يري أن العبث يأتي من وعي عقلاني بالواقع

بول شاوول

حوار :محمد شعير
أنا لست سورياليا ، وأن كنت أستخدم كثيرا المناخات السوريالية لكتابة نص غير سوريالي . أما بالنسبة للعبث ، فهناك فرق أن تكون عبثيتك طالعه من الكتب أي المثاقفة وبين أن تكون قد عشت مرحلة عبثية من الجنون والقتل والدمار . بالنسبة للأولي فقد عرفنا في الستينيات مسرحا ورواية وسينما وشعرا عبثيا وكان ذلك مرتبطا إلي حد ما بالمدارس والاتجاهات التي ظهرت في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي في الغرب مع ألبير كامي وسارتر .... الخ . أذن كانت عبثية الستينيات عندنا غربية طالعة من الكتب ، وأنا لست ضد ذلك ، فقد قدمت في تلك الفترة أعمالا مسرحية رائعة متأثرة بتلك السلالة من العبثين مثل بيكيت ويونسكو وكامي وسارتر .

أما بالنسبة لي أنا فقد عشت الحرب في لبنان ، تقريبا كل الحرب ورأيت كل المأسي والمجازر والقتل المجاني. وكلها كانت تصب أحيانا في مشاهد ومضامين عبثية . ولذلك كتاباتي التي كتبتها أثناء الحرب والتي أكتبها الآن كلها طالعة من الحرب بعبثيتها وجنونها وخيباتها. عبثية طالعة من جسدي : من العينين والاذنين والفم .... ، عشنا سنوات كان الموت والخوف ملازمين لنا ، إذا كنت ماشيا في الطريق فهما أثنان وانت الثالث ، وإذا كان معك صديق فهو الثالث وأنت الرابع معهما . عشنا في الرعب والخوف عبثية طالعة من الجسد ومن المعيش . عبثيتنا تختلف كثيرا عن عبثية بيكت ويونسكو فعبثيتهم عبثية فلسفية عقلانية نظرية .بينما عبثيتنا يمكن ان تسميها عبثية الحروب ، انا معني بالحروب . والحروب في لبنان لم تكن علي الحدود بل في البيت والشارع ، خلفك وأمامك ... احيانا عندما كنت أغادر البيت كنت أشيعه ويشيعني باعتبار أني لن أعود ، أوإما سأعود ولن اجده . وعندما كنت أمشي في الشارع لا أدري أن كنت سأصل إلي المقهي أم أنني سأصل ولا أجده . أنت تعرف أنه في الحرب دمرأكثر من ثلث لبنان وقتل أكثر من 100 ألف من مواطنيه . كل هذه الظروف عبأتني وعبأت كل حواسي ، وأنا حتي الآن لا أعرف أن كان ما أكتبه هو نوع من العبث ، فالكتابة تدفقت عبثية بدون أن أقصد : عبثية القهر والالم والخضوع والتناقضات والخراب!

* كانت إبداعات العبث في النصف الثاني من القرن العشرين صرخة ألم تعني أن الكائن البشري يئن ويتوجع، الأ تعتقد ان الألم كتعبير فطري لا إرادي لابد له من فعل عقلاني للتعرف علي مصدره وعلاجه ؟

صرخة يأس أيضا .... وانا بعد الحرب لم أعد أؤمن بشئ بعد كل ما رأيت وشاهدت . لم أعد أومن بأحزاب ولأ بطوائف ولا بنقابات ولا بدول ولا بسلطات ولا بأي مؤسسة . كلها تؤاطئت في الحرب . حتي الإنسان لم أعد أومن به عندما رأيت هذا الإنسان * أو المفترض أن يكون * يقتل طفلا عمره سنتين أو يبقر بطن إمراة أو يقوم بمجزرة يقتل فيها مئات من الأشخاص ... فقدت كل الثقة بهذا الإنسان . ولذلك لم أكن بحاجة لأن أقرأ بيكت لأصل إلي ما وصلت إليه ، لأن بيكت شخص مترف ،عبثيته مترفة. أما نحن فعبثيتنا مجبولة بالدم والخراب واليأس ، عبثية الحواس وليست عبثية الفلسفة . ونفس الأمر ينطبق علي سريالية بروتون ، هي سريالية مترفة ، سريالية منهج وبيانات . عندما وضع لها بروتون قوانين أفسدها ، لأن أهمية السريالية تكمن في أنها خارج كل القوانين. بالطبع ينبغي أن أقول أن السريالية هي استنساخ للدادائية ، وقد قام بروتون بإنقلاب عليها لأن تريستان تزارا لم يكن فرنسيا . كما أن السلم يمكن أن يولد مجتمعا عبثيا ، عندما تكون في مجتمع يعيش سلما مبهما قائما علي الفقر واليأس والدكتاتورية والقمع ... هذا قد يولد أيضا عبثا ، لأن مسألة العبث هي مسألة فردية ، ربما استخرج غيري من الشعراء من الحرب أملا. فتلقي الحرب هو تلقي فردي.

وانا ضد التلقي الجماعي الذي هو نوع من الارهاب. ففي الحروب يصبح الناس كلهم متشابهين بلون واحد، افعالهم الحياتية متشا بهه. كل مجتمع حرب هومجتمع تولتاري. تتحول الأطراف المتحاربة الي توتالياريات صغيرة، عندنا في لبنان تحولت إلي طائفيات مغلقة. وأنت إذا خرجت علي القطيع الطائفي وخرجت علي سلطة طائفتك فأنت خائن. كل حرب تلغي الفردية، وتصبح قراءة التاريخ قراءة جماعية... يصبح الغياب هو القراءة الأولي والأخيرة للواقع... لأنه في الحروب تموت العقول وتنهض الغرائز الشريرة. تماما كما تطلع الحشرات في أيام الجفاف من تحت الرمال والشقوق والحجارة. بهذا المعني أنا عشت الحرب وحدي، خرجت علي عائلتي وطائفتي وعلي الطوائف الأخري وعلي الأحزاب لأنني اكتشفت أنها تؤاطئت كلها ضد الناس وضد البلد.

* أنت إذن لا منتمي ؟

أنا لا منتمي إلي هؤلاء ، لا منتمي إلي الطوائف وإلي النظام العائلي وإلي الأفكار السائدة ، لست منتميا إلي النظام اللبناني القائم علي الطائفية . وانما منتم إلي الإنسان في العالم ... منتم إلي جوهر الإنسان ، لا إلي الجواهر الميتافيزيقية الثابتة ولا إلي الثوابت النهائية المنجزة ولا إلي البني القبلية . طبعا لأنني في النهاية أخترت موقعي خارج هذه البني الجاهزة وخارج اطر الطائفية المغلقة والحاسمة . أنا علي هامش هذه الأمور ولكن في قلب مشكلة الإنسان ، لأن هؤلاء ضد الإنسان . كل فكرة جاهزة ، كل ميتافيزيقيا جاهزة هي نوع من اليوتوبيا القاتلة ، نوع من الهوية القاتلة الإنسان . كل هوية جاهزة أنا ضدها . وانا شخص بلا هوية بالمعني السائد لأني لا اعرف هويتي من أنا ؟ أأنا مسلم أم مسيحي... لأني أعيش في بلد يختلط فيه المسلمون بالمسيحين . ولا أعرف أن كنت قوميا عربيا أم ماركسيا أو عائليا ؟ أنا كل هؤلاء . فكل فرد هو مجموعة هويات يختار احداها بحرية ، بل لا يعرف أحيانا ما هي . في مرحلة من المراحل أعتبر المسيحي والمسلم أن الهوية الوطنية فوق الطائفية ، وفي فترة ثانية أعتبرالبعض أن الهوية فوق الوطن .. وهكذا. أذن هناك دائما صراع هويات داخل الجماعات والأفراد . الحرب في لبنان حسمت مسأله الهوية لصالح الطائفة وكان الخراب العظيم !

* ما يأتي من بيروت يثير تخوفاتنا ، فهذه المدينة التي كانت محمية فكرية وثقافية لكل العالم العربي لم تعد كما كانت قبل الحرب ؟ !

أختلفت بعد الحرب ولكن مازلنا نناضل ، نحن حفنة من المثقفين المستقلين والهامشيين الذين لم يتورطوا في الحرب ولا في الطائفية وآمنوا دائما بالحرية .مازلنا ندافع عما تبقي من هوامش حرية . وهذه الهوامش أوسع من كل الهوامش العربية ولا أدري إذا كانت ستبقي أم لا ؟ لأن هناك ملامح حكم عسكري يهددنا باستمرار في لبنان ويعيد إلينا خراب التجارب العسكرية العربية التي أوصلتنا إلي كل هذه الهزائم .هناك خوف كبير وسنناضل بكل قوتنا أيضا لكي لا يعود إلي السلطة . اما ما قبل الحرب فقد كانت بيروت واحة للحرية والديمقراطية والتعددية ، كنا نمشي في مظاهرة من 100 ألفا وننتقد رئيس الحكومة وكل المسئولين بالصوت العالي ، وقد ضربت من الشرطة عشرت المرات وجرحت ودخلت السجن . ولأن بيروت كانت واحة للديمقراطية فقد تآمرلضربها بعض العرب وإسرائيل .

*حرية لبنان كانت سببا في خرابها ؟

نعم ، فجزء من أسباب الحرب في لبنان هو ديمقراطيتها ، فقد كان لبنان يعيش بين وسطين : ديني (أسرائيل) أو عسكري ، بين عسكرة الدين وعسكرة النظام ، كان أشبه بوردة بين دبابتين . طبعا هزمت الوردة . ,انت تعرف أن لبنان لم يكن لديها جيش ولم نكن نشعر أن هناك رجال أمن اصلا حتي جاءت الحرب وقلبت كل الموازين . أحد اسباب هذه الحرب هو الانقلاب علي المنحني الديمقراطي الذي بدأ يتنامي في لبنان : كانت النقابات قوية والأحزاب وكان هناك صراع فكري بين اليمين واليسار ، اليوم صار بين الطوائف بعضها البعض . والنظام نفسه ضرب الطوائف والنقابات ووزعهاعلي الطوائف وضعفت الأحزاب . و لهذا السبب هم يمررون كل شئ . أنا من الذين شهدوا بيروت في اوجها وشاهدوها وهي تسقط تحت ضربات الحرب . بيروت تعيش الآن زمنا عربيا ، فيه كل أوبئة الأنظمة العربية تضاف إليها أوبئة لبنان الطائفية . نعيش وضعا صعبا ، لكن علينا أن نناضل من أجل ما تبقي من هامش اجتماعي وديمقراطي . وأقول أجتماعي لأن المجتمع الأهلي ليس في لبنان فقط ولكن في كل البلاد العربية صار هو العنصر الرقابي الأقوي من الدولة . فقد كنا في السبعينيات نقول لا لقمع السلطة ( كانت سلطة واحدة ) ، الآن صار فضلا عن قمع السلطة الرسمية هناك قمع الأديان وقمع الطوائف وقمع المجموعات الأهلية التي تربت علي الانغلاق في هذه السنوات وهناك أيضا سلطة اصحاب الفتوي الذين يفتون علي الهواء، وهؤلاء هم الذين هزمناهم عندما كفروا مارسيل خليفة عندما غني )أنا يوسف يا أبي) ، وفي مشكلة الزواج المدني هزمناهم أعلاميا وشعبيا ولكنهم هزمونا قانونيا. فقد أجتمع كل رجال الدين في لبنان وأتفقوا لأول مرة علي رفض مشروع الزواج المدني.... رجال الدين هؤلاء لم يتفقوا معا ويصدروا بيانا عندما دخلت اسرائيل إلي بيروت وأتفقوا من اجل الزواج المدني الذي يهدد مصالحهم. في بيروت والعالم العربي نعيش مشاكل تتلخص في أن سبع أو ثماني عائلات تصادر 260 مليون عربي وتتوارث وتنهب وتقتل إلي جانب ذلك هناك العسكر: عسكر الاستغلال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي... إذن هناك طريقا طويلا شاقا ينبغي أن نشقها ولاأعرف أن كنا سنستطيع ذلك أم لا.

* ولكن صوت المثقف يظل هو الحلقة الأضعف في هذا الصراع ؟

اولا صوت المثقف محكوم بالمنابر ووسائل الاعلام ، بالاذاعات والتليفزيونات وكل هذه الوسائل تمتلكها السلطةوتسيطر عليها ، لكن هامشك كمثقف هامش ضئيل جدا وصوتك لا يصل بعيدا لأن السلطة لا تريد ذلك. في لبنان الاذاعات والتليفزيونات موزعة علي الطوائف ، وهذه طريقة شاقة وينبغي أن نقوم بجهود كبيرة لنقلب المعادلة . ما هي هذه المعادلة : أن المثقف العربي اعتاد أن يقبض ثمن مواقفه ، نحن يجب أن نعكس المعادلة لتصبح : علي المثقف أن يدفع ثمن مواقفه سواء بالسجن او القمع ، هذا هو صمود المثقف مهما كان صوته قصيرا يحول دون الشجاعة والمغامرة وحتي المجازفة بالرأي . وهذا فقط هو ما سيردع المتربعين علينا وعلي حسابنا ولا شئ أخر . لأننا * كمثقفين * لا نحمل سلاحا وضد استعماله ومع الوسائل الدستورية . والدستور يجيز لك أن تعبر عن رأيك ، أي ان السلطة تخترق الدستور عندما تمنعك من التعبير عن رأيك ويسلطون عليك الاصوليين ليؤسسوا لعقل قائم علي الخرافة والابتذال والنفاق وهم في هذه الحالة يهددون مفهوم الدولة ككل . نحن بحاجة إلي تكوين عقل عربي ووعي عربي لا يقوم علي كل هذه الخرافات التي نجدها في كل الوطن العربي والتي تصب في نهاية الأمر لخدمة إسرائيل لأن تدعيم الأصوليين يجعل مجتمعاتنا تشبه المجتمع الصهيوني المغلق .

*ما تقوله هو واقع عبثي ؟

الحقيقة في العالم العربي اليوم هي عبث .
ولذلك اكرر سؤالي أليس العبث في حاجة إلي فعل عقلاني يحكمه ؟
طبعا ، العبث يأتي من وعي عقلاني حاد بالواقع . لماذا أنت عبثي ؟ لأنك تعاملت بوعي حاد وانكشفت لديك كل الأمور وكل الأوهام . فالعبث هو أن تنزع كل الأوهام عن رأسك . اليوم أري أنني كنت عبثيا عندما كنت أناضل في لبنان وأشارك في المظاهرات وأدخل السجون . العبثية هي الواقعية _ ليس بالمعني الغربي _ فكل واقع له عبثيته وله عقلانيته وله أحلامه . عندما أشاهد ما يجري في لبنان وفي العالم العربي لا أصدق ما يحدث : هذا القمع ، هذا التخلف ، هذا الخراب العظيم ، هذه الهزائم ، وهذه السجون المليئة بالبشر .... كل هذا عبث ، جنون ، لا معقول ، وأنا أستمد عبثيتي تلك من عبثية المجتمع . وأن كنت غير متأكد حتي الآن إن كنت عبثيا أم لا. فالمجتمع العربي لم يعرف عنفا كالذي يعيشه اليوم : عنف الطائفية ، عنف الايديولوجيا المهزومة ، عنف المجتمع المهزوم .... أشكال العنف تلك تشكل نوعا من الخرافة العبثية التي ترأها وترقبها بوعي حاد ، أنا أقول في الوقت الحاضر: لا خلاص ! عندما تقول ذلك ( لا خلاص) فهذا يعني أنك عبثي وعبثيتك ليست رأيا جاهزا ، لا أقول أنا عبثي سأكتب نصا عبثيا ، بل خرج نصك هكذا عبثيا ... ولا أعرف من أين جاء . الواقعية العربية الجديدة هي عبثية. أكتب قصة أو رواية أو قصيدة ستجد كل ما تكتبه عبثيا، المجتمع العربي اليوم لاينتج الا أشكالا وطوائف من العبث!!

2

رغم أن ' الحالمون قتلة ' كما كانت أوفيليا في نصه ' نفاد الأحوال ' تقول فإن بول شاوول مازال يحلم ..... حتي وان كان حلمه تحول إلي كابوس..

*هل يريد المجتمع مثقفا من نوع خاص .... سألته ؟

حلمنا في السبعينيات بوطن افضل ، بمستقبل أفضل . كنا نعيش زمنا آخرغير هذا الواقع . كان يسمي المثقف مثقفا طليعيا أي انه كان أمام المجتمع ، الآن صار المثقف خلف المجتمع . معظم المثقفين صاروا أذيالا للواقع . في السبعينيات وقبل هذه الخيبات والهزائم كانت أفكارالمثقف واحلامه وأشعاره متقدمه علي المجتمع ، اليوم صار ذيل لهذا المجتمع وهذا هو الخراب العظيم : أن يشبه المثقف المجتمع الذي يعيش فيه . وانا إذا أردت أن أشبه المجتمع الذي اعيش فيه فلا بد أن أكون طائفيا عائليا مرتبطا بالأجهزة أو بعض الأنظمة ... هذا إذا أردت أن أشبه الواقع ولكن أنا عكس كل ذلك ولهذا أنا مغترب عن المجتمع لا أحس بانتماء إلي أمراضه !
المثقف بهذا المعني ينبغي أن يصير مغتربا عن واقعه دائما ؟
مغترب بمعني ما فإذا كان هناك (كوليرا) طائفية أو دينية ، فيجب أن تحمي نفسك منها . اليوم نعيش كوليرا الطوائف والاحباط .... ينبغي أن تنقذ نفسك منها . أنا في الوقت الحاضر لا أومن بالحلول الجماعية ، فقط هناك حلول فردية . لا توجد حلول جماعية في الواقع حيث لا أحزاب ولا نقابات ، لا يمكن لأحد أن يقدم حلولا جماعية . ولهذا إذا كنت أريد أن أكون جزءا من الواقع كان يجب علي أن أدخل المليشيا ، وأعود إلي طائفتي لأنهم كلهم مسلحون ويحاربون ،أعود إلي منطقتي المسيحية . ولكن لأنني لم أكن واقعيا يوما ما ومختلفا عن الواقع كنت أري أن ما يجري سيدمر لبنان وأعلنت ذلك في مؤتمر صحفي سنه 1975 وانسحبت من الحياة النقابية بعد اندلاع الحرب حتي لا ألوث يدي لا بالمال ولا بالدم . كنت حالة استثنائية لأن الحروب تحول الناس إلي قطعان . أنا كنت خارج قطيع العائلة والأحزاب . وبهذا المعني كنت مغتربا عن هذا الواقع لكنني أليفا لحلم البلد و لم أشارك في ذبحه . ولا أدعي البراءة فليس هناك أبرياء في العالم . ولكني لم أكن كالمثقفين الآخرين الذين كانوا ماركسيين أو قوميين عرب وعندما أندلعت الحرب تنكروا لأفكارهم العلمانية انضموا إلي طوائفهم وساهموا في الحرب الأهلية . أنا علي العكس ... هربت من المنطقة التي اسكنها حيث حاولوا القبض علي وقتلي الي المنطقة الغربية الإسلامية ومازلت فيها حتي الآن . كدت أن أدفع حياتي ثمنا لكي لا أنخرط في لعبة تخريب وقتل هذا البلد لأني أعرف أن حرب لبنان لم تكن لبنانية ولهذا لا اسميها أهلية :كانت حرب بعض العرب وأمريكا واسرائيل علي لبنان ، وأمريكا اخذت علي عاتقها أن تقوم بضرب كل المناطق القوية التي تحيط بإسرائيل وأي دولة يمكن أن تهدد سلامه.

* الأ تشعر أن الهجرة إلي المتنبي أو ابو العلا لا تختلف كثيرا عن الهجرة الي رامبوأو رينيه شار وأن المثقف الأصولي لديه نزوع لسر اغتراب الزمان تماما كالمثقف الحداثي الذي ينزع لسر اغتراب المكان ... كلا النموذجين مغترب يبحث عن نموذج خارج أرضه أو زمنه ؟

هذا ليس اغتراب ، هو نوع من الحنين يشعر به كل مثقف . ولكن كل شخص يفتش عن احلامه أمامه وليس وراءه . لماذا أريد أن أحلم بأجدادي الذين كان لديهم واقعهم الخاص يحاربون بالسيوف ، يرعون الماعز ... لا احلم بذلك .أنا حنيني أمامي وليس وراءي . طبعا الشعر شئ آخر ينبغي أن نعود إلي كل ما كتب في التراث،ان نقرأه قراءة فردية وليس قراءة جماعية . فالقراءة الجماعية نوع من الإرهاب . وأنا * كماأوكد * كتابتي متورطة وعبثيتي خاصة بواقعي .

* علي الرغم من أن بعض النقاد يري فيما تكتب استغراقا في اللغة ؟

الشعر لغة ، والرواية لغة ، ولا اقصد المعني الشكلاني للغة ولكن إذا لم تكن تملك لغتك الخاصة والمختلفة فلا تكتب الشعر . وكل شاعر يتخلي عن التجريبية واللغة يموت ، وكل شاعر لا تبقي يداه مبللتين باللغة تذبل أصابعه وحواسه . و كل ديوان لي له لغة مختلفة 'نفاد الأحوال' يختلف عن ' كشهر طويل من العشق ' ، يختلف عن 'وجه يسقط ولا يصل '... لماذا هذا الاختلاف ؟ لأن كل تجربة شعرية هي تجريب ولغة ، وهناك بالتأكيد الحياة الداخلية بكل تضاغطاتها وليس الشعر فقط اختبارا لغويا باردا كما يفعل الفرنسيون اليوم ، أو العاب لغوية كما كانت في عصر الانحطاط . عندما تشعر أن لديك تجربة اختمرت ينبغي ان تكون أدواتك جاهزة : معرفتك باللغة وسيطرتك عليها قوية وثقافتك متسعة و متشعبة . وأنا لا أعيد تجاربي ، فنفاد الأحوال استغرقت كتابته أكثر من ثلاث سنوات إذ ليس مطلوبا من الشاعر أن يكتب شعرا كل يوم . ويضحكني كثيرا من يقولون انهم يكتبون الشعر كل يوم ، والذين يقولون أنهم يتنفسون الشعر يوميا كالهواء . فكل قصيدة عندي مشروع لغوي ومشروع إنساني وشعوري وعبث وجنون وحكمة والم . في ' وجه يسقط ولا يصل ' الذي نشر في 1977 اختبرت لأول مرة الاختزال اللغوي.

* قصيدة البياض ؟

نعم وهي لم تكن موجودة من قبل في الشعر العربي .

* وهل هذه التسمية أطلقها النقاد ام كنت أنت صاحبها ؟

النقاد أطلقوا عليها ذلك لأنني استخدمت البياض كجزء من اللغة الشعرية ، مثلما تجد أحيانا ما يسمي المسرح الفارغ . والبياض هنا ليس للنمنمة ولا للتزويق بل هو جزء من اللغة يكملها . كأنك تكتب نصف اللغة بالكلمة والنصف الآخر بالبياض ، نصف اللغة بالعتمة والنصف الآخر بالضوء . إذن اختزلت اللغة الأصلية لثلاث كلمات احيانا . نجحت في التجربة أم لم انجح هذا موضوع مختلف . وقد كان ذلك في عام 77 وفتح مجالا لشعراء كثيرا في العالم العربي . ولم أكرر هذه التجربة مرة أخري ، بل عملت في تجربة مناقضة لها تماما في )كشهر طويل من العشق (كنت أريد أن أري عبق التراث في تجربتي ، حتي أن أحد النقاد ذكر أن هناك مس قرآني في لغة هذا الديوان الذي أختبرت فيه اللغة التراثية بتراكيبها ومفرداتها وهذه تجربة صعبة ، بل تكاد أن تكون أصعب تجربة في حياتي . لأنك تأخذ من التراث وتعطيه ثوبا جديدا . فالشعر العربي عمر قصرا جديدا حول مبني تراثي قديم ، أنا حاولت أن أخذ من المبني نفسه ، عمرت البيت القديم .
ثم كتبت بعد ذلك 'نفاد الأحوال ' وهو نص مفتوح اساسه مسرح وخلفيته دراما . والآن حتي لا أظل مسكونا بتجربة كشهر طويل ...و ' نفاد الأحوال 'أكتب مسرحية وهكذا تذهب آثار التجارب السابقة وأهيي نفسي لكتابة جديدة .

* وماذا تعني بالتهيئة ؟

أن تعيش هذه العزلة العظيمة ، أن تقرأ أربع ساعات شعر يوميا ، ان تتابع ما يجري حولك في العالم . هذه هي التهيئة النفسية إلي جانب قراءة الرواية والفلسفة والمسرح وهو ما يزيد تجربتك تنوعا وغني ، حتي تأتي اللحظة المناسبة وتكون مستعدا تماما .

* هذه هي طقوسك قبل الكتابة ؟

ليست طقوس ، هذه متعة القراءة ومتعة العزلة . يمكن أن تسميها متطلبات . لأن الشاعر سينتهي حتما إذا توقف عن القراءة.

3

'يريدنا أن نعيش في ترحال ابدي ' هكذا وصف أحد النقاد نص بول شاوول ، إذ لا يكاد يستقر علي شكل لكتابته أولغته ...... محاولة دائمة للتجريب حتي لا يصير الشاعر صدي لنفسه ....

*كتاباتك الأخيرة أخترت أن تسميها ( نصا ) وليس شعرا ....

'نفاد الأحوال ' نص وليس قصيدة وكنت أريد أن أخرج من ضيق القصيدة إلي فضاء اللا تصنيف، أريد ان اخرج من الحديقة إلي الغابة . والنص الغابة يكون مختلفا مجنونا ، تجد فيه الأدغال ، الغرائز المفلتة ، القتل، السادية .... كل هذا تدفق في النص وما كان للقصيدة أن تستوعب كل ذلك كما أتصور.

* ولكن 'النصية 'لم تكن فقط في 'نفاد الأحوال ' وأنما حتي في النصين الآخيرين " منديل عطيل " و"عندما كانت الأرض صلبة " ؟

كتبت عندما كانت الأرض صلبة (82 87 ) ومنديل عطيل ( 94 96) كتبتهما بقصد أن يكونا قصائد .. مثلا 'أوراق الغائب ' كانت 600 صفحة صارت عند النشر 70 صفحة فقط لأنني اشتغلت عليها بقصد أن تكون قصيدة . . القصيدة أنت تسيطر علي ادواتها وتمارس قمعا علي اللغة فيها أما في النص فاللغة تقمعك تتجاوزك وتجتاحك مثل السيل .

* ولماذا النصية في 'نفاد الأحوال ' بالذات ؟

كتبت هذا النص لتصفية الحسابات مع كل الذين دمروا التاريخ ، مع كل الذين الغوا الإنسان ، ضد كل الدكتاتوريات والحروب والقتل . وفي ' نفاد الأحوال ' أنا أتمثل كل هؤلاء : أنا القاتل والقتيل ، السفاح والضحية ، المجرم والبرئ ، والمرأة والرجل ، أنا كل هؤلاء . لأقول ليس هناك أبرياء في هذا العالم وتوجت هذا النص بمشاهد كتبتها من هاملت وماكبث ويهوذا الإسخريوطي الذي جعلته يتفوه بكلام المسيح لأقول أن هؤلاء المنافقين من الطائفين تكلموا بإسم المسيح وقتلوا بإسمه وهذا ما لم يفهمه الكثير من الأغبياء . كنت أريد أن أنتقم من هؤلاء ولم أكن أستطيع أن أنتقم سوي علي الورق وكانت مخيلتي خصبة في الانتقام ! ولهذا 'نفاد الأحوال ' هو أحب نصوصي إلي وأصعبها أيضا !

* كيف تري الشعر العربي الآن ؟

هناك النعابون الناعقون الذين يبشروننا كل يوم بموت الشعر . والمضحك أن هؤلاء الذين ينعون الشعر هم شعراء . فإذا كنت تقول أن الشعر مات فلماذا أنت حيا ولماذا لا تترك منبرا أو مهرجانا تشارك فيه ؟! . هناك شعر ما مات هو شعر الايديولوجيا ، شعر الجماهير الفارغ ، شعر القضايا ، شعر الأحزاب ، شعر السلطة هذا الشعر ليس للعلا وأنما للأسافل وذهب . أما اليوم فالشعر يعيش أبهي وأجمل وأصعب مراحله ، لم يعد عند الشاعر قضية يستند إليها ليكتب قصيدة رديئة تحت عنوان ثوري أو تحت عنوان سياسي أو حزبي فتصفق له قبيلته ، لم تعد هناك ايديولوجيا تحمي قصيدة سيئة . ذهبت الايديولوجيا وذهب معها شعرها وعندما أقول رحيل الايديولوجيا لا أعني رحيل الافكار والمشاعر ، بل أن هناك مرحلة جديدة قائمة علي الحرية ، تحررنا من الايديولوجيا وذهبت المدارس السوريالية والرمزية والرومانتيكية ، وصار الشاعر امام نفسه ، لم يعد لديه شئ يستند إليه سوي الشعر . ولهذا أظن أن جيل التسعينيات في مصر هو أهم حركة شعرية في تاريخ مصر لأنهم أكثر الشعراء حرية وذات الشئ في لبنان وسوريا والمغرب . لأن شعرهم هو شعر الحرية ، الشعر الذي يخدم الشعر ، الشعر المجاني الذي لا يرتبط بمهمة أو رسالة أو سلطة شعر اليوم ينضم أكثر إلي حريته. اليوم إما ان تكتب جيدا و لا تكتب. وأنا مطلع جيدا علي الشعر الجديد في مصر، والشعراء الجدد في مصر رغم مآخذي عليهم ومآخذهم علي يشكلون مع بعض الشعراء الذين كانوا محاصرين في السبعينيات حالة شعرية كبيرة.
والغريب أن معظم شعراء التفعلية مرتبطين بسلطة ما، هؤلاء أحرار يكتبون الشعر كالأطفال، وكل شاعر ينسي الايديولوجيا والسلطة يصبح طفلا متحررا. أنا مع هؤلاء، واظن ان الذين يحاربونهم في مصر يخطئون لأنهم يقفون ضد المستقبل وضد أنفسهم لأن شعرهم لن يجد أملا له إلا في هؤلاء الشباب . والعجيب أن قصيدة النثر قد استقرت في لبنان منذ أكثر من 50 سنه بينما مازالت مصر تناقش حتي الان شرعيتها ، وقد كشف هجوم أحمد عبد المعطي حجازي علي شعراء قصيدة النثر عدم معرفته الدقيقة بالشعر الفرنسي الذي استشهد به واكاد أقول أنني أعرف الشعر الفرنسي جيدا!!

* بهذا المعني الذي ذكرته ... اين تضع شعر أمل دنقل و محمود درويش ؟

أمل دنقل شاعر إنساني ، هناك فرق بين شاعر يكتب نظرية ايديولوجية بشعره ، وبين شاعر انساني يشعر بكل قضايا الإنسانية كالفقر والظلم والجوع . هناك فرق أن تكتب هذه القضايا بطريقة وعظية موسساتية تقريرية وأن تكتبها بمنظور حر لا تخضع لأي مؤسسة وللذوق السائد والمنابر والميكروفونات . أن تكتب من منظور إنساني قضايا الإنسانية إنطلاقا من حريتك وفرديتك . ودرويش شاعر كبير أيضا تحول في دواوينه الأخيرة تحولا داخليا وليس برانيا ، وقد كنت أنتقد شعره القديم الآن أحب شعره الجديد . هو كشاعر لديه حساسيه ورهافة دقيقة مع اللغة بعكس أدونيس لديه غلاظة في التعامل مع اللغة . وأنا عندما أكتب عن القتل والدمار فأنا ملتزم ولكنه ليس إلتزاما مباشرا يجعلني أتنازل في أمور القصيدة لكي أعجب السلطة والذوق العام وشعراء المناسبات.

اخبار الأدب- 29 سبتمبر 2002