حاوره: حسن بن عثمان

العفيف الأخضربدءا أرحب بسي العفيف الأخضر وأعبر عن سعادتي لالتقائي الشخصي بك، وأبادر بتهنئتك على سلامة خروجك معافى من محنتك الصحية التي نسألك بالمناسبة عن أسبابها وظروفها؟

هذه الأزمة كانت صعبة جدّا. تمثلت في حادث ألمّ بي جراء قفل حنفيات البيت التي تقطر بغزارة. قال لي جاري بعد معاينتها : المطلوب ليس تجديد الوصلات بل تغيير الحنفيات التي تقادمت. الثمن المطلوب لتغييرها كان مرتفعا جدّا ولم أكن قادرا على دفعه. استمر هذا القفل المتواصل للحنفيات شهورا خلالها قلت لنفسي هذا تمرين يومي على فتل العضلات. لكنه كان في الواقع عقابا ذاتيا، وأنا كثيرا ما أعاقب نفسي. ذات يوم شعرت بطقطقة في المرفق. ثم أصبحت عاجزا عن مسك القلم. أصابني لالغوديستروفيا. ألغوس تعني باليونانية الألم، ديستروفيا تعني اضطراب تغذية العضو بالمغذيات الضرورية لأداء وظائفه. العضو الذي عجز في حالتي هو يدي اليمنى. لما تم تشخيص الحالة بعد شهور قال لي الطبيب : مرضك أصبح عُضالا. لأن هذا المرض يعالج وهو في الأسابيع الثلاثة الأولى، وبعد ذلك يصبح مستعصيا. ورغم ذلك واصلت العلاج دون يأس فشفيت بحدود تسعين في المائة كما ترى. هذا المرض يعود غالباً لأدنى سبب وحتى بدون سبب.

أنت في العادة رجل متقشّف في مجمل سلوكك، وتعيش منفردا وأعزب، وعلاقتك بالاستهلاك محدودة، وبالإنتاج زاخرة… حدّثنا عن التقشّف الحياتي الذي تعيشه؟

في الحقيقة وُلدت متقشّفا. أبي كان عاملا زراعيا، وأنا ولدت في كوخ، أو تحت خيمة حسب روايتي أمّي، وكنا ننام جميعا على حصيرة واحدة في كوخ في "الدّوار" المكوّن من أربعة أكواخ، وهو يبعد عن مكثر بحوالي 30 كلم. مكثر، القرية الصغيرة التي تبعد 175 كلم عن العاصمة، كانت تعتبر بالنسبة لي هي العاصمة عندما يأخذني أبي معه إلى سوقها الأسبوعي. لطرشي الذي فاقمه خطأ طبي في التسعينات قصة تروى. كان عمري ثلاث سنوات تقريبا. كنت ألعب كعادتي مع الطفل أحمد في الزبالة. تناول أحمد خرزة من الزبالة ووضعها في أذني اليسرى، فسبب لي التهابا في الأذن تطور إلى التهاب سحائي. لم يفحصني طبيب إلا بعد حوالي عشرين عاما من إصابتي. قالت لي والدتي إنني بقيت أحد عشر يوما في الغيبوبة. الأطباء الذين رويت لهم ذلك قالوا هذا أمر مستحيل. فأعدت سؤال أمي، فأصرت على روايتها قائلة كنت أفتح فمك ويساعدني أبوك حتى نسكب فيه اللّبن الممخوض حتى لا تموت بالجوع، وذات مرة غصصت باللبن فخرج الدم من أنفك، فضربني أبوك. عندما عدت إلى وعيي أذكر جيدا أني كنت جلدا على عظم، وكان أبي يصطاد لي العصافير ويشويها فآكلها بعظامها. لقد عدت من حافة القبر الذي ابتلع قبلي ثلاث إخوة، ونجوت من موت محقق 25 مرة. أولاها هذه المرة.

كان أبي رجلا متقشفا بصورة عجيبة وقلدته في ذلك كثيرا. كانت أكلتنا الرئيسية خبز الشعير وزيت الزيتون. ولأنني أفتقد في باريس خبز الشعير فإنني أسعى لتعويضه بالخبز الكامل بنخالته وأغمسه في زيت الزيتون. تلك وجبتي الرئيسية كامل النهار طيلة سنوات حياتي، ومع كوسة نيئة ولفت وجزرة وبيضة بيولوجية مطبوخة، وشيء من الفواكه. أما اللحم فهو مستبعد تقريبا، عدا السمك الذي أتناول منه من حين إلى حين.

كما أنك لا تدخن ولا تشرب الخمر أيضا؟

لا أدخن بالمرّة. كنت كحوليا مدمنا أنام بالكحول إلى سنة 1981، حين سلبت الخمر النوم من عيني فتوقفت نهائيا عن الشراب. وأصبحت أتفادى، طيلة سنة كاملة، الدعوات، حتى لا تنهار عزيمتي. وفيما بعد فأصبحت أحضر اللقاءات وأشرب كوب الماء مكسورا بملعقة صغيرة من الخمر، وهكذا لم أعد كحوليا.

تكوينك أستاذ العفيف كان تقليديا زيتونيا…

سيرتي الذاتية ليست موضوع نقاش في هذا السياق…

عفوا يا أستاذ العفيف…

لا، أرجو أن لا تناديني بالأستاذ فأستاذ بالفارسية تعني حمار ولا بأي لقب من الألقاب…

نعم. معك حق… هل ترتاح للصيغة التونسية التقديريّة "سي"، سي العفيف؟

آه، سي قد تناسبني. أنا أيضا أخاطبك بسي حسن…

شكرا لك سي العفيف الأخضر، لك اسم ولقب يتفوقان على كل الألقاب والصفات. هذا شأنك الذي نغبطك عليه. أما الآن فلسنا بصدد تدوين سيرتك الذاتية، لتكن مطمئنا. إنما هو مدخل ضروري، كما أعتقد، ليتعرف عليك القراء ويكونوا على علاقة حميمة معك قبل مباشرة مسائل فكرية تعتني بها، نطلب بعض الملامسات الصغيرة من سيرتك..

سأسمح بجزء بسيط جدّا من سيرتي لا أكثر. كان تكويني من الكتّاب إلى جامع الزيتونة إلى مدرسة الحقوق. لكن المدرسة الحقيقية التي تعلمت فيها هي المكتبات، خاصة المكتبة الوطنية، التي كانت تسمى مكتبة العطارين باسم شارعها والمكتبة الزيتونية. ولي مقال في موقع إيلاف بعنوان "خالي والهجرة صنعاني"، وهو قطعة من سيرتي الذاتية ذلك أن صديقي الشاعر عبد القادر الجنابي، طرح سؤالا على بعض الكتاب عن الحدث الذي غيّر حياتهم في مراهقتهم فكان المقال المذكور هو إجابتي.

أنوي تجميع الكتابات التي نشرتها سواء في "إيلاف" أو "الحياة" أو في وسائل الإعلام الأخرى وخاصة الأحاديث الصحفية التي أجرِيت معي والتي زوّرت بنسبة 90 بالمائة. وسأعمل بداية على نشر هذه الأحاديث في كتاب، وذلك ضروري. إذ بعد موتي سيقول مؤرخو الأفكار إن العفيف الأخضر يشجب سياسة الوجهين عند الإسلاميين وهو يمارسها. لأنه يقول في أحاديثه شيئا ويقول في كتابته شيئا آخر، في حين أن تلك الأحاديث قولتني أحيانا ما لم أقل. مثلا أجرى معي صحافي من أسبوعية "الأهرام العربي" حديثا، سجّل معي حوالي ست ساعات، ونشره على حلقتين، نشر من كلامي نصف ساعة وأضاف لي من عنده ساعة. بداية السطر الأول من الحلقة الأولى "أما الماركسية فلم أقترب منها لأنها يهودية". وفي الحلقة الأولى ذاتها ذكر بعض الجمل من تقييمي لماركس وإسهاماته التاريخية في تهذيب توحش الرأسمالية في الغرب. أرسلت للصحيفة صفحتين للتصحيح فلم تنشرا. أيضا جريدة "أخبار الأدب" أجرت معي حديثا قلت فيه إنه "حينما طُرح تأسيس الدولة الفلسطينية قبلتها دون تردّد"، فحرف قولي إلى : "بعد تردد طويل".

قال لي الصديق جورج طرابيشي إن أحاديثه هو أيضا لم تسلم من التحريف … يبدو أن أمثال هؤلاء الصحافيين يحملون في داخلهم رقيبا يدفعهم دفعا إلى مراقبة من يأخذون منهم الأحاديث. بل يبدو أن هذا الرقيب الذي زرعته فينا التربية الأسرية والمدرسية كامن في كل واحد منا، يحدث لي شخصيا عندما يطلب مني صديق مراجعة نص له أن أراقب بعض الجمل والكلمات من القراءة الأولى ولكن بعد إعادة النظر يتضح لي أنها في محلها. يوجد سبب آخر أيضا هو أن بعض الصحافيين يفضلون نسبة آرائهم الخاصة لمن أجروا معهم الأحاديث لإعطاء آرائهم، التي لا شرعية لها في نظرهم، شرعية مخاطبهم …

سي العفيف أنا ما أزال في المحور الذي حددته لهذا الحوار. أنت مهاجر كبير لا يشق لك غبار، جذبك الشرق وطوّح بك الغرب، وكأنك لم تمض في تونس، حيث مسقط رأسك أو ارتفاعه، سوى فترة قليلة…

هل سبعة وعشرون عاما هي فترة قليلة؟

ذلك في البدايات…

وبعد ذلك هاجرت وظللت مهاجرا أو فارّا كما يفرّ المراهق من المنزل العائلي أو المدرسة…

ظللت مهاجرا محترفا…

فعلا صرت مهاجرا محترفا… وسأقول لك ما أظنه السبب النفسي لهجرتي. المهاجر العادي يهاجر من بلده إلى بلد آخر ليُنشئ فيه وضعية مستقرة وأسرة. أما أنا فكنت أهاجر من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى بلد لأستقر في اللااستقرار. سبب ذلك نفسي. مفتاح شخصيتي النفسية هو علاقتي بأمي. كانت أمّا هستيرية وطاغية تضربني بعنف منذ كان سني عاما واحدا، كما كانت تحكي بحضوري لجاراتها من الفلاحات. حكت ذات مرة لجارتها وهي تضحك، أنني طلبت منها تفاحة، فقالت لي : لم يعد عندي تفاح فأخذت في البكاء والصراخ فقالت لي اسكت وإلا أعطيتك طريحة (في العامية التونسية تعني الضرب حتى ينطرح المضروب أرضا)، فقلت لها : أعطني طريحة، وكانت جارتها الفلاحة تقول لي يا وليدي "الطريحة مش باهية"، لكنني أصررت عليها. فقالت أمي إنها ضربتني حتى لم أعد قادرا على البكاء، حتى لا أعود لمثلها. وعندما أصبحت مراهقا صارت عاجزة عن ضربي جسديا فانتقلت إلى ضرب أشدّ مضاضة، ضرب نفساني هو التأنيب والتذنيب. كانت تقول لي مثلا : كيف تتصرّف معي هكذا وأنا التي بقيت عليك "بالسالف الأكحل". أي أنها ترملت قبل أن يشيب سالفها، ومع ذلك لم تتزوج. إذ من تقاليد المجتمع الريفي أن الأرملة التي لها أطفال ذكور من العار عليها أن تتزوج. كانت أمي، إذن، تطالبني مقابل بؤسها الجنسي الذي أنا سببه بطاعة أوامرها القراقوشية. تمردت باكرا على اضطهادها لي. كانت أعزّ أيّامي عندما يأخذني والدي عند عمّتي للكتّاب لحفظ القرآن. وعندما أخذني خالي، عبد المجيد العياري، للتعلم في جامع الزيتونة، كنت في الإجازة المدرسية أبقى في كوخنا أياما قلائل ثم أفر منه إلى بيت خالي في "مكثر" وهكذا كامل مدة الدراسة كنت فارا من الكوخ إلى بيت خالي وفي السنوات الأربع الأخيرة من دراستي لم أذهب إلى الكوخ أصلا. ولما سافرت إلى فرنسا لبضعة شهور "فررت" منها إلى الجزائر سنة 1962. بعد الانقلاب العسكري في 1965 فررت من الجزائر إلى سويسرا ثم إلى ألمانيا الغربية ثم إلى تشيكوسلوفاكيا ثم إلى ألمانيا الشرقية. وفي 1966 "فررت" إلى بيروت… في الواقع كانت رحلاتي فرارا متواصلا لا استقرار له ولا قرار… كنت أواصل فراري الأبدي من بيت أمي إلى اللامكان.

سي العفيف الأخضر، هذا الترحّل في المكان يناظره ترحّل آخر في التاريخ والزمان والمعرفة… لو تتفضل بذكر محطات أساسية في ترحالك التاريخي والمعرفي؟

أنا درست في الزيتونة. كانت دراستي فيها شكلية. كنت أتخذ مجلسي وراء عمود من أعمدة الجامع، وبمجرد أن يبدأ الشيخ المدرّس في درسه، أتسلل من الحلقة إلى المكتبة الزيتونية أو المكتبة الوطنية وفيها قرأت "سادوك" لفولتير من ترجمة طه حسين، وكان هذا بداية لقائي بفلسفة الأنوار. بدلا من شيوخ الزيتونة أشباه الأميين، سوى قلة منهم بينهم محمد الفاضل بن عاشور ومحمد العروسي المطوي، وبشير العريبي… جعلت من مكتبتي الزيتونة والوطنية مدرستي… مواظبتي على هاتين المكتبتين زرعت فيّ حب ارتياد المكتبات. وفي كل مدينة حللت بها في أوربا كنت أبادر منذ دخولها إلى زيارة حديقة الحيوانات ثم مكتباتها. وفي زيارتي الأولى القصيرة لفرنسا عام 1961 تعرفت على جاك بيرك Jacques Berqueفي الكوليج دو فرانس فتابعت دروسه في الإسلاميات. ولما عدت من بيروت إلى فرنسا في سنة 1967، التقيت به ثانية في اجتماع "لجنة الدفاع علن الرئيس أحمد بن بلة"، وقد كان بيرك نائب رئيسها، روبير ميرل، الذي ترجمت كتابه "بن بلة" تحت عنوان "مذكرات أحمد بن بلة" وقد صدر عن دار الآداب البيروتية عام 1966. بعد الاجتماع الذي قدمت فيه تقريرا عن نشاطي في الدفاع عن المعتقلين في سجون الانقلاب العسكري في الجزائر، سألني جاك بيرك : هل أصدرت دور نشر بيروت كتابا صالحا للترجمة؟ أجبته مازحا : لم تصدر دور النشر العربية إلا كتابا واحدا صالحا للترجمة هو القرآن. فقال وفي نيتي ترجمته.

وهل هذا فعلا ما تعتقده؟

لا، لا، تلك كانت نكتة منّي، نوعا من تشاؤم الشباب. فالعرب لهم تآليف عظيمة جدّا. ولكني قلت ما قلته نظرا لما كان يصدر في بيروت في الستينات من كتب هَزيلة وأخرى أكثر هُزالا… أصدرت دور النشر العربية آلاف الكتب قديمة وحديثة جديرة بالترجمة… ولما استقررت في فرنسا سنة 1979 رجعت إلى الكوليج دي فرانس لأحضر، ولكن ليس بانتظام، الدروس التي كانت تهمني كالإسلاميات ونظرية التطور والاثنولوجيا… لكن تبقى المكتبات هي دائما جامعتي التي لا بديل لها. وهكذا كنت أحد الرواد المدمنين للمكتبة الشرقية التي تحتوي على 350 ألف كتاب.

في المكتبة الشرقية كنت أحيانا أحاول قراءة المخطوطات. وقراءة المخطوط ترهقني. وذلك يعود إلى صدمة نفسية من الكتابة اليدوية التي ترهبني قراءتها. في سن السادسة أو السابعة أنهيت في الكتّاب حفظ بعض قصار السور وختمت سورة "الأعلى" الحزب الأول "سبح اسم ربك". شكرني المؤدب عند والدي الأميّ، الذي أخذني إلى الكتّاب لهدف وحيد هو أن أقرأ عليه القرآن حين يموت كما أوصاني بذلك مرارا. احتفل أبي ببشرى حفظي لحزب سبح، بذبح جَدْي. ومن سوء حظي، أنه بعد أسبوع على ذلك الاحتفال، كتب والدي عقدا قانونيا عند شاهد عدل، وسلمني العقد المخطوط وطلب مني قراءته ليتثبّت من محتواه. فلم أستطع فك حروفه. أصيب أبي بخيبة عظيمة وشرع في البكاء مرددا كعادته "يا دعاء أمي" الذي كان مجرد سماعه، وكثيراً ما كنت أسمعه، هو عقابي. أبي لم يضربني إلا مرة واحدة جلدا خفيفا على القدمين. لكن هذه المرة اخترع عقابا جديدا : أمرني بخلع ملابسي، قميص وبرنوس مهلهلين، وطردني عاريا من الكوخ فلذت بقن الدجاج. كان الثلج يهطل.

بعد حوالي نصف ساعة التحقت بي أمي لتعيدني للكوخ وهي تردد : "على خاطر مشني راضية عليك هانو دعائي طاح فيك". إثر هذه الصدمة صرت أقول لنفسي، في يوم ما سأصبح، وأنا أمشي، قادرا على قراءة أية ورقة مكتوبة حتى ولو كانت مقلوبة على وجهها ودون أن امسكها بيدي، حتى آخذ ثأري من تلك الفضيحة.

لم أتخلص حتى الآن من رهاب قراءة كل ما هو مخطوط حتى وإن كانت رسائل مكتوبة بخط اليد من المشرق أو المغرب، كنت دائما أستعين بشخص ليساعدني على فك حروف بعض الكلمات.

ها أنني أعطيك من سيرتي الذاتية ما لم يسبق لي إعطاؤه لأحد…

بارك الله فيك سي العفيف وأبقاك ذخرا لنا… لكن ماذا فعلت برغبة الوالد في قراءة القرآن على قبره؟

حزنت جدا لأنني نسيت أن أقرأ على جثمان أبي المسجى في الكوخ القرآن الذي أوصاني بقراءته عليه. ربما مازلت حتى الآن أشعر بالذنب من ذلك. لم أتذكر وصيته إلا بعد حوالي عشرين سنة من دفنه. وربما ذلك مما جعل حدادي عليه طويلا…

أنت تؤثرني بما هو حيّ في ذاكرتك، متعك الله بالصحة والعافية ورجاحة العقل. وها أنني أرغب في المزيد. أنت من الكتّاب العرب القلائل النادرين الذين لم يحترفوا شغلا آخر غير الكتابة والبحث، كيف استطعت أن تنقذ نفسك من الوظيفة ومن إكراهاتها وعوائدها؟

والله، الثمن الذي قدّمته للإفلات من إكراهات الوظيفة وضغوط التعامل مع الأنظمة، هو التقشف الذي تكلمنا عنه منذ حين. كنت دائما، وإلى سنوات قليلة، آكل غالبا في مطاعم الفقراء المجانية. كان ذلك يسبب لي مشكلة. كنت خاصة منذ 1988، عندما سكنت خارج باريس، أنزل من البيت باكرا في حدود الساعة الحادية عشرة وأتناول وجبة الظهر في حدود منتصف النهار ومن بعد ذلك تصعب عليّ العودة إلى بيتي البعيد، وحتى أبقى إلى المساء لأتعشى أذهب إلى المكتبة الشرقية لأقرأ دون استطاعة الكتابة، فانزلاقي الغضروفي يمنعني من الانحناء على الطاولة. في البيت عندي طاولة متحركة أرفعها إلى مستوى الصدر للكتابة . في المكتبة، كان يلازمني كيس محمول على الظهر أضعه أمامي وأضع عليه الكتاب لأقرأ. وتلك وضعية لا تمكّنني من الكتابة. قد تكرهون شيئا وهو خير لكم، في حالتي أفادني ذلك في أني قرأت أكثر بكثير مما كتبت فهدف الكتابة الأسمى هو أن تكون كيفا لا كما. لكن الكم هو السائد فيها اليوم.

كيف وجدت صورة تونس في المشرق العربي؟

سيئة جدا. تحاربها القوى الثلاث التي كانت تصنع الشارع العربي آنذاك وهي الناصريون والبعثيون والإسلاميون. لم تكن صورة بورقيبة "عميل الامبريالية والصهيونية" هي وحدها السيئة بل أيضا صورة النخب الثقافية التونسية "الفرنكفونية المعادية للعروبة والإسلام" والشعب التونسي "المائع والذي لا يتكلم العربية… "

معنى ذلك أن تونس في ذلك الوقت كانت كأنها إسرائيل أخرى لدى العرب وبعض المسلمين؟

فعلا. لكن بعد ذلك حدث تغيير شبه جذري. أبو إياد الفلسطيني قال لو اتبعنا خطاب بورقيبة في أريحا عام 1965 ما كنا وصلنا إلى هذا الدرك. أما اليوم فتونس تحتل مكانا مرموقا سواء لدى النخب الحاكمة أو النخب المثقفة أو الشارع العربي. طبعا مازال أقصى اليمين الإسلامي العربي، تحت تأثير أقصى اليمين الإسلامي التونسي، يحاول تشويه صورة تونس. لكن الوقائع والأرقام تتحدث لغة يصعب تكذيبها. لا يوجد اقتصاد عربي في حداثة الاقتصاد التونسي بفضل اندماجه في الاقتصاد الدولي. هذا الاندماج هو اليوم شرط ضروري ليس لحداثة الاقتصاد وحسب بل ولمجرد بقائه أيضا. الاقتصاد التونسي هو، بمقياس التنافسية، الأول في إفريقيا. وهذا مقياس دولي لحداثة الاقتصاد. أضف إلى ذلك الأمن والاستقرار، اللذين هما في حقبة الإرهاب العالمي واهتزاز الاستقرار وتكاثر الدول الفاشلة، مطلب أولي لجميع السكان ومعيار الحكم الرشيد. تونس الحديثة حبلى بمشروع مجتمعي العقلانية منطلقه والحداثة رائده. وقد بدأ مشروعها يشع على محيطها. منذ 2003 استلهم المغرب مجلة الأحوال الشخصية التونسية كما استلهمتها الجزائر بنسبة أقل، ويبدو أن مصر بدأت تحاول استلهام المشروع التربوي التونسي الذي شعاره : تأسيس مدرسة يتعلم فيها الطفل كيف يتعلم مدى الحياة. وأول الغيث قَطرة.

سي العفيف لي ملاحظة وسؤال. الملاحظة وهي على سبيل المزاح، وهي تتعلق بلينين الذي كان يؤمن بحرق المراحل خلاف ماركس الذي كان يرى شروط قيام الثورة متوفرة في بريطانيا وفي الدول التي استوفت ثورتها الصناعية، في حين أن لينين طبق النظرية الماركسية في بيئة لم تخطر على بال ماركس، أعني روسيا… تلك هي الملاحظة. أما السؤال فكأن كلامك يوحي بما يسود في بعض الأدبيات التونسية بأن ثمة نموذجا مجتمعيا يمكن أن يُهدى أو يُقتدى به من طرف مجتمعات عربية وإسلامية لها خصوصياتها، فكيف ترى ذلك؟

قام لينين بقطيعة مع الماركسية في نقطة أساسية. الماركسية ظلت وفيّة لفلسفة التاريخ الهيغلية التي تقول أنه لا يمكن أن نتجاوز فترة تاريخية ما، قبل تحقيقها. لا يمكن أن نتجاوز الرأسمالية قبل تحقيقها. لينين قطع مع هذا المبدأ. كانت الماركسية، بناء عليه، تقول أنه لا يمكن أن يقوم النظام الاشتراكي إلا في أوروبا الغربية وتحديدا في بريطانيا، لأنه كان يخيّل- أقول يخيل لأن وقائع التاريخ برهنت لاحقا على أن بريطانيا مرت بتحولات عميقة في رأسماليتها
إضافة إلى الرأسمالية العالمية طبعا لم تخطر على مؤسسي الماركسية ببال- لماركس وإنجلز أن بريطانيا
قد وصلت إلى قمة الرأسمالية وغدت مؤهلة للانتقال إلى الاشتراكية. وجاء لينين بنظرية الحلقة الضعيفة في النظام الرأسمالي الغربي التي

هي روسيا.
إذن

تخيل بدوره أن القيام بالثورة في روسيا سيجعلها
تنتقل إلى كل أوربا الغربية. وتلك كانت الكارثة. أخطأ لينين لأنه كان ضحية وهم اليقين العلموي، عبر عن قناعته هذه في خطابه في مؤتمر النقابات سنة 1918 قائلا ما مفاده : لو لم نكن متيقنين كل اليقين من أن الثورة الروسية ستكون حلقة في سلسلة تمتدّ إلى كل أوروبا الغربية لما قمنا بها…

هنا ألفت نظر الاشتراكيين في العالم العربي إلى تعبير"كل اليقين"، فالخطر يكمن في "كل اليقين". الآن حتى في العلوم الدقيقة فإن الشعار الحقيقي هو "اللايقين" أي الشك والمصادفة. الشعار الحقيقي شعار المعرّي :

أما اليقين فلا يقين وإنما

أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

لو لم يكن لينين ضحية "كل اليقين" لما أقدم على تلك الحماقة ملحقا بروسيا والدول التابعة لها دمارا في تطور القوى المنتجة وفي تطور وعي المنتجين المباشرين دام 70 عاما. كما ألحق دمارا مماثلا بوعي عمال العالم المتقدم فكرهوا الاشتراكية. في سنة 1967 كنت في برلين الغربية وكنت في حانة مع عمّال شباب لا أعرفهم وكنت أتحدث معهم، سألتهم ما هو رأيكم في الماركسية؟ خرج بي اثنان منهم أمتارا خارج الحانة وأشارا إلى الجدار الفاصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية وقالا لي : "هذه هي الماركسية". أي أن الاشتراكية إذا لم تحتم بجدار فستنهار، إنها سجن الشعوب…

ولما عدت إلى المشرق العربي في سنة 1969، نقدت التجربة الاشتراكية، التي هي في الواقع رأسمالية دولة متخلفة اقتصاديا ومستبدة سياسيا في الاتحاد السوفيتي ومستعمراته. زعم ياسين الحافظ الناصري- السوفيتي- الماوي أنني عميل لألمانيا الغربية ضد ألمانيا الشرقية. لأني قلت له إن ألمانيا الشرقية ليست اشتراكية وإنما هي سجن كبير لسكانها. كما زعم محمد يزيد، سفير الجزائر في لبنان، بحضور المحامي اللبناني الصديق جبران مجدلاني، أنه يعرف رقم الحساب المصرفي الذي تصب لي فيه "السي آي إيه" مرتبي الشهري… فقال له جبران مجدلاني : أنت كذاب. فقد كان يعرف كيف أعيش في بيروت. ولولا الصديق د.صادق جلال العظم الذي آواني في منزله لما استطعت نشر ما نشرت من كتب في بيروت. وسأبقى مدينا له بذلك ما حييت.

شكرا على هذه البسطة الزاخرة بالمعلومات، وأريد أن أثمن فيك وفاءك واعترافك بالجميل لصديقك صادق جلال العظم… ومازلت معك بصدد جوانب من مسيرة حياتك الشخصية وأرغب في هذا السياق في سؤال حول عزوبيتك المزمنة وعلاقاتك العاطفية… أي كيف عشت الجسد في حياتك المديدة؟

هذا الموضوع أدخره لسيرتي الذاتية ولا أريد إجهاضه بحوارات صحافية مرتجلة. في سيرتي الذاتية سأكون كتابا مفتوحا، شاهدا على عصري من زواياه كافة الاجتماعية والسياسية والفكرية والأنثروبولوجية والنفسية والجنسية. وقد أفاجئ قرائي.

في لمحة خاطفة، هل يا ترى حياتك الجنسية والعاطفية على المستوى ذاته من الثراء والاندفاع مثل حياتك المعرفية وتجربتك الحياتية؟

قد تكون أثرى…سأل الصحفي الجزائري، علي بن عاشور، توفيق الحكيم قائلا له : استشهدت في صدر كتابك "عصفور من الشرق" بقول أوسكار وايلد "وضعت عبقريتي في حياتي وبعض مواهبي في كتبي"، وعقبت عليه قائلا : "أما أنا فقد وضعت جميع مواهبي في كتبي ولا شيء في حياتي"، ألا يدلّ هذا على أنك مثلي مكبوت وحرّكتك غيرة من أوسكار وايلد؟ أجابه: "يجوز…"

توفيق الحكيم المحافظ من جهة، وأوسكار وايلد الشاعر والكاتب البريطاني الذي كان مشهورا بمثليته الجنسية، من جهة أخرى، فأين نجد العفيف الأخضر بينهما، وإلى أين تميل كفّته للحكيم أو لوايلد بخصوص نصّه وحياته؟

العفيف الأخضر أقرب إلى أوسكار وايلد… توفيق الحكيم هو كانط الذي وضع كل عبقريته ومواهبه في فلسفته التي ستظل مفاهيمها وحدوسها العبقرية تنير طريق البشرية. طبعا كانت فلسفته تساميا بمثليته التي لم يحققها. الحضارة البشرية مدينة للتسامي بالمثلية. أما آوسكار وايلد فهو سقراط، الذي قال عنه هيجل ما قاله توفيق الحكيم عن اوسكار وايلد : "سقراط هو الفيلسوف الوحيد، لأنه عاش فلسفته ولم يكتبها، أما نحن فأساتذة فلسفة ومؤسسو أنساق فلسفية ليس إلاّ". سقراط وأفلاطون وأرسطو وبروست وليوناردو دافنشي وشكسبير وعشرات غيرهم من الفلاسفة والفنانين هم أيضا وضعوا عبقرياتهم نصفا في حياتهم ونصفا في آثارهم. حتى ليبدو وكأن الموهوبين محكوم عليهم بقانون نفسي صارم أن يتساموا بغرائز الحياة فيهم نصفا في آثارهم وأن يحققوها نصفا في حياتهم. لقد اكتسبوا جرعة من الشجاعة وثقة في النفس جعلتهم قادرين على خيار عيش غرائز الحياة فيهم بلا محرمات غبية مازالت في أرض الإسلام تعاقب المحبين بالجلد والرجم حتى الموت! في الوقت الذي ألغت الدول المتحضرة جميع العقوبات الجنسية! أما الرجم فقد ألغته اليهودية التي شرعته منذ القرن الأول الميلادي، أما نحن الذين لا وجود للرجم في قرآننا فما زلنا نرجم!.

وهل تتصوّر، من خلال متابعتك للإسلام السياسي أن الغنوشي وحركة النهضة بإمكانهم حسب مراجعهم الفكرية والفقهية الحالية، الانتقال من أقصى اليمين، كما وصفتهم، إلى وسط اليمين وتحديث رؤيتهم للتراث وللواقع وللوجود، بما يناظر حزب العدالة والتنمية التركي؟

بخصوص راشد الغنوشي الذي حاولت أن أدرس شخصيته نفسيا وجدت في التحليل الأخير أنه شخصية مريضة ومؤذية ومن الصعب على هذه الشخصية أن تتطور وتتكيّف. ومع ذلك أترك الباب مفتوحا، لأن الإنسان، ذلك المجهول، بإمكانه أن يتغير. ولكن حين أتحدث عن حركة "النهضة" ككل ألاحظ أن هناك شبابا من الحركة خرجوا منها، وهناك من بقي فيها بما في ذلك في القيادة ويرى أن خط زعيمها مغامر ومتطرف يشكل خطرا على حركته نفسها. الغنوشي نفسه يعترف أنه عندما خرج من السجن سنة 1981 وجد شباب الحركة من الطلبة في العلوم الإنسانية يتناقشون في إمكانية إلغاء الشريعة، ويقول حرفيا تقريبا في حديث لمجلة "الإنسان"، التي كانت لسان الاتجاه الديني النظري والتي كانت تصدر بباريس، إنه "وضع حدّا لذلك النقاش" الذي أزعجه. وهذا وحده كاف لإقناع صناع القرار التربوي بضرورة تعليم العلوم الإنسانية وعلوم الأديان في جميع مراحل التعليم. وعلى هذا الأساس أرجّح أن أولئك الشباب ـلو رفعت عنهم دكتاتورية الغنوشي والمصابين بالصلابة الذهنية في القيادة الذين يفكرون مثله ـ لاستأنفوا ذلك النقاش بما يسمح لحركتهم بأن تستلهم نموذج حزب العدالة والتنمية التركي الذي انتقل من أقصى اليمين إلى وسط اليمين وودع الشريعة إلى غير رجعة.

الغنوشي ليس مجرد اسم ولا رمز لتنظيم حزبه، بل كما لو أنه صار حالة أو عنوانا لمعضلة مسألة الإسلام السياسي العربي وغير العربي، بدليل إعادة انتخابه من قبل المنتسبين لتنظيمه على رأس ذلك التنظيم؟

لا، لا… الغنوشي هو نموذج لقيادات أقصى اليمين الإسلامي السياسي الراهن في غالبية أرض الإسلام. أستطيع أن أراهن، مع هامش من الخطأ ضئيل، على أن تسعة من عشرة من قيادات الإسلام السياسي هي شخصيات مريضة ومؤذية، عنيفة ودموية وتطورها نحو الأحسن، أي نحو وسط اليمين، لا مؤشرات تدلّ عليه… ولكن لا أستطيع أن أقول نفس الكلام على كوادر وقواعد مثل تلك التنظيمات التي هي قواعد مضّلَلة وقع غسل أدمغتها وحشوها بالأساطير. وهي قواعد ونخب بإمكانها إذا وجدت إعلاما مفتوحا تتعرف من خلاله على حقائق الحقبة التي تعيش فيها بإمكانها أن تتغيّر… لا أستطيع أن أقول عن أي تنظيم سياسي إن أبواب التغيير إلى يمين الوسط مغلقة تماما أمامه. مثلا رجب طيب أردوغان، قبل ثلاث سنوات تقريبا من توليه السلطة في تركيا نظم قصيدة قال فيها أنه سيحول المآذن إلى صواريخ تدك مدن الغرب، لكنه تطوّر فيما بعد وأصبح حليفا صادقا للولايات المتحدة الأمريكية، ووسيطا نزيها بين إسرائيل وسورية من أجل السلام، وداعية متحمّسا لدمج تركيا في الاتحاد الأوروبي. وكتب وصرح مرارا أنه يقبل بكل القيم الأوروبية الكونية التي تتناقض مع الخصوصية الإسلامية الشهيرة، خصوصية الحلال والحرام… تصوّر كيف انتقل في لمح البصر من النقيض إلى النقيض، طبعا المناخ التركي ليس مثل المناخ المصري وغيره… ومن المعلوم أن المناخ التركي يقوم على حراسته جيش يحرس العلمانية والتي لها قواعد شعبية راسخة ولها نخبة مثقفة جيّدة. والمبدأ، في نظري، أن من تاب تاب الله عليه، وأن الإسلاميين إذا تراجعوا عن مشروعهم الطالباني وعن التصلب والتعصب وانتقلوا إلى يمين الوسط فأهلا بهم كأحزاب ومن الممكن، في المنظور التاريخي، أن يتنافسوا ديمقراطيا على الحكم. وأقول منذ الآن أنني ضد تنظيم أي انتخابات فورية في أي بلد في العالم العربي حاليا لأن التصويت سيكون احتجاجا، بمعنى أن أعداء الإسلاميين سيصوتون للإسلاميين ليس حبا فيهم ولكن كراهية في الأحزاب الحاكمة، وميلاً شبه قهري إلى تغيير الطواقم الحاكمة عملاً بالمثل التونسي : "تغيير السروج فيه راحة". وهذا ما وقع في الجزائر، ثلاثة مليون جزائري معادون للجبهة الإسلامية للإنقاذ لكنهم صوتوا لها. صوتوا لها لا حبا فيها وإنما كراهية لجبهة التحرير التي حكمتهم طويلاً من دون إنجازات تذكر. وهكذا فأي انتخابات شفافة ستعطي لأعداء الديمقراطية فرصة الاستيلاء على الحكم باسم الديمقراطية المغدورة ثم ينغلق القوسان… لنصل بعد عقد أو عقدين من الدمع والدم إلى تجاوز الإسلام الطالباني بعد تحقيقه. لو تبادر النخب الحاكمة إلى إصلاح الإسلام عبر دراسته وتدريسه بعلوم الأديان المعاصرة فإنها قد تقي شعوبها من كارثة المرور بالإسلام الطالباني، بفضل إعادة صياغة الوعي الإسلامي الجمعي تأهيلاً له ليتصالح مع الحداثة.

ثمة أحيانا شبه مماثلة بين التجربة الكمالية التركية والتجربة البورقيبية التونسية في بعض الكتابات التاريخية المقارنة وما يشبه التبادل والاحتذاء بين التجربتين، وكنت تحدثت في هذا الحوار عن التجربة التونسية كنموذج في بعدها الاجتماعي والاقتصادي في محيطها العربي. فهل تتوقع أنه يمكن لتونس أن تكون لها تجربة فريدة في مسألة الإسلام السياسي في محيطها العربي مثلا؟

على صعيد الإسلام السياسي لا أعتقد أن حركة النهضة التونسية يمكن أن تكون نموذجا للإسلام المستنير طالما تتحكم فيها زعامة دموية ظلامية مازالت تعادي حقوق المرأة التي جاءت بها مجلة الأحوال الشخصية، لكن فيما يخص نقاط التلاقي والاختلاف مع التجربة التركية فبورقيبة تأثر بكمال أتاتورك. ولكن المسعى البورقيبي كان مختلفا عن المسعى الأتاتوركي. كمال أتاتورك كمسلم غير عربي أراد إحداث قطيعة شبه راديكالية مع الإسلام العثماني، في حين أن بورقيبة انطلق من المعجم الإسلامي ومن اجتهاداته فيه. كما أن دستور كمال أتاتورك كان متأثرا بالنموذج الفرنسي، ومع ذلك لم يتبن الفصل الكامل بين الدين والدولة، وألزم الدولة بإقامة المساجد والمعابد.. إلخ للذين لا يقدرون على بنائها. بل أخضع رجال الدين للدولة وهذه هي "العلمانية" الإسلامية السنية التي أوجبت على شيوخ الإسلام "طاعة وليّ الأمر". هذه "العلمانية" السنية هي التي قطع معها أقصى اليمين الإسلامي باختياره العداء الراديكالي الشيعي لـ"ولي الأمر" السني الذي جردوه من كل مشروعية وأوجبوا الثورة عليه وقتله. ربما لهذا السبب أعلن الشيخ راشد الغنوشي سنة 1979 أنه "تلميذ الخميني".أما بورقيبة فقد انطلق من قراءة الطاهر الحداد المستنيرة للإسلام.

أنت تعتبر تجربة السلطة التونسية لها عمق إسلامي ومرجعية تراثية؟

الحداثة التونسية منذ الاستقلال إلى الآن احتفظت بالأساسي من المدونة الإسلامية ولكنها قرأتها قراءة منفتحة على مكاسب الحداثة.

لكن كل الأديان التوحيدية وغير التوحيدية، بل كل العقائد والأيديولوجيات، شهدت في فترة من فترات تاريخها ما تسميه أنت "هذيانا دينيا" وما ينتج عنه من تطرف وعنف وفقدان للحكمة والعقل، وهي ظاهرة في النهاية تندثر باندثار أسبابها، وهكذا يصبح الإرهاب والتطرف والسلفية المنغلقة وغيرها من البشاعات ليست سمة من سمات الإسلام واسما آخر له.

أنا على قناعة عميقة بأن التحديث والإصلاح الإسلاميين ممكنان. وستصبح منظمات الإسلام السياسي إذا بقيت على حالها ولم تنتقل إلى وسط اليمين مجرد مجموعات فلكلورية مثل أقصى اليمين النازي في ألمانيا حاليا والجبهة القومية في فرنسا إلخ… لا مستقبل سوى لحكومات وسط اليمين ووسط اليسار المتداولين سلميا على الحكم. أما غلاة الإسلاميين ليس لهم "في السوق ما يذوقوا"، أي لا حظ لهم في الحكم.

ننتقل إلى مسألة أخرى أنت مشغول بها فكريا في تنظيراتك وكتاباتك، هي مسألة العقلانية وما يحفّ بها من التباسات، خصوصا حين تُنسب لجهة من الجهات أو لقومية من القوميات، وكأن في نسبة العقلانية إلى العرب مثلا مفارقة كبيرة وكأن العقلانية في ذلك ليست كونية ولا يمكن أن تنتسب إلى أمة أو شخص وإلا صارت غير إنسانية وغير كونية وإنما هي احتكار وهوية وطنية أو ما يشبه ذلك… فهل يمكن أن يكون العقل في لحظة من لحظات وجوده غير إنساني وغير كوني؟

تلك إحدى الخطايا القاتلة لمحمد عابد الجابري الذي أقام مشروعه الفكري على أسطورة العقل العربي. العقل كوني ولا ينتمي لأية ثقافة وهو عابر لكل الثقافات والقوميات. وهذا هو التراث الفلسفي منذ أفلاطون إلى جان بوفراي Beaufret المدافع عن العقلانية. وثمة من قال أن العقل ليس كونيا وهو عالم الإبستمولوجيا الأمريكاني باول فايرابندPaul Karl Feyerabend الذي ادعى في كتابه الشهير "وداعا أيها العقل" أنه لا وجود لعقل كوني ولا فرق بين العلم والسحر، ولا فرق بين وصفة يعطيها بروفيسور مختص في السرطان وأخرى يعطيها ساحر إفريقي في الغابات الإفريقية، وسمّيَ هذا الاتجاه بالاتجاه الفوضوي الأبستمولوجي وسمّاه هو نفسه بالدادائية الأبستمولوجية، وكما هو معروف فإن مصطلح الدادائية يعني الاستفزاز، وكان ينسب الاستفزاز إلى شخصه، ولكن باول فري بيند كان منطقيا مع نفسه ، فأنكر أن يكون للعقل قوانين ضرورية يمكن أن تنطبق في كل مكان وأن تكون له قوانين ضرورية أصلا… لم يكن الجابري منطقيا مع نفسه فقد قال إن العقل كوني وقوانينه ضرورية لكن في إطار ثقافة معيّنة، وهذا يسمى في الفلسفة التناقض في الحدود، يعني أن كل واحد من الحدّين ينفي الثاني، كالقول نار ولكن لا تحرق، فالنار التي تحرق تصبح عندئذ لا- نار.

مقاطع أساسية من حديث مطول أجراه حسن بن عثمان مع العفيف الأخضر بباريس في خريف سنة 2007.