمور اليقظة والنسور التي تفرد أجنحتها في أوج العاصفة. لذلك تتشكل قصائده متكاثفة ومتراصة مثل كتيبة تدربت طويلا ولا يهمّها أن تنتصر، يهمها فقط أنها قد شاركت في الحرب. وهو محارب مسلح بثقافة رصينة منتزعة من مشارب متعددة، يعبر ميدان الأدب مخلّفاً أعمالا قليلة تتسم بالعمق والرزانة، وهي على التوالي "على درج المياه العميقة" و"رايات الهواء" و"محفوفا بأرخبيلات". في هذا الحوار نفتح المناقشة حول عمله الأخير الصادر عن "دار النهضة في بيروت" "فراشة من هيدروجين":

* هل تثق بالكتابة؟ ألا نزال فعلا في زمن الشعر؟

- أعتقد أني سأثق دائما في الكتابة. إنّها تغتني بتحوّلات من يسعى إلى ممارستها. يمكنك أن تكتب أشياء، تجدها في ما بعد غريبة عليك أو غير معبّرة عمّا أصبحته وأصبح عليه العالم من حولك، فتعاود الكرّة لتتوصّل إلى شيء تجد فيه ذاتك وعوالمها، ثمّ تكتشف مجدّدا أن ما كتبته فعلا، ليس تماما هو ما كنتَ تبغي كتابته، فعليك إذاً، أن تبحث عن طريقة جديدة، عن شيء جديد. كان هنري ميشو قال ما معناه: تريد أن تكتب قصيدة، فإذا بك تخوض في الفلسفة – أو في شيء من هذا القبيل. فيما يخصّنـي، كثيرا ما أبدأ في الكتابة من دون أن تكون لديَّ فكرة محدّدة تماما عمّا أريد أن أكتب، وكثيرا ما أتخلـى عن توجّهي البدئيّ مفضلا ما يكون قد عنّ لي على غير انتظار. هذا اللايقين المرهق، البديع، هو ما يجعلني أثق بالكتابة. أمر آخر يجعلها مغرية باستمرار: لا جدواها.

منذ أيام، بدأت أكتب رواية. وبالطبع، فإني سأعمل على كتابة قصائد جديدة. لا يمكنني بتاتا أن أتفهم الذين ينتقدون شاعرا إذا نشر رواية، مثلا. لننظر إلى أدباء من طينة جورج شحادة ومحمد ديب ومحمد خير الدين وكاتب ياسين، على سبيل المثال لا الحصر. كتبوا القصيدة والمسرحية والرواية. ثمّ إنّ رواية مثل "مجرى على الضفّة المهجورة" لمحمد ديب ذات حمولة شعرية قوية وكثيفة حقا. هي، في رأيي، تنتمي إلى عالم الشعر، بالمعنى الشاعري حقّا لكلمة شعر. ويمكنني أن أقول الشيء نفسه عن روايات مثل "يا بنات إسكندرية" لإدوار الخرّاط و"أبواب المدينة" لإلياس خوري و"الريش" لسليم بركات و"الحلزون العنيد" لرشيد بوجدرة، على سبيل المثال لا الحصر أيضا. هكذا، أحسب أننا، حقّا، في زمن الشعر، لكن باعتبار أنه قد يتجسّد في قصيدة أو في قصة قصيرة أو رواية، أي في الكتابة عموماً.

* في انتظار روايتك، أنت من الشعراء القلائل ينقذون ماء وجه الشعر المغربي. يبدو ذلك جليا من طريقة كتابتك، حيث النصوص تستمد مرجعياتها من عمق الذات الكاتبة ومن رفوف الكتب ومن تلك الانتباهات التي لا يتمتع بها إلا قلائل، انتباهات حكيم لا تمنعه حكمته من الجنوح نحو الفوضى. كيف تنظر الى الشعر المغربي اليوم قياسا إلى تاريخه وقياسا إلى نظيره في المشرق العربي وفي الغرب؟

- أعتقد أن الشعر المغربي ليس في حال سيئة. نقرأ أعمالا جيدة لشعراء من مختلف الأعمار، على رغم أنّ مجال النشر في المغرب بعيد عن الازدهار، وعلى رغم أنّ معظم القائمين على دور النشر في المشرق لا يعرفون من شعراء المغرب إلا أسماء قليلة لا يمكنها، في الواقع، أن تمثّل الشعر المغربي في تعدّديته وحيويته. مع هذا، ثمة عوامل كثيرة تجعلني متفائلا، في ما يخصّ مستقبل الكتابة الشعرية في المغرب (لا أجد في نفسي ميلا إلى الخوض في تفاصيل هذا الأمر). على صعيد آخر، يبقى واضحا أنّ الأدب في الغرب يكتسب حيوية فريدة من تأصّل عادة القراءة في المجتمعات الأوروبية، ففي مثل تلك الظروف، يجد الكاتب نفسه متحمسا باستمرار للكتابة ولتقديم الجديد.

* لماذا تنتصر للهش وللزائل والضعيف؟ يبدو ذلك واضحا من عناوين مجموعاتك الشعرية...

- في ماض غير بعيد، كان بعض شعرائنا يعتقدون أن قصائدهم، في حدّ ذاتها، تقوم بعمل نضالي، بل وربّما تنكّل بالصهيونية والإمبريالية. ربّما كان ذلك، في بعض الأحيان، ناجما عن تفاؤل مبالغ فيه، لا يخلو من بعض السذاجة. الكثيرون من شعراء الأجيال الجديدة نأوا بأنفسهم عن هذا التخليط الذي يضيع معه الخلق الشعري ولا يرسّخ إلا الأوهام. لقد أصبح المتوخّى هو خلق نص له تميّزه وقيمته الجمالية وغناه، وصار منفِّرا أن يكرّر الواحد منّا، كلما تحدث عن قصيدة، أن صاحبها يرمز بالمرأة الى الوطن، وبالفيضان الى الثورة. هكذا أصبحت كلّ الكلمات سواسية أمام النصّ الذي لا يكتسب مبرّر وجوده إلا باعتباره عملا خلاّقاً منفتحا على الحياة بأشيائها الصغيرة والكبيرة، الهشّة والأقلّ هشاشة. ولا يعني هذا، في حال من الأحوال، أنه قد نأى بنفسه عمّا هو اجتماعي وسياسي، بل نأى بها عن التبسيطية والادعاء.

* في مجموعتك الأخيرة "فراشة من هيدروجين" يبدو أنك تجد راحتك الشعرية مع الموتى الحالمين أمثال رينه كروفيل ولوي أراغون وأندره بروتون وفيليب سوبو وبول إيلوار. هل اخترت أن تكتب قصائدك على مقربة من إقامات الشعراء السورياليين، أم أنك وجدت نفسك تكتب بهذه الطريقة من دون سابق اختيار؟

- في بدايات الشباب، كنتُ أدرس الرياضيات والفيزياء، وأقرأ الرواية والشعر. كانت ميولي يسارية، لكني لم أستطع قطّ أن أحتمل الأدب الواقعي المباشر، أو ما كان البعض يسميه بالأدب النضالي. كان لي إلمام بالتحليل النفسي، وكنت معجبا بسرفانتس ورامبو وإيلوار وبروتون والكثير من الشعراء العرب القُدامى. لذا، حين أتيحت لي فرصة الاطلاع على الجديد في الحياة الشعرية العربية، وجدتني أميل بشكل طبيعي إلى كتابات محمد الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ وأشباههم. أما إذا شئنا أن نتحدّث عن السوريالية، فمعلوم أنّها شكّلت ثورة عظيمة في الميدان الأدبي والفني، وأشادت بالحرية والخيال الخلاق. وكثيرون من الشعراء المعاصرين المعروفين استفادوا من منجزاتها حتّى وإن لم ينتموا إلى ما عُرِف بالتيار السوريالي(سان جون برس، مثلا). بالنسبة إليَّ، أعتقد أن كلّ كتابة تتمّ بحسب وصفة جاهزة تصبح مجرّد ثرثرة، حتّى وإن كانت هذه الوصفة مستقاة، بشكل أو بآخر، من تصوّرات السورياليين. لذا، أعتبر الكتابة مغامرة متجدّدة. لا شك أنّ السوريالية تمدّنا ببعض الأدوات التي تساعد في خوضها، لكنّي لستُ سورياليا بمعنى مذهبي.

* تقول في هذه المجموعة: "لقد حُكم عليَّ بالتسكع/ فبيتي الشعري/ قد جرفته الأمواج/ وعليّ بمساعدة نموري/ أن أبنيه/ ثانيةً". معروف عنك عدم البقاء في المكان الواحد ورغبتك الدائمة في البقاء بعيدا عن تجمعات المثقفين، هل نصوص الكاتب هي إقامته الحقيقية؟

- سأجزّئ سؤالك، وأجيب عن كلّ من عناصره على حدَة:
على امتداد سنوات طويلة، لم أعرف للاستقرار معنى. تنقلت بين مدن عديدة، وفي كلّ منها، كنت أنتقل باستمرار، لأسباب متباينة، من مسكن إلى آخر. وكلّ بيت أتيح لي فيه أن أكتب شعرا، كان يصبح، بالنسبة إليّ، "بيتي الشعري". أحد تلك البيوت كان غرائبيّاً من حيث أشكال الغرف والجدران والأبواب، كما لو أنّه خرج من خيال إدغار ألان بو. ذات شتاء عنيف، اجتاحه طوفان من مياه المطر، مثل بيوت أخرى غيره في ذلك الحيّ الفقير، نتيجة ذلك، فقدتُ كتبا كثيرة وعددا من قصائدي المخطوطـة وشعرتُ أنّ "بيتي الشعريّ" قد غمره الطوفان. بعد مرور أكثر من خمس عشرة سنة على ذلك، كتبتُ القصيدة التي ذكرتَ، في سؤالك، شذرة منها، من دون أن أربط بشكل واع بينها وبين الواقعة التي أشرتُ إليها أو غيرها. لكنّ هذا لا يعني أنّ ارتباطات من هذا القبيل غير قائمة.

في الشق الثاني من السؤال، إذا كنتَ تعني بـ"تجمّعات المُثقّفين" ظاهرة تشكل بعض الجماعات المغلقة من المهتمّين بالشأن الثقافي، فأقول لك إنّي لم أفهم قطّ كيف أنّ مجرّد كون شخص ما قد كتب نصوصا تندرج في نطاق ما يسمّى بالأدب، يَجعله مرتاحا لإلزام نفسه أن يرتاد مقاهي مَُيّنة، وبارا دون غيره، وبألا يكون له أصدقاء ومعارف سوى من الكتّاب والنقاد، وألا يشرب قهوته إلا وهو يتحدّث عن دريدا وما بعد الحداثة و"الأصوات الشابّة" في الكتابة الأدبية... أمّا إذا كنتَ تقصد التظاهرات الثقافية، فقد حدث أن شاركتُ في مهرجانات شعرية داخل المغرب وخارجه، مرّات قليلة، حقّا، لكن فيها الكفاية.

أما عن سؤالك "هل نصوص الكاتب هي بيتُه الحقيقي؟"، لا أدري. قد تكون الإجابة الساذجة عن السؤال عن مسكن الإنسان الفِعلي هي أنّه يسكن جلده، أو جسدَه. لكن الإنسان طبيعي وثقافي، واللغة عامل مؤسّس لهذا الانتماء المزدوج، فهي ليست مجرّد أداة. والنص هو ما تنتجه فينفصل في الظاهر عن ذاتك، لكنّ هذه الذات تبقى مقيمة فيه، لا بشكل رمزي فحسب، بل حتّى على المستوى الوجوديّ، بصورة ما. فالقلق من فقدان مقرّ الإقامة هذا قد يؤدي لدى البعض إلى شعور مهول حقّا. أفكّر في الكاتب الأسوجي الكبير ستيغ داغرمان الذي يبدو أنّه انتحر بسبب تخوّفه من عدم القدرة على إنجاز عمل جديد في مستوى رائعته "الطفل المحروق". طبعا، تبقى هذه حالة قصوى، لكنّها دالّة.

* تبدو مشغولا في "فراشة من هيدروجين" بهاجس اللغة، ألا يزال النحت والتصوير من المهن الأثيرة لدى الشاعر؟

- لا أعتقد أنني انشغلت بـ"هاجس اللغة" بشكل كبير، في المجموعة المذكورة أو سواها، فقد اعتمدتُ القاموس اللغوي المتداول في أيامنا هاته، ولم أستعمل "حوشيّ الكلام" أو "الغريب" ولا الكلمات المُماتة. وإذا تركنا كلّ هذا جانبا، فما يتبقّى أنّ القصيدة هي، طبعا، كائن من لغة. في هذا النطاق، أميّز كقارئ بين القصيدة البسيطة في مفرداتها، الغنيّة بدلالاتها، وبين "القصيدة" التي تعاني من هزال مرضيّ يتسَبّب به لفقر لغوي واضح. من جهة ثانية، ليست تيمة الكتابة حاضرة في قصائدي بشكل صريح. كنت كتبتُ بضع قصائد ضمّنتُها كلمات ابتدعَتها مخيّلتي أو جاءت نتيجة تصحيف إراديّ لكلمات أخرى، لكنّي أحجمتُ عن محاولة نشرها، ثمّ ألقيتُ بها في سلّة المهملات، ولا شكّ أنّها أصبحت، بعد ذلك، مادّة لما كان ماركس قد سمّاه " نقد الفئران القارض". قمت بتلك التجربة، من دون شكّ، تحت تأثير نصوص لريمون كينو، لكنّي فكرت أنّ أمرا من هذا القبيل لن يبدو مستساغا في العربية اليوم. التجريب اللغوي، في حالاته القصوى على الأقلّ، ليس مما يستثير تحمّسي الآن. وهذا لا يعني أنّني أحبّذ مهادنة اللغة بشكل مطلق. فلو كان الأمر كذلك، لفضّلتُ ألا أخوض مغامرة الكتابة، وأن أكتفي بقراءة الموروث.

* لكن تقنيات التصوير التي تعتمدها في "فراشة من هيدروجين" تفتح في الضرورة مناقشة حول الاشتغال على اللغة.

- طبعا مسألة التصوير هي في الصلب من فاعليات اللغة. وإذا سمعتُ كلمة "بحر"، فإنّ هنالك شيئا ما ينطبع في ذهني. أعتقد أن هذا ما بنى عليه نيتشه فكرة كون اللغة كلّها استعارات. لكنّ عمليّة التصوير قد تكون في الدرجة الصفر في الكتابات ذات الطابع الخطابي أو الاجتراري. فأنت حين تقرأ نصا من تعابير من قبيل: "يا امرأة أعشق عينيها الواسعتين/ وأنام في ظلّ جفنيها/ وألمسها فإذا بي على ضفّة نهر في الجنّة"، فلن تشعر أنّ هنالك "تصويرا" حيّا لعلاقة فعليّة، بل ستكون الفكرة التي تفرض عليك نفسها هي أنّك أمام نسخة شاحبة لقصيدة كتبها المرحوم نزار قباني من قبل.

وإذا شئتَ أن نتحدّث عن الصورة الشعريّة، فأنا أعتقد أنّها لا تشكّل هدفا في حد ذاتها. إن النص هو الذي يحدّد طبيعة الصور التي يمكن أن تندرج في إطاره، وأن تساهم في بنائه، بحيث لا تكون دخيلة عليه ولا متنافرة مع غيرها من مكوّناته. فإذا أصبحت الصورة هدفا في حدّ ذاتها – بغية الإدهاش على سبيل المثال- فلن نجد أنفسنا أمام نصّ متماسك، لكن أمام ركام من الصور المتنافرة. أمّا إذا كانت الصورة، "الغريبة والمدهشة" مثلا، تشكّل لبنة فعليّة في بناء القصيدة، فهي تفرض نفسها ومكانتها، وتروي ظمأنا إلى الحَُلم والعبث بالحدود التي تفرضها عقلانية فقيرة، متكلّسة، وضيّقة الأفق.

* في مَ تفكر بعد هذا العمل؟

- قد ظهرت مجموعتي الأخيرة قبل فترة تقريبا. غير أني كتبتُ، بعد صدورها، قصائد كثيرة، وليس في نيتي، طبعا، أن أتوقّف. شرعت، أيضا، في كتابة رواية كما أنّ لديّ مشاريع في مَجال الترجمة ولم يعد واردا أن أمالئ نفسي على الكسل، بعدما اشتريتُ "بيتا شعريا"، أجده مريحا بما فيه الكِفاية. ولا أنسى الإشارة إلى أنّ من مشاريعي الحالية، أيضا، تدعيم جسمي المجالد، في صراعه مع السكّري وأعداء آخرين من طينته.

النهار
9 فبراير 2009


أقرأ أيضاً: