حكيم عنكر

1/1

ما هي المدن؟ وما هو قدر كفايتنا من المدن؟ هل هو شارع مار من طريق الطفولة ؟ أم هو مقهى في زاوية؟ أم هي خريطة في يد السائح؟ ولماذا حين تكبر المدن تفقد براءتها الأولى، سحرها الذي يتحول إلى مجرد أحاديث عن الماضي الجميل، وتخسر معناها في جشعها اليومي وتمددها في الجغرافيا.

المدن صنيعة البشر، فهم وحدهم الذين يقسمونها إلى خرائط، ومناطق للجمال وأخرى للخوف. في المدينة يتحرك الشريف والمرابي، الشاعر واللص، المرأة والرجل، الليل والنهار، الحي الراقي المحروس والجيوب السوداء، السلم والجريمة.

بينما تظل المدينة الفاضلة التي بشّر بها أفلاطون، لا توجد إلا في المخيلة”.. جيش من البشر ومن الرغبات ومن الشر الذي يتحرك تحت استار من المتناقضات.

جاءت الفلسفة كي تحل معضلة المدينة، أرسطو ابتكر الأكروبول، هنا في هذا “النادي الإنساني” يمكن أن نتحاور وأن نختلف وأن نتنازل أيضا، فالأقوياء الذين لا يؤمنون بقانون اللعبة، ابتكرت لهم المدينة الحل: ساحة الأكروبول للنزال الشريف، والمحكمين من خاصة الخاصة وعقلاء القوم، والشعب للتهييج وإثارة الحماس.

هذه هي المدينة، التي لم نبتعد كثيرا عن مصممها الأول وعقلها اليوناني، فلقد اتسعت وأصبحت المدينة الواحدة مدناً كثيرة، وقبائل تتناحر وأحزاباً من كل ملة ونحلة. ولكي تسلك مدينة عليك أن تفقه عقلها الباطني وحياتها السرية و”كهنتها” الجدد، عمداء، مجالس، بلديات، مقاطعات، أحياء تلحق بأخرى، أحياء تمزق وتكسر شوكتها وتوزعا رقعا انتخابية.

لا مفر

لم يهرب الأدب المغربي من “قدره المديني” إنه قدر لا مفر منه، لذلك انكتب في الأعمال القصصية والروائية والشعرية بما يمكن أن نسميه ب”صدمة الكتابة عن المدينة” أو صدمة العيش في أخلاق المدينة، وانتهى الأمر إلى تشكيل نوع من الصورة الجاهزة النمطية عن الفضاء المديني، في حين اعتبرت الأجيال الجديدة من أهل الفكر والأدب أن لا مناص من تفكيك خطاب المدينة المغربية اليوم، والتي تختلف كثيرا عن مدينة بداية الاستقلال، لكن إذا كان نمط الإنتاج يفرز وعيه، فإن التمثلات ظلت هي هي، في مدينة مغربية تحتاج إلى الحرية والديمقراطية والعدالة كي تكون وتتحقق، وتلك هي المفارقة.

الناقد عبدالفتاح الحجمري يرى ان الرواية لا تصلح إلا للكتابة عن المدينة، ومن هذا المنظور يرى الحجمري انه “يمكن إنجاز نمذجة نصية وتاريخية لعلاقة الرواية بالمدينة بحسب تشخيصاتها الحكائية منذ القرن التاسع عشر وصعدا، وفي اقتران بسؤال النهضة الكاشف عن تحولات ثقافية واجتماعية وسياسية مغرباً ومشرقاً، وإن بدرجات متفاوتة من قطر إلى آخر. وهذا يعني أن موقع التخييل الروائي - بخصوص هذه العلاقة التي تربط المدينة بالرواية - يحمل في ثناياه “رؤية نقدية” أساسها نصوص حاملة لملمح الابتكار وتجاوز الواقعية المباشرة. ولذلك، فإن قيمة الأدب الروائي الراصد لأحوال المدينة العربية ليست واحدة ومتماثلة في جميع المجتمعات العربية رغم العديد من القواسم المشتركة تاريخياً واجتماعياً وسياسياً. وعليه، فإن مواقع المدينة متفاوتة ومن الصعب تعميمها: على أن معيار التنسيب يقترن بمختلف القيم الفكرية وأنماط الوعي التي يعبر عنها الروائيون أنفسهم بصدد الحداثة والديموقراطية والحرية.

المدينة خلق للعالم قبل أن تكون تصويرا له. إنها تخيّل، وما ينقله الروائي هو فكرة عن المدينة وليس المدينة ذاتها. وهذا يعني أن المدينة الروائية هي مدينة خيالية. من هنا يمكن الحديث عن ذاكرة للمدن تستدعي مدنا خاصة بالمؤلفين؛ فتكون لنجيب محفوظ قاهرته، وليوسف القعيد وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني قاهرتهم: مثلما يكون لعبد الكريم غلاب فاسه، وللطاهر بن جلون وأحمد المديني ومحمد برادة وعزالدين التازي فاسهم الخاصة. إن تشييد مدينة روائية يتأسس على مدينة واقعية عادة ما أغرت النوع الأدبي وحقوقه الخاصة بإعادة الإنتاج، مع مراعاة أحوال الأفراد والمجتمعات ومقتضيات التاريخ والفكر والأنتروبولوجيا. مهما يكن من أمر، تبدو المدينة الروائية عالما من الكلام، وهي بهذا قريبة من الشخصية الروائية: إنها فضاء تبتدعه الكلمات.

من هنا إمكانية إبراز صور لسرد المدينة بوصفها عالما:

  1. مملوءاً بالتوتر: بحيث تفصح تعقيدات الحياة اليومية طابع الطوية في علاقة الشخصيات الروائية بالمدينة، وإن بدت علاقة مجلية لتاريخ الأنا مصدره تفكير داخلي وتأمل جواني: “مدينة براقش” لأحمد المديني، “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني.
  2. مثقلا بالمهمش: تظهر نصوص من الرواية العربية ميلها نحو تشخيص عوالم المهمشين، تبدو علاقة الشخصيات بالمدينة حادة ومتوترة تحمل أثر الأحلام المنكسرة أو المؤجلة: “أرصفة وجدران” لمحمد زفزاف، “مالك الحزين” لإبراهيم أصلان، “وكالة عطية” لخيري شلبي.
  3. راصداً للتحول: ذلك أن علاقة الشخصية بالمدينة يمكن أن يحكمها وعي بقيم جديدة تسود بدل أخرى تتوارى. والعلاقة هنا تعادل “رؤية نقدية” أساسها أزمة اجتماعية أو فكرية: “القاهرة الجديدة” لنجيب محفوظ، “الشراع والعاصفة” لحنا مينه، “شرق المتوسط” لعبدالرحمن منيف.
  4. مُجلّياٌ للسلطة: تجسد نصوص من الرواية العربية حقبا عنيفة من التاريخ الاجتماعي والسياسي العربي ولدت الرغبة لدى الشخصيات الروائية في التحرر من ضغط السلطة وبؤس حاضر مفجع: “تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم، “عو” لإبراهيم نصرالله، “سمر الليالي” لنبيل سليمان.
  5. تعبيرا عن السقوط: حين تقدم الرواية العربية وصفا دقيقا لانهيار العديد من المدن من جراء حروب أهلية أو اعتداء أجنبي. وتحمل المدينة في هذه الروايات إما صورة هوية مفتقدة، أو صورة فضاء لتعرية أوهام الوطن: “الوجوه البيضاء” لإلياس خوري، “المخطوطة الشرقية” لواسيني الأعرج، “ثلاثية غرناطة” لرضوى عاشور.

فضاءات مختلفة

وفي مقاربة شخصية، وانطلاقا من تجربته في الكتابة، يرى الروائي المغربي شعيب حليفي أن المكان جوهري في الرواية، يقول: “لا يمكن لشيء أن يوجد ويتحقق، في عصرنا من دون مدينة ووعي مديني، خصوصا في مجال المؤسسات والآداب بكل أشكاله التعبيرية وتحديدا المسرح والرواية والمحكي البوليسي والخيال العلمي وغير ذلك. من قبل كان الفلاحون وأهل البادية يختلقون فضاء مختلفاً يتشبه بالمدينة ويسمونه المركز أو الفيلاج.

علاقتي بالمدينة مثل علاقة كل الكائنات بفضاءاتها التي تحقق لها نوعا من التوازن النفسي والروحي.ولا يمكن تحقيق وجود وهوية وثقافة بمعنى ما دون مكان، بل دون ارتباط حقيقي به، حتى إن النصوص الإنسانية الكبرى يشكل المكان فيها جوهرا محركا لكافة القضايا الأخرى.

علاقتي بالدار البيضاء، كمدينة تختزل المغرب بامتياز، جاءت بعد علاقتي بمدينة”سطات” المجاورة لها وهي فضاء صغير يغلب عليه الطابع الفلاحي وإن عرف في العقدين الأخيرين تحولات كبيرة.لكن الدار البيضاء تبقى ذلك الشريان الذي يمد الكاتب بالحياة، فكأننا فيها نحيا داخل رواية لا تنتهي أبدا عامرة بالدلالات والمفارقات ورغم ذلك نجد أصدقاءنا من مدن أخرى يغبطوننا على أننا نقطن داخل مدينة مثل الدار البيضاء لا يعرف ساكنها الملل أو الراحة أبدا ، يجد فيها كل ما يريد، ويفقد فيه أشياء كثيرة.

ولعل أول عمل إبداعي لي، رواية “مساء الشوق”، لم أستطع فيه تغييب المدينة فاستحضرت مدينة الدار البيضاء بوجهها العنيف؛صورة الطبقة العاملة والحركات الاحتجاجية وما رافق ذلك من عذاب وقتل وتحول في حيوات الناس. وما زلت اعتبر هذه المدينة فضاء لخلق مواضيع وأشكال جديدة ، وإطارا مفتوحا للاسهام في تقدم العلوم والآداب بفعل وجود كل الشروط المساعدة على ذلك.

إن علاقة الكاتب أو أي إنسان بمدينة ما لا تكتمل إلا بما تحمله الذاكرة في الماضي وما يحققه الحاضر من أحلام وهي إن كانت موقعا بعمرانه فإنها ما تحمله في تاريخها وجغرافيتها.ولا توجد المدينة في متخيل الكاتب إلا بالذاكرة والحاضر والحلم، وأيضا ذلك النسيج الذي لايقاس بالسنوات أو الأرقام من علاقات مع أصدقاء وأمكنة بعينها ومع أحداث، كلها مع غيرها تشكل الحياة والرواية داخل دورة المدينة.

أما شهادة الشاعر والتشكيلي المغربي عزيز أزغاي تكتسي أهمية خاصة، فهو “كازاوي” “تربط”، لم تكن الدار البيضاء بالنسبة إليه مدينة واحدة، بل فضاءات، هنا يحكي تمثله كشاعر وفنان: ظلت علاقتي بالمدينة، كفضاء معماري وجغرافي وكعلاقات إنسانية أيضا، تتسم بغير قليل من التقلب، وذلك بالنظر إلى تمثلي لهذا الفضاء في لحظات معينة من تاريخي الشخصي. ورغم أن رأسي سقط بمدينة الدار البيضاء في منتصف ستينات القرن الماضي، إلا أن انتمائي لهذه الرقعة الحضرية ظل دائما مرهونا بعدة عوامل يفرضها الآخر والمحيط والعلاقات اليومية، وذلك من قبيل الوضع الاجتماعي الذي كان وما يزال يفرض مسألة التموقع داخل هذا المجال المتدفق على جنبات الأطلسي.

وأتذكر الآن، بسبب انتمائي إلى أسرة فقيرة، كيف أن علاقتي بهذه المدينة ظلت مقتصرة على محيط لا يتعدى الحي الشعبي الذي تقطنه أسرتي “ابن امسيك” والأحياء الشعبية المجاورة له، بحيث كان لزاما أن أصاب، وأنا طفل، بحروق بليغة وأنقل على إثرها إلى مستشفى “موريزكو” في قلب المدينة لتلقي العلاجات الضرورية، كي أصاب بتلك الدهشة العارمة، جراء مشاهدتي للعمارات الشاهقة والسيارات الكثيرة والمحلات الفارهة والمارة الأنيقين والأضواء الكاشفة، وقد كانت تلك المشاهدات طارئة على خيال طفل اعتاد على مشاهدة دور الصفيح والأوحال المنتشرة في كل الجنبات والبشر المهترئون.

التحول

يقول الناقد سعيد يقطين: مفهوم المدينة تغير الآن. تعددت المراكز. ولم يبق فرق بين “ المركز “ و”الهامش”. وصار المركز بدوره “هامشاً”. كان القروي، الذي يسكنني، يفرح لمغادرة “الدوار” ليتوجه إلى “الفيلاج” أو “المدينة”. كان ذلك يوم عيد بالنسبة إليه. فيه رهبة وخوف باطني ومرح نادر. أن أخرج من بورنازيل وأشرب قهوة في “إيكسيليسيور” أو “تور دارجون”، وأزور المكتبات والأكشاك، والمحلات التجارية، كان هذا اليوم أخطط له، وأذهب لسرقة متعة جميلة. وأقول الشيء نفسه عن فاس والرباط. اليوم صارت المدينة هي “مرجان” و”أسواق السلام” و”ميترو” فضاء للتبضع والاستهلاك، لم تبق المدينة، بالنسبة إلي مدينة. صارت “المدينة” هي الحي الذي أسكن فيه. ولم أعد أقول إني ذاهب إلى “المدينة”. لقد انتهت، بالنسبة إلي. وصرت أفضل، لو أنني أقول: إني ذاهب إلى “البادية”.

الخليج- السبت
13/12/2008