حاوره: إسكندر حبش
(لبنان)

jan_beyarثمة كتّاب، تشكل اللباقة جزءا من سيرتهم الذاتية، إذ تأتي لتنضاف إلى لباقة كتاباتهم. قد تكون لباقة ظاهرة للعيان أو مخفية، بيد أنها أمور تستمد مكوناتها من مزاوجات بارعة ما بين الحياة والكتابة. الكاتب الفرنسي جان بيار ميلوفانوف، يملك العديد من صفات هذه اللباقة، بدءا من تفاصيله الصغيرة التي تتمثل بطريقة سيره وحبه للألوان، مرورا بعزلته وصمته والغموض الذي يلفه، حتى أن سماته تضعنا دائما أمام مراهق يرتدي النظارات، ما يزيد في عدم معرفتنا عمره الحقيقي وانتهاءً بمشروعه الكتابي.

هذه المزاوجة قد تكون سمّة خاصة بأهل الجنوب الفرنسي، بيد أن أول ما يدفع إلى التساؤل، هو اسمه الذي يرن بغرابة، إذ كيف من الممكن أن يكون ميلوفانوف اسماً لرجل ولد في مدينة «نيم» الجنوبية، ويتحدث بشكل جيد (على الأقل في كتبه) عن هذا الجنوب الذي يسكنه والذي اجتازه مرارا وتكرارا. فمنذ طفولته، اجتاز ميلوفانوف المزارع والدروب والهضاب سيرا على الأقدام، قطع هذه «الدلتا» التي تعطي فكرة عن أولى لحظات الخلق والمخاض «عندما لا تكون بعد، الحيوانات والنباتات نصف المغمورة في الوحل قد تشكل وجهها الذي نعرفه». غريب هو هذا الوجه الذي يحمله ميلوفانوف وبخاصة لرجل من الجنوب. فسماته الآسيوية، دفعت الجميع إلى أن يطلقوا عليه اسم «القبعة الصينية» (بسبب عينيه المغوليتين كما بسبب وجنتيه)، لكن أستاذه سأله في أحد الأيام عما إذا كان «روسياً أحمر أم روسياً أبيض» (وهي عبارات لم يكن قد سمعها من قبل) سؤال غريب، مثلما هي غريبة قصة هذا الروائي «الشاب»، «الواعد»، الذي نشر في عامي 1970 و 1978 كتابين الأول بعنوان «العيد المقطوع» والثاني بعنوان «السور المتحرك» (في منشورات مينوي) قبل أن يعلن تخلّيه عن كتابة الرواية لأنه «لم يعد يرى فيها أي رهان». عام 1993، عاد عن قراره هذا وأعلن أن كل ما تبقى له من وقت سيخصصه للكتابة: «ليست القضية قضية كتابة أو صناعة شيء ما. إنها حياة نختارها، لنتركها إن لم نكن مستعدين لدفع الثمن».

عام 1997 وصل مع روايته «دهشة أنطونيا» إلى التصفيات النهائية على لائحة المرشحين لجائزة غونكور. وفي عام 1998 عرفت روايته «سيد الطواويس» المصير عينه، لكنه حاز عنها عدة جوائز أخرى (غونكور الطلاب، وجائزة جان جيوتو). ومع ذلك لم يحدث بعد هذا التزاوج الغامض مع الخط ليجعل منه كاتبا معروفا من قبل الجمهور الواسع، تقبل الأمر وإن أثار هذا حزنا خفيفا لديه. فهو لا يجرؤ أبدا على الاعتراف بعدد الذين اشتروا كتابه «روسي أبيض» (سيرته الذاتية) إنهم «قليلون جدا». على كل نصه هذا، أكثر كتبه جمالا وأسرا، ويعيد فيه إحياء طفولته بخجل ومرح، مثلما يعيد إحياء صورة والده الذي ولد عام 1902 وتوفي عام 1967. كان غادر روسيا عام 1919، لأن لديه «حلما فرنسيا» ولأنه «رجل أنوار» ولأن «الثورة البولشيفية تراءت له انحدارا أخلاقيا». هذا الحوار مع ميلوفانوف، جزء من حوار أطول أجريته مع الكاتب عبر الإيميل، وهو بمثابة مقدمة للترجمة العربية لروايته «روسي أبيض» التي قمت بها والتي تصدر قريبا.

* كتبت ونشرت الروايات، الشعر، المسرح. في روايتك «القربان الوحشي» (منشورات غراسيه 1999) تجعلنا نكتشف مسار رجل يتعرض بشكل ما إلى سلسلة من ضربات القدر، الدهر. رجل انقلبت حياته عبر الصدفة. لماذا هذه النظرة المتشائمة للإنسانية؟

^ لا يعرف المرء بدقة ما الذي يدفعه نحو كتاب ما. بيد انه، في جميع الأحوال، تجيء هذه الكتب من بعيد تتحدث من بعيد، إذ لها جذور عميقة. في حالة «القربان الوحشي»، يعود الأمر إلى إعادة تركيب حياة إنسان جزئيا، حياة لا تشبه أبدا حياة نتوقعها، حياة لا تشبه الحياة التي اعتقد إنها ستكون عليه. وبما أن حياته كانت طويلة يغطي الكتاب تقريبا القرن كله.
ينحو الكتاب قليلا نحو مفهوم «الساغا» (بالمعنى الأيسلندي)، أي انه سردّ يتمحور بشكل عام حول شخصية واحدة. منذ فترة طويلة، وأنا أرغب في إدخال عنصر ملحمي على الرواية من دون الخروج عن إطار القصص العائلية. الملحمي في هذا الأمر هو الذي يتخطى الكائن بشكل أبعد، يتخطى فرادة كل وجود. إن التيمة الأساسية للكتاب موجودة هنا، في هذا الأمر: مواجهة حياة وحيدة ومتفردة وما هو أكبر منها.

الإسرافات

* ما هو الشيء الأكبر من الوجود إذاً؟

^ الحياة نفسها ببساطة. هذه القوة الموجودة فينا والتي لا نفهمها. إنها القوة التي لا نستطيع الإمساك بها والتي تمر عبر النبات والحيوان والتي لم تضع أبدا في الزمن. فكرة العظمة هذه موجودة في مغالاة المناظر الطبيعية، في المصائد، في المصائب، في إسرافات الكتاب، لأنه كتاب الإسرافات، حتى في صفحاته الأخيرة، أي في اللحظة التي يحاول فيها الراوي، في مواجهة أخيرة، أن ينزع سره من الشخصية ليجد نفسه مسحوقا من خلاله.

*هل في الأمر رؤية متشائمة؟

^ ربما. على كل حال رؤية معتمة غالب الأحيان، رؤية مأساوية. وفي الوقت عينه أفترض انه في كل لحظة من لحظات الحياة، حتى ساعة البؤس، ثمة نور قد يسطع. أكانت رواية متشائمة أم لا، ما أعرفه أن الرواية هي قصة شخص نجا. من هذه النقطة ربما تبدو الرواية متناغمة مع العصر، لأن موضوع النجاة يعنينا جميعنا بشكل مباشر. نحن لسنا سوى ورثة كوارث هذا العصر ومكمليه.

* هل نستطيع اعتبار أن ذلك يجد امتداده في سيرتك الذاتية من حيث كونك ابن مهاجر...؟

^ إن موضوع النجاة ليس موضوعا أدبيا أو صحافيا بالنسبة إليّ، إذ إن والدي الذي شعرت دوماً بأنني قريب منه حين كان موجوداً، وحتى حين رحل كان أحد الناجين من الثورة البولشيفية. لقد غادر وطنه روسيا، لحظة الحرب الأهلية. غادر وحيداً. كان مراهقا في السابعة عشرة تاركا وراءه والده، أخاه، أخته. غادر أصدقاءه، وطنه، لغته، وفي ما بعد، ديانته. تخلى عن كل شيء إذاً ولم يعد قط أدراج خطواته. طوال شبابي كله، رأيت فيه الناجي من تاريخ لا أعرف عنه أي شيء تقريباً. تاريخ لم أكن أفعل شيئا سوى النظر إليه، للحظات عبر الأحاديث القصيرة التي كنا نتناوله فيها.
من هنا أحب أن أؤكد أن الكتاب ليس سردا ينتمي إلى السيرة الذاتية، بل انه رواية تتحدث عن السعادة وعن فقدانها، عن الحب والعنف، عن التعلق بأمكنة وكائنات، عن طموحات وعن ابتذالها، عن الكارثة وعن النجاة. إن نقطة الانطلاق فيها، هي هذه العلاقة ما بين الطفل وأبيه بالتبني. وبما انه كان يعتبر بمثابة لغز الجبال، فإن هذا الطفل ذا الأسماء المتعددة (جان نارسيس افراييم ماري بينيتو) كان يحاول جاهدا أن يكون الأفضل ليبرر هذا الحب الذي يُكنّ له ولكي لا يخيب الأمل فيه. ومع ذلك فقد عرف مصيرا غير الذي كان يطمح إليه.

*أليست قصة «هنيبعل» هي الرابط ما بين الطفل و«بيانفينو» (الحدث السعيد)، والده بالتبني؟

^ انك تشير وتلمح إلى هذه النزهة الجبلية التي يروي فيها الطفل لوليّ أمره، مغامرة هنيبعل وهو يجتاز جبال الألب مع قطيع الفيلة. أن هذه القصة تسبب دهشة الراشد، وهذا بالدقة ما كان يبحث عنه الطفل. بيد انه لم يكن يروي قصته. حين يصيبه الشر، يحتفظ بها لنفسه ولا يعود عندها يستطيع أن يتحدث عنها. في هذا الأمر نجد شيئا من حركة الكتاب العامة، المعلنة منذ الأسطر الأولى. نحن لا نستطيع أن نروي بحرية، إلا المآسي التي لحسن الحظ لم تصبنا. هذا المبدأ يبرر وجود راوٍ ينقل الوقائع بدلا من الضحية. وبما انه يرغب في معرفة المزيد، توجب عليه القيام بتحقيق، كان السبب في نشوء مصاعب أخرى. في الصفحات الأخيرة، نشهد على أمر، ظن فيه الراوي انه تعرف على شاطئ البحر، على بطل طفولته. يدفعه إلى الحديث، يتحرش به، بينما يوارب الآخر ويحتفظ بالسر له وحده. ليس في تحفظه هذا أي غرابة. إن غالبية الأشخاص الذين نجوا من مخيمات التعذيب لا يتحدثون عن شيء. والدي مثلا الذي لم يعرف المخيمات السوفياتية، إذ نجح بأعجوبة في الهرب من تقدم البولشيفيك حين استقل آخر باخرة متجهة إلى اسطنبول لا يتحدث طواعية عن تلك الفترة. في رأيي إن رفض العجوز افراييم استدعاء الموت، موت أهله، هو السبب في عظمة هذه الشخصية كما في فكاهة الراوي، المحكوم بالركض وراء سر يتخطاهم.. وربما لاحظت كيف كان يركض على عكازيه.

التسامح

ربما كان القارئ ينتظر منك أن تستعمل كلمة «تسامح» بخصوص «تيولونيا»، أول امرأة محبوبة، التي رحلت باكرا، كما بخصوص ايليانا التي ماتت مع أولادها في الجبل. بيد انك لا تستعمل هذه الكلمة مطلقا، بل انك تضع في مجرى الأحداث سياقا أو سلوكا مسهلا عبر المشهد الجميل العائد لتلك الرقصة المأتمية خلال الحفلة التنكرية حيث نجد أن البطل يتماثل مع «المنجل الكبير» كي ينقح شعوره. لكن ولا في أي لحظة نجد أن جان كان يسامح. هل ترفض فكرة التسامح؟

^ بالتأكيد لا أرفض هذه الفكرة، ولا فكرة العفو. بيد أنني أرفض النسيان. يتراءى افراييم وكأنه لا ينجح في الحزن مما أصابه. وإن لم تحزن، هل نستطيع المسامحة؟ كل ذلك يقودنا إلى جسور معتمة جدا. لكن للرواية هذه جوانب أخرى أكثر فرحا. إذ يتراءى لي أن غالبيتها تقع في نوع من الحبور الروائي. تتحدث عن تيولونيا والشابة ايليانا. ظهورهما يفضي إلى حوادث سعيدة وحتى كوميدية. أفكر مثلا بمشهد الاختطاف من الماخور.

* لو عدنا إلى افراييم، الشخصية الرئيسية في الكتاب، لاعتقدنا أن مصيره كان يتلخص في انه لم يعرف مصيرا، وفي حين كان الجميع يندفعون نحوه، جعلهم يصابون بخيبة الأمل..

^ بالضبط، لأن هناك شرخاً ما قد حدث. اكتشف في لحظة ما أن ما يكسبه عبر التمحيص، يفقده بطريقة أخرى. يتراءى له أن الذكاء يبعده عن الكائنات التي يحبها وعن أحاسيسه الأولى. رفض الدرب الذي أتاحته له مواهبه. كان يستطيع أن يصبح مثقفا أو رجل سلطة أن يضع «حياة لامعة» كما يقال، لكنه لم يرغب في ذلك، لم يطمح سوى إلى أن يتوافق مع اختلاجات الحياة التي يشعر بها في داخله. لحظة الشرخ هذه، مرتبطة في الرواية، بلحظة اكتشاف الجنس، بأولى الرعشات الغرامية وبهذه القوة التي في داخله التي أسمّيها من بعيد «القربان الوحشي».

*إنها غريزة الحفظ؟

^ هذا هو الاسم الذي وجدته كي أشير إلى غريزة الحياة. هذا هو الأمر الذي يجعلنا هنا، على الأرض، والذي يجعلنا نقاوم بالرغم من كل شيء. إنها الحياة التي تمضي فينا والتي لا نرغب في أن ندعها تضيع.

*إن القربان متوحش لأن علينا نحن أن نروّضه؟

^ أن نسيطر عليه أكثر فأكثر، وأن نبتعد عنه من وقت إلى آخر. بالنسبة إليّ، كلمة متوحش تتعارض مع كلمة بربري. البربرية أمر حكر على الكائن البشري. ليس سوى الإنسان من يستطيع أن يكون بربريا، الحيوان لا يستطيع أن يكون ذلك، حتى انه ليس خبيثا: انه متوحش...

السفير
21 يوليو 2010