سميرة عوض

الياس فركوحعمان - “ القدس العربي” -
بإصداره “ أرض اليمبوس'، يمكن القول إن الروائي الأردني فركوح يكمل ثلاثيته الروائية التي بدأها بـ “ قامات الزبد” (1987)، التي تتناول الفترة الفاصلة بين نكسة 1967 وسقوط مخيم تل الزعتر، ثم “ أعمدة الغبار” (1996) التي تبدأ من سقوط تل الزعتر حتى خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982.
ولد في عمّان عام 1948، حيث تلقى تعليمه حتى الثانوية العامة متنقّلاً بينها وبين القدس. حاصل على بكالوريوس في الفلسفة وعلم النفس، من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الثقافية من عام 1977 - 1979، كما شارك في تحرير مجلة “ المهد” الثقافية طوال فترة صدورها.
شارك الشاعر طاهر رياض العمل في دار “ منارات” للنشر حتى 1991، إلى أن أسس دار “ أزمنة” للنشر والتوزيع عام 1991، حيث يعمل مديراً لها.
حازت روايته “ قامات الزبد” على جائزة الدولة التشجيعية للعام 1990
وكذلك حاز على جائزة الدولة التقديرية / القصة القصيرة للعام 1997.
كما نال جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة على مجمل مجموعاته - والتي تمنحها رابطة الكتّاب الأردنيين. وكانت الرابطة، قبلها ، قد منحته جائزة أفضل مجموعة قصصية لعام 1982 “ إحدى وعشرون طلقة للنبي'، كما نال جائزة تيسير السبول للرواية عن العام 2007 عن روايته “ أرض اليمبوس'، إضافة الى دخولها القائمة القصيرة 'البوكر” للعام 2007 عن الرواية ذاتها.

حفاوةً لم أكن أتوقعها

* حققت روايتك الثالثة 'أرض اليمبوس” حضوراً لافتاً جداً. كيف تشعر إزاء الرواية الآن؟

-أعتبرُ نفسي من فئة الكُتّاب الذين حين ينشرون عملاً جديداً، وبعد انقضاء أيام النشوة فور صدوره من المطبعة، سرعان ما تفترُ حماستهم تجاهه بعد وقتٍ قصير، ليبدأوا التفكير بالعمل القادم. ما هو؟ كيف سيكون؟ ولو على سبيل التكهُّن العارف أنَّ أي جوابٍ لن يحيط بمفاجآت الكتابة لَمّا تحدثُ على الورق. غير أنَّ “ أرض اليمبوس'، وخلافاً للأعمال السابقة، عملت على إيقاف تفكيري بالمشروع الجديد - أو بالأحرى أربكتني وأجَّلَت ملاحقتي له - وذلك نتيجة الاهتمام والمتابعة الاستثنائيين. لاقت الرواية حفاوةً لم أكن أتوقعها بصراحة، داخل الأردن وفي الخارج، رغم إدراكي أنها شكّلت حَفْراً وتحوّلاً ومغايرةً في كل من بنيتها، ولغتها، وتضمنها لأسئلة الكتابة الخاصّة بالرواية الحديثة. ولأكُنْ أكثر صراحةً : لأنَّ ما يشبه الجفاء النقدي الذي قوبلت به الرواية السابقة، “ أعمدة الغبار'، وبحجّة صعوبتها، هو ما حال بيني وتوقع الانفتاح على “ أرض اليمبوس” بهذا التفهُّم والفحص والقراءات الذكيّة المحترمة لها كعملٍ يتطلب بذل الجهد المقابل، وبالتالي التقدير. فأين كان يختفي ذلك كلّه؟ أكان “ الخلل” ( سأسمح لنفسي باستخدام هذه المفردة) في الرواية والأعمال السابقة الأخيرة، أم في “ الوَسَط الثقافي” الكسول المُقْبِل على الأعمال السهلة التي تُقرأ بسرعة، والابتعاد بالتالي عن أعمالٍ يراها “ صعبة” فيكتفي بما هو شائعٌ عنها دون تكبُّد عَناء قراءتها؟!
أعتبرُ “ أرض اليمبوس” رواية محظوظة - بمعنى تراكُب جُملة عوامل لا يمكنني تحديدها بدقة، أدّت للالتفات الجاد إليها، وبالتالي كشف ما تحمل من قيمةٍ تخصّها. وكذلك، وبسبب هذا، أعتبرُ نفسي محظوظاً بها.

* حصول روايتك على جائزة تيسير السبول للرواية عن العام 2007 التي تمنحها رابطة الكتّاب الأردنيين - وهو رائد الرواية الأردنيّة الحديثة في روايته 'أنتَ منذ اليوم” - ماذا يعني لك؟ وأنتَ الحائز على عدد من الجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية عن القصة القصيرة، وجائزة الدولة التشجيعية للرواية؟

- أفرحني ذلك واعتبرته تأكيداً إضافياً لخصوصية الرواية. غير أن الحصول على جائزة جديدة، بقدر ما يعني في جوهره تقديراً مُعْلناً للإنجاز الكتابي الفائز بها؛ فإنه يشكِّلُ لي على الصعيد الشخصي تحفيزاً وحَثّاً لمواصلة مسيرة الكتابة التي بدأت قبل ثلاثين سنة. كأنما الجائزة تجديدُ اعترافٍ بحصيلة الجهد السابق، وكذلك هي إشارةٌ إلى “ جدوى الكتابة” كما أفهمها، وعلى نحوي الخاص، خلال حِراكها في بيئة اجتماعيّة أدارت ظهرها للثقافة وللمثقفين منذ زمن، للأسف. الجائزة تشير إلى معنىً باتَ غائباً، أو مَنسيّاً، أو مشكوكاً به وسط مجتمع تفسَّخَت منظومة قيمه السابقة، وأحَّلَ محلها تبجيله العالي لمعنى الاستهلاك، والسلعة، والمال. وكل ذلك كان على حساب الإنسان الفرد في جوهره الرافض لأن ينمسخ فيتحوّل هو نفسه إلى سلعة قيد الشراء!
الجائزة تَدُّلُ على حصيلة تلك المعاني. كما أنها نقلة تتحداني في كتابتي المقبلة.

* لندخل بوابة الرواية: من أين انبثق عنوانها؟ هناك سؤال عن معناه لمن لم يقرأ الرواية بعد، خصوصاً من جهة المفهوم الديني المسيحي؟

- لطالما كان لمفردة “ اليمبوس” وقْعها الجاذب لي. أوّلاً لغرابة الاسم وإثارته لمخيلة الصبي الذي كُنتُهُ حين تلقيته لأوّل مرّة في درس الدين. كان ذلك في مدرسة “ الفرير'، في القدس، وهي تابعة لرهبانيّة كاثوليكيّة متبنّية لمفهوم اليمبوس، بينما لم أكن قبلها قد سمعتُ به، إذ جئتُ من أُسرة أرثوذكسيّة يونانيّة الانتماء. وثانياً؛ لأنَّ اليمبوس منطقة رحيمة ناسَبَت مخيلة الصبي وروحه؛ فهي رَحْبَةٌ تثيرُ فيه حيوية تشكيل ما يشتهي من صُوَر. ليست الجَنّة وليست الجحيم، حيث رُسِمَ هذان العالمان على نحوٍ قاطع ومفهوم. أما اليمبوس، فعالَمٌ ثالث كَسَرَ ثنائيّة الأبيض والأسود، والخير والشَّر، متيحاً لِمَن ليسوا هنا أو هناك حيّزاً للخلاص!
وكذلك، لأنَّ حالة “ الما بَين” شَكّلت لي موضوعةً مركزيّةً في الروايتين السابقتين - وعَلّها أحد ملامحي الداخليّة الغائرة عميقاً داخلي، حيث تتم ترجمتها في رفضي الدائم لأن أكون عند واحد من موقفين متناقضين يزعمُ كل واحد منهما حيازة “ الحقيقة'. فالعالَمُ أكثر رحابةً وأوْسَع مدىً وغَنَيّ ٌ بالتعدد، وأنا لا أطيق اختزاله ( وبالتالي اختزالي) في نقطتين وحيدتين حين الاحتكام إلى منطوقهما فتستقر “ حقيقته” في نقطةٍ واحدة فقط! - أقول: ما دامت حالةُ 'الما بَين” موضوعة مركزيّة في العملين السابقين، والرواية الأخيرة هي ثالثةُ هذه الثلاثيّة غير المُعْلَنَة؛ فإنَّ “ اليمبوس” كجزء من عنوانها أو اسمها سيكون إعلاناً مضمراً وصريحاً في الوقت نفسه لجوهر المعنى الكامن فيها. إضافةً إلى مجاورة ما هو مادي ومحسوس في مَشاهد القدس، ورهبان المدرسة، والأرض الحَرام بين القدس الشرقيّة والغربيّة قبل الاحتلال، لِما هو مَجازي بحيث تتسّع الدلالات ويغتني التأويل.

كبرَ الصبي الذي كُنتُهُ

* “ اليمبوس” هي المنطقة الوَسَط، بحسب المفهوم الكاثوليكي، أو الثالثة ما بين الجنة والجحيم، أو “ منطقة الما بين'. إلى أي مدى تتشابك وتتقاطع مع ما يُسمّى “ المنزلة بين المنزلتين” عند المعتزلة، وهي أشهر الفِرَق الاسلامية؟

- في الحقيقة أنا لم أفكّر، عند كتابة الرواية، بمقولة المعتزلة “ المنزلة بين المنزلتين'، رغم معرفتي المنهجيّة بها؛ إذ كانت مثلها مثل “ اليمبوس” مصدر جَذب، ولكن لإعمال العقل هذه المرّة لا المخيلة - فلقد كبرَ الصبي الذي كُنتُهُ وباتَ شابّاً يدرس الفلسفة كتخصصٍ أساس. وعَلَّ صداها كاجتهادٍ عبقري انشبكَ مع اليمبوس دون وعيٍ حاضر، مما نتجَ عنه موقفي حيال مسألة الاختيار المرفوض مني لأن أكون هنا .. أو هناك! لا شك، ثمة تقاطُع وتَدَاخُل بين هذين المفهومين رغم اختلاف المصدر والغاية. فـ'اليمبوس” اجتراحٌ لاهوتيٌ أُتيَ به من أجل إيجاد حَلٍ لمعضلة المصير ما بعد الموت لفئةٍ من الناس. بينما “ المنزلة بين المنزلتين” اجتهادٌ عَقليٌ خالص احتكمَ إلى المنطق الفلسفي ليطرحَ مَخْرَجاً لثنائيّة منزلتي الإيمان والاجتهاد، أو التوفيق بين النَقْل والعقل.

ابنُ عمّان بامتياز

* كتبَ عنها كثيرٌ من النقّاد والكتّاب مشيرين إلى أنها تمس التطور الاجتماعي والسياسي لعمّان، وتشابكها مع القضية المركزيّة (فلسطين)، كيف تمكنتَ من الجمع بين العام والخاص بشفافيّة واضحة؟

-أعتبرُ نفسي ابن عمّان بامتياز، وكثيراً ما رددتُ على الملأ بأنني “ كائنٌ عَمّاني'. ولأنني هكذا، ولأنَّ عمّان هي الحاضنة الأكبر في الأردن لجميع الحشود الاجتماعيّة الآتية من أُصولٍ ليست أردنيّة خالصة ( وأنا من ضمنها)؛ كان أن توفَرَت لي الرؤية القادرة على ملاحظة تسلسل التطور الاجتماعي والسياسي لها كمدينةٍ جامعة وصاهرة.
فالخاص والعام في داخلي منسجمان متداخلان يثير الواحدُ منهما الثاني، فيتحوّل التاريخ الشخصي ليكون تاريخ الجماعة، مثلما يتماهى تاريخ الجماعة بتاريخي الشخصي. وربما حين التدقيق بحالةٍ كهذه، يصيرُ لي أن أُفَسّرَ مقولةً كنتُ أطلقتها قبل أكثر من عشر سنوات، ومفادها: “ أنا ابنُ عمّان، لكني أحد بُناتها في الوقت نفسه!” فكيف لا يحدثُ التشابك داخل النصّ بين عمّان وفلسطين بينما الشخصيات الفلسطينيّة، بما تمثّل كحالاتٍ خاصة ليست منفصلة عن حالة الهجرة الكبرى والتهجير القسري، تعيش معي وأتعايش معها يومياً، حيث نتبادل الخبرات والحكايات؟ حينها، تتحوّل حكاياتها لتصبحَ حكاياتي أنا، وبها أبني ذاكرة المدينة التي ترتبط بآصرة المصير مع فلسطين وقضيتها: ففلسطين قضية شعب وأرض، وها الشعب معي وفي داخلي مثلما يتنامى خارجي جيلاً بعد جيل، ويشاركني في بناء عمّان وتأثيث ذاكرتها الجمعيّة.

التنويع على مبدأ التشظية

* تعتمد أسلوب الاسترجاع - الفلاش باك - في كتابتك الروائية، وهو أسلوب سينمائي يصور ويستشرف ويشرح، فضلاً عن تعدد الأصوات، الغائب منها والحاضر. إلى أي مدى استلهمتَ السينما في روايتك؟

- لطالما كانت السينما أحد عناصر تكويني التخييلي. أذكرُ أن أبي اعتاد القول كلّما طلبتُ منه السماح لي بالذهاب إلى السينما حين كنتُ صبيّاً: “ أنتَ إذا عصرتكَ، فلسوف تخرجُ منكَ الأفلام!” كان ذلك منذ بداية وعيي على العالم، فبدوتُ وكأني أوائمُ بين هذا العالم “ الواقعي” والعالم “ المتخيّل” كخيالات تتحرك على شاشة السينما، بحيث امّحت المسافة بينهما فشكّلا عالماً واحداً في داخلي.
بالكتابة، وهي عمليّةُ حَفْرٍ أمارسها لداخلي غالباً، تستحيلُ مَشاهدُ الرواية إلى مُقتَطعات قائمة بذاتها - إنْ قرأناها هكذا. وكذلك، يمكن من خلال وعيٍ فني وقدرة تأويلٍ ورَبْط أن تنشبك تلك المَشاهد المقتطعة لتشكّلَ بانوراما الرواية بكافة مستوياتها. وكما أرى، فإنَّ تقطيعاً سينمائيّاً ( مونتاجاً) أصاب الرواية، فساعدني في التنويع على مبدأ التشظية للزمان، وللشخصيات، وللأحداث.

المرأة تُناقِضُ الحربَ!

*الدمج بين المرأة والحرب، في مستهل الرواية وفي خاتمتها؛ كيف ينظر الروائي فيكَ للمرأة؟ وما العلاقة بينهما، بين المرأة والحرب؟

-ربما يشكِّلُ صوت الروائي القابع في داخلي بلاغةَ أو انكشاف المعنى الذي أختزنه للمرأة. وربما هي المرّة الأُولى التي عثرتُ فيها، عبر الكتابة، عن طبيعة الصِلة الواصلة بينها وبين الحرب. هنالك تلازُمٌ بينهما على امتداد الرواية، اعترفتُ من خلاله ببديهيّة أنَّ المرأة تُناقِضُ الحربَ في كونها عنصر إخصابٍ ومساحة لواذٍ للرجل، بينما تمثّل الحرب العنصر النافي، والمدّمر، والقاتل، والإجداب. فغالباً، وعند ورود الحرب في المَشهد، أجدني باثّاً فيه المرأةَ كأنما هي ملاذي وعلى صدرها أبيحُ لبوحي عن ضعفي حريّة الانطلاق.

غير أنَّ هذا ليس إلاّ وجهاً من وجوه التقابُل بينهما، وهو تقابُلٌ ضِدي ومتكرر وعام. الجديد الذي أتت به الرواية، عبر الكتابة وليس قبلها كفكرةٍ مسبقة، كان كشطي لهذه الطبقة من العلاقة وإظهار أنَّ التلازم لا يكون بالضرورة، ودائماً، تلازماً لعنصرين أو كينونتين متناقضتين. فالحربُ، بالنسبة للرجل، هي امتحانه لرجولته وذكورته حيال المرأة. ثمة ما يقاربُ التوتر في المساحة بينه وبينها. وغالباً لا يستند هذا التوتر إلى ما يُفسّره - وأنا أقصد الرجل هنا - حيث انه كلّما تخطاها مقترباً منها وداخلاً عالمها، باتت هي الكاشفة له عنه لا عنها!

بالحربِ نمتحنُ جوهرنا الصامد أمام محسوس الموت ومَجازه. وبالمرأة نفحصُ جوهرنا الحائر حيال “ الفكرة / الإرث” أننا، كرجال، الأطول صبراً والأنفذ فكراً والأكثر حكمةً والأقلّ عاطفة. وهنا تحديداً نسقطُ، كرجالٍ بالعموم، في الامتحان؛ إذ كانت “ مريم” أو “ ماسة” أو “ العَمَّة” أو “ منتهى” الذوات الأسطع حضوراً من شخصيات الرواية الذكوريّة! فنحن، عبر علاقتنا ذات الأوجه المتعددة بالمرأة، نفاجأ بأننا لحظة اعتقادنا باقترابنا منها إنما نكون اقتربنا فعلاً من عَرضنا لأنفسنا دون مبالغة على شاشة وعيها.
العلاقة بين المرأة والحرب لدى الرجل علاقة ملتبسة تحتمل أكثر من وجه، وتحمل أكثر من معنى، ولهذا كانت وستبقى موضوعة أساسيّة من موضوعات الرواية المتحركة في فضائهما.

* ماذا بعد “ اليمبوس'؟ وهل تخشى خوض حرب رواية جديدة قد تتفوق أو لا تتفوق عليها، خصوصاً وأنها حظيت بعناية نقديّة و” جوائزيّة” فائقة لم تحظ بها أي من روايتيك السابقتين؟

- نعم. باتت “ أرض اليمبوس” أرضاً تتحداني وتتحدى أي مشروع كتابي أُقْدِمُ عليه. وهذا ليس بالأمر الهيّن أبداً؛ إذ عَليَّ ارتقاء قامتها أو جدارها والنظر إلى ما بَعدها بتجاوزها. علّمتني هذه الرواية أنَّ مفهوم “ التواضُع” ليس مقبولاً في الفن، وأنَّ “ غرور التفوق” يشكّلُ شرارةَ إشعال.

* هل تؤمن بأن الجوائز وسيلة مُثلى لتحفيز الإبداع؟

-قد لا تكون الجوائز بذاتها هي الوسيلة المُثلى، لكنها تشكّل في حالة الفوز بها تحفيزاً مباشراً للكاتب؛ إذ هي، مثلما تتبدّى لي، عامل تحدّ ٍ واستفزاز للخروج على ما تم إنجازه والتجديد والتجويد فيه وعليه. وأيضاً؛ طرح مسألة مُساءلة الذات الكاتبة عمّا سيكون منها في عملها القادم؟ فمن الطبيعي أن يعتبر الكاتب الواعي الجائزةَ إشارة تحفيز إضافةً إلى التقدير، وليست بأي حال تتويجاً، كما هي ليست عَزْفاً “ للّحن الرجوع” أو خِتام المشوار.

* هل لهذا التحفيز دوره في تحفيز القرّاء أيضاً، في ظل هروب معلن نحو وسائل أخرى؟

-استناداً إلى ما لاحظته وعاينته، كان للإعلان عن روايات القائمة القصيرة فور ذيوعها، أن عملت على تحفيز الطلب عليها بُغية الاطلاع والاكتشاف - أو تلك التي لم يكن قارئ الروايات عموماً قد تنبّه لها سابقاً - بسبب عدم توفرها في بلده، أو لعدم قراءته مراجعات لها في الصحف والدوريات التي اعتادَ تصفحها. ولقد صادَفَ وقتها أن كان تاريخ ذلك الإعلان اليوم الرابع أو الخامس من أيام معرض القاهرة للكتاب، فولدت ظاهرة الطلب على جميع الروايات والسؤال والبحث عنها. كأنما التوق للمعرفة لدى عدد كبير من القرّاء كان ينتظر ما يستفزه فظهر.
بيعت جميع النسخ المتوفرة من الروايات التي شاركت دور نشرها في أجنحةٍ لها داخل المعرض، ومن ضمنها رواية “ أرض اليمبوس” في جناح دار “ أزمنة'. كما بيع منها 450 نسخة في طبعتها الثانية من جناحي دار “ أزمنة” و” المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في معرض أبو ظبي.
نعم، للجوائز دورها التحفيزي، كما لها دورها المؤكد في إثارة التساؤل والفضول عن روايات، وربما عن روائيين كانوا غائبين عن ذاكرة أو معرفة القارئ العام، فباتوا بسببها وباتت رواياتهم محل قراءة ونقاش وتقييم.

* كيف ترى إلى دور الكتابة، خصوصاً وأن البعض يقول أنها أصبحت غائبة وغير ذات تأثير يُذكَر؟

-علينا أن لا نخدع أنفسنا بخصوص دور الكتابة في المجتمع. فنحن حين نتطرق لمفردة “ دور” ينبغي أن نَعي أولاً إنْ كانت للكتابة مكانتها بين أفراد المجتمع، وكم هي منتشرة بمنتوجها المتمثّل في الكتب بينهم. إذ ليس من المعقول أو العملي قياس دور الكتابة في التأثير إذا لم يكن الكتاب، كحاملٍ لها، مُدرَجاً على أولويات المجتمع. حينها، ولكي نتحلّى بالشجاعة الأدبية ومواجهة الحقيقة كما هي، علينا القول بأن لا دور حتّى للأعمال الفائزة يمكن الإشارة إليه أو إلى مداه وسط شروط حياتية كهذه.
نحن ما زلنا، ككتّاب وقُرّاء عرب، نتحرك على هوامش المجتمعات الغارقة بتدبير شؤونها اليومية المعيشية التي تزداد صعوبةً واستيلاءً على أوقاتها، وهمومها، وطموحاتها، وتوقها لحيازة تجليات الجَمال... ومن ضمنها حيازة منتوج الكتابة = الكتاب والاستغراق في عوالمه.

* وكيف ترى علاقة الروائي بالأحداث السياسية التي مرّت وتمّر بها المنطقة العربيّة؟

-ردّاً على سؤال مُعِدّ ومذيع أحد البرامج الثقافيّة في إذاعة أجنبيّة عن السبب وراء انشغالي بالحروب والسياسة في رواياتي كلّها، بما فيها “ أرض اليمبوس'، كما في روايات عربيّة أُخرى كثيرة، أجبته بأنه من المستهجَن أن لا ننشغل بذلك في كتاباتنا. فكيف يمكن لنا أن نتغافل عنهما في حين كانا السبب الرئيس في رسم طبيعة حياتنا العربيّة، كجماعات وأفراد، وأيضاً في قوة تأثيرهما على مصائرنا!
نحن، بالإجمال، نشكّلُ الحَصاد المُر لأكثر من ستين عاماً من السياسة الفاشلة والحروب الخاسرة. نحن، كأفراد، شخصيات أعطبتها التفاصيل السياسيّة لَمّا تجلَّت في طبيعة العلاقة الشائكة بينها وبين السلطات والحكومات والأنظمة القائمة على تسيير وتيسير شؤون هزائمها. نحن، كمجتمعات، نُصاب بالتشوهات والنمو المنقوص دائماً والمعكوس نتيجةً لهيمنة التخلّف والاستبداد الداخليين من جهة، ولهيمنة القوى الكبرى على دولنا بإملائها لـ” سياساتنا” العرجاء العمياء والعاجزة!
علاقة الروائي العربي بالأحداث السياسية علاقة عضوية بكل معاني الكلمة. ومن جهتي؛ شكلَّت تلك الأحداث المناخات الدائمة التي أنتجت شخصياتي الروائيّة، والتي تحركت فيها وعاشت تتنفس هواءها الملوث بالخسارات، كما كانت الفاعلة والحافرة فيها إذ تجَلَّت كخلفيّة تؤشّر على تحولاتها.
أنا لم أكتب عن الأحداث السياسيّة والحروب، لكنني كتبتُ عنهما في قوة فعلهما داخل الشخصيات وتأثيرهما الكبير في تكوينها. لا مهرب لنا، كروائيين عرب، من السياسة وإن اختلفنا في كيفيّة معالجتها.

* كيف تشعر إزاء أبطال رواياتك الذين يعانون غالباً من بؤس الحياة وظلمها؟

-الحياة ذاتها ليست هي البائسة والظالمة، بل القائمون على التحكم بتسيير مجتمعاتنا والعالم هُم مَن يحوّلون جَمالها ومفرداتها الرائعة إلى مسلسل لا ينتهي من البؤس، فيقع الظُلم بشتّى مسمياته: الظُلم الاجتماعي، القهر السياسي، السحق الاقتصادي، فتكون الحصيلة بالتالي إنتاجهم لعالَمٍ يُدار وفقاً لقانون الغاب: الأقوى يبطش بالأضعف ويعمل على نهشه، ليصل البعض مِنّا إلى تمني الموت لكي لا يشهد هذا الانحطاط الإنساني المريع!
أبطال رواياتي أبطالٌ مهزومون مقهورون غالباً. أبطالٌ لا يملكون من البطولة إلاّ ما استطاعوا الاحتفاظ به من إنسانيتهم - وهذا يكفي لمعاينة القليل من الحُب المفجوع، والدفء المنقوص، والقُبلات المحترقة الشِفاه، ولمسات الحنان المضروب: هذا يكفي لأن أُصَفّق لهم وأن أرثي أحلامهم النائسة في آن.

* لِمَن يكتب إلياس فركوح؟

-إلياس فركوح يكتب لنفسه أولاً، ومن داخله، وفي داخله - وهو بسبب ذلك إنما يكتبُ لكِ ولكل مَن يرغب مشاركته هذه المدونة الشخصيّة الخاصة. فإنْ تحققَ له أن حازَ على قارئ أو أكثر؛ فإنه يكتب لهم. إنه يكتبُ لقُرّاءٍ محْتَملين يؤمن بوجودهم رغم جهله بهم.
باختصار: إلياس فركوح يكتبُ لِمَن يرغب في أن يقرأ، وبشرط المَحَبّة.

القدس العربي
02/02/2010