اسكندر حبش
(لبنان)

طلال حيدرقد لا يكون الشاعر اللبناني طلال حيدر بحاجة إلى تعريف، فهو واحد من الذين استطاعوا نقل الشعر المكتوب بالعامية، إلى أماكن لم يعرفها من قبل، عبر تجربته المتميزة في فضاء القصيدة، التي امتدت على مر السنين. شاعر، مقل بالنشر، كما يقول، إذ لا تعنيه الكمية، كذلك تعنيه الحياة التي يقبل عليها بكل "شره"، إذ يحب أن يغزوها بكل جوارحه. في هذا الحديث مع طلال حيدر، يدخلنا بعض الأماكن المفضلة لديه، في الشعر وفي الحياة، من دون أن ينسى هواجسه المستمرة.

* صدرت لك مؤخرا مجموعة شعرية جديدة، هي الثالثة لك خلال مسيرة امتدت في الزمان والمكان. السؤال الأول الذي يخطر على بالي، لماذا أنت مقلّ في النشر؟

- أنا فخور بأني كسول. عادة، يسكن الشعراء هاجسين، الأول هاجس الكمية والثاني الانصراف عن الحياة إلى فعل الكتابة. أنا "فجعان" حياة، عندما يكون الدور لي لكي أغزو الحياة، أكون ملتهيا بالغزو فأضع الشعر في ضاحية الانتظار؟ عندما يأتي الشعر ويسكنني، أضع الحياة بانتظار الشاعر. ولا مرة سكنني هاجس الكمية، لأننا إذا نظرنا إلى تاريخ الشعر، لوجدنا امرأ القيس الذي لا يزال حيا من 1400 سنة تقريبا، وقد كتب فقط 25 قصيدة. برأيي، ليس المهم كم نكتب، المهم ماذا نكتب. هناك الكثير من الشعراء، يمرّ في شعرهم الكثير من الكلام، إذا "صفيته"، يبدو عدد قصائدهم على عدد أصابع اليد الواحد، غير الكاملة الأصابع. قالت لي مرة خالدة سعيد، "أنت تصفي شعرك كثيرا، ليس كل الشعراء هكذا، لا تظلمهم". عندي، إن لم يكن هناك بين قصيدة وقصيدة بهاء الرؤيا، متوازيا، أعتقد أن لا لزوم للقصيدة الثانية. أنتظر أن يصل بي الشعر إلى أماكن لم أكن أراها من قبل. الهاجس الثاني الذي يسكن الشعراء هو أن يعبروا عن مقولات فكرية أو فلسفية. أنا أقول إن من يستنفر الحالة الذهنية يقع في النثر ولا أقصد بالنثر، الموزون وغير الموزون. الفرق بين النثر والشعر، برأيي، هو أنه طالما أن المادة هي الكلمة وهاجس الكلمة في النثر أن تطابق "الموصوف" وأن تقترب أكثر فأكثر منه. مثلا، لنأخذ كلمة شجرة أو كأس، نجد، نثريا، أنه يجب أن تلتصق هذه الكلمة أكثر فأكثر بالموصوف. بينما الشعر، يكمن في الابتعاد أكثر فأكثر عن الموصوف أو المفهوم، لتخلق الكلمة نفسها عالمك لا عالم الموصوف. مثال آخر، حين تتحدث عن علم النبات، نجد أن للشجرة معطيات، بينما حين أقول "شجرة النوم" فهذا يعني أن هذه الشجرة التي لم يزرعها أو يقطف منها أحد غيري، هي شجرتي أنا. من هنا، إن من يستنفر الحالة الذهنية للكتابة السيلانية المسهبة، أجد انه يسير في طريق لا يوصله إلى الشعر وإنما يوصله إلى حافة الكلام. أتذكر هنا ما قاله يوما صديقي الراحل كمال خير بك: "وكان الطريق حميما فأودعته قدمي، ولما تعبت جلست ونمت، قام الطريق ونام عليّ".

* على الرغم من هذه الرغبة في التمييز بعدم استنفار الحالة الذهنية، إلا أننا نقع في جزء من شعرك على هذه الحالة الذهنية، لنقل "الفلسفية"؟

- إذا كانت الأبعاد الفلسفية والإنسانية، تشكل جزءا حقيقيا من كيان الشاعر، أجد أنه لن تعود هناك حاجة إلى استنفارها وإنما تأتي طوعا بوهجها الشعري خارج المنطقة الذهنية. "يمكن تكون الأرض مدورة/ على قد الزمان"، في شعري هذا، كما في الشعر بعامة، كل هذه الأبعاد الفلسفية تستشف من القصيدة أو من الفعل الشعري ولا تأتي نتيجة لهذا الاستنفار الذي تحدثت عنه. يأتي شعرك منك، فإذا كنت معطاء لذاتك، يكون شعرك وجهك الحقيقي وفكرك ورؤيتك الفلسفية للإنسان والعالم. فعندما أقول "ليش الولاد بيركضوا بس يفرحوا؟ اللي بيركض بنومه بضلّ مطرحو". يؤدي بنا هذا إلى المنطق الآخر. عيب الشعر العربي عامة، وبشكل عام، أنه أسير المنطق الشكلي أو المنطق الصوري. أنا أؤمن بالمنطق الحدسي، عادة يستعملون تعبير الحدس، أنا أسميه المنطق الحدسي الذي لا يفسر إلا بالجمالية الإبداعية. في إحدى قصائدي أقول التالي: ليش هيك صرت كتار وبعدك ما حدا وحلوه مرة متل هالصيف حفيانه ومرة متل بلاد كسلانه ومرة متل غمِّض وقبل ما تفتِّح اْنساني أول ما شفت النهر عمبيطوف عرفت أيَّ منام بدي شوف" يمكن للمتلقيي أن يكتشف هنا أبعاد الشاعر الفكرية والفلسفية والإنسانية بدون أن يعرضها عليه بالصيغة التطلبية الذهنية. المنطق

* تحدثت عن المنطق الصوري، بأي معنى تشرحه، وبخاصة أن شعرك يقوم على الصورة بشكل كبير؟

- أقصد بالمنطق الصوري أو الشكلي، المنطق والمقدمة والنتيجة، أي المنطق الذهني الذي أبتعد عنه وأسميه الاستنفار الذهني. أغرق في المنطق الحدسي لأنني لآ أخاف من أن أكشف ذاتي. القصيدة هي أنت، وجهك الحاضر ووجهك الغائب. يقول أرشيبالد ماكليش ما معناه "الدين للذي له دين، قصيدة الشاعر هي دينه الحقيقي لأنها ظاهرة وباطنه". كلما تشبعت من آفاقك الذهنية وثقافتك لا بد من أنك ستفيض منها. لماذا نخاف أن تضيع فكرة منك؟ يظلمني الكثير من المعجبين بشعري، لأنهم يظنون أنهم يرون صورة ما يسمعون وهم لا يرون إلا صورة الوهم. "رَسْموا الصوت ع الكفّ/ وْحَنّوا صابيع اللغة بالخط حرف وحرف/ دار العرس/ خشخش بسهرات الألف هـ الدفّ/ والـ حِ لفّت ع الخصر زنّارها/ لمّن حبيبا لفّ/ في حرف دقّ وفات/ وِقْفوا حروف العطف/ والدال فَتحِت دارهاِ/ تستقبل بزوّارها/ وإلها قلبا هفّ/ رقصت وداخت بالهوا لَحالها/ والكاف تزقف كفّ/ شمل اللغة ما بيجمعُو / إلا المِشِي ع الميّ/ لأَنه أخَفّ". يظلمونني أيضا لأنهم يطربون للتوتر النفسي في قصائدي، الذي يسمونه موسيقى. فيبتعدون عن رؤية ما لا يرى: "وفي فوق/ شباك الشتي/ مفتوح متل كتاب/ وفي فوق/ عا رفوف الخشب/ صوت اللي ردوا الباب/ وفي فوق/ وطوا صوتكن/ رح ينقزوا الغياب". أنا لا أؤمن بشعر عربي ولا بشعر أجنبي. أؤمن بالشعر، فالشاعر الذي يقف عنده التاريخ عند 1400 سنة ولا يرى إلا هذا التراث فهو شاعر مغلق على أفق شوفيني ضيق. الشعر حضارة ملك الانسان عبر العصور، هل أحد يستطيع أن يسلبني ما قاله الشاعر الفرعوني "وجهك النيل بلا مياه"؟ الدين ÷ تحدثت عن المنطق الشكلي والصوري، لكني لا أعرف لماذا أجد أن شعرك يقع في هذه المرحلة "الهيولية" التي تتشكل رويدا رويدا كلما تقدمنا في القصيدة؟

- هذا الكلام صحيح، ولكنها ليست هي المنطق الصوري، إنما هي العمارة الوثنية.أبني شعري، من دون أن أدري، من التراب والنار والهواء والماء والفرس والصحراء والنوم والشمس والظل. ألا يقول الإمام زين العابدين في دعائه "سبحان من يعلم وزن الظل". إن الرموز القليلة القليلة التي أدركت أن شعري يرتكز عليها هي رموز وثنية، استطعت بها، كما أظن، أن أصل إلى البعاد الإنسانية المترامية الأطراف. ألا تستطيع أن ترى المساء كلها بنجومها وأقمارها إذا نظرت في الليل الصافي إلى حفنة من الماء في الطريق.

* تحدثت عن الرموز الوثنية، وفي الوقت عينه عن الإمام زين العابدين. يشكل الإمام مرجعا حاضرا في قصائدك، إذ ثمة الكثير منها، التي تذهب باتجاهه، كيف تجمع بين هذين الأمرين، وماذا يعني لك؟

- كنت طفلا، وكانت أمي تهدهدني على رجليها وتقول: "تفاحتو بجيبتو أورقت من هيبتو". كان يدهشني هذا التراث الصافي من الأصولية، الصافي من الدين في طريقه المباشر إلى الله. أنا رجل مؤمن بجميع الأديان السماوية، وفي البوذية أيضا. من يصل إلى الله لا يطرده ليأتي عن طريق الدين الآخر. الله يشرع أبوابه لكل من اعتمر قلبه بالمحبة ولذلك أدعي بأنني أكثر المحبين للمسيح في لبنان. كيف لا أكون من مريدي مولانا جلال الدين الرومي واساتذتي المتصوفة ومنهم النفري؟ أتي متصوف إلى مدينة فسأل أهلها "هل عندكم مكان جميل يُمات فيه" فقالوا، "بلى، نبعة ماء". فذهب وشرب ونام ومات.

* ذكرت في الجواب السابق حادثة الهدهدة، كم لعب هذه الأهازيج، أو لنقل هذا التراث الشعبي، في تشكيل لغتك الشعرية وعالمك؟

- كثيرا، ولكن كنت دائما أعيد كتابة هذا التراث لتجميله. مثلا الأغنية التي غنتها فيروز في ساحة البرج "يا رايح" أقول فيها: "يا رايح صوب مشرق شرق ما بو ربيعي/ راحوا يرعوا غنمهن و العشب فوق ضلوعي/ و أيام الغابن ولفي لعدن عا صابيعي/ و عتم علينا يا ليل و ضيعي يا حلوة ضيعي". ومن منّا لا يذكر "عاهوارة الهوارة"، لكنها أصبحت عندي "عالهوارة الهوارة/ يا ديني دين الهوارة/ لكدما وقفت حد المي/ فكروك غزارة". هكذا أستوحي مناخ الزمان لأضفي عليه مخزوني الثقافي، لكن هاجسي الجمالي ينسيني ماذا أفعل، وليس قصدا.

* كثير من قصائدك على علاقة بهاجس الزمان، بدءا من عنوان كتابك الأول، "بيّاع الزمان"؟

- سكنني هاجس الزمان قبل أن أعرف الكتابة والقراءة. كنت أنام في فصل الربيع تحت شجرة اللوز في "الخوام" في بعلبك وأنتظر كيف سيبرعم الزهر. وكان يأخذني النوم ويتفتح الوهر في غيابي. لا أخاف من الزمان والعمر، ولكن مثلما يسكن زياد الرحباني هاجس مدهش حين قال لي "اللي بيقهرني بالصوت بدي شوفو". يدهشني بالزمان أنني لا أستطيع أن أكون خارجه. بطء الحركات السعيدة التي تكبر فيها الأشياء لا تُرى. إنها مثل الشعر، لا تعرف من أين تاتي، وأنا أول المدهوشين بالرؤيا التي تأتيني. الشاعر الفخور بأنه شاعر هو إنسان مسكين لا يستحق هذه النعمة وعندما أدركتها وجدت أن الشعر نعمة ونقمة. نعمة، لأن الشعر من أينما أتى، أمن الفرح أو الحزن، من الفجيعة أو الانهيار، عندما يصبح قصيدة، يصبح جمالا وفرحا لا يضاهى. وهو نقمتي الوحيدة لأنه يجعلني في صراع دائم مع نفسي لأتجاوزها. عليك أن لا تهزم أحدا في الشعر بل عليك أن تهزم نفسك، لتكون القصيدة التالية عالما لا يجاري القصيدة السابقة.

* بعد هذه التجربة في الشعر والكتابة والحياة الخ، أين وصل طلال حيدر عبر تجربته الشعرية؟ إلى قادتك هذه المسيرة؟

- أعتقد أنه سؤال صعب. لأقل، أوصلتني على الخوف الحقيقي. خوفي أن أصمت وخوفي أن لا أتجاوز طلال في كل ما كتب. ولكنني مؤمن أن الذي يأتيني لن يبخل عليّ بأن يسمعني كل ما أكتب. عندما أقول شعرا أحس أنني كذاب لأن شعري هناك، يملك صوتا أسمعه وأتبعه ويملي عليّ ما أكتبه وليس ما أؤلفه. وحينما أصبح صافيا وأستحق نعمة الشعر، يأتي الصوت ذاته دائما فأكتب. وعندما أكون موحلا أعلم أنني أخون الشعر وأخون نفسي ولذلك أبذل جهدا هائلا لأتخلص من مباذل نفسي ودناءتها لأصبح صافيا كي أستحق النعمة. كنت مع أراغون حين أتى إلى بعلبك وكانت حوارات خلال أسبوع، قال لي ما لا أنساه: "إلحق الغلطة إذا كانت أحلى. لا تكتب ما تريد. أكتب ما يريده لك الشعر".

* ماذا نسمي هذا الصوت؟ لن نقول إنه "وحيّ"؟

- عندما كنت طفلا صغيرا، كنت أضع ورق الصفصاف في وسادتي. ومن عاداتنا يومها، أنه كل نهار خميس، كانوا يغسلون الوسادات والشراشف وما إلى هناك. كان يجدون وسادتي موحلة. في أحد الأيام، ولا اذكر من كان ذلك، أهي امي أو أختي، تلقيت صفعة كبيرة، حين شاهدت وسادتي موحلة من الصفصاف. لم أبكي، بل ضحكت وقلت لنفسي كم أنا سابق أهلي. عرفت يومها أنني منذور لشيء خارج ما يألفون ولم أكن أعرف أنه الشعر. كنت أكتبه قبل أن أجيد الإملاء، ولو كنت أحتفظ بكل ما أكتبه لكان عندي مجلدات. لكنني أحترم الشعر لدرجة أنني أمزق كل ما لا أرى أنه أنا. ومن غريب هذا الصوت أنه الصوت نفسه ومألوف وأعرفه.

* هل تذكر متى بدأت الكتابة؟ أول قصيدة فعلية؟ متى جاءك هذا الصوت أول مرة؟

- كنت يومها في قرية نائية اسمها اللبوة. زوروا لي تاريخ ميلادي سنتين كي أعمل في التدريس. شعرت يومها بالعطش، خرجت لأجد جرة ماء. وحين وضعتها على شفتيّ أدركت أنها كانت فارغة. رميتها بقوة على الأرض، فتحطمت. تناثر الفخار، نظرت إليه وقلت: نيّال فخارا هالجرة/ فرحان عندو عيد/ بيشرب عاطول نبيد". حملت الكلمات وذهبت بها إلى بعلبك، بدأت أدور في الشوارع، وكلما رأيت أحدا على الطريق، كنت أقول له اسمع، اسمع، ....

* هل ترى أن شعرك تأثر بمناخ بعلبك، مسقط رأسك؟ وهل الشعر هو ابن بيئته؟

- كلما كان الشعر محليا كلما كان عالميا، على قول أنطونان أرتو. انه ابن بيئته، هذا صحيح، لكن يضاف إلى هذه البيئة، لكي تراها جيدا، أن تكون ممتلئا بالشعر العالمي. مثلا أنا أخالف الفكرة التي سادت في مجلة "شعر" عن تضمين الأسطورة للقصيدة. حدث ذلك بعد ترجمة اليوت للعربية في "أربعاء الرماد" و"الرجال الجوف" وكل الذين اعتمدوا على الأدب الأنغلوساكسوني. كنت ولا أزال أؤمن بأن في تراثنا الشعبي رموزا تستطيع أن تحمل أبعادا إنسانية هائلة، مثلا: إيديك مسكونين وجّك مضوّا بسنابل قمح مضوّا بالعصافير مسيّج بالبساتين مقطوف قبل الصبح ومرمي بقلب البير" في بلادنا، يقطفون التين والعنب في الصباح الباكر، قبل أن يسخنوا من حرارة الشمس. لذلك أتحدث هنا في قصيدة حب عن هذه المواسم التي لم تلوحها الشمس. فمن هذه الرموز القروية البدائية نستطيع أن نصل إلى المطارح العالية في الحب الإنساني: "شبهتك بها السهل بالعمر ماشي وراك يلملم خيالك وجك طقس متل الصحو دايخ ومش سكران شبهتك بقوس القدح جايي عا لبنان". العامي والفصيح ÷ لو نظرنا على الشعر العامي، لوجدنا أنه لم يعطى حقه كاملا، كما أعطي للفصيح، هذا ما أحسه. برأيك لماذا هذا الخوف منه، إذا جاز القول؟

- ارتبط الفصيح بقداسة القرآن. وربط اللغة بالدين هو من أكبر أسباب التخلف العربي المعاصر. القرآن لغة الله فهل يريد الإنسان أن يكتب مثل ربه؟ أما المحكي، وبخاصة في بداية مفاهيم القومية العربية، فقد اعتبر شعوبيا، أي أنه مناهض للمقدس وإقليمي. أنا ضد هذا المفهوم لأن الشعر المحكي ليس بديلا عن الفصيح وإنما رديف لا يستطيع شيء أن يقف في وجه الماء. يقول ابن الأثير "الفصيح هو ما يبقى على اللسان"، حركة التطور للغة العربية الفصحى، التي أصبحت محكية على اللسان، لا يمكن لأحد أن يقف في وجهها بدليل أنها أصبحت المتداولة، ولكن يجب من هذا المحكي أن نبني اللغة التي تردم الهوة بينهما. ولذلك أقول في مقدمة "آن الأوان": "الرهان يعني ما نكتبه الآن بالمحكية ليس هو مستقبل المحكي وإنما هو الجسر بين الآن والآتي. أنا مع الشعراء الذين سيأتون ضدي في الزمن الآتي بلغة متقدمة عني. لأن لا أحد يكتب الجاهز إلى الأبد". وكل ما هو جاهز وإلى الأبد، نشهد زواله الآن في العالم العربي.

* يقودنا هذا الكلام إلى سؤال عن رؤيتك اليوم إلى ما يكتب من قصيدة محكية حديثة؟

- أعلق على كلمة حديثة، لأن هناك شعر حديث في الزمان القديم مثل "صاحب عفراء" وهناك شعر قديم بالعصر الحديث، "كتير قديم"، ولذلك أنا متفائل بالآتين الذين سيكملوا الطريق، ليتجاوزوني بزمان. عساني أحيا لأرى واحدا منهم.

* عندما ترى متلقيا في بلد عربي، تختلف لهجته عن لهجتك، وترى انه يحفظ شعرك، ماذا يقول لك ذلك "البعيد"؟

- التجربة الأولى كانت في موسم أصيلة، منذ أكثر من عشرين سنة. وصل شعري في قاعة المحاضرات إلى الجمهور بشكل أبكاني، بشكل مذهل. وكما تعلم أن العالم العربي ينقسم إلى 3 اقسام "المشرق/ المغرب/ الخليج". وأصعب ما تتوقعه أن يصل شعرك على المغرب، لأنه حديث العهد بالخروج من اللغة الفرنسية. هنا تسقط مقولة سعيد عقل. اللغة اللبنانية والسورية والعراقية الخ.. هناك لغة عربية واحدة أخذت شكلها المحكي الذي يستقي كل جذوره من اللغة الفصحى. ولذلك كلما كانت هذه اللغة المحكية خارجة عن المحلية وعن اللهجوية كلما كانت عامة الفهم في العالم العربي، وهذا ما أدركته أيضا في الخليج وفي المجمع الثقافي، مع الشاعر محمد السويدي. هل غريب على الفهم في لبنان ما يقوله هذا الشاعر: "أحب أقبل الكعبة، أحب البيت في عينيك/ أحب أقرا أنا بصوتك كلام الله إذا صليت". وهذا ما يفرقه عن الشعر النبطي، أي عن اللهجة المحلية التي يستغلق فهمها على عامة العالم العربي.

* كم كانت الصعوبة عندك في إقناع المتلقي بأن قصيدتك ليست زجلا؟

- ميشال طراد أتى من الزجل على الشعر، سعيد عقل أتى من الشعر الفصيح إلى المحكي أتيت من قراءة الشعر العالمي إلى المحكي ولذلك لم أعان ولو للحظة مما ينسبونه إلى الشعر المحكي كزجل، ولا يزالون حتى الآن يقولون لي "زجلك حلو يا أستاذ". مع العلم أن الزجل اللبناني مثل زجل رشيد نخلة "عالبال يا عصفورة النهرين" فن جميل، ولكنه خارج أسوار الشعر. ما عانيته من الشعر المحكي في أول عمري هو اتهامي بالشعوبية وبخيانة القومية العربية واذكر أنني منعت من دخول مصر عشر سنوات بعد مقال نشرته وهاجمت فيه ارتباط الفصيح بقدسية القرآن. قصيدة من جديد طلال حيدر صوتك مرق عا لمسافة وسلّم عليها ما صدقت انو مرا تا شافت الحني عا ايديها بس تضحكي بتتلفت الدني حواليها وبتسمع زلاغيط اسواره قبل ما تلبسها بايديها وبترم بعرس الفضا هالأرض حتى تزوغ عينيها يلكي بعجل هالوقت وبتوصل مكاتيب حاملته طيور بخلاخيل اجريها.

السفير
9-9-2011