عناية جابر
(لبنان)

زليخة أبو ريشةزليخة أبو ريشة، شاعرة أردنية معروفة، لها إصدارات شعرية عديدة، كرستها لغة وصوراً وجرأة في خوضها في موضوعة العشق، الخوض الأثير لديها، لأجله كل جسارتها الفنية. متمهّلة أبو ريشة في إصداراتها، متأملة وجدية ولا تدفع الى النشر الا ما استوفى رضاها تنقيحا واكتمالا. جديدها "جَوَى" عن: "أمانة عمان الكبرى" والتصميم والاخراج لدار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، يقول حقيقة هذه الشاعرة العاشقة أبداً، وعنه وعن أمور ثقـافية أخرى، كان حوارنا معها.

*اللغة تتقدم عندك على موضوعة الحب. أعني لغتك تزينه وتمنحه ألقه، هل توافقين؟

الحب عندي دائما أمام، وأنا أعدو خلفه كمحسوسة. فهرمونات أنوثتي مبرمجة أساسا على طِراد الحب، كأنني ورثت ذلك عن جدتي الأولى في مرحلة الصيد، وقبل أن تجد نفسها أمام اكتشاف الزراعة واختراع الاستقرار في الأرض.
أما اللغة فهي أنا. ومثلما أن نفسي لا تبخل عليّ بما تطلبه الدواعي، فكذلك اللغة. انها يدي وذراعي وقدمي وكتفي. وهي أيضا قلبي وكبدي ورئتي، وكذا رأسي وما فيه. اللغة وجودي الحسي والمجرد، فإذا كان بني الانسان وبناته لا يفكرون دون لغة، فإني لا أعرف كيف أشعر وأتألم وأفرح وألتذ وأشتاق وأتعب وأنعس من دونها. فبالاضافة الى أن الأفكار تحتاج الى اللغة فان جميع المشاعر والأحاسيس لا تحدث فيّ منفصلة عن اللغة. ولذا فإن إحساسي باللغة هو إحساس شخصي جدا وذاتي جدا يأخذ قوامه من وجودها فيّ، لا مما قررته المؤسسة التي أحتاج في كل يوم الى أن أعلن عليها عصيانا جديدا.

"الجوى" مهنتي

*هل ما زال متسع لمثل "حبك" في جديدك "جوى"؟ أعني هل ما زال لمثل هذا الجوى مكان ومريدون؟

ولِم لا؟ فبرغم أن "الجوى" مهنتي كامرأة وكشاعرة، إلا أنني لم أطوّبه باسمي، و(أسمح) لغيري من عباد الله وعبداته ان يتذوقن لذيذ آلامه.. بل أدعوهن الى السير على كِسَر الزجاج الملقاة على دربه، وتحمّل العوسج الذي يفرزه في قلوبهن الطرية والطيبة (فالشريرون والشريرات لا يعرفونه(

فما نقول في قول الشاعر:

فلا تعدي مواعد كاذبات
تروح بها رياح الصّيف دوني...
وما نقول في شعر عنترة العبس:
لوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغركِ المتبسم...

*من يقرأ "جوى" يرى إلى تأثرات قراءتك التراثية في استعمال بعض المفردات؟

هذا الذي تدعونه "تراثياً" ولغة "تراثية" اليوم، هو في قلب الحداثة الشعرية. انه إرث لا يتصل به مع الأسف ـ غالبا ـ إلى دعاة التقليد وعبدة أصنام "عمود الشعر" ليتناولوه بأكثر الأساليب غباء وسطحية وجهلا بروحه المشعّة. بينما أرتالٌ قتلوا أرتالاً من شعراء وشاعرات الحداثة لا علمَ لديهن/هم بما يحتويه ذاك الإرث العظيم من ابداع وجمالات عابرة للعصور. وهكذا خسر كثير من الشعر الحديث فرصة ان يطوّر لغته وأخيلته ولو بقطيعة مع تجربة الأسلاف، فعندها ستكون "قطيعة معرفة" لا "قطيعة جمال".
وعلى ذلك، فان ما ترينه "تأثرات قراءاتي التراثية في استعمال بعض المفردات" ليس سوى لغتي نفسها التي تكوّنت عبر ما يزيد عن النصف القرن من الممالحة والمماحكة والحب والاخلاص والخصومة مع ذلك الارث العظيم.

لغة الصحافة السائرة

*تغيب المفردة الحديثة، وسرد الحياة اليومية التي درج عليها الشعر الحالي عن قصيدتك، لماذا؟

إذا غاب من لغتي شيء، فليس "المفردة الحديثة"، بل مفردة الصحافة السائرة التي لم تبذل جهدا في صياغة نفسها او مصاقبة المعنى وعلى العكس مما قلتِ، لم يغب سرد الحياة اليومية من قصيدة "جوى". وكل ما هنالك ان هذا السرد جاء في سياق "جَوائي" (نسبة إلى جَوَى)، حيث حضرت أشياء المكان ومفرداته التي لها دلالات الزمان ومفرداته (أي الأحداث اليومية).
سترين ان في القصيدة آثارا من التفكيكية التي ذهبت إليها جيدا وبوضوح في ديواني السابق "تراتيل الكاهنة ووصايا الريش" (،2000 وزارة الثقافة السورية، دمشق).

*"جوى" أو مجموعتك كلها، قصيدة واحدة ممسوكة بمكنة وحرفة؟ هل العشق، أو موضوع القصيدة ما استدعى طولها؟ أم هي رغبتك وميلك الى الابتعاد عن البوح الخاطف؟

لا أعرف تماماً ما الذي أدى الى طولها، سوى أن تلك اللواعج التي كانت تعصرني عصراً يوم بدأت في كتابتها لم تبرحني حتى أتيت على آخر مسوّدة لها. لقد مررت عام 2001 في تجربة عاطفية روحية شطرت قلبي، وكنت ظننت أن الهوى قد فات وبرح.. فرأيته يأتي مثل إعصار ويقتلعني كأي نبتة طرية العود ضعيفة الجذور.
وهكذا وجدتني أتلمــس دربي في التجربة التي بدت ـ وأنا في خريف العمر ـ كأنها أولى التجارب. ومن الغريب ان "جوى" كُتبت في ســنوات كنت قد تعرضت فيها لحادثة هجرت معها الكتابة هجرا كاملا ولمــدى سنوات توقفت فيها ـ دون رغبة مني ـ عن أي كتــابة. إلا "جــوى" التي بدأتها بعد حوالي ثمانية شهور من نفق الصمت ذاك، وظلت وحدها صاحبتي وصديقتي على مدى سنوات. وعلى غــير عادة الشــعر الذي يأتي فجأة ويُنتهى من كتابته في زمن لا يطول، كانت "جوى" قصــيدة مماطلة استنفدت أخفى خفايا شاعري في تلك التجربة واقتنصــتها. ولذا فلم تكن القصيدة/الديوان "بوحا خاطفا" بل بوحا محتدما وأظنه حارقاً أيضاً.

*كيف ترين الى تعامل النقاد مع نتاجك، كــيف ترين الى النقد بشكل عام؟

ما زال نقد اليوم مزاجيا ويعوزه الاخلاص، مثل أي حقل آخر في حياة العرب. كما ما زال كسولاً. بمعنى أنني لا أرى ـ على كثرة اتصالي بأهله في دوائر الثقافة العربية وبلدانها ـ أن أهل النقد يغدون خلف النتاج الأدبي، ويسعون الى الحصول عليه للتعريف به ودرسه.
صحيح أن الحدود القاسية، وصعوبات انتقال الكتاب عربيا تشكل حواجز امام هؤلاء النقاد والناقدات للحصول على الانتاج الابداعي، غير ان ذلك ينبغي ان لا يكون سببا للتخلي عن المتابعة (التي تؤديها الصحف المحلية بسطحية وتقطّع عموما)، وخصوصا أن وسائل الاتصال اليوم صارت عابرة للحدود.

التقدير الشفهي

وإذا كان هذا ينطبق على عدد كبير من نتاج المبدعين والمبدعات، فإنه ينطبق على نتاجي، برغم أنني قد نشرت في القاهرة ودمشق بالاضافة الى عمّان، ناهيك عن الصفحات الأدبية في الصحف السائرة كالقدس العربي.

اني لم أحظ ـ عربيا حتى اليوم ـ بأي دراسة نقدية جادة (سوى مقالة الشاعر شوقي بزيع في الحياة مؤخرا)، وان كنت أردنيا قد حصلت على بعض النقد بين الحين والآخر، والكثير من التقدير الشفهي (!!) لتجربتي الشعرية في محافل ثقافية في الخارج.
أذكر أن أحد القراء قد قدّم في جريدة الحياة اللندنية قراءة ديواني "تراتيل الكاهنة ووصايا الريش"، وكانت قراءة مخلصة، لأنني لم أكن أعرف الشخص ولا يعرفني. وقد تأثرت كثيرا عندما قرأت المقالة حتى أنني بكيت. مثل هذا لا يتكرر. فنقّاد الشعر يكرّسون أنفسهم لأشخاص مكرّسة. ومن الصعب اختراقهم بأسماء جديدة.

*كيف توصلت إلى امتلاك لغتك، ما هي قراءتك؟

بدأت في حياتي محافظة في تلقي الشعر بحكم تتلمذي على علم من أعلام كارهي الحداثة. وأتاح لي ذلك ان أدنو من لغة الأسلاف وأعاين خبراتهم في التعبير. لقد غصت في أمهات الكتب وبناتها، وتدربت على إنجاز سليقتي اللغوية التي سأستخدمها عندما يحين أوان التمرد على الموروث والتقليدي.

السفير
6 يتاير 2009