حوار - عبير البراهيم

أتمنى أن أموت فجأة وأنا في الطريق إلى هناك

في ورشة طرفة بن الوردة

حينما تقترب من قاسم حداد تكتشف بأنك أمام كائن لاحدود ولاخرائط لشكل روحه، متناه حد الأفق، وممتد جدا حد الاختفاء، ولكنه إنسان مشبع بالحقيقة والحلم معا.. أنه الذي كتب عن جنيته « أوقفتني في التهدج وقالت: انتظرتك.. وكنت أوصيك وأوصي بك وأوصي عليك، تجرعت غيابك، فهو رأس الخيط في انتظارك، فماذا تريد إذا تأخرت عني ماذا تريد إذا تعاليت علي، ماذا أفعل إن طالت مسافتك ؟ وفاض العشق ونالتني الشهوة «
كان القبض على « قاسم حداد « متلبسا بتهمة التخفي صعب جدا، فقد بقيت أفتش عنه طويلا لأسرق منه شيئا من بوحه فلم أجده سوى في ريف « ألمانيا « يتوحد بالطفل «قاسم « لكي يصنع حكايات مع جنيات كثر ! ولكنني - أخيرا - وجدته بعد أن علق ضاحكا « كيف استطعتِ أن تجديني « ؟؟ فلم يتردد أن يفتح لي نافذته الوديعة لألتقط بأسئلتي كفرخ فرح ضجيجه الروحي وليقول لي بعد أن ينهي إجاباته عن أسئلتي (قلت لك لن أتأخر.. أسألتك نافذة تسبر الرؤى) هذا هو قاسم حداد المختلف.. يظهر « على المكشوف « من خلال بوح وجنون وطيش..
المرآة:

* حينما تقف أمام مرآة غرفتك.. من الذي تراه يتسلل من ملامحك إليها ؟ كيف تمتد تقاسيمه إلى عتمة الإنسان لتعكس بك زوايا روح لمستها تكرارا بأصابع وحدتك؟

- أقفُ أمام المرآة، لا لكي أرى أحداً، لكن لأمحو قسطاً من الزمن. كل يوم أنسى جزءاً من حياة هذا الكائن الغريب. في المرآة أتلاشى بوصفي شخصاً، أحاول معرفة الأفق الذي حاولت، ولا أزال، الذهاب إليه طوال الوقت. المرآة ليست قادرة على مجاراتي. الملامح والتضاريس والتحولات التي تتماثل أمامي تقصر عني، فما من زمن فيزيائي هناك. وفي المرآة لا أكون وحدي أبداً. ثمة حياتي كلها تتمثل في الكون برمته. لذلك فإنني لا أشعر بالوحشة هناك.

* ما الخوف الذي يهددك دائما ؟ وكم هو حجم خساراتك التي جعلت منك كائنا مفقودا أحيانا؟

- أرتعدُ فَزعاً لفكرة العجز قبل الموت. لا أريد أن أقع في العجز (الصحي)، أتمنى أن أموت فجأة وأنا في الطريق إلى هناك. لقد عشت تجربة المرض والعجز مع أقرب الناس: أبي وأمي، وغيرهما بالطبع. لقد كان العذاب لا يوصف. فشعور المرء أنه بحاجة للآخرين في كل شيء في حياته، حتى لمجرد سحب غطاء النوم، وأنه أصبح عبئاً على غيره، عائلته خصوصاً، هذه معاناة لا تحتمل، أخفُّ منها الموت نفسه. هذا ما يخيفني فعلاً. والحق أنني أفكر في هذا الأمر أكثر مما أفكر في الموت، أما الموت فتلك حكاية أخرى.
أما خساراتي فهي لا تحصى، أنني أخسر كل يوم.. يوماً من حياتي القصيرة، قصيرة لدرجة أنها لم تعد كافية لاستكمال الصنيع الذي جئت هذه الحياة من أجله. فالخسارات في كل جانب، حتى إن شعوري بالفقد (الذي بدأ يرافقني منذ منتصف العمر) أصبح قانون حياتي اليومي، مما يجعلني أقل تأثراً بما يحدث لي من صدمات. أصبحت أشعر بأن كل ما يحدث هو خارج طاقة البشر المتورطين في هذه الحياة، ولم يعد يشكل أي سبب لردود الفعل العاطفية الظاهرة، أنا العاطفي الذي كنت أجهش بالبكاء مثل طفل في واجب عزاء. الآن، ثمة ما تغير في داخلي تجاه الحياة خارج البيت. الآن أصبحت انهياراتي أكثر ندرة ولكنها حين تحدث تخلخلني.
الذين يحبسون ذواتهم في مهابة العقل والرصانة محرومون من الحياة !

الجنون

* أيهما أنت.. قاسم المجنون؟ أم قاسم العاقل؟ وإلى أي حد يشكل الشاعر الذي بداخلك شكل الحياة التي تعيشها ؟ ومتى تشفق عليه؟

- الحق أقول لك، إنني، منذ سنوات طويلة، لم أعد أدرك ذلك. هل العقل هو حياتي، أم أن الجنون هو سؤالي للحياة؟ لكأن الحياة بغير قدرٍ واضحٍ من الجنون ليست ذات معنى، وربما تفقد حيويتها وجمالياتها الإنسانية. وظني أن للشعر الدور الأمثل في إضاءة خطواتي في هذه الحياة. بل إنه الدور الأهم فعلاً. وربما كان الشعر هو القنديل الذي تضيء به العشيقة طريق رجلها. وكأنني صرت أشفق على الذين يفتقدون للقدر المطلوب من الجنون، ويحبسون ذواتهم في مهابة العقل والرصانة، أو إنهم يتظاهرون بذلك. أشفق عليهم لكونهم محرومين من الحياة. فلولا هذا القدر الكافي من الجنون لما كتبتُ هذا الشعر الذي لم يعد أحدٌ يتفق مع أحدٍ على معانيه ودلالاته ومراميه. أي حرجٍ على شخصٍ بالغَ في الهذيان حتى كتب شعراً.

*هل للشاعر كذبات ؟ كيف هو الكذب الذي تشتهي أن تمارسه ؟ وماهو الكذب الذي يمارسه الغير فيؤلمك؟

- قلت مرة بخطورة الخلط بين الأخلاق والإبداع. وإذا كان أحدٌ قد فهمني، فإنني أرمي إلى تحرير المبدع (والشاعر خصوصاً) من سلطات المجتمع الأخلاقية التي تتصل بالفهم الخاطئ للفن. فالفن قوة خارجة عن الوعي الإنساني كعقلٍ ظاهر. بمعنى أن مفاهيم الأخلاق في حياتنا لن تفيد في مجال متعتنا بالجمال في الفن. وهذا سوف يتصل بسؤالك عن (الكذب). لا أتذكر، جزافاً، المقولة القديمة (الشعر أعذبه الكذوب). فقد كان الشاعر هو من يحسن الكذب بالصدق الإبداعي الإنساني الخالص. هذه المقولة تصدر عن المفهوم الأصيل لدور المخيلة في الشخص الإبداعي. فليس في مخلوقات المخيلة سوى الأكاذيب، وهذا ما جعل الأساطير في تاريخ الثقافة الإنسانية، حتى الآن، مصدراً من أجمل مصادر المعرفة والإبداع قاطبة. من هنا أتمنى أن أكون مفهوماً عندما أقول بأنني كنت طوال نصوصي أتدرب على صياغة أكاذيبي بأشكال بالغة الغنى والتنوع. أنا شخص أتبع مخيلتي وأحلامي بالدرجة الأولى، ومنذ أن تحررتُ من سطوة (الواقعية) الفجّة، شعرتُ بأنني ملكُ حريتي. وما دمتَ لا تؤذي أحداً بأكاذيبك فأنت حرٌ حرُ.
هل أزيد؟
أنظري حولك، كم من مزاعم الصدق والصادقين تقودنا إلى المخازي والمهالك وجرائم ضد الإنسانية؟ كل هذه المؤسسات (بشتى تجلياتها) تربي الإنسان وتدربه منذ الطفولة على مكارم الأخلاق، لكي تؤهله لأن يكون عبداً لأكثر الأوهام كذباً. ونحصل على كائنات عاجزة عن قول (لا) في وجه من قال (نعم). أية أخلاق هذه التي تريد للإنسان أن يمتثل للقوانين منذ الولادة حتى القبر؟
جنة أكاذيب الفنون أكثر حرية وجمالاً.

قاسم حداد نظرة تفحص

النسيان والحرية

* هل استطاع الشعر أن يظهر الكائن المختبئ بداخلك ؟ أم أن النص الشعري مازال قاصرا على أن يقبض على قاسم حداد متلبسا؟

- لا أعرف. هذا سؤال يخرج عن طاقتي على المعرفة والزعم. ليس فقط لأنني لا اعرف دواخلي كاملة. لكن لأن الإحساس الدائم لدى الشاعر هو القصور والعجز عن القول بأنه أنجز نفسه وحققها في النص حتى الآن. ثمة سجال لا يتوقف بيني وبين ما أكتب. حتى إنني، حين أعود لقراءة بعض نصوصي السابقة، أقع في دهشة كوني قد كتبت ذلك. ثمة غرابة في هذا بالنسبة لي. ولعل ما يرحمني هنا أنني ممن لا يحفظون النصوص على الإطلاق، لا نصوصي ولا نصوص سواي. لا شيء في ذاكرتي على الإطلاق. أنا أكبر نسّاء في العالم. النسيان موهبتي الأولى قبل الشعر وبعده. وربما هذا ما يجعلني متحرراً من الذاكرة حين أكتب نصي الجديد. هل تذكرين الشاعر القديم الذي طلب من شاعرٍ مبتدئ أن يذهب ويحفظ ألف بيت من الشعر، ثم طلب منه نسيان ذلك كله؟ تلك هي الحكمة التي يتوجب إدراكها عن جماليات النسيان في عمل الشاعر.
سوف يظل الشعر يحاول، وسوف أعينه على ذلك كلما استطعت، لكنني لا أعد أحدا بأنني سأكتب شيئاً مهماً لوحدي.

* هل ثمة نقطة تصل بين الشعر وبين الخطابات التي تجادل السياقات المجتمعية بجميع اختلالاتها وأوجاعها؟

- ليست نقطة على وجه التعيين. ربما كانت منعطفات ومنحنيات كثيرة، يصعب الكلام عنها مباشرة، أو توقعها على الأقل. فنحن لا نقدر على تحديد تلك اللحظة النادرة البالغة التعقيد التي يلتقي فيها الشعر بالحياة. الشعر كأفق والحياة كلحظة عابرة. لكن الأكيد أن الشعر قوي الصلة بالحياة بوصفها جوهراً عميقاً وثابتاً وأكثر سبراً ورؤية لهذه الحياة. هذه هي المنحنيات والمنعطفات الجوهرية التي لا ينفصل فيها الشعر عن حياتنا. والذين يتوهمون (لئلا أقول يزعمون) أنهم سيكتبون (هنا) عن (هذا)، وسوف يتوقفون للكتابة (الآن) عن (هذا)، فهم ممن لا علاقة لهم بالإبداع والفنون. بل إنهم يمتثلون لمزاعم سلطة أخرى تريد للإبداع أن يكون موظفاً لمشاريعهم وعبداً لأوهامهم. الشعر جوهرة المراصد. فلا تشغلوا أنفسكم بإسداء النصائح للشعر والشعراء.

مع مخطوطة طرفة بن الوردة

موسيقى

* هل ترى بأن هناك ارتباطاً بين الإبداع الشعري أو الكتابي وبين الموسيقى؟ إلى أين تأخذك الموسيقى وأين أوصلتك ؟ وأي موسيقى تحب أن ترافقك في حزنك وتوقك؟

- هذه هي الموسيقى تصدح الآن فيما أكتب هذه الكلمات. وثمة موسيقى لم تتوقف عن حياة كتابتي منذ سنوات طويلة. لقد بدأت، منذ زمن طويل، أشعر وأعرف بأن الموسيقى تتمثل في كل تجربتي: حياة وكتابة. حتى إنني قلت مرة إنني لا أستطيع كتابة كلمة من دون أن تكون الموسيقى ميزانها. وهذا ما جعلني في منجاةٍ من أوهام كثيرة شغلت الكتابة العربية الحديثة وهي تتحرر منتقلة من قيود البحور والأوزان والقوافي إلى فضاء الكتابة الشعرية على الإطلاق. وحين كتبت مقالة (موسيقى الكتابة) قبل سنوات كنتُ أعني أن لا كتابة من دون موسيقى. وهي بالطبع الموسيقى التي تتجاوز مفاهيم البحور والأوزان والتفعيلات. كنت أشير إلى تلك الجماليات الفاتنة في اللغة العربية برمتها. وقلت بأن الشاعر هو من يطلق إسار تلك الإيقاعات اللامتناهية في اللغة العربية.
يبقى أن أشير بعد هذا الاستطراد إلى أن الله أكرمني بولدٍ يمتلك موهبة الموسيقى، مما جعلني أستمتع بهذه النعمة مع العائلة، وسرني أن محمداً صار يهدي نصوصي إلى الآخرين بموسيقى من تأليفه. وهذا كرمٌ مضاعفٌ من أبنائي.

* تحب كثيرا أن تعيش العزلة حينما تضج الكتابة في داخلك.. كيف هو طعم عزلتك ؟ وكيف تختار مدن عزلتك؟

- لا أختار المدن، المدن هي التي تختارني. فبعد المحرق والبحرين، سأكتب في المكان الذي يمنحني العزلة الذهبية. فها أنا أكتب هذه اللحظة وأنا في عزلة الريف الألماني الذي أتاح لي منحة التفرغ للكتابة والقراءة بأقصى ما يحتاجه الكاتب من الراحة والحرية والأمان والاستقرار. ولعلي في هذا العمر سأشعر بالرضا عندما أحصل على ما يساعدني على إنجاز كتبي بالشكل الذي أحب. فالحق أنني ما كنت سأقدر (مثلاً) على إنجاز كتابي عن (طرفة بن الوردة) ثم كتابي عن (فان غوخ) بالإضافة إلى كتب أخرى قيد الطبع، لولا المنحة الألمانية للإقامات الأدبية والتفرغ، التي هيأت لي عزلة ممتازة في مدن مختلفة في ألمانيا. وبما أنني كنتُ ميالاً للعزلة منذ سنوات طويلة في بيتي البحريني، فإنني سأعود إلى تلك العزلة نفسها كلما تيسر لي ذلك.

* منحتك "المحرق" ممارسة الحياة واحتراف المهن والروح الشعبية التي احتوت المكان الذي سيطر على مخيلتك بالحس العفوي في فترة من فترات حياتك.. فهل يعني ذلك بأن المحرق هي ذاكرة قاسم حداد القديمة التي تحتفظ به طفلا ؟ أم أن لمدن أخرى ذات السطوة وذات البعد الإنساني والروحي على عالمك الداخلي؟
- ليس مثل المحرق مدينة في حياتي. تلك هي خزانة طفولتي ومصدر مخيلتي الأصلية لا تزال. بل إنها باتت تتوهج كثيرا وسوف تظل هذه المدينة واحدة وحيدة في سياق كلامي عن المدن.

 مع حفيدتي أمينة في ورشة طرفة بن الوردة

* أيقظتك الساحرة ذات مساء وهمست لك (ليس الكلام في الكتب.. الكلام في الناس) أين هي الساحرة الآن ؟ وكيف هو شكل الكلام الذي مسحت به على رأسك وروحك؟

- لم تزل الساحرة تضع يدها على رأسي كل مساء لكي تمنح مخيلتي الأحلام. هي ساحرة قادرة على قيادة حياتي وكتابتي إلى الجمالات المنتظرة.

  مع أمين صالح في بلجيكا

أمين صالح

* لا يمكن لأي متابع لتجربتك وعلاقتك مع توأمك " أمين صالح" إلا أن يقف متأملا ومنذهلا أمام هذا التشابه والتواشج الروحاني والإنساني والإبداعي.. أي كيمياء صهرتكما في هذا التجلي والصعود الإنساني الكثيف؟

- تلك هي النعمة التي تستعصي على التفسير. فلا يصادف المرءُ صديقاً مثله كل يوم. والحق أن الأمر هو بمثابة الاحتكام للصدق دائماً. فالصداقة ليست أقل من الصلات في الحياة. كلما التفت تجد أمين صالح حولك يرفُّ مثل جناح الملاك. هذه هي الصداقة. وحين تجد شخصاً يفهم روحك من غير حاجة للكلام فذلك هو الأمر الذي ستحتاجه التجربة في الحياة والكتابة. لم يخذلني أبداً. لم يتأخر عن كلماتي أبداً. لم يغب عن أحلامي أبداً. لم تمرض روحي معه أبداً. وحين نشترك في كتابة نص نكون كأننا نواصل الحياة معاً. عندما يذهب إلى مكان وحده أكون أنا هناك. تعلمت من أمين أشياء كثيرة.. الكتابة من أهمها، فهو شاعر قبلي وبعدي. كل صديق قبل أمين صالح وبعده ينقص شيئاً ماً. نعيش معاً ونكتب معاً.

* حينما تفكر أن تفتش عن حضن يحتوي بكاءك.. أين تذهب؟ ومالذي يبكيك؟

- أذهبُ إلى حضن حبيبتي أم طفول. وكل شيء (حزناً أو فرحاً) يتصل بالطفولة يدفعني للبكاء.. مثل طفل.

* ما هو السر الذي لم تقله - يوما - لأحد؟

- لقد تعبت.. تعبت.

    في بيت هاينريش بول- ألمانيا

جريدة الرياض- 16 مايو 2013