مصطفى رياض
(مصر)

حلمي سالمحين ذهبت إليه في مقر مجلة “أدب ونقد”، التي يترأس تحريرها، وجدته يجلس إلى مكتب مزدحم عن آخره بالكتب وأعداد قديمة من مجلة “أدب ونقد”، وتساءلت لماذا لا نهتم كمصريين بالثقافة لتتوقف مجلة أدبية كانت تصدر طوال 27 عاماً عن حزب فقير “التجمع الوطني التقدمي الوحدوي”، لكن سرعان ما أتاني الجواب من الشاعر حلمي سالم بأن “النظام القديم كان يضع جداراً ضخماً يحجب أشعة شمس الحرية والثقافة والفنون عن الشعب المصري” . وبرغم بداية انفراج أزمة تمويل المجلة إلا أنه يخشى من أن تقوم التيارات المتشددة مرة أخرى بإقامة جدار يشبه جدار النظام القديم، ولكن دائماً هناك أمل، فالشعب المصري يختلف عن شعوب العالم بقدرته على هضم كل الثقافات الواردة إليه وإعادة إفرازها، بما يتناسب مع حضارته وثقافته وحفاظه على هويته .

حلمي سالم أبرز شعراء جيل السبعينات وله ما يقرب من 19 ديواناً شعرياً، كان آخرها “ارفع رأسك عالياً” عن ثورة 25 يناير، وهو معنا في الحوار التالي:

في ديوانك “ارفع رأسك عالياً” قلت: كنا نخشى من العسكري، لكنهم الليلة حراس الحلم، بعد كل ما حدث خلال الأيام الماضية كيف تراهم؟

كتبت قصيدة العسكر والقصائد الأخرى مبكراً مع بداية ثورة 25 يناير، وخاصة بعد موقف الجيش الرائع والمشرف في حماية الثورة وتأمين المتظاهرين، وتحية اللواء الفنجري للشهداء، وكل المصريين في ذلك الوقت كانوا ممتنين لهذا، حين قدم الجيش المصري نموذجاً فردياً في الحياة السياسية عندما أتته السلطة وتخلى عنها بكامل رضاه، ولكن الظروف طوال الأشهر السابقة تغيرت ومع الوقت اتضح أن العسكر يريدون إصلاحاً لا ثورة، وترميماً لا تغييراً جذرياً، ومن هنا نشأت فجوة بين المنهج الإصلاحي والمنهج الثوري، وكل يوم كانت تتسع هذه الفجوة، وخاصة عندما بدأ المجلس العسكري لا يستجيب لبعض مطالب الثورة، أو يستجيب لها بشكل إصلاحي ومن دون هدم للمؤسسات السابقة، ومن دون الرجوع للشرعية الثورية، إلى أن وقع الصدام وحين حدث هذا اتضح للثوار أن المنهج الإصلاحي لدى المجلس العسكري أصبح إبقاء النظام القديم مع عمل بعض الرتوش للأشياء الفاضحة والواضحة للملأ، ولذلك الآن أقول إن بيت الشعر الذي ذكرته ليس صحيحاً ولا ينطبق على الواقع، وهذا كان أملنا الذي اتضح أنهم يريدون سرقته لا حمايته، فهم ليسوا حراساً للحلم بل سراق له .

خصصت في الديوان قصيدة عن الميدان فهل تغير كثيراً عما كان وقت كتابة هذه القصيدة؟

الذي تغير في الأشهر الماضية ليس المجلس العسكري وحسب، ولكن كتلة الثوار أيضاً، التي انقسمت إلى كتل متناحرة، ففي أيام الثورة الأولى حين كان الهدف إزاحة النظام القديم اتفقت كل قوى الثورة يمينها ويسارها، وبعد إزاحته فوجئوا بسؤال يطرح نفسه ماذا نفعل بالحرية؟ وهنا حدث الانقسام ونشأت الاستراتيجيات المختلفة، فأصبح لليسار خطة ولليبراليين خطة والإسلاميين خطة، ولم يحدث اتفاق بسبب أن التيارات الإسلامية أخذتها العزة بالإثم وأرادت أن تستأثر وتستعرض ولذلك انشق الصف، لأن التيارات الإسلامية في مصر ليست شقاً قليلاً بل كبيراً، وكلها حسابات براجماتية ونفعية وطارئة وتتغير بين يوم وآخر، ومع استمرار الانقسام والتشرذم وتبادل الاتهامات، وعدم اكتفاء التيارات الإسلامية بالانسلاخ أو الاستئثار فقط، بل كفرت وخونت ونزعت الإيمان عن الناس فازداد الانقسام، ونتيجة لكل هذا بدأ الشارع يبتعد عن الميدان والثورة، وعندما أدرك الثوار الحقيقيون لكل ما حدث عادوا مرة أخرى للميدان حتى يعلنوا استنكارهم لكل ما يفعله المجلس العسكري والتيارات الإسلامية، وفي محاولة منهم لإنقاذ الثورة، ولكنهم تأخروا كثيراً .

ما ردك على ما قاله البعض بأن الديوان لم يستطع الخروج بالنص من ورطته الغنائية إلى جماليات القصيدة الحديثة التي طالما كتبت عنها؟

وأنا أرى ذلك أيضا بأن الديوان لم يخرج من ورطته الغنائية، ولكنى لا أراه عيباً، بل تعمدته لأنه لدى نظرية عن الشعر وهي الضريبة العاجلة والآجلة، فالضريبة العاجلة التي يدفعها الشعر فوراً، ففي أي حادث ضخم على الشاعر أن يخرج صارخاً ومعبراً عنه، والشعر بهذا يكون مشاركاً في فورة الحدث نفسه، لذلك يستغنى عن بعض جمالياته بمحض اختياره من أجل المشاركة الفعالة، فالشعر الذي كتبه الشعراء أثناء الثورة هو صرخة، والشعر الأجود والحداثي يأتي بعد انتهاء الحدث، كما لا أظن أن مثل هذا الشعر يخلو تماماً من الجماليات الشعرية، وهو لا يغرق فيها على حساب الحدث الثوري، فالشعر في الحالة الثورية يجب أن يكون غنائيا لأنه يوجه إلى حشد جماعي .

هل يعني هذا أنك ترى أن الشعر هو أقدر الأشكال الأدبية على التعبير عن الثورة؟

ليس الشعر فقط بل والغناء أيضاً، لأنه ليس رواية تحتاج إلى وقت طويل من التأمل والكتابة، ولكن الشعر والأغنية يستجيبان بسرعة للحدث ومن ثم التعبير عنه .

ما رأيك في مقولة أن “الأدب المعبر عن الثورة وأحداثها لم يكتب بعد”؟

الأدب الحقيقي المعبر عن الثورة كتب منذ زمن بعيد، لأن الشعر الثوري يمكن أن يسبق الثورة أو يواكبها أو يلحق بها، بدليل أن الثورات العربية تغنت بشعر أبي القاسم الشابي وكانت معظم شعاراتها ترفع أبيات شعره التي يقول فيها “إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر”، والثورات العربية تذكرني بشعر أحمد شوقي، والجواهري أيضاً عندما قال (أتعلم أم أنت لا تعلم، بأن جراح الضحايا فم . .) وكأنها كتبها عن ضحايا شارع محمد محمود، وأمل دنقل حين قال (قلت لكم مراراً، إن الطوابير التي تمر في استعراض عيد الفطر والجلاء فتهتف النساء في النوافذ انبهاراً، لا تصنع انتصاراً)، فالشعر الثوري كتب قبل الثورة سواء كان عمودياً أو حراً، ويكتب أثناء الثورة أيضاً، ولكن في الأغلب الشعر الذي يكتب أثناء الثورة لا يكون عميقاً جداً كالشعر الذي يكتب قبلها أو بعدها .

كيف ترى المشهد الثقافي الآن؟

حتى الآن لم يتغير شيء سواء في المشهد الثقافي أو في غيره، لأن الثورة لم تنته بعد ومازالت في بدايتها، ونحن في لحظة التقلب وما يصاحبه من لخبطة وارتباك واختلاط أوراق، وكل ما يحدث من تغيير في الوزارات هو خارج الموضوع، وإن لم ننتهج الشرعية الثورية في كل شيء لن يحدث هناك تغيير حقيقي في أي مشهد من مشاهد الحياة في مصر، وربما أتى أشخاص جيدون في بعض الوزارات كعماد أبو غازي، جودة عبد الخالق، ومنير فخري عبدالنور، ولكن ليس هذا هو التغيير الذي نأمله، أما المؤسسات الثقافية فلم يحدث منها تغيير يذكر، وأعتقد أن دور المثقفين والمفكرين دائم، فطه حسين ورفاعة الطهطاوي ونصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ ومحمد عبده ومحمود أمين العالم ولويس عوض، كلهم شاركوا في ثورة 25 يناير، بكتاباتهم وأفكارهم وإبداعهم الذي سبق الثورة بكثير .

ما رأيك في المعركة الدائرة الآن على الساحة بين قصيدتي النثر والتفعيلة؟

هذه المعركة انتهت قبل الثورة منذ أعوام، وما تبقى منها قضت عليه الثورة، لأن الزمن رجح قصيدة النثر، فالتطور أثبت أن الشعر ليس له شكل واحد .

رغم هذا بعض الشعراء ومنهم حسن طلب يرى أن قصيدة النثر ماتت جماهيرياً والأجدى بمن يكتبونها العودة إلى التفعيلة؟

هذا رأي حسن طلب، ولكن عندما نتحدث عن التحول الثقافي برمته، والذي أثبت أن الشعر ليس شكلاً ثابتاً، ومن ثم أخذت قصيدة النثر شرعيتها التاريخية منذ سنوات عدة، وفكرة الإيمان بالتطور حسمت لصالح قصيدة النثر، وأيضا تعدد الأشكال وتجاورها وهو ما لم يكن موجوداً سابقاً، والثورة أكدت ذلك، لأن هناك قصائد نثر جيدة كتبت أثناء الثورة، مما يعكس أن قصيدة النثر ليست بالضرورة ضد الأفكار الثورية أو القضايا الاجتماعية والسياسية، كما كان يروج لها منتقدوها من قبل .

هل يمكن أن يكون لقصيدة النثر شروط شعرية معينة؟

لا يمكن أن يحدث هذا، لأن قصيدة النثر هي ثورة على القالب، وإذا صارت قالبا ماتت وناقضت نفسها، لأنها ثورة على الأشكال الشعرية القديمة، فإذا تجمدت في إطار فقدت شرعية وجودها الفلسفي، فبرهانها الأساسي ليست له مسطرة ثابتة، وشعراء قصيدة النثر الجيدون يهربون من التجمد في إطار محدد .

في بعض الأقطار العربية التي حدثت بها ثورات وصل الإسلاميون إلى الحكم، فكيف ترى انعكاس هذا على حرية الإبداع والمبدعين؟

الظاهر أنهم سيغلقون الدنيا، وسيخلطون المنظور الجمالي بالديني، مثلما يفعلون طوال الوقت فيدينون القصيدة بالمعيار الديني وليس الأدبي أو الجمالي، ومن ثم يضيقون الخناق على المبدعين والفكر، وبدءوا يفعلون هذا بالفعل في تصريحاتهم وتغطيتهم للتماثيل وتكفير نجيب محفوظ، وسنكون أمام موجة أكثر إظلاماً من السابق، وهي كارثة بكل المعايير، ورغم ذلك أتمنى أن تشذب السياسة وموجباتها وشروط العمل العام ومقتضيات الشارع العام من رؤى التيارات الإسلامية في كل شيء، وخاصة موقفهم من الأدب والفن، كما عليهم أن يدركوا أن مرحلة الحرية تختلف عن مرحلة الظلام التي كانوا يتحركون فيها، أثناء وجود النظام السابق، الذي جعل أفكارهم متشددة، وعليهم أن يؤمنوا بأن الحقيقة المطلقة ليست معهم لوحدهم، والآخر المختلف معهم ليس كافراً بالضرورة، وإنما هو فقط مختلف، وأن يؤمنوا بمقارعة الحجة بالحجة وليس بالقتل أو التكفير، لا سيما مع الشعب المصري الذي وإن بدا متديناً، ولكنه في حقيقة أمره شعب حي وحيوي ولن يقبل بعد سبعة آلاف سنة من الحضارة والثقافة والتنوع والفنون أن يتحول إلى أفغانستان أخرى، لأن المعروف عن مصر تاريخيا أنها تعمل على هضم الثقافات الواردة إليها وإعادة إفرازها مرة أخرى بما يتناسب معها .

لماذا نشهد تراجعاً للمشهد الشعري الآن؟

ليس هناك تراجع للشعر بل إنني أرى أنه مزدهر بعكس ما يقول بعض النقاد، وأما من يقولون بأن الشعر لم يعد ديوان العرب ويعتقدون أن هذه سبة للشعر أقول لهم أنه بالفعل لم يعد كذلك وبهذا تقدم وتطور، فقديما الشعر كان يحتوي بداخله كل شيء بداية من نسب القبيلة والتاريخ، والجغرافيا وغيرها، لأنه لم يوجد تأريخ في ذلك الوقت فكان ديوان العرب بهذا المعنى، ولما صار للعرب مؤسسات تهتم بكل شؤون الحياة تبقى للشعر شعريته، وهذا تقدم وليس تأخراً .

الجيل الجديد من شباب الشعراء كقطامش والجخ وغيرهما، هل هم أشكال شعرية جديدة أم حالة تعبيرية فقط؟

القيمة الأساسية لهؤلاء الشعراء أنهم تعبير عن حالة السخونة الثورية والحرية، والفورة التي أحدثتها ثورة 25 يناير، ولكن فنيا يحتاجون لوقت، لأنه شعر على صفيح ساخن، وليس وقت تقييمه فنيا الآن لأننا بهذا سنظلمه، ولكننا يمكن أن ننظر إليه على أساس أنه حالة تعبيرية فقط عن حالة ثائرة تتخلق وفي المستقبل سينضج بعض أطرافها بينما تحترق باقي الأطراف، فالثورة تجعل الفن حقاً لكل مواطن ولكن في الوقت نفسه الفن يوجد به تمييز بين الفنان الحقيقي والموهوب أو غير الموهوب، حيث التمييز جمالي .

الخليج
14/01/2012