كتابة وحوار:أسعد الجبوري

XXXXXXXXXX

لم تكن رحلته الأخيرة شاقةً وطويلةً على الرغم من ثقل تابوته الخشبي المغطى بصخرة من جبل لبنان .قال أنه وجدت تسهيلات في عبوره ومروره واستقراره هنا في السماء الثالثة.وعندما سألناه عن فكرة وضع رحاله في هذا المكان،وعدم الاستمرار بالارتقاء والصعود إلى السابعة،تلعثم قائلاً:ربما ما زال من المبكر الدخول في الملكوت وأنا بثياب لبنان وما تحملُ من آلام وأنين وفانتازيا قلّ لها نظير على الأرض.
هل اصطدم سعيد عقل بجدار ما،ليُعرقَل سفرَهُ؟
أم أن الوقفة بمنتصف الطريق جزء من ابتكاراته التي خطط لها،بهدف امتصاص صدمة اللحظات الأولى لوجوده كمغترب في العالم الإلهي الجديد؟
لا نعرف ما المشكلة. وجدنا سعيداً يجلس على جذع الأرز وهو يقلّب النظر بموجودات المكان بعينين يملؤهما الامتعاض.ربما لأن أحداً لم يأت ويسأل عنه.أو ربما لأن الملائكة حالت دون وصوله إلى السماء السابعة،لأسباب خاصة.
عندما تقدمنا منه بخطوات بطيئة،ووصلنا إليه،سرعان ما ابتسم ابتسامة سطحية،معتقداً بأننا من العابرين إلى البرزخ الآخر.لكن،وما أن تأكد بأنه كان هو المقصود من الزيارة أو اللقاء،نهض مصافحاً بحرارة وهو يقول: كانت لحظات الرحلة بمثابة سهام رائعة ،شققت بها طريقي إلى هنا دون صداع.

س/هل كنت تخشى من صداع الآخرة ؟

ج/أكثر من خشيتي من الموت بالتأكيد.هكذا تعلمت يوم كنت على تلك الأرض البعيدة.

س/يبدو أنك أصبحت سريع الاغتراب ،ولم يمضِ على وجودك سوى دقائق. هل هو الحنين لأرض الميلاد؟
ترى كم من تراب زحلة في جسد سعيد عقل؟

ج/لم تكن زحلة من تراب بالمطلق.فتلك المدينةُ رحمُ لبنان الذي خَبِرهُ العالمُ إشراقاً وخلقاً .ولو بحث الجيولوجيون في جسد سعيد عقل ،لاكتشفوا الذهب.والذهب وحدهُ.
فزحلةُ منجمٌ للخمرين: الأصفر والأبيض . تلك إرادة الربّ وقتما شذّب الكون في الرحم الذي خرجتُ منه ذات يوم عظيم.

س/هل هذا نفي لفكرة أن يكون الإنسان مخلوقاً من تراب ؟

ج/ربما يكون ذلك صحيحاً في مناطق أخرى من تلك الأكوان المثقلة بالتراب والغبار والرمال.لكن أمور الخلق في زحلة تختلف.ولو كنت مشغولاً من تراب ،ما قرأت لسعيد عقل شعراً بوزن كل قناطير الذهب التي أثقلتُ بها جبهةَ الوجود.

س/الوجود اللبناني الماروني الزحلاوي تقصد؟

ج/أنت لو تفحصت خريطة الزمن بالعين الثاقبة الحادّة،لرأيت كل أقانيم العالم تجتمع في لبنان الجوهر والأصلُ ،والذي هو بالعبارة الأدق:أحد مبادئ العالم الثَّلاثة الأولى التي تبدأ بالواحد ، والعقل ، والنَّفس الكُلِّيّة ( عند أفلوطين )

س/ألهذا يمكن اعتبار سعيد عقل بأنه في شعره الأقْنُوم الرابع بعد الأقانيم الثَّلاثة من الديانات عند النَّصارى : الأبُ ، والابنُ ، والرُّوح القُدُس ؟

ج/أنا في الشعر فوق هؤلاء جميعاً،فسعيد عقل شحنَ روحه بطاقات الأقانيم الثلاثة مع الرياضيات، سرعان ما توجها بالأقْنُوم الرابع :الشعر.

س/أليس هذا غلواً أو وهمّاً ؟

ج/لا أقر بوجود غلو فيما أقول.وإن حصل ذلك ،فأنا أصنع من كل وهمّ حقيقةً في مجرى هذا العالم الذي ساهمتُ إلى حدّ ما بتأسيس قواعده الخلاقة .

س/قد لا يعترض أحدٌ على أحلام الشعراء،ولكن المبالغة بالحلم،ربما تؤثر على بنيان النص الشعري،بجعله منتمياً إلى الهرطقة أو الهذيان .ما رأي الشاعر سعيد عقل ؟

ج/ أنا تشبعت بالرياضيات منذ نعومة أظافري بالكلية الشرقية في زحلة.لذلك فعقلي يشتغل بالأعمال السامية التي تطهرت من كل دوني وعادي ووضيع.أنا أوصلت الشعر إلى الذروة ،بعدما جعلته جسراً من حرير و دَمْقَس.

س/ولم تخش على ذلك الجسر من عبور الثقلاء من أصحاب الأحذية الوسخة؟

ج/أبداً .سعيد عقل لا يخشى على شعره من شئ،لأنه محصنٌ كجبل صنين من التلوث.وكل كلمة يكتبها، تطهرُ عابري ذلك الجسر الحريري من النجاسة.أنت لو تستطيع سبر لغتي في بعدها الأقصى،لاكتشفت بها طاقةً لتنظيف الحروف من التعفن.

س/هل الحروف أجساد أم أرواح بنظر سعيد عقل؟

ج/الحروفُ أجسادٌ فارغة بالدرجة الأولى،مجاميع من الأوعية الصامتة.وبمجرد أن يضع الشعراء فيها الأرواح،تراها تتحرك وتحلق وتتناكح فيما بينها من أجل أن تعيد إنتاج اللغة من جديد.وسعيد عقل أول من واجه عقم اللغة ،عندما زجّ مكونات عقله الجمالية في آتون الحداثة.

س/هل هذا خاص بالشعر وحده؟

ج/الشعر هو ربّ التأليف الأعظم،وكل تأليف من قبل ومن بعد، ليس غير كتابة على الحيطان عادة ما يمحوها المطر ،أو تنال منها الغربان بذُراقها ،فتغيب عن البصر والبصيرة سريعاً دون آسف.

س/أنت بدأت حياتك بالكتابة في جريدة(الوادي) الزحلية ثم في جريدة(البرق) و(المعرض)و(لسان الحال) و(الجريدة) و(الصياد) ودرست الآداب والفكر اللبناني واللاهوت .هل يعتبر الشاعر سعيد عقل الصحافة حبال غسيل ؟

ج/إنها حقول من الورق ،سرعان ما تتضخمُ عليه روح الشاعر ليس غير. لكن ذلك لا يمنع وجود مثل تلك حبال غسيل في تلك الحقول.وما بين الربوبية الشعرية وبين القذارة السياسية،ما تزال الأرحام القذرة تتوالد بالسلاطين الأقزام وبأمراء الموت العقائدي الأسود.

س/هل ينطبق هذا الرأي على أصدقائك القدامى: خالد بكداش، فرج لله الحلو، نقولا الشاوي وآخرين من الحزب السوري القومي الاجتماعي ومن حركة القوميين العرب (جمعية العروة الوثقى) وإلى علاقته بفؤاد أفرام البستاني، وشارل قرم المناهضين للفكر القومي العربي وعروبة لبنان،ومن بعدهما الإسهام بـتأسيس تنظيم "حراس الأرز"مع بداية الحرب الأهلية في لبنان 1975 المناوئة للوجود الفلسطيني على الأرض اللبنانية، ورفع شعار
"لن يبقى فلسطيني على أرض لبنان."

ج/إذا كان لبنان لا يتسع لسعيد عقل وحده ،فكيف له أن يكون وطناً أو مضافة للفلسطينيين وسواهم من الرعاع والمشردين؟
أنا لا أرى في لبنان إسطبلاً أو الملجأ المناسب لأحد من عباد الله.الربّ أعطانا قطعة السما هذه لنا وحدنا.وسيكبر العار وينمو في عروقنا ،فيما لو فرطنا بمتر واحد.العروبة خارج الحدود ربما تكون جميلة،ولكنها مقززة غريبة ،عندما نراها تجلس في حضن لبناني من عصر الحداثة.

س/ كنت من دعاة القومية اللبنانية الموسومة بـ "الخاصية اللبنانية". فساهمت سنة 1972 بتأسيس حزب التجدد اللبناني فكنت بمثابة الأب الروحي لحزب (حراس الأرز) هل ما زلت عرّاباً لتلك الإيديولوجية في هذه الأمكنة ؟أم استغفرت ربّك على عنصريتك الحارة ،فتبت نادماً على ما كتبت وما قلت يوم كنت على الأرض؟

ج/أبداً.فأنا لو التقيت فلسطينياً في الجنة أو في النار ،لتخاصمت معه ،لينتهي كل منا قاتلاً أو مقتولاً. لقد عقدّوا حياتي على أرض الأرز،ولا أريدهم أن يعقدوا وجودي بين طبقات السماء.لذا تراني أحوّط مكاني هنا بالأسلاك الشائكة والكاميرات ،كما تفعل الشرطة،عندما تُحوّط موقع الجريمة بالحبال والحواجز.

س/لم نرَ تغييراً في أفكار سعيد عقل ولا في سلوكه الديني حتى وأنتَ في الآخرة؟
ألا تخشى عقاباً من الله على هذا المدّ العنصري المتلاطم في قلبك وعلى سطح لسانك الجارح ؟

ج/لقد سألت الله أن يخف ذلك التلاطم في قلبي ،ولم أفلح. فالسلوك الديني برأي (غاستون بوتول ) وهو دكتور كبير في الآداب، ودكتور في الحقوق، وعضو في المعهد الدولي لعلم الاجتماع، وأستاذ في كلية الدراسات الاجتماعية العليا بباريس. هو ذو ثبات مدهش خلال المدنيات.يضعها في إطاراته الرئيسية:
أولاً يأتي شعور الاحترام الوجل ازاء قوى خارقة،يجب تحاشي إزعاجها وتهدئتها بواسطة القرابين.أن شعور الخوف هذا يسود في الأشكال الدنيا من التدين.أما الأشكال العليا فيصبح دقيقاً ناعماً ويفسح المجال للعبادة والحب والثقة والتدفق الصوفي.فإله الخوف يخلي المكان لإله الحب.
وثانياً تأتي مفاهيم الواجبات إزاء الآلهة :مراعاة بعض القواعد وممارسة بعض الطقوس التبجيلية.بعد ذلك تأتي ظاهرة الصلاة التي هي في آن واحد طقوسية وسيكولوجية.تتبعها فكرة التضحية.وفكرة النذر وفكرة التقديس وفكرة التقشف والعقوبة والخطيئة وطقوس التكريس التي تتوخى مبدئياً ادخال فرد او حيوان أو شئ في مرتبة الأشياء المقدسة.ثم تأتي فكرة الكهنوت.و
وينتهي غاستون العظيم إلى القول بأن (( الفارق الرئيسي بين الديانات العريقة ودياناتنا هو أنه في الأولى كانت تقام الصلاة للجدود ،بينما في الثانية كانت تقام من أجل الجدود )).
لذلك فأن دراسة تبدلات الذهنيات والتحولات عند ((راوول ألييه)) هي من الأهمية بحيث تستمر اليوم تحت أبصارنا أعظم تجربة للسيكولوجية الاجتماعية في جميع الأزمنة.
لذلك تراني وصلة ما بين الأرض والسموات في مجرى الله .وليس لكل ذي وصلة صلة بالعرش الأعلى.فسعيد عقل في علاقة أنموذجية بالمعرفة التي أوصلته إلى هناك.

س/ عندما نستعرض تاريخ الشاعر سعيد عقل الغرامي،نجده بحيرة شحيحة وساكنه،فمنذ العام 1952 تُعلن خطوبتك على الآنسة سعاد أبي صالح ابنة الصحافي يوسف
أبي صالح، لتدوم الخطوبة سنتين ولم تصل إلى الزواج.وفي 2 نيسان 1983 تتزوج آمال جنبلاط لينتهي ذلك الزواج ،وبعده تقدم آمال على الانتحار !!
لماذا كل هذه الجدران ما بينك وبين المرأة؟

ج/لم أكن أريد لأحد أن يشاركني جسدي .اكتشفت ذلك في المرة الأولى وأقفلت أبواب جسمي جميعاً وبشكل محكم.لكن عاصفة مفاجئة حاولت كسر تلك الأبواب ،وحدث أن قررت التجريب وفشلت في المرة الثانية.

س/بسبب اضطراب الوظيفة الجنسية مثلاً؟

ج/لن تصل إلى هدفك في طرح هذا السؤال.ولكنني سأستعين بنص سيغموند فرويد الذي يفرّق بوضوح الـ ((أنا)) عن الجنسانية أو الغريزة الجنسية- هذا الـ ((أنا)) الذي يعارض (مبدأ اللذة)) ((بمبدأ الواقع)) :
يقول فرويد:كلما كانت السيكولوجيا التحليلية تجابه هذا الحدث النفسي أو ذاك كنتاج عن الميول الجنسية،كان بعضهم يعترض عليها بغضب بأن الإنسان لا يتألف فقط من جنسانية،وبأنه توجد في الحياة النفسانية ميول ومصالح أخرى غير الميول الجنسية..إلخ..
اني لا أعرف شيئاً مريحاً أكثر من مسألة أن أجد نفسي ،ولو لمرة واحدة متفقاً مع خصومي .أن السيكولوجيا التحليلية لم تنسَ أبداً أنه توجد ميول غير جنسية،وهي أقامت كل بنائها على مبدأ الفصل ،فصلاً واضحاً وقاطعاً بين الميول الجنسية والميول العائدة للـ (أنا) وقد جزمتْ،دون أن تنتظر الاعتراضات،بأن الأمراض العصبية ليست نتاج الجنسانية،بل نتاج النزاع بين الـ (أنا) الجنسانية.

س/وكيف كنت تكتب الشعر المطرز بالحب وبالنساء ،وبذلك القدر المدهش؟!

ج/أنا مثل آلهة الخمر،ما ترفع الغطاء عن رأسي،حتى تخرج منه القصائد كالبخار المعتق جمراً وثمالة تخلق وعي ما بعد غياب الوعي الأول.

س/وهل تظن بأن الخمر يُولّدُ وعياً استثنائياً للشاعر بعد غرق عقله بالكحول؟

ج/الكحول طاقة الشعر الأولى .فهي التي تسبق الواقع،لتزيح ركامه وتحرره من الأقفال مجتمعة.وهي التي تفتح في المخيلة شهوة الخلق في تصوير المخلوقات تصويراً استثنائياً وتعبيرياً يصل إلى مرحلة ما بعد الطوبوي دون الاعتماد على نظام بحد ذاته.
كل تغنٍ بعالم جديد ،يحتاج إلى صقل بالكحول،أولاً كمطهر للشاعر من شوائب آلامه الرخيصه،ومن ثم يأتي دور الثمالة بمزج الشعر بالنور،وحتى لحظة اقتحام أبواب المخيلة ،لاستخراج الكلمات منها كما يفعل عمالُ الجيولوجيا عندما يقومون باستخلاص العقيق من أرواح الجبال.

س/ وهل ثمة أرواح للجبال كما تعتقد؟

ج/الشاعر الذي ليس في داخله جبلٌ،لا يمكن أن يتفاعل لغوياً مع جبال هذا الكون العظيم وبقية الأكوان الأخرى.((أن كانط نفسه يبيّن في (نقد المحاكمة) أن وحدة التخيّل والإدراك ووحدة الأشخاص موجودة (قبل الغرض) وأنه في تجربة الشئ الجميل.مثلاً ،أني أجرّب التوفيق ما بين المحسوس والمفهوم،التوفيق بين نفسي وغيري)) .

س/ألا يخلق هذا التناقض ما بين الداخل والخارج تنابذاً بين الشاعر ونصوصه؟

ج/ التناقض موجود.بل هو بذرة في جوف الشجرة الأم للغة التي يعتنق ديانتها الشاعر الأبليسي .وعندما يتطابق عمل الخارج مع الباطني،فسوف يُقضى على البناء الدراماتيكي للشعر،ويتحقق فشل الشاعر في أن يكون شعلة الأولمبياد .

س/بعد أن أعتمد سعيد عقل على ظلال اللاهوتيات بمشروعه الشعري ،هل قفزت قصيدتك بالدعم الفلسفي من ذلك الفكر الديني؟

ج/هذا سؤال عظيم.(فإذا كانت فكرة الفلسفة المسيحية فكرة نوعية تقبل تنوعاً في النماذج الواقعية،كما يقول ((جيلسون)) وإذا كان بعض الفلاسفة يستخدمون حريتهم كأبناء الرب ،فتقوم من جراء ذلك بين الفلسفات المسيحية تباينات كبيرة كما يقول ((روجيه مهل)) وإذا كان بوسعنا أن ندرس داخل الفلسفة الكاثوليكية نفسها وجودية مسيحية،مثلاً لدى ((غبريال مارسيل) أو شخصانية مسيحية مثلاً لدى((موريس نيدونسيل)) يبقى من المستحيل استصغار تفضي الكنيسة لفلسفة محددة.))
ومن هنا فأن الفلسفة التي تترك حرارتها تدّبُ بين أحرف الكلمات كما تلك الأفاعي المخيفة، ستساعد القصيدة في إحكام السيطرة على اللغة،وإن بغياب يسوع.

س/بعد أن توسعت آفاق الحداثة ،ما رأي سعيد عقل بقول ماكس جاكوب: ((العالم في الإنسان،هذا هو الشاعر الحديث)) ؟

ج/سأقول لك شيئاً هاماً:أن - هيغل- هو أول من أعطى معنى قوياً للتاريخية.فهو يجزم بأن الإنسان ليس سوى صيرورته وأن زمن الصيرورة الإنسانية ليس له علاقة بزمان الطبيعة(أن الحياة العضوية لا تاريخ لها) الفكر وحده له تاريخ ، يحفظ الماضي ويعكس المستقبل.وفي حين أن زمان الطبيعة هو تكرار صرف،فالزمان الإنساني خلاق:أنه ينكر ذاته ويتجاوزها طيلة تطوره:أنه دياليكتيكي.))
من هنا عليك أن تدرك كم تكون طول المسافة الحقيقية ما بين الشاعر وإنسانية العالم.

س/هل وجدت فيما بعد الموت حداثةً في شيء ما ؟

ج/أنا مازلت على قيد الحياة وكذلك على قيد نفوسي في زحلة.

س/تعني بأنك لم تشعر بالموت؟!!

ج/أنا في قيلولة الآن، وأنام في حضن جبل تختمر فيه حضارات متعاقبة.وكل ما أرجوه ألا يطول أَمَدُ النوم قبل أن أكون جزءاً من قشرة الأرض الصلبة.أنا مؤمن بـ ((أن التقدم التقني الذي بواسطته يفرض الإنسان نفسه على الأشياء ويحوّلها ويهدم نظامها الطبيعي ،هما بالنتيجة المنابع الجوهرية للمذهب المعني دوماً هو ألا نهوي أمام السلم التي يجدها نظرنا أثناء تأمل السماء أو البحر أو الشجر والذي ،كما نراه في كتاب ((المقبرة البحرية)) لـ (فاليري) من شأنه أن يحملنا لحظة إلى ارتضاء الموت.
ويوجد دوماً لدى المسيحي،المحب للحياة الأبدية،رغبة في تحويل العالم عن طريق أعماله،ولدى التقني ،المتجه نحو الشئ الحسي ،نوع من الأمل الغامض في أن يجعل نفسه ،يوما ما ،خالداً عن طريق العلم.)).لذلك فاشعر الآن بالموت الرومانسي ليس إلا .

س/لقد طالب سعيد عقل بتبديل اللغة العربية باللغة المحكية وكذلك بتغيير الحرف.فهل لو حدث وتحققت مثل تلك الرغبة،ستسلك اللغة الطريق الأسلم نحو شعوب العالم العربي؟بمعنى أدق :هل يتحسن وضع المعرفة من خلال ذلك؟

ج/عندما تحدثت عن ذلك وكتبت به،فأنني مدرك لأهمية ما قمت به .فاللغة التي أهتم بها ،هي في حقيقة الأمر الواقع،شغل علمي يقودنا إلى معرفة دقيقة بحواس اللغة ونبضها الباطني.العرب يتعاملون مع اللغة كمظهر وبلاغة وكرمز قومي يجب الحفاظ على أبهته وعظمته حتى لو كانت فارغة.لأنهم لا يريدون لأحد المس بقدسية الحرف ولا بشرف اللغة العربية.فيما كنت أنظر إلى محركات اللغة الباطنية،وكيف يمكن أن تكون على مستوى الشغل ما بين مفردات القاموس وبين الناس في الشارع.أنا أريد جسر الهوة بين الطرفين،فيما مجمعات اللغة الرسمية،تعمل على تعقيد اللغة وإبعادها عن التفاعل اليومي.
أن اللغة برأي ((بول فاليري)) العظيم ((تحوي مناهل انفعالية مختلطة بخصائصها العلمية والتي لها دلالات مباشرة.فواجب الشاعر وعمله ووظيفته هي في توضيح وأعمال هذه القوى الحركية والسحرية،هذه المثيرات للحياة العاطفية وللحساسية الفكرية التي تختلط في اللغة الدارجة،بالحركات ووسائل الاتصال في الحياة العادية السطحية.فالشاعر يكرّس نفسه إذن ويفنيها في تعريف وبناء لغة ضمن لغة. ))

س/أنت حاولت نقل ذلك عن الغرب.فليس بول فاليري وحده من دعا إلى ذلك،هناك (ت.س.أليوت) فهو الآخر الذي أبدى حرصه لأن يأخذ الشعراء والروائيون الحرص على الكتابة كالكلام.وكذلك (ريمون كينو) و((فاندريس)) و(هنري مونييه)) و((جيهان ريكتوس))وفلاسفة وكتّاب كثر حول العالم.فكل هؤلاء لا يرون سبباً لعدم رفع اللغة الشعبية إلى مقام اللغة المكتوبة التي هي ينبوع أدب جديد وشعر جديد على حد تعبيرهم.

ج/هذا الذي تقوله صحيح.فهؤلاء فاضوا بمثل هذا الطرح المهم والعظيم،لأنهم بُناةُ معرفة حقيقية ،تثري الشعوب،ولا تستلبها حقها بالكتابة وفقاً للنبض الداخلي.
هناك روائي وشاعر فرنسي مهم اسمه (ريمون كينو) كان من المشاركين في تأسيس جماعة أوليبو الأدبية .اسمعه ماذا يقول: (أن إصلاح الكتابة أو الأصح تبني كتابة صوتية هو واجب،لأنها ستبرز الشئ الأساسي:أولوية الشفهي على الكتابي.وأن الخط هو أكثر من عادة رديئة.لغاتنا هي لغات شعبية،عامية،محكية.وأن أبجديتنا لم تحتفظ إلا بالقليل من القيمة الكتابية التي للخطوط السامية،ومزيجها الذي تألفت طبيعته من الظروف العابرة والإصلاحات لا تستدعي الاحترام الذي توجبه الكتابات المقدّسة.
ويضيف هذا الكبير كينو:الخطوط في الصينية والمصرية القديمة والساميّة،لها دلالتها.لكن ،ليس لها دلالة في الفرنسية،وليست لها إلا قيمة العادة،وهي عاطفية ومنفوخة بالذكريات.فالتقديس لا يجوز أن يضيع في ما ليس جديراً به.)).
ألسنا نحن في تاريخنا اللغوي ،ضحية النفخ والمنفخة والمنفاخ؟!!

س/قد لا نتفق على هذه الفكرة .ولكن دعوتك الشهيرة التي أطلقتها في أواخر الستينات إلى استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، وإحلال العامية محل اللغة الفصحى فشلت.

ج/سعيد عقل الذي كُتبتْ عن شعره نحو أربعين أطروحة دكتوراه وماجستير والمئات من الدراسات والمقالات ، ما زال يشغل الجميع حتى وهو بقيلولته الطارئة هذه.

س/ثمة من أكد لنا بأنك كلّفت ملاك الموت أن ينقل معك بعض الكتب إلى دار الآخرة.فهل مرّ بك عزرائيل ،أو سبق وأن ألقى عليك التحية وأنت في غفوتك التي تتحدث عنها ؟

ج/ العميق بمعرفة لله لا يخاف الموت، الموت يعني أن تصعد إلى الله.ومع ذلك ،فأنا وهذا الملاك تفاوضنا كثيراً حول الرحلة الأخيرة إلى لبّ السموات .العزرائيل أخبرني بأنه منحني وقتاً طويلاً لأكتب فيه قصيدة،ولكنني لم أفعل .ومع ذلك لم يجرِ بيننا صدام طيلة عمري ،وحتى وصلنا إلى النقطة الحرجة . فهو ،وبعد أن ملّ من تسويفي، قبض على نصف روحي،لإرهابي بقبض النصف الآخر ،فيما لو بالغت بالرفض.ولذلك كتبت فيه النص التالي:
امض بعيداً أيها الملاك الشقيّ
ها أنت ترى قلبي منكَ مظلماً ويفيض
بالتراب.
ليس عندي لمخالبك فاكهة
ولا لرأسك أفلام كارتون.
لقد ملأت شوارع الربّ بالقرابين.
وها أنت تقف بوجهي مثل غيمة
على أنف شمس.
فاذهب وإلا طردتك من خزائن الأرواح.

س/أنت تفاجئنا الآن بكتابة قصيدة نثر ! فهل تم التخلي عن الشعر العمودي من قبل سعيد عقل لينخرط في هذا المشروع الشعري الحيوي ؟!!

ج/لا.ولكن في دار الآخرة،ما من أحد يُغضِب الربّ سوى شعراء الكلاسيكية .لا أعرف لمَ يحدث ذلك هنا .ربما لأننا بالغنا كثيراً باستهلاك اللغة لصالح تلك الأوزان المحملة بالمدائح والثرثرة والمعاني الضيقة النفس والتنفس.
والله كما أعرف ،لا يحب المتطرفين من أصحاب السوابق بالارتزاق،بدءاً بهوميروس وانتهاءً بالمتنبي سعيد عقل.
أوضاع الشعراء الصعاليك هنا، أفضل ظروفاً منا جميعاً. أنك تراهم يسرحون ويمرحون بكل ما في الحرية من شوارع وأنهار وملاهي وحانات ومقاه وأرصفة.
ومثلما ما من شاعر حديث توحيدي على حد تعبير ((هارولد بلوم)) ،مهما تكن معتقداته المنصوصة.
((الشعراء الحديثون ازدواجيون بائسون بالضرورة،لأن هذا البؤس،هذا الفقر،هو بمثابة نقطة الانطلاق التي بيدأ منها فنهم_ولنا في ستيفنس إسوة حسنة_ عندما يتحدث عن الشعر العميق للفقراء والموتى.(قد يفلح الشعر أو قد لا يفلح بتفعيل خلاصه في الآخرين،لكنه يهبط فقط على أولئك الذين هم في حاجة تخييلية ماسّة إليه)).

س/هل في الموت مساومات عقائدية كما يعتقد الشاعر سعيد عقل ؟

ج/ العقائدية المهمة.فهي بنظر كارل بارت أستاذ اللاهوت البروتستانتي المعاصر عِلمٌ .تعي الكنيسة على صعيد المعارف التي لديها ،محتوى تبشيرها.لكن الحقيقة الأهم بنظر ( سيمون ويل ) تكمن في المعرفة الخارقة.ذلك أن هناك عقلين: عقل خارق هو المعرفة ،اللاهوت السامي،الذي مفتاحه هو المسيح،معرفة الحقيقة التي نفختُها مُرسَلة من قبل (الأب السماوي).
أن ما هو متناقض بالنسبة للعقل الطبيعي ليس كذلك بالنسبة للعقل الخارق.لكن هذا الأخير لا يملك سوى لغة ذلك العقل.بيد أن منطق العقل الخارق هو أدق من منطق العقل الطبيعي.أن الرياضيات تعطينا صورة هذا الترتيب.ذاك هو المذهب الأساسي لـ ((الفيثاغورية)) والافلاطونية والمسيحية البدائية،ومصدر العقائد المتعلقة بالثالوث الأقدس.ومن هنا يمكن القول بأن العقل الطبيعي ،إذا ما طُبق على أسرار الإيمان ،يؤدي إلى الهرطقة.وأن أسرار الإيمان ،إذا ما فُصلت عن أي عقل لا تُعدّ أسراراً بل سخافات.

س/وهل الشعر نتاج عقل أم منتوج قلوب برأيك؟

ج/الشعر نتاج عقول بطبيعة الحال.لأن القلب لا ينتج غير التكرار .
((التكرار كإعادة إنتاج للصور من ماضينا ،الصور الممسوسة التي تقاومها عبثاً رغباتنا الحاضرة،هو واحد من الخصوم الرئيسيين الذين وضع علم النفس على عاتقه التصدّي لهم بشجاعة .التكرار من منظور فرويد،جوهرياً،فعل لا إراديّ،يتقلّص إلى غريزة الموت بفعل اللامبالاة ،الانكفاء والتقوقع)).
ولذا فالتكرار بقدر ما هو طبيعة بشرية،إلا أنه يتنافى مع حركة الأدب .

س/ألا تشتاق إلى صوت فيروز التي كتبت لها العديد من القصائد الفصيحة والعامية .فيروز المطربة
الساحرة التي أطلقت عليها لقب "سفيرتنا إلى النجوم"؟

ج/لا أبداً.لأن فيروز تنتقل معي أينما تحط رحالي .لا يمكنني مغادرة صوتها،فهو يأتيني من الأرض وأنا في هذا المدار الكوني لأسبح بعطر أسطوري بهيج.
فمثلما سعيد عقل رومانتيكي ويبالغ في التخَيّل،كذلك فيروز ، تزخرفُ موتي ،وتشحنني لأنهض مغادراً اللحدَ الافتراضي.وهذا ما حدث.ألا تراني هنا ،وقد نفضت تراب القبر عن بِذْلَتي!

س/ولكن جسدك وريّ الثرى داخل تابوت من الأرز تغطيه صخرةٌ ؟

ج/أجل.فأنا أردت الصعود لله بسفينة من خشب الأرز، تحميها صخرة من جبال لبنان التي خلقها معلم الأكوان يوماً ما،فأجلسها عندنا بكل رقة وجمال.
لم أرغب الصعود إلى السموات وأنا متربُ الجسم وعارٍ يلفهُ كفنٌ ودون حماية.
أخذتُ من الجبل ترساً صخرياً لحماية رأسي.واستعنت بالأرز ،لتحول دون لحمي والديدان.

س/أنت أخذت من لبنان جلّ ما يملكهُ:الأرز والجبال،فتحققت رغباتك ،ووصلت إلى هنا جسداً معافى من التحلل وغير مأكول من الديدان،فما الذي تركته للبنانيين بعد الأرز وبعد الجبال ؟وما هي أحلام سعيد عقل في السماء الآن؟

ج/هذا سؤال خبيث،ولكنه دقيق ومريع:سأعيد على مسامعك بيت أبي فراس الحمداني الشهير :
((معللتى بالوصل و الموت دونه....إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر))
أنا عملت بلبنان هكذا .يوم فشل اتفاقي مع العزرائيل،أخذت معي أعظم ما يملك ذلك البلد وصعدت،تاركاً فضلات التاريخ هناك.ومع ذلك لم ينال مني اليأس بماتور الشعب اللبناني التعبان.فهذا المحرك سيستعيد حركته التصاعدية بالتحرر والاستقلال الحق وإسقاط الأصنام من رموز العهد الجديد من اللات والعزى والمتعفنين الآخرين !!
أما عن أحلام سعيد عقل هنا،فهو أنني سأجعل من الجنة عاصمة للشعر.

س/وإذا فشلت بتحقيق ذلك،كما حدث ذلك على الأرض، يوم ترشحت للرئاسة في لبنان ،وأطلقت ندائك الشهير عام1987: (( في رئاستي سأجعل بعلبك عاصمة للدولة )) !!

ج/لكل مواطن في لبنان صخرة صخرة سيزيف،واحدنا يحملها من يوم ولادته وحتى مماته.الناس بنظر زعماء الطوائف في بلادي القديمة لبنان:روبوتات تحركها أجهزة الأصنام تربيةً وشحناً وانتخاباتٍ.
أما هنا، فكل أحلامي الفلسفية ،قد يتدخل الله ويحققها لي .لأن الفلسفة كما قلت ذات يوم((هي أعلى درجات المعرفة باستثناء معرفة الله .والعميق في معرفة الله لا يخاف الموت، الموت يعني أن تصعد إلى الله )).

س/ ولكن ثمة من أحصت شعرك،فوجدت بأنك كتبتَ 233 قصيدة غنائية من أصل 356 قصيدة.هل ثمة قبول للشعر الغنائي في هذه الآخرة ؟ومن ستعتمد عليه بالصوت ،فيما لو قمت بكتابة القصائد الغنائية؟

ج/هنا الكثير من ملائكة الموسيقى والرقص سريع الإيقاع .وعندما نتعرف على المخلوقات الجيدة والبارعة بالخلق والإبداع ،لابد وأن يتم العثور على الحنجرة التي تحوّل السحاب إلى بخار أوبرالي. منشأ الإنسان كما أظن هو منشأ نغمي يتوزع ما بين ألحان الآلام وأصوات الصخب وهمس الحنين وإيقاعات الجنون.
ففي داخل كل مخلوق حيّ،العديد من الآلات الموسيقية،منها ما يتقدم ويتطور مع العناصر الروحانية،ومنها آلات تتحطم أو يُنكبت صوتها وتموت .
اسمع ما يعتقد به ((ايغور سترافينسكي)) عندما يحدد الموسيقى بقول: أن الموسيقى هي الميدان الوحيد حيث الإنسان منذور لتقبل جريان الزمن-جريان مراتبه الماضية والمقبلة- دون أن يقوى أبداً على جعل مرتبة الحاضر واقعية،وبالتالي ثابتة.
أن ظاهرة الموسيقى تلقيناها لغاية واحدة هي إقامة نظام في الأشياء،يتضمن بوجه خاص نظاماً بين ((الإنسان والزمن)).

س/هل تعني أن الإنسان عبارة عن شريحة ألحان،فيما الزمن هو السلّم الموسيقي؟

ج/هكذا هو الواقع الفلسفي للعناصر الأولية لمكونات المخلوق الآدمي بالضبط. فالإنسان نطفة نغم حول هذا الكون ليس إلا .

س/أنت تمسرح اللغة بالتعابير الفلسفية على الدوام،وكأنك تحاول الآن إعادة كتابة مسرحية((بنت يَفتاح)) أو مسرحيّة ((قدموس ))لما لهما من أثر دفين في نفسك. هل تجد الرغبة بإعادة إنتاجهما هنا على المسرح السماوي ،علماً بأنك استغرقت بالشعر إلى درجة قولك:
الشعر قَبضْ ٌعلى الدنيا، مشعشعةً كما وراء قَميصٍ شعشعت نُجُمُ
فأنت والكونُ تَيَّاهانِ كأس طِلىً دُقّت بكأسٍ وحُلْمٌ لمّه حُلُمُ .

ج/لا تظنن بأن رغبة تلتهب بصدري لإعادة كتابة تلك المسرحيتين،بعد أن بنى سعيد عقل مسرح الكون الشعري في نفسه.أنا هنا لا أشغل بالي بالاستعراض الكرنفالي على رقعة الشطرنج التي تقف البشرية عليها أمام الله.
ورُب قائل: هل سعيد عقل خائف من فقدان مقامه في الآخرة كمسرحي أم كشاعر ؟
فيأتيه الكلام بسهم لا.لأن العارفين هم الأقرب إلى الله ،وهم جزء من مسرحه الكوني الدائر ما بين مجموعة الأفلاك بتلك الحركة العملاقة دون توقف.

س/ولكن من ينقب في الأرشيف : ( جريدة السفير 3 9 1994 ) يجدك نابذاً لشعرك بالعربية الفصحى إلى حدّ الكراهية الفائضة والبذيئة ،عندما يعترف سعيد عقل بقوله:
“”… شعري العربي الفصيح كرخانة أقفلتها نهائيا”
فهل ستستمر بالإقفال هنا،وتستبدل أدوات الكتابة بأخرى مثلاً؟

ج/أنا رجل السقطات الكبرى التي عادةً ما لا تُمحى إلا بقوة الشعر .لذلك لا أعتذر من أحد .وإذا ما فعلت ذلك عني قصائدي بالإنابة ،فلا أبالي.فسعيد عقل لا يريد أن يقضي زمنه الثاني بالبحث عن سبورة القيامة،ليكتب على لوحها الاعتذار تلو الاعتذار تلو الاعتذار.هناك مجموعات بشرية خائنة لوجودها على الأرض وفي السماوات هنا،ولا تستحق الاعتذار من كائن من كان.

س/ألا تعتبر ذلك نوعاً من الصَّلَف أو التَّكَبُّر وَالْعَجْرَفَة ؟!!

ج/أنا لا أذهب معك في هذا الاتجاه أبداً،فقد سبق لي وأن رأيت ملايين من البشر وهم يعملون عمل حيوان (الخلد) في الحياة الأولى.كانوا يحفرون الأنفاق تحت الأرض،ويدمرون الطبيعة وممتلكات الجمال،ودون أن يسجلوا مشاركة حيوية لمشروع يتعلق بالإبداع.تعلموا القتال بالأسلحة الفتاكة قبل أن يتعلموا القراءة والكتابة والحب وقوانين الدول وتشريعات الأديان.

س/هل صادفت أحداً من معارفك الشعراء العرب أو الأجانب هنا؟

ج/منذ اليوم الأول لاعتقالي في هذه المقاطعة من السموات،وأنا أعاني من إرهاب الشاعر الاسباني اليساري
فيديركو غارسيا لوركا .لقد هاجمني بعنف، وقام بصفعي أمام الحشود،لأنني لم أرفض فاشية الكثير من رموز إقطاعيات وأحزاب لبنان،كما فعل هو عندما قام برفض فاشية فرانكو التي قادته إلى ساحة الإعدام .

س/ وماذا أنت فاعل إزاء هذه المضايقات؟هل اتصلت بأحد ما للنجدة؟

ج/أردت الاتصال بالقديس (توما الاكويني) طلباً للمساعدة.. إلا أنني لم أتمكن من العثور على موبايل ليحصل ذلك.مقابل هذا الفشل، سأفترش هذا العشب وأمضي بالنوم ،سعياً لتفكيك هواجسي وطرد كل المخاوف التي بدأت كبيض النَّمل أولاً،ثم أخذت بالتضخم التدريجي لحظة بعد أخرى.
آه لو كنت في ((زحلة))،لأقفلت على خزينة الرعب بكأس نبيذ سلفي من أمهات تلك الكنائس، أو بزجاجة من عرق القديس ((توما)) لتُحلّق الطيرُ بي، آخذةً معها الجسدَ إلى نقطة تكوينه الأول.