أجرت الحوار: هدير البقالي

علي الديريمنذ العام 2002، اعتمدت اليونسكو الخميس الثالث من شهر نوفمبر كل عام، باعتباره يوماً عالمياً للفلسفة. في البحرين، بادر عدد من المثقفين من محبي الفلسفة وأصدقائها بالاحتفال بيوم الفلسفة العالمي هذا العام، وافق الثامن عشر من نوفمبر الماضي. حرص هؤلاء على تنظيم برنامج احتفاء فلسفي خاص، طلق في الفضاءات المفتوحة، كما اهتموا بتنويع الفعاليات التي تربط الفلسفة بكل من الأدب والسينما والرسم والموسيقى. شارك في الفعاليات جمع من محبي الفلسفة الذين أثروها بالنقاش والحوار.

وبمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، تجري البلاد الحوار التالي مع الدكتور علي أحمد الديري، المهتم بالقضايا والموضوعات الفلسفية، وتفتح معه بعض الإشكالات المتعلقة بالفلسفة في واقعنا المعاصر.

* هل المناهج الدراسية التي أخذت حقها في الفلسفة أم أنها مازالت حالها لم تتطور؟

في الثانوية العامة كنت في القسم العلمي شغوفا بالمواد العلمية لم أكن اجد التفكير خارج المعادلات الرياضية والتجارب المختبرية لم أتعرف حينها على مادة الفلسفة ولا المنطق. بدا لي العلم هو كل شيء، ومنطقة التحدي تكمن فيه.حين دخلت جامعة البحرين في تخصص اللغة العربية لأسباب دينية، واجهت أزمة كبيرة في التعاطي مع المواد الأدبية والتربوية، تعلقت بالنحو والصرف والعروض، فقواعدها مقننة وشبه مغلقة ويمكنني آن أثبت تفوقي من خلالها.حتى لحظة تخرجي لم أعرف في مناهجي الدراسية شيئا اسمه الفلسفة. لكني عرفت المنطق عبر محيطي في السياق الديني وعرفته باعتباره مجموعة قواعد مدرسية تعصم الفكر من الخطأ. وهنا يكمن المقتل، مقتل تربيتي خارج مناهج الفلسفة، فالمنطق والعلوم بقواعدها الصارمة، تقتل فيك إمكان تعدد الحقيقة وتنوع الآراء، وتريك كل ما هو خارجها هراء وكلاماً ملقى في الطريق. غياب روح الفلسفة عن مناهجي الدراسية التي هي مناهجنا العامة، هو مقتل تربيتنا، وتربيتي نموذج لذلك.
العلوم من غير فلسفة يقين يقتل العقل، لأنه يحرمه من الشك والظن والبحث عن إمكانات جديدة. لذلك لا يمكن التعويل على العلوم من غير الفلسفة. كذلك لن نتمكن من فهم علوم اللغة وعلوم الدين من غير درس الفلسفة.

* ألم تجد شيئا في الجامعة قريبا من الفلسفة؟

أذكر بقوة مقرر أصول التربية في جامعة البحرين، في هذا المقرر تعرفت لأول مرة على أن هناك مدراس فلسفية ولكل فلسفة منها أصولها التربوية المختلفة، ووفق هذه الأصول تختلف تربية الإنسان العقلية. لكن هذا المقرر، كان من غير أصول فلسفية، وأذكر أنني في لحظة تذمر معرفية خرجت وسط إحدى محاضرات هذا المقرر بل وسط كلام المحاضر، فقد كنت أشاغب المحاضر بأسئلتي التي تعبر عن عدم فهمي وفي الوقت نفسه تحتج ضمنيا على عدم فهم المحاضر لما يقول لأنه أساسا بلا أصول فلسفية. خروجي كان يحمل دلالة ضمنية تقول إنكم لم تقدموا لنا الفلسفة وتربتنا لم تكن يوماً تتضمن شيئا عن هذه المادة الغريبة على تفكيرنا، فكيف تريدوننا أن نفهم علاقة المدارس الفلسفية بالتربية؟!!!

* الطالب عموماً قد لا يستفيد من التطعيم بالفلسفة أثناء الدراسة لكثرة
التلقين المباشر عوضا عن التأمل بما تحمله الفلسفة من فكر، فماذا تقول؟

الفلسفة تطعيم ضد تعطل آلة الفكر الإنساني، حين أغلق الإمبراطور "جستنيان" مدارس أثينا الفلسفية سنة 529م معتبرا إياها معاهد للفكر الوثني، عطّل العصور الوسطى فصارات عصور تلقين لا عصور تأمل تنتج فكرا جديدا. لقد خرج طلاب المدارس الأثينية وطلاب مدراس الإسكندية هائمين على جوههم، لم تعد هناك أكاديمية أفلاطون التي وضعت شعارا على مدرستها "من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا" ولا مدرسة أرسطو (الليسيوم) ولا حلقة الفيلسوفة (هيباتيا) التي سُحلت وسُحلت معها مكتبة الإسكندية الفلسفية، فسحلت معهما آلة التفكير الفلسفي.

* ولماذا بعض الدول العربية تحرم دراسة الفلسفة؟

لأنها تحرّم تداول السلطة والسلطة التي لا تتغير تستند إلى معنى ثابت لا يتغير، معنى للدين والإنسان والحكم والعالم والألوهية. الفلسفة مهمتها تغيير معنى هذه المفاهيم وإبداع مفاهيم جديدة لها. المشكلة لا تمكن في أنها لا تدرس الفلسفة فقط، بل تعرض لها في مناهجها عرضاً هامشيا يوحي بأنها شيء قديم قد انتهى أو كأنها علم جدلي فارغ لاعلاقة له بحاضر الإنسان وقضاياه المعاصرة.

* الفلسفة تعتبر كثورة لبناء العقل الذهني و سبر لأغوار النفس البشرية
خاصة، فألا تعتبر أن الفيلسوف جاء نتيجة تراكمات مضطهدة له من المجتمع
والبيئة التي تخرج منها ؟

تبدأ الفلسفة من الذهن كثورة من الأسئلة المتجهة نحو الواقع. الواقع في الأرض أو الواقع في السماء. تحاول أن تهز الفهم الإنساني كي يدرك سماءه أو أرضه إدراكاً يمكنه من تغيير خارطة السماء أو الأرض. تتجاوز الثورة منطقة العقل فتكون ثورة في الأرض على المفاهيم وعلى الموسسات وعلى السلطة، فيشتبك الفيلسوف بأصحاب السلطة، وأصحاب النفوس في الأرض، الذين يريدون للأشياء أن تبقى مستقرة من غير ثورة. وهم يستعينون بالسماء لكي يثبتوا سلطتهم من ثورة أسئلة الفيلسوف. ولنأخذ على سبيل المثال سقراط، أسئلته الثائرة في عقله أرعشت سكان أثينا، فحكمت السلطة السياسية عليه بالقتل مسموماً، لأنه كان يرعش معتقدات الناس في آلهة أثينا. ولنأخذ هيباتيا، فقد كانت أسئلتها في مكتبة الاسكندرية ثورة لاستخدام العقل ضد الخضوع والاستسلام للإجابات التي كان الحاكم الروماني يتوافق فيها مع المعتقدات المسيحية الجديدة فحكمت على هيباتيا بالسحل لأن ثورة أسئلتها تحرك الواقع المستقر تحت سلطة السماء المتجسدة في شخصية الإمبراطور الروماني. تاريخ الفلسفة تاريخ ثورات، لذلك هو تاريخ اضطهاد أيضاً.

* برأيك ما دور الفلسفة في نقد قضايا المجتمع؟

وجودنا في أي شكل من الأشكال هو قضية، وهو قضية إشكالية دوماً. وجودنا في شكل طوائف وقبائل وديانات، وجودنا في مجتمع متعدد الأعراق، وجودنا في شكل دولة غير منجزة، في شكل دولة غير دستورية، في شكل دولة مدنية، في شكل دولة دينية، في شكل مجتمع ذكوري، كل هذه الوجودات تشكل قضايا وتطرح أسئلة على معيشتنا. كيف يمكن أن نعيش في هذه الأشكال، وما الذي يواجهنا فيها وكيف نخرج من مآزقها، وما الذي يتحقق من انسانيتنا فيها، وما الذي يغيب. هذه أسئلة فلسفية. والإنسان لا يوجد إلا في شكل من هذه الأشكال، ومتى كفّ عن أن يثير أسئلته الإشكالية على هذه الأشكال، فقد قدرته على تطويعها وتطويرها وتغيير أنماطها. تطور شكل الديمقراطية الحديث جاءبفضل أسئلة هوبز وروسو ومونتيسكوي وغيرهم من فلاسفة عصر النهضة الأوروبية الذين شغلهم شكل وجود الإنسان في مؤسسة السلطة أو الدولة التي يحكمها ملوك باسم الله.

* هل يمكن تطبيق الفلسفة الغربية البعيدة المدى على أرض الواقع العربي؟

أرض اللغات والثقافات والحضارات متعددة وهي تثري الأرض الكونية بالاختلافات، كل فيلسوف الحق يحفر في أرضه المفهومية عبر لغته وإشكالاتها الحضارية والثقافية في لحظة تاريخية ما، وكلنا لنا الحق في إثراء أرض واقعنا بهذه الحفريات.ربما من المفيد أن نستفيد من مفهوم طه عبدالرحمن للتأثيل في مشروعه فقه الفلسفة، مع توسيع أو تغيير حدود الرؤية التي ينطلق منها هو.

* برأيك هل الفلاسفة اتفقوا على مسلمة واحدة، أو قضية واحدة، وما مدى
تطورها في دراسة الفلسفة؟

الفلاسفة لا يقلقهم اختلافهم، بل يقلقهم اتفاقهم. ربما علماء الكلام واللاهوت يقلقهم اختلافهم حول صفات الألوهية، لأنه اختلاف يحدد الجنة لمن والنار لمن، والحرب ضد من والسلم مع من، والكفار من هم والمؤمنون من هم.اختلافات الفلسفة تكثّر معاني العالم واختلافات المتكلمين واللاهوتيين تصفي العالم.

* ألا تعتبر الفلسفة تحدي للقدسية الإلهية؟

هي تحدٍ لكل ما يشكل طاغية، والطاغية ليس شخصية سياسية بالضرورة، قد يكون مفهوماً، كالعقل مثلا، فتأليه العقل وتقديسه والثقة المطلقة فيه وفي قدرته على تحقيق الخير والسعادة والسلام للإنسانية حوّله إلى طاغية كما هو حاله في عصر الحداثة وانتهى بالبشرية إلى حربين مدمرتين، كذلك الألوهية حين تجسدت في خلفاء وملوك يحكمون باعتبارهم ظل الإله وخليفته ونوابه صارت طاغية تتحداه الفلسفة بأسئلتها التي تقاوم كل سلطة تحد من حرية الإنسان وقدرته على أن يشكل مجاله الحيوي في التفكير.
ليس هناك مفهوم واحد للألوهية، والمجامع المسكونية الكنسية (مجمع نيقية325م، مجمع إفسوس 431l مجمع خلقيدونية 451م ) التي عقدت في التاريخ كانت مهمتها حسم الصراعات التي تنشئ حول مفهوم الألوهية وهي صراعات سياسية أساسا ، وتستهدف في الأساس تثبيت السلطة السياسية للأمبراطوروتدور من خلال بحث ألوهية المسيح، وغالبا ما تتعارض هذه مع الفلسفة، لأن ليست من مهمة الفلسفة إضفاء المشروعية على السلطة السياسية، فهذه مهمة الدين غالبا والدين في هذا الاستخدام يتعارض مع الفلسفة. بل تصبح مهمة الفلسفة في هذه اللحظة كشف حقيقة هذا الاستخدام غير المشروع للسلطة وللحقيقة.
ما هي الألوهية، هي مجموعة من الصفات. والصراع بين علماء الكلام أو علماء اللاهوت وحتى الفلسفة هو صراع أو اختلاف حول هذه الصفات. والاتهامات بالهرطقة والكفر والبدعة كلها تتعلق بإثبات صفة ما أو إنكار صفة ما. بل المذاهب الكلامية واللاهوتية تتمايز بهذه الصفات وتعرف بها. على أن خلافات علماء الكلام واللاهوت تنتج مذاهب عقائدية متحاربة( المجسمة والمنزهة والمعطلة) ، واختلافات الفلاسفة تنتج تصورات مختلفة لمفهوم الواحد وواجب الوجود والمحرك الذي لا يتحرك.
لقد استفاد علماء الكلام الإسلامي وعلماء اللاهوت المسيحي من تصورات الفلاسفة لمفهوم الواحد، ومباحثهم في الميتافيزيقا والعلل في بلورة تصوراتهم لمفهوم اللالوهية والاستدلال عليها. كما أن الفلاسفة في المحيط الإسلامي والمسيحي وفقوا بين الفلسفة والدين ولو أخذنا إخوان الصفاء فسنجدهم يعرّفون الفلسفة بأنها التشبّه بالإله بقدر الطاقة الإنسانية، أي بقد طاقة الإنسان على التشبه بصفات الكمال الإلهي.

* أغلبية الفلاسفة وصفوا بالملحدين، كذلك منهم من أقدم على الانتحار،
ومنهم من أعدم، ومنهم من مات يائسا، أيعتبر ذلك نوعا من الخلود لهم؟

التفكير في الخلود جاء من تأمل الأشياء الزائلة والفلسفة كانت تبحث عن الأشياء الخالدة وتجد فيها العلل الأولى التي تفسّر خلق العالم والإنسان، حتى صارت مهمتها معرفة هذه العلل، وصات هذه المعرفة طريقاً للخروج من جسد هذا العالم إلى حيث الآلهة الخالدة، الفلاسفة هم من يصعدون في هذا الطريق ولذتهم تتحقق بهذا الصعود إلى الأعلى، لذلك كان سقراط في محاورة فيدون أو محاورة الخلود، يرفض الهرب من السجن ويعبر عن سعادته بلحظة اقتراب صعوده، ويتمثل سلوك البجعة حين تعبر بالغناء عن فرحتها بلحظة اقتراب موتها "إنني أبدو آمامكم أقل قدرة على التنبؤ من البجع. وهي التي حينما تشعر بدنو أجلها تغني أطول وأجمل ما غنت أثناء حياتها السابقة، فرحة بأنها على وشك الرحيل إلى الإله الذي هي في خدمته. لكن البشر بسبب خشيتهم الموت، يتهمون البجع زوراً، ويقولون إنها تنتحب أمام الموت وتغني بسبب حزنها، وهم لا يدركون أن أي طائر لا يغني وهو على جوع أو وهو يشعر بالبرد أو وهو يشكو من أي مصدر آخر للألم... وأنني لست أقل منها شجاعة أمام مغادرة الحياة"

* ألا تعتقد أن النظريات الفلسفية تجعل من أدمغتنا مادة خصبة للتجرد من
الجسد والانفصام عن شخصيتنا للاتصال بالعالم الغير محسوس؟

الفيلسوف يفكر في الجزئيات والحالات والتجارب والأشخاص ويجرّد منها مفاهيما، لكي يفهم العالم والإنسان لكنه لا يتجرد من الحياة ولا تتجرد مفاهيمه من الحياة ولا من الحس. لدينا على سبيل المثال الفيلسوف ابن سيناء الذي يعد فيلسوفا لللنفس كما كان أرسطو قبله بثلاثة عشر قرنا فيلسوفا للعقل. كان ابن سيناء يجد لذته الحسية في الشرب والجنس مقترنة بلذته العقلية في الدرس والكتابة والتفلسف والتطبيب ومقترنة بلذته الروحية في الصلاة والحب. وكذلك كان الخيام.
بل إن الفلاسفة يتحولون بسلوكهم وحياتهم إلى مفاهيم فلسفية. نخطئ حين نعتقد أن ألفاظ الفلاسفة لا علاقة لها بالمعاني الحسية التي نستخدمها فيها، بل هي شديدة العلاقة، لكن يتميز الفيلسوف بأنه يجرد لفظه من أن يكون مرتبطا بشيء واحد أو حالة واحدة ويجعلها تشمل أكثر من شيء وأكثر من حالة فيجعلها تشمل معاني أشياء متعددة، فمفهوم الفيض في الفلسفة محكوم بمعنى الفيض الحسي المتعلق بفيض الماء في الكأس مثلا، ومفهوم النور الإلهي والنور العقلي لهما ارتباط بمفهوم النور كتجربة حسية نشاهدها، ومفهوم النظر له علاقة بنظرنا الحسي، وهكذا المفاهيم الفلسفية لا تقطع علاقتها بالحس ولا تتجرد مطلقا منه.وهذا هو موضوع أطروحتي في الدكتوراه.

* وما مدى ارتباط الوعي بماهية الإدراك الباطني للعقل الفلسفي؟
ما مهمة الفلسفة؟

مهمة الفلسفة تكمن في النقد. لكن تختلف من مرحلة إلى أخرى. طبيعة القضايا التي تنقدها، ولو استعدنا جيل دولوز سنقول أنها كانت تجد في كل مرحلة من مراحلها موضوعاً لنقدها فمرة تكون مهمتها نقد الأخطاء، ولعل المنطق الأرسطي، هي أعظم آلة جبارة وضعتها الفلسفة لنقد الأخطاء، وأن كانت هذه الالة قد أعاقت أيضاً الفكر البشري عن ابتكار حقائق صحيحة، كانت هذه الآلة تظنها خطأً، وهنا أشير إلى منطق فرانسيس بيكون الذي حرر المنطق من سطوة منطق أرسطو الصوري وجعله أكثر مرونة واستيعاباً للواقع. لذلك كان المنطق يعرف بأنه آلة تعصم الفكر من الخطأ. في مرحلة تالية صارت مهمة الفلسفة هي نقد الأوهام التي أوقعتنا فيها الإيدلوجيات الكبرى على أنواعها القومية والدينية والشوفينية وغيرها. فقضايا العرق الأفضل والأمة الأفضل والحضارة الأسمى، تولت الفلسفة نقد أوهامها، وفي مرحلة تالية صارت مهمة الفلسفة نقد ما يسميه جيل دولوز الترهات واللا معقول.

البلاد
5 ديمسبر 2010