من الداخل والخارج!

حاورته
سميرة عوض

أحمد الملا

'نبتغي حرية، لا تعيش الحداثة دونها، حتى لو كان مصيرنا اليتم'!
هكذا بكل صراحة ووضوح يعلن الشاعر السعودي أحمد الملا توقه للخلاص مما يكبل الحالة الإبداعية العربية، في بحثه الدؤوب عن 'أقصى درجات الحرية الممكنة في الكتابة'.

للشاعر أحمد الملا ثلاث مجموعات شعرية، ومجموعة شعرية مشتركة مع الفنانة الفوتوغرافية ريم البيات تحت عنوان 'كتبتنا البنات' ستصدر قريبا، سبقها توقفه لعامين عن الكتابة، حين شعر أنه 'سائر في طريق يتكرر'، فقاوم الكتابة لسنتين 'رغبة في استكشاف منعطفات تنفتح على فضاءات تتسع لأرواح عديدة أحملها وتتجاذبني'.
القدس العربي' حاورته في عمان إبان مشاركته في مهرجان الأردن الأول.. فكانت إجاباته التي تطرح أسئلتها المشروعة.

قاومت الكتابة لسنتين

ماذا بعد مجموعاتك الشعرية الثلاث 'ظل يتقصف'، 'خفيف ومائل كنسيان'، و'سهم يهمس باسمي'؟

صدرت المجموعة الثالثة 'سهم يهمس باسمي' بداية العام 2005 م وتنبهت أني سائر في طريق يتكرر، خلف ما سبق، وأنني على حافة أن أبني منازل مشابهة سكنتها من قبل، حينها قاومت الكتابة لسنتين رغبة في استكشاف منعطفات تنفتح على فضاءات تتسع لأرواح عديدة أحملها وتتجاذبني.
في منتصف العام 2006م أخذتني كتابة النص السردي (الكتلة) في مسار هو الأقرب لتأمل اللحظة المضطربة والمتداخلة مع أحوال من طبقات بعضها فوق بعض، فقفزت دفعة واحدة في مجرى السرد، لم يكن قلقي قبل ذلك سوى مواجهة الكائن بمعزله، في مواجهة الحياة والعالم، أما لحظتها فكنت متعددا ومنفتحا على تفاصيل وزوايا تتأمل بخفة وتتعاطى بقسوة شديدة وموحشة مع اكتشافات المعقد في الحياة وغموضها الذاهب نحو عماء الموت. وهكذا لدي مجموعة شعرية مشتركة مع الفنانة الفوتوغرافية ريم البيات تحت عنوان 'كتبتنا البنات' ستصدر قريبا.

حملات وحشية.. ولكن..

تعتبر من أميز شعراء قصيدة النثر، في النخبة الحداثية السعودية والعربية. هل تشعر باطمئنان إلى قصيدة النثر بوصفها نصاً مفتوحاً على الروح؟

لست ممن تستهويهم التفضيلات، عبرت مسألة الحداثة في السعودية بتحديات قاسية من داخلها والأسوأ وحشية أتتها من خارجها، فقد شنت عليها حملات نفي وتنكيل منذ مطلع الثمانينيات وحتى الآن، من قبل التيارات المحافظة والمتشددة، بذريعة أن التجديد الشعري عدو هدام للمجتمع والثقافة والتراث، ولم يستطع التيار المتشدد التأثير على مسيرة التجديد لولا رعاية المؤسسة الرسمية وتأييدها للعنف الذي وجهته آلة التخلف ضد الإبداع والمبدعين في مختلف صنوف الثقافة والفن، ومن المفارقة العجيبة أن مجتمعنا والعالم تعرض لأشد هجمات العنف والإرهاب من المتشددين أنفسهم وليس من كتاب قصيدة النثر. هل لك أن تجدي اسما واحدا من بين ارهابيي العالم أو من هم من بلدي سبق أن كتب قصيدة نثر مثلا!؟
قصيدة النثر في السعودية، تتحرك في مساحات شعرية شديدة التنوع والغنى، بل ان معوقات الحالة الاجتماعية والتشظي المكاني خلق تعويضا لافتا لتمايز التجارب على الرغم من انطلاقها من محيط واحد، حين ينظر له من بعيد.
الحالة الاجتماعية غير المنصهرة في تلاق مشترك، وسعة المكان الهائل، صنعتا من المبدعين جزرا معزولة، مما أنتج تجارب لا تشابه بينها بالمعنى الجميل على قسوة الحال ووحشته.
أما الاطمئنان الى قصيدة النثر فهي خيار فردي يرتبط عميقا بانتباهي للحظة الشعرية في تماسها مع الآن والمكان، في بحث عن أقصى درجات الحرية الممكنة في الكتابة.

الحداثة في السعودية تحتاج إلى 'أم'

قلت ذات حوار 'الحداثة في السعودية ليست بحاجة إلى آباء' كيف ترى إلى المنجز السعودي في هذا الإطار؟

اقتطعت هذه الجملة من سياقها لتكون عنوانا صحافيا، لكن فيها من الصحة جواز أن تستقل بذاتها، فالحداثة في السعودية تحتاج إلى 'أم' -هي الحرية- أكثر من حاجتها لآباء يخشون الاعتراف بتلك الأبوة، نبتغي حرية لا تعيش الحداثة دونها حتى لو كان مصيرنا اليتم.
في السعودية تحركات واجتهادات موارة على مستويات عديدة، وفي الإبداع الثقافي اشتغال جاد في مختلف الفنون، لكنها مرتبطة بقدرات فردية، في حين أننا في عصر للمؤسسات الدور الرئيسي في ترجمة الإبداع الى وعي جمعي ومتراكم، وهو ما ينقص المشهد الثقافي في السعودية. سترين انتشار المؤسسات الدينية وبنيتها التحتية في كل مكان بحيث تشتغل لتأصيل رؤية ماضوية وتعيد انتاجها، في حين لن تجدي متحفا أو مسرحا أو صالة سينما ...الخ. كيف يتطور وجدان مجتمع نحو المستقبل دون ذلك؟!
هل يكون لمجتمعنا مستقبل مع الحداثة بهكذا منظومة قيم؟ أم حالات إبداعية فردية ونافرة أو ربما معزولة في محيط ينفيها كل لحظة؟!

تهريب 'كتب' عبر الحدود

على من تتلمذت في مدرسة الشعر الحديث؟ وهل من أسماء لمبدعين أثروا مسيرتك الإبداعية، وأثروا بها؟

لم تتح لي فرصة التتلمذ على أحد، تناقلت وأصدقائي مخطوطات شعرية كنا نستنسخها بعد تهريبها عبر الحدود، حين كانت الكتب محظورة في الثمانينيات، قرأنا أغلب الفكر والأدب العربي الحديث والترجمات، والمجلات الأدبية، وبطيبعة الحال انتبهنا لاقتراحات شعرية كانت تدل على مشارف جديدة، هناك وعلى ذلك المطل تأملنا المشهد بوجدان تعصف به مشاعر مختلفة، وهناك أيضا قطعنا معهم ودخل كل منا كما شاء.

عليه بالشعر وحده...

اشتغلت في النشاط الثقافي كإعلامي وإداري، إلى أي حد يمكن للشاعر أن يسهم في إحداث تغيير إيجابي في نوعية الأنشطة؟ ومن جهة أخرى إلى أي حد تستنزف هذه الاشتغالات روح القصيدة؟

من تجربة شخصية أستطيع القول باطمئنان أن الشاعر والفنان بشكل عام من أسوأ الإداريين أو المنظمين للشأن الثقافي، إلا حين يكون مبدعا في فن الإدارة إلى جانب ابداعه الشخصي. الفنان بالضرورة غير موضوعي وربما يقترب من الأنانية وصاحب مزاج شخصي، وذلك كله مفارق لحسن الإدارة.
تجربتي في الإدارة تشكلت مبكرة في الجامعة في أواخر السبعينيات وما بعدها، ومن ثم في جمعيات الثقافة والفنون والصحافة الثقافية ومن ثم النادي الأدبي، وهو ما رباني اداريا وخلالها استطعت بجهد وصعوبة أن أكون سويا وأكسب من الخبرة ما يعينني على تنظيم عملي. لذا ليست من مهمة الشاعر أن يسهم بإدارة الأنشطة، عليه بالشعر وحده وذلك أكثر من مهمة، فيمكن للإدارة الثقافية أن يتولاها عنه كثيرون لأ أظن أن أحدهم تتاح له تأدية دوره. أما تأثير هذه الاشتغالات الإدارية علي فذلك محض اضطرار لتحقيق كفاية العيش بكرامة.

هكذا تم إيقاف مهرجان جدة

أدرت مسابقة الأفلام السعودية في دورتها الأولى، وهو ما عده المراقبون نقلة نوعية في عمل الأندية الأدبية واحتضانها للمواهب والتجارب السينمائية.. ماذا عن هذه التجربة واستمراريتها، وقد نشرت الصحف مؤخرا نبأ منع دورة أفلام سينمائية في جدة؟

منذ بداية تشكيل مجلس إدارة نادي المنطقة الشرقية الأدبي ومقره الدمام، وهم من نخبة مثقفي المنطقة المجددين، اتفقنا على عرض أفلام سينمائية مساء كل يوم أحد، وبعد الإقبال الباهر من الحضور بسنتين اتفقنا مع جمعية الثقافة والفنون على تنظيم مسابقة أفلام السعودية وكانت دورتها الأولى في شهر ايار/مايو 2008م ولمدة خمسة أيام، ولاقت نجاحا كبيرا في جمع أكثر من 40 مخرجا سعوديا شابا وطباعة كتابين وإصدار نشرة صحافية يومية واعداد ورشة ومسابقة للسيناريو الى جانب الندوات والمحاضرات.
بعد نجاحها لم يطب لرافضي الفن والجمال أن تستمر مثل هذه المحاولات، فمارسوا ضغوطهم التي لا تتورع في قلب الوقائع وتشويهها، معتمدة على نظرة قاصرة تجاه الفن من جهة وتقزيما لعقول الناس أو الوصاية عليها من جهة أخرى.
هكذا تم إيقاف مهرجان جدة قبل بدايته بيوم واحد وهو المهرجان الذي استمر لثلاث دورات سابقة، في حين يتمكن الفكر المتشدد من عقد مهرجاناته ومعسكراته المؤدلجة للصبيان في مختلف المدن.
بالتأكيد سنرى دعاة القبح يستمرون في دعواهم ولننتظر المزيد من العنف والترهيب.

حيلة مبتكرة على العزلة!

كيف ترى إلى المشهد الثقافي السعودي الآن، في ظل عصر التكنولوجيا والانترنت؟

حيلة مبتكرة على العزلة، ومحو افتراضي للحدود يحقق هدم العلاقات بالحياة ويعيد بناءها. اقتراب أكثر من حرية الاختيار ووسيلة للتعبير، وعلى التكنولوجيا والانترنت فهو مصدر واسع للمعرفة والاتصال.
حقق مكسبا لافتا في وسطنا السعودي الذي يعاني من العزلة وصعوبة التلاقي في الحياة العامة، وأتاح بدائل ضرورية خففت من حالات الاختناق.
ومنه نرى في المشهد الثقافي تمثيلا جادا أنتج أسماء ومواقع متعددة للإبداع، لدرجة أن هناك من يطلق على جيل التسعينيات أنه جيل الانترنت.
في رأيي أن الانترنت وسيلة تواصل حديثة، تمنح الفرد حقه في الاختيار ولا تكون قيمة في ذاتها بل تكتسب القيمة من طرائق الاستخدام.
قرأت مرة (الملا يعزو طلاقه من جامعة الملك فيصل إلى عزله عن العمل مع الطلاب إثر توزيعه 'كتب محمود درويش، وروايات غابرييل ماركيز على طلاب الجامعة، كان التيار الديني مسيطراً على الحياة الاجتماعية) إلى أي حد لا يزال الوضع على ما هو عليه؟
ولا يزال التيار المتشدد يسيطر على مؤسساتنا التعليمية، بما في ذلك التعليم الجامعي، فما تأسس بقرارات رسمية طوال ما يقارب ربع قرن لا تزيله رغبات خجولة بل قرارات توازيها في التأثير والاستمرار في تنفيذها، وهو ما لا نراه حتى الآن.
لا تزال سلطة المؤسسة الدينية هي المؤثر الأساس في تسيير الحياة، وذلك يتم تحت مظلة المؤسسة السياسية، طالما كانت الأولى لا تتصادم مع الثانية. أما حياة الناس ومستقبلهم فليس لها من صريخ.

الشعر رمية نرد طائشة...

هل الشعر حياة موازية؟ أم هو الحياة ذاتها؟ كيف ترى إلى دور الشعر في هذا العالم؟

ما إن يتنبه الشاعر، حتى يعي أن الحياة دون الشعر هي سواه. دونما ادعاء بدور ذي أهمية، هو مجرد رمية نرد طائشة من يد مقامر سيئ الطالع، له تلك القفزة وعليه أن يكتفي إن استطاع بجزء منها.

إلى أي جيل شعري تنتمي؟ وأنت شاعر التفاصيل؟

انتمائي الآن هو لمحاولة صغيرة في استعادة شعرية عربية لا تتماهى مع مترجمات اللغات الأخرى، إذ بين الترجمة وما أحاول كتابته حيز زلق علي عدم السقوط فيه.

وماذا يقرأ الشاعر أحمد الملا؟

أقرأ كل ما تقع عينه علي سواء في السينما أو المسرح والموسيقى والتشكيل، أقرأ الأماكن وأسافر لها، أقترب من الحالة البصرية كلغة مجردة ومجازية وألعب معها وبها. أقرأ في الشعر إصداراته لأسماء جديدة مستمتعا ومستغربا حال الشعر في عالمنا العربي، أقرأ الناس بروية ودهشة، ومكامن الجمال أينما يهب.

القدس العربي- 19/08/2009