لكني لست مشغولاً بمرجعية أحد

اسكندر حبش
(لبنان)

عقل العويط«إنجيل شخصي» عنوان المجموعة الأخيرة للشاعر اللبناني عقل العويط الصادرة مؤخرا عن «الدار العربية للعلوم ـ ناشرون» في بيروت ويقع في أربعة أقسام. كتاب ينطوي على رؤية وجودية، شعرية وإنسانية ولغوية، للكون وللذات. حول ذلك كما حول عدد من القضايا الأخرى كان هذا اللقاء.

* مرّت أكثر من ثلاثين سنة على بداية المغامرة الشعرية. أين حطّ بكَ الرحال بعد هذه التجربة؟

ـ لم أحط الرحال. ولا أعتقد أني سأحطّه قريباً. نشرتُ ديواني الأول، «ماحياً غربة الماء» («دار النهار») عام 1981. قبل ذلك كتبتُ كثيراً، مذ كنتُ طالباً في كلية التربية بالجامعة اللبنانية، ونشرتُ في المجلة التي كنا نصدرها نحن الطلاب، ومرةً وحيدةً نشرتُ في مجلة «مواقف»، خلال الفترة الجامعية نفسها. ثم في صحف مختلفة، «النهار» و«السفير» خصوصاً. صدر ديواني الثاني، «المتكئة على زهرة الجسد» («المؤسسة العربية للدراسات والنشر»)، عام 1985. حتى تلك المرحلة، كنتُ لا أزال منفعلاً بالأشياء الشعرية أكثر مني فاعلاً فيها، متلمّساً أكثر مني حائزاً شخصيتي الأدبية، التي أعتقد أنها أخذت تتبلور، لغةً وتموضعاً وأفقاً، في ديواني الثالث، «قراءة الظلام» (عام 1986) الذي أميل، في معنىً ما، الى أن أعتبره تجربتي المتماسكة الأولى التي تعكس جوانب واضحة ومصمِّمة من شخصيتي ورؤيتي الأدبيتين، وتنبئ بما يُحتمَل أن تذهب كتابتي في اتجاهه. كان ذلك الديوان قراءتي الحقيقية الاولى لما يتراءى لي في رأسي وفي عينيَّ، وفي ظلمات الجسد والدماغ والقلب واللغة، أو في نهاراتها الساطعة. أقول الظلمات وأنا لا أعني المتاهة التي يخبط فيها المرء خبطاً أعمى، بل أعني القدرة على رؤية تلك الظلمات رؤيةً إشكالية. وإذ أقول النهارات فأنا لا أقصد وضوح الأشياء والمشاعر وضوحاً تقريرياً، بل أقصد قدرتي على جعل الأشياء والمشاعر الواضحة أشياء اللغة الشعرية نفسها. وإذ أقول الجسد مثلاً، فأنا أعرف ضرورات المسافة النقدية بين جسد الكاتب وجسد لغته، مثلما أعرف شهواتي في أن يكونا صنوين وتوأمين، وإن هما جسدان حرّان، ومستقلَّان، الواحد عن الآخر.
«تحت شمس الجسد الباطن»، («دار النهار»، 1991)، هو تثبيتٌ للتجربة «الثالثة»، انطلاقاً من المثل الذي يقول إن «الثالثة ثابتة»، بل هو تثبيتٌ لما رأيتُ أنه يشكل اتجاهاً شخصياً وخاصاً في كتابتي الأدبية. فضلاً عن كونه اختباراً جسدياً، بالمعنى الواقعي، فضلاً عن المعنى الدلالي والرمزي، للموت الذي ضرب بلدي لبنان، وللحرب الذي أكلته وأكلت مواطنيه.
«لم أدعُ احداً» («دار الجديد»، 1994)، هو جسدي الشعري أنا، من الألف الى الياء، من عنوانه الى آخر ظلاله، ومن الغلاف الأمامي الى الغلاف الخلفي. إنه رؤيتي أنا، وشخصيتي وبصمتي ولغتي وموقفي من العالم. بل هو اللحم الحيّ للشاعر وللشعر على حدّ سواء، بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى. لا أحد موجوداً في هذا الديوان، سوايَ. عقل العويط وحده. لا شقيق ولا شقيقة، لا آباء ولا أمهات. نرسيس وحده، في ظلامه الذي ينقرئ ويُمشى فيه ويُهتدى اليه. ظلامٌ لا يتخبط، بل يرى.
ثم كرّت السبحة الشخصية منذ ذلك الديوان. الدواوين التي كتبتُها ابتداءً من «لم أدعُ أحداً»، هي أملاك شخصية بالكامل. أحلام ورؤى ووقائع وسهول وأودية وجبال ووعر وشوك وأرض خضراء وهواء وينابيع، وأمكنة تخييلية، وجميعها بدون شركاء. وقد «تنازلتُ» عن ملكية هذه الأملاك بواسطة الكتابة، لتكون ملك اللغة الشعرية، وملك الآخر.
«لم أدعُ أحداً»، وبعده «مقام السروة» («دار النهار»، 1996)، «افتحي الأيام لأختفي وراءها» («دار النهار»، 1998)، «سراح القتيل» («دار النهار»، 2001)، و«إنجيل شخصي» («الدار العربية للعلوم ناشرون»، «دار النهار»، 2009)، هي بالنسبة اليَّ، اختبارات وتجارب شعرية، وهي أيضاً محطات متنوعة، لكن متآلفة، في رؤيتي للذات وللأشياء والعالم، وفي كتابتي لها، بما يجعلني أعتقد أني شاعر حقيقي. وأني أيضاً شاعرٌ بالفعل لا فقط شاعرٌ بالقوة. وهذا، بيني وبيني، قد أشعرني بحجم مسؤوليتي تجاه «ما أراه» من شعرٍ سابحٍ في مياه الرأس، كما أشعرني بحجم مسؤوليتي تجاه ضرورة كتابته شعرياً.
طبعاً، مثل هذا الأمر متروكٌ الحكمُ فيه الى القرّاء مطلقاً، والى الأدباء والفنانين والنقّاد خصوصاً، لكني لا أنتظر شيئاً من أحد، كما لا أطلب «تثبيتاً» ولا «اعترافاً» من أحد. وطبيعيٌّ هنا أن لا أكون أطلب الكتابة عن أدبي، ولا مدائح وتقريظات من أحد.
أسوح في دماغي، في أعمق أعماق نخاعي الشوكي، وفي جسدي، وفي قلبي، وفي باطن يديَّ، وفي لغتي، وكلما ذهبتُ بعيداً في هذه المواضع، رأيتُ جانباً من لغتي، وتكهرب شيءٌ ما في داخلي. ولا يزال هذان الرؤية والتكهرب يحصلان معي كل يوم تقريباً، وأنا لا أزال أستيقظ كل يوم قبل السادسة صباحاً، ولا أزال أكتب كل يوم تقريباً. وأعتقد أن ليس من رحال. ولن أحطّ.

تقول إن شخصيتك الأدبية بدأت تتبلور مع كتابك الثالث. أظن أنك بدأت تجد لغتك. في رأيي أن إحدى مشكلات الشعر اليوم، أن لا أحد يرغب في كتابة لغة خاصة به، كما ترسيم فضائه ومناخه. بمعنى أن ثمة الكثير من التشابه في التجارب كأنها تكتب بيد واحدة. ما رأيك؟

ـ العثور على اللغة، على لغتكَ الشخصية، يشبه، من حيث دقته ورهافته ومشقته و... تحدياته، استيقاظكَ مبكراً، قبل الفجر، من أجل أن تشاهد الخروج الأول للضوء، فتراه مثلما قد يراه الجميع، لكنْ وحدكَ، وعلى طريقتكَ، وبجسمكَ، وبعينيكَ، وبعقلكَ، وبمشاعركَ، وبحواسكَ الخمس، وبسواها، وأيضاً بلغتكَ، وذلك من دون أن يعكّر صفوكَ أثرٌ من صوتٌ أو من نظرة أو من رائحة أو من لمسة، أو حتى من بسمة، أو كآبة. هذا التنبّه الأقصى، هذا الاعتزال الأقصى، هذا المحو الأقصى، تستلزم منكَ أن تكون نفسكَ لا سواك، وأن تكون لغتكَ لا لغة سواك. بل تستلزم منكَ أن تعيد خلق نفسكَ كما لم تكن من قبل، وأن تضع نفسكَ في الموضع الذي لا يداخله أحدٌ سواك.
أنا أفعل ذلك، لا في القصائد فحسب، وإنما أيضاً في المقالات والنصوص المختلفة. هذا لأقول لكَ كم أنا منشغلٌ بهذه المسألة ـ منذ كتابي الثالث ـ انشغالاً، أعتبره يتوازى من حيث الأهمية مع موهبة الشعر نفسها. لا أكتمكَ أن الكتابة الشعرية تأتيني كفيض، كرغبة فاحشة، وكموهبةٍ ترفض أن يوضع لها حدّ. لكني لا أكتمكَ في الآن نفسه، وبالوضوح نفسه، وبالقوة نفسها، أن كتبي الخمسة الأخيرة، مكتوبة أكثر من ثماني مرّات، ومعادٌ النظر فيها عشرات المرّات، محواً، وتعريةً، واختزالاً، وتصويباً، وتمزيقاً، من أجل العثور على عقل العويط في الكتابة الشعرية. يحدث خلال ذلك أن أعثر على ما يكهرب الكيان اللغوي ويهزّه من أعماقه هزّاً تقرع له أجراس جسمي وروحي. فأنا في لعبي على اللغة، أصل أحياناً الى أماكن يُحدث التحرّك ضمنها نوعاً من الصدمات الكهربائية، تلك التي تترك ضوءاً باهراً معمياً، من شأنه أن يلغي كل ظلٍّ «غريب» محتمل.
يهمّني أن أخبركَ بالآتي: كلما أنجزتُ قصيدةً، وتوقفتُ عن العمل فيها، طبعتُها على ورق، كي تتخذ لنفسها جسماً غير الجسم الموجود على شاشة الكومبيوتر، وكي أتفاعل معها من مسافة، باعتبارها كائناً آخر، مختلفاً عني. وقد أتركها وقتاً طويلاً أو قصيراً، ثم أعود اليها لأقرأها من جديد، قراءةً تترك بصماتها الصارمة على جسدها. ثم أعود فأطبعها مرةً ثانية وثالثة، و... ثامنة، وهلمّ الى أن تضجر مني وأضجر منها. ولا أخفيكَ أني أحياناً أقول لنفسي معاتباً ومؤنّباً، بعد طباعة القصائد في كتاب: كيف سمحتُ لنفسي بأن أترك هذه الكلمة أو ذاك المقطع، على ما هما عليه!
بهذا الجواب، أعتقد أني أكون، رمزياً، قد أجبتُ عن سؤالكَ المتعلق بمشكلات الشعر اليوم، وكيف أن الكثيرين لا يهتمون أو لا يرغبون بكتابة لغة خاصة بهم.

الفاصل الزمني

بعد «سراح القتيل» (2001)، مضت سنوات عدة قبل أن تعود لتصدر «إنجيل شخصي» (2009). كيف تشرح هذا الفاصل الزمني الذي ابتعدتَ فيه عن النشر؟

ـ إنه الازدراء. ازدراء النشر، وحتى ازدراء الإقامة في كتاب. ليس ذلك تعالياً على القارئ، وإنما للإحساس القوي، خلال تلك الفترة، بعدم جدوى الخروج الى القارئ. أو حتى بعدم جدوى الخروج من دماغي. لا بعدم جدوى خروجي أنا شخصياً من قوقعتي الدماغية فحسب، وإنما خصوصاً بعدم جدوى خروج الشعر من الدماغ.
ثم هو اليأس. بالتأكيد، ليس بسبب حياتي الشخصية، وإنما بسبب امتناع المكان، الذي هو بيروت، الذي هو لبنان، عن الكينونة. لقد يأّسني بلدي وأهله وسياسيّوه الى حدّ قلتُ لنفسي: ما جدوى النشر؟ وما جدوى الخروج الى القرّاء، والى المكان العام، ما دام كل شيء منعدم الانوجاد ومختلّ الوزن، وحيث لا قيمة لمكان، ولا قيمة لمدينة، ولا قيمة لشيء، ولا قيمة لأحد، ولا قيمة لبلد، ولا قيمة لمعيار. و... هلمّ.
انهيار المعيار، جعلني أزهد، وأعتكف، وأمتنع عن النشر. بل جعلني أزدري كل شيء، وأترفّع عن كل شيء، وأيأس من كل شيء... إلاّ من حياتي الشخصية.
لكني كنتُ جباناً. فبدل أن أذهب بهذين الازدراء واليأس الى حدّهما الأقصى، بتطليق الكتابة والمكان والشأن العام، كنتُ خلال تلك الفترة نفسها (من 2000 الى 2009) منكبّاً على الكتابة لنفسي بدون نشر، وعلى الكتابة في شؤون أخرى، كالشؤون التي تفرضها مستلزمات العمل في الصحافة. فلو كنتُ شجاعاً وجريئاً بما فيه الكفاية، لهشلتُ في البراري، ولامتنعتُ، تالياً، عن إخراج الشعر من دماغي، ولأحجمتُ عن الكتابة التي لم أتوقف عنها يوماً، طوال هذا الفاصل الزمني الذي يتحدث عنه السؤال، والتي أعتقد راسخاً أن عندي منها ـ أي من الكتابة ومن القدرة على مواصلتها ـ نبعاً لا ينضب. قد يجد البعض في كلامي ادعاءات أدبية وشعرية واضحة، أو «تورّماً» شخصياً. لا بأس. بل هذا جيّد، بل جيّد جداً. فأنا لا أريد أن أتخفّى وراء إصبعي. بل أقول إن من لا يعترف بنرجسيته هو شخصٌ مُراءٍ ومدّعي تواضع. في هذا الباب لا أجد سبباً يمنعني من أن ألفت الى أنه قد صار عندي، في حوزة سيرتي الأدبية حتى الآن، الكثير من الكتابات الشعرية التي أعتقد انها أُهمِلت إهمالاً مجحفاً، ولم تنل الاعتناء النقدي الذي يجب أن تحظى به، لا من القراء، ولا من الشعراء ولا من النقاد. على كل حال، هذه مسألة نسبية، لكن آن الأوان لألفت اليها علناً، بطريقتي المنزَّهة من أيّ مطلب أو من أي عتاب، من على هذا المنبر الأدبي والثقافي.

* هل أصبحت الكتابة صعبة؟

ـ الكتابة لم تكن يوماً سهلةً، أو متساهلةً، عندي، كي تصير اليوم عملية صعبة. دائماً كانت عملاً صعباً للغاية. بل أقرب ما تكون الى المستحيل، الذي ما إن أراه حتى يصبح ممكناً. قد أكون تهاونتُ حيال الكتابة الجدّية في الكتابين الأولين. أقول قد وربما. وفي الكتابين الأولين فقط. لكني في ما بعد، لا. لذا لن أتردّد في القول إن الكتابة الشعرية، شأن «المستحيلات»، هي دائماً مستحيلة، الى أن تصبح صعبة، ثم ممكنة، فموجودة «بالفعل».
جوابي عن سؤالكَ المحدَّد هو الآتي: لا. الكتابة لم تصبح صعبة. فقط، ازداد شعوري بالازدراء واليأس، من جرّاء الانهيار. وخصوصاً من جرّاء انهيار المعايير. لكنهما ازدراء ويأس صامتان، مترفّعان، وأحياناً متكبّران. في كل الأحوال، هما ازدراء ويأس، بدون انفعالات، ولا ضغائن، ولا أحقاد، وهما أيضاً وبالطبع، بدون رغبات ثأرية.

* مع ذلك نعود دوما إلى الكتابة، إذ لا نستطيع الإفلات منها. كيف تفسر هذا «التناقض» إذ جاز التعبير؟

ـ نعود الى الكتابة، لأنها الكينونة المطلقة للشاعر. ولأنها الثأر الوحيد الذي يستطيع الكاتب أن يثأر به من العالم. فكما يستطيع هذا العالم أن يلقي عليكَ بكوارثه ومآسيه، تستطيع أنتَ، الشاعر الأعزل، أن تضربه بأجمل ما عندكَ: باللعنة الشعرية. فهي سلطانكَ الذي لا يستطيع أيّ سلطان، مهما يكن جبّاراً وغاشماً، أن ينتزعه منكَ. بالكتابة الشعرية تصبح، أيها الشاعر، ذاتكَ، وشخصكَ، وتصبح سيّد العالم، لا عبده.
الشعر، عندي، كما قلتُ في «إنجيل شخصي»، هو «تدبير اليأس الكوني بالكلمات». وأستطيع أن أقول لكَ إني أكتب كلما احتجتُ الى أن «أكون»، وأكتب كلما دعتني الكلمات التي تنتظر في مياه نخاعي الشوكي، الى إنتشالها من الغرق، بيديَّ هاتين، مطالبةً إيايَ بأن أشمّسها في الحبر الذي ينشف بين طيّات الكتب وعلى أجساد الصفحات.

* أي كتاب على الرغم من «علاقات القربى» بين أقسام كتابك الأخير، «إنجيل شخصي»، لا أعرف لِمَ أشعر كأن التجارب تنتمي الى أكثر من حالة، ولأقلْ كأنها تشكل كتباً عدة في كتاب...

ـ في هذا الديوان أربعة أقسام. الأول والأخير هما قسم واحد: «خاتمة» هو الأول، و«بداية» هو الأخير. وينطويان على رؤية وجودية، شعرية وإنسانية ولغوية، للكون وللذات. وقد جعلتهما في قسمين، ضمن تصوّر، محض تقني، لبنية الكتاب «الإنجيلية».

لا بدّ من التقاط هذا التصوّر البنيوي للكتاب، لـ «تفهّم» وجود أربعة أقسام هي «رؤى» كتابية أربعة لـ«إنجيليّ» واحد، هو أنا. القسم الأول، «مانيفست لآخر الكون»، قصيدة كاملة، كتبتُها برويّة وتؤدة، غداة حوادث 11 أيلول 2001، التي نجمتْ عنها رؤية شعرية جحيمية وأبوكالبتية لحال العالم من جراء تدمير برجَي «مركز التجارة العالمي» في نيويورك. صحيح أن هذه القصيدة تشكل بنية قائمة في ذاتها، وفي مقدورها أن تحيا وحدها، وأن تشكل تصوّراً مختصراً ومكثّفاً لمفهوم القصيدة – الديوان، من غير حاجة الى إدراجها في كتاب يضمّها الى أجزاء أخرى، لكنها هي التي، مع «القفل» الأخير، والماثل في الصفحة الأخيرة من الديوان، يؤويان، بنيوياً وتقنياً، القسمين الأساسيين اللذين هما متن الكتاب ومادة نخاعه الشوكي: «صيّاد الغيم» و«الديوان الناقص».
بالنسبة الى الجزء الثاني، «صيّاد الغيم»، فهو الحيّز الأكبر في الكتاب. قصائد قصيرة، الواحدة من صفحة الى ثلاث صفحات تحتل فيها الأشياء والكائنات المحيطة بالشاعر المقام الأول. وإذا فاحت فيها رائحة الذات أو الأنا فإنما يحدث ذلك من خلال مسام هذه الأشياء والكائنات التي تحتل مرتبة البطولة في الديوان، بخلاف دواويني السابقة التي كانت تحتل الأنا فيها المكانة الأولى. فالقصائد تريد تكريم التفاصيل والأمكنة التي أعيش في كنفها، والتي لم تشأ يوماً أن تتركني وحيداً في عزلتي الشعرية والحياتية، حيث أركّز في البعض منها على فلسفة الشعر والشعرية والشاعر معاً.
الجزء الثالث هو «الديوان الناقص»، وقد سمّيته كذلك لأنه قصائد حب تشكل استكمالاً لتجاربي الكتابية في هذا المجال، حيث أتوغل في مساءلة المرأة الواحدة الوحيدة، جاعلاً بطولتها شبيهة ببطولة القصيدة المنقذة.
أما الجزء الرابع فهو «من مانيفست لأول الكون»، في صفحة واحدة، ويفتح ـ باعتباره «بداية» ـ باب الديوان على التأويل الذي يمكّن الشعر من فتح ثغرة في جدار اليأس الكوني.
هذه الأقسام الأربعة هي «إنجيلي» الشخصي، وجميعها تتشارك في إفساح المجال للاختبار السردي كي يأخذ مجراه داخل القصيدة، حتى لكأن الكتابة توهم بأبعاد قصصية، فتلامس بنية القصة من دون أن تتورط فيها، موسِّعةً مفهوم القصيدة الذي يردم الهوة بين الشعر والنثر، وبين الشعريّ والروائيّ.
تتسم القصائد بالقصر النسبي تأكيداً للاختزال وللكثافة الشعرية التي تبتعد عن المفهوم الروائي والحكواتي، حيث الأولوية للفكرة ـ الصورة الشعرية، التي تتوالى في سلسلة متواصلة من الدهشات تنبني في لقطاتها الآسرة قامة القصيدة، ومعها هوية الشاعر ـ الراوي.
الكتاب أربعة أقسام، صحيح، لكن الكل يندرج ضمن تصوّر تقني وبنيوي ممنهج، وفي أحضان لغة، أميل الى أن أضفي عليها طابعاً سردياً، ونوعاً ما، حكائياً.
ضمن هذا التصور، ليس ثمة في «إنجيل شخصي» كتبٌ عدة في كتاب.

المرجعيات

* يبدو شعركَ في «إنجيل شخصي» كأنه يرغب في الاتكاء على مرجعيات عدة. هل يصح القول إنه نص على نصوص أخرى؟ وهل مع تقدّم التجربة يبدأ الشعر من شعر آخر؟

ـ رغباتي الشعرية لا حدود لها. ومرجعياتي أيضاً لا حدود لها. هي بكل اعتزاز: مرجعيات لبنانية، وعربية، وفرنسية، ومرجعيات عالمية مترجمة الى الفرنسية. هؤلاء جميعهم أهلي، لكني في حقيقة أمري، وفي أول المطاف الشعري، كما في آخره، أنسى هؤلاء جميعاً. بل هم يهربون منّي كالهاربين من نقيض مضادّ، أو كالهاربين من شرّ مستطير. صدِّقني يا عزيزي، أنا لا «أتذكّر» إلاّ عقل العويط نفسه فقط، داخلاً الدخول الدائم الى مرجعيات نخاعي الشوكي وخارجاً الخروج المليء منها، محمّلاً بمرجعيات هذا السفر الشخصيّ داخل الشخصيّ، بكيميائياته وأشكاله وتقنياته وأساليبه ولغاته وأحواله. حياتي الشخصية، كما حياتي الشعرية، تتشمّسان هناك، وتنامان هناك، وتعيشان هناك. وعندما تجوعان، تأكلان من هناك. فهناك خبزي وهناك مائي وخمري. هناك أيضاً وخصوصاً «موضوعاتي» و«لغتي». أنا يا عزيزي، لم أترك مرجعيةً شعريةً خلاّقة، إلاّ قرأتُها ودُهشتُ بها، واحتفظتُ بجوهرها المعنوي، الى هذا الحدّ أو ذاك. لكني لستُ مشغولاً بمرجعية أحد، ولا أرغب بأيّ مرجعية. بل أنا «مُصابٌ بالنسيان»، الى حدّ أني لا أتذكّر شيئاً مما أقرأه. استطراداً، أنا لا أحسد أحداً، ولا أغار من أحد، ولا أتطلع الى أرزاق أحد، أو ممالكه، بغية الاتكاء عليها، أو حتى الرغبة فيها. ثم أنا، قبل أن أكتب، وعندما أكتب، وبعد أن أكتب، أروح أصفّي كل دم، لكي لا يبقى إلاّ دمي شاهداً عليَّ. قضيتي الشعرية هي قضية وجودي الشخصي أنا، الكيانيّ واللغويّ، في العالم والأشياء. وأنا أصفّي حساباتي الوجودية والكيانية واللغوية داخل نخاعي الشوكي هذا، ومن طريق اللغة، التي هي إرث البشرية جمعاء. وعندما أخرج من رأسي، لأفكّر ولأتأمل ولأكتب، فأنا أرى العالم وحياتي والحبّ والأشياء والكائنات والخراب والجمال واللغة والأشعار والشعراء، موصومين بهذه الكرة الأرضية التي هي رأسي. تستطيع أن تقول الآتي: شعر عقل العويط هو شعر نخاعه الشوكي الشعري. لقد صرتُ، على غرار المضروبين من أمثالي بجروح هذا النخاع الشوكي وأعطابه، شبيهاً بمرضى الزهد والتصوّف والعشق، «مأخوذاً» بأحوالي هذه. لم يعد شيء يبهرني أكثر مما تبهرني إقامتي في نخاعي الشوكي. هذه هي مرجعيتي الجوهرية، وأنا لا أتكئ عليها فحسب، بل أنوجد شعرياً وحياتياً بها.
وبشيء من التواضع العرفاني أقول: أنا أعيش في القرن الحادي والعشرين شعرياً، وارثاً كل الجمالات والمرجعيات الشعرية من أول البشرية حتى هذه اللحظة. وأنا شاهدٌ لها. وعارفٌ بها. ومقدِّرٌ مكانتها. لكن إلهي الشعري هو دماغي. قد أسمّيه الرأس، لكني أفضّل أن أسمّيه «دودة الظهر»، دودة ظهري أنا. وأعني شعرية النخاع الشوكي.
في الجملة الأخيرة من سؤالك، تقول: هل مع تقدّم التجربة، يبدأ الشعر من شعر آخر؟ أجيبكَ بالآتي: ليس مع تقدّم التجربة، إنما من الأوّل. من الأول تماماً: دائماً وأبداً، يبدأ الشعر من شعر آخر. تصوّر فقط أن الشعر لا يبدأ من شعر آخر؟ لكأنكَ تمحو الشعر لتقول، متشبهاً بصورة الله في أذهان المريدين، أو بصورة كل ديكتاتور عن نفسه: أنا هو البداية، وأنا النهاية.

*لكنه قرن غير شعري، ما يزيد الشعور بالكآبة والاحباط.

ـ أنا شاعر، يا عزيزي، أياً يكن هذا القرن غير الشعري. ولا أريد إلاّ أن أكون شاعراً، وكم بالأحرى في قرن غير شعري. هذا مدعاة للشعور بنوعٍ من الفروسية الأدبية الخلاّقة. ثم إن هذا الوصف للقرن لا يشكل مأزقاً لي، ولا للشعر، ولا للكتابة. إنه مأزق العالم بالذات. وسيكتشف هذا العالم أنه لا يستطيع أن يكمل الطريق على هذا المنوال، وأن يظل يحيا خارج الشعر. وإذا كان من مأزق جوهري يعيشه هذا العالم، فمأزقه ناتج من ابتعاده عن الشعر. في خلال ذلك، أنا أعرف تماماً كيف أضرب هذا المأزق، وكيف أثأر منه: باللعنة الشعرية. حرفياً، كما أجبتُكَ في سؤال سابق.

* ثمة مسحة «روحانية» لم تكن حاضرة بهذه القوة في مجموعاتك السابقة. كيف تفسّر حضورها في هذا الكتاب؟

ـ دائماً كنتُ «روحانياً»، فلماذا لا أكون الآن كذلك؟ لكني لا أعرف ما إذا كانت هذه «الروحانية» حاضرة أقوى وأكثر، في المجموعة الأخيرة. في المقابل، يهمّني ان أقول إنني للمرة الأولى، أحضر بصورتي «المادية». ولا مرة، كنتُ «واقعياً» و«حكواتياً» وواصفاً ومحسوساً وملموساً، كما هي حالي في «إنجيل شخصي». وقد فعلتُ هذا كلّه، من طريق «تجريد» الواقع والحكاية والوصف والمحسوس والملموس. على كل حال، هذه مسألة تقع مسؤولية التعرّف اليها على عاتق القارئ، أكثر مني.

*«إنجيل شخصي»، وقبل كل شيء آخر، يقع في المرثاة: مرثاة الإنسان والكائن. هل هو في هذا المعنى «مانيفستو» لمرحلة ولتأريخ ما؟

ـ القسم الاول يمكنني أن أسمّيه مرثاة. هذا صحيح. بل صحيح جداً. وكما قلت لكَ، في بداية هذا الحوار: إنه رؤية أبوكالبتية وجحيمية للوجود. وهو مانيفست لأوّل الكون. بل لآخره.
ربما لهذا السبب، قد يؤخذ هذا «الإنجيل» برمّته، بجريرة هذا الرثاء للعالم.
لكنْ، لا. فالقسمان الثاني والثالث هما المرآة الخلفية لهذا «الإنجيل الشخصي». إنهما احتفاء بـ«السيرة» غير الكاملة، ودائماً غير الكاملة، للحياة الشخصية، للشاعر والشعر، وللحب. وللمرأة التي أحبّها.
لا أعتقد أن ثمة مرثاة في هذين القسمين الجليلين من الديوان. بل أراني أذهب في هذا التأكيد الى درجة يمكنني معها القول إن «صيّاد الغيم» (ستين في المئة من صفحات الكتاب)، هو شعرٌ شبه «حيادي»، حيث يندرج الموقف «الوجداني» فيه تقريباً في خدمة تجريد الواقع الحسي الملموس والموصوف، لا في تأجيج رثائه ولا أيضاً في تقريظه.