والحركة النقديّة عربةٌ متهالكة

أحمد الجمَّال
(مصر)

فاطمة ناعوت

فاطمة ناعوت شاعرة ومترجمة مصرية. تخرجت في كلية الهندسة قسم العمارة جامعة عين شمس. لها، حتى الآن، 15 كتاباً بين الشعر والترجمات والنقد. تناولت تجربتها بعض الأطروحات العلمية والأكاديمية، ومثلّت اسم مصر في مهرجانات ومؤتمرات ثقافية دولية عدة. كذلك تُرجمت قصائدها إلى لغات أجنبية كثيرة.
حول بداية الإبداع وواقع الوسط الثقافي كان الحوار التالي.

متى انطلقتْ شرارة الإبداع الأولى لديك وأدركتِ أنكِ شاعرة؟

علمتُ أن ثمة ما يُسمى عالمُ الشعر قبل أن أكتبه ربما بعقد كامل. كنتُ في الخامسة لحظةَ انتبهتُ إلى وجود شيء اسمه «شعر» في هذا العالم. كان أبي يحكي لي قصص الأنبياء، وكيف أن السيد المسيح نطق في المهد، فحاورَ وجادلَ وحاججَ اليهودَ حجّة بحجّة، ومنطقًا بمنطق، أيقنتُ أن ثمة عالمًا ميتافيزيقيًّا يحيط بنا. عالم لا يشبه عالمنا الذي يكتنفه القانون والمنطق، وتدّثره الفيزياء بقوانينها ومعادلاتها وشرطها الطبيعي العِلمي الصارم. تمنيت، في تلك اللحظة، أن أقبض يومًا على مقبض بوابة هذا العالم، لأفتحه وألج. وكان وحده الشعر بوابتي السحرية لدخول هذا العالم. في تلك اللحظة البعيدة أظن أن جرثومة الشعر أصابتني. لأنني بعدها طفقت أركض وراء كل ما هو سحري وميثولوجي وميتافيزيقي وسوريالي ولا منطقي.

إلى أي مدى أفادتك دراستك الهندسة في بناء قصائدك؟

علمتني دراسة الهندسة الكثير، ما أفادني في عالم الكتابة عموماً والشعر خصوصاً. أولاً، علمتني الرياضيات تنظيم عقلي، وتحليل كل ما يقع في دائرة معارفي. ثم علمتني غرائب الأرقام وقوانينها فن الإيقاع والموسيقى، فثمة موسيقى في الأرقام. ثم علّمني المنطق ألا أقبل شيئاً كمُسَلَّمة. كل قانون يكتشفه العلماء اليومَ، كي يهدموه في اليوم التالي، ويضعوا غيره. لا شيء مطلقاً ونهائياً في هذا العالم. علمونا في كلية الهندسة احترام القانون العلمي جداً، إلى درجة ألا نؤمن بديمومته. تعلّمتُ ألا أصغِّر شيئًا جداً، وألا أُعظِّمه جداً. ذاك أن ذرّة الرمل الصغيرة، تشبه في تركيبتها تماماً، المجّرةَ الضخمة. حبة الرمل بنواتها وإلكتروناتها وبروتوناتها التي تدور حول مركزها والنواة، تشبه المجرّة بكواكبها وأقمارها التي تدور أيضًا حول مركزها. وهي ليست ضئيلة كما نظن، ولا المجرة ضخمة كما نحسب.

هذا على المستوى التأمليّ الفلسفي. على المستوى البصريّ، علمتني دراسة الهندسة نسب الجمال والاتزان بين الكتلة والفراغ، وهو، بالقياس الشعري، الاتزان بين القول والصمت، الكلمة والفراغ، الحركة والسكون. النسب الجمالية في بناية ما، لا تختلف أبدًا عن النسب الجمالية في القصيدة. في كل ما نراه حولنا أو نسمعه أو نشمه أو نلمسه أو حتى نحسّه ونشرع به، ثمة إيقاع ما. هذا الإيقاع هو صانع الجمال، أو القبح أيضًا.

مَنْ يقرأ دواوينك الأولى يلاحظ تعاطيك مع الأجواء الكنسية المسيحية. فبِمَ تفسرين ذلك؟

فاطمة ناعوت

إجابة السؤال الأول قد تعطي بعض الإجابة عن هذا السؤال. أما البعضُ الآخر فربما كان بسبب نشأتي وتعلّمي في مدرسة قبطية ما أحاطني بأجواء المسيحية في أجمل صورها. الديانة المسيحية مليئة بالميتافيزيقا والشعرية والخيال، وهي نبع خصب للإلهام لا ينضب أبدًا. أن يتحمل كيان بشريّ ما آلام البشرية جميعها، لفدائها، فكرة شعرية بامتياز. أن يمشي إنسان على الأشواك ويلبس طائعًا إكليلاً من الأشواك فتقطرُ الدماءُ فوق جبينه محبةً لبقية البشر، حتى قاتليه ومعذبيه، فكرةٌ طوباوية فاتنة.

ما تقييمكِ للحركة النقدية الموجهة إلى الشعر في العالم العربي راهناً؟

حركة نقدية! ما معنى حركة نقدية؟ الحقُّ أنني لا أرى نقدًا بالمعنى الحقيقي للكلمة راهناً. إنها كتابات سطحية أعتبرها لونًا من ذرِّ الرماد في العيون لتبرئة الذمة. وهذا في أفضل أحوالها، ذاك أن ثمة كتابات نقدية لا تعدو أن تكون مجاملات وفواتير لقبض مغانم ما، مادية أو معنوية. الحق أن الإبداع العربي الراهن في العالم العربي فرسٌ جموح، فيما الحركة النقدية عربة متهالكة لا تقوى على اللحاق بركبه.

على رغم خوضك تجربة الترجمة إلا أنك تصرحين دائمًا بأنك لا تعتبرين نفسك مترجمة، لماذا؟

المترجم المحترف يُكلَّف بترجمة نص ما. وأنا عصيّة على التكليف. لا أترجم إلا النص الذي يجعلني أغار من كاتبه، لأنني تمنيت كتابته يومًا، فأترجمه ترجمةً إبداعية، كلون من الاشتباك مع النص والكاتب الأصلي.

ما أبرز منطلقاتكِ في كتابكِ الجديد «المغني والحكَّاء»؟

منطلقي الفلسفي هو محاولة اختبار كيف يقرأ المبدعُ المبدعَ. كيف يكون ذاك المتورط في مطبخ الكتابة ناقدًا لنصٍّ لم يكتبه. أما منطلقي العملي فهو، كما ذكرتُ، غياب الحركة النقدية الواعية، ما يجعلنا، نحن المبدعين، نقّادًا لأعمال سوانا.

التقنية أفادت المبدعين كثيراً. الـ(فيسبوك) خير مثال. هل ثمة جيل أدبي جديد قد نسميه «شعراء الفيسبوك» مثلاً؟! وبرأيك ما أبرز ملامحه؟

الفيسبوك" مجرد ميديا كما الصحيفة والمجلة وسواهما. لكن الفارق أن الحرية المطلقة للنشر في الإنترنت سلاح" خطير. فثمة خاطرة يكتبها شخص ما، فيدخل أصدقاؤه يكيلون له المديح المفرط، فيظن نفسه شاعرًا. ثم يصطدم بالحقيقة حينما يرسل النص إلى مجلة أدبية متخصصة فترفض نشره.

الشاعر يكتب همَّه أم أحلامه أم واقعه؟

الهمُّ والواقع يتجسدان معًا في ما يسمى الحلم. حلم الشاعر بعالم أجمل وأنقى وأكثر عذوبةً وسلامًا ورغدًا وحبًّا مما نحيا. تلك هي قصيدة الشاعر.

متى تشعر قصيدتكِ بالانهزام؟

إذا سلّمنا بأن القصيدةَ حلم، فهي لا تنهزم. ذاك أن الحلم لا ينهزم. حتى ولو لم يتحقق. ما دام لا يزال في خانة الحلم فهو حيٌّ، فإن تحقق، تحوّرَ وصار واقعًا، وإن لم يتحقق يظلٌّ حلمًا منتظَرًا. فكيف له أن يموت؟

متى تبدأ علاقتك بالقارئ ومتى تنتهي؟

تبدأ علاقتي بالقارئ بعد صدور الديوان أو الكتاب، ثم تلقّي أول رد فعل من قارئ حوله. وتنتهي حينما أبدأ في كتابة نصٍّ جديد.

تُرجم كثير من قصائدكِ إلى لغات عِدة، كيف ترين هذه التجربة؟ وهل في الترجمة خيانة للنص الأصلي، خصوصاً الشعر؟

الترجمةُ أجمل الخيانات وأنبلها. وفي هذا كلام كثير تضيق عنه مساحةُ هذا الحوار. بخصوص ترجمة أشعاري سأكون أكثر صدقًا معك، وربما أصدمك، حين أقول إنني لا أعترف بأية ترجمة لنصوصي. الشعر لا يترجمه إلا شاعر كبير جدّاً. وحدث أن قرأت ترجمة قصائدي إلى الإنكليزية ولم ترُق لي أبدًا. فماذا يا ترى واقعٌ في بقية اللغات التي تُرجمت إليها ولا أقدر على قراءتها. لذلك قررت الاعتراف، فحسب، بالنسخة العربية من قصائدي، وما عدا ذلك يُحسب على المترجم.

بماذا تحلمين؟

بأن أترك هذا العالم وهو أكثر جمالاً مما هو عليه الآن.

الجريدة
18 – 9- 2009