جيلان على ضفتي سكرة القرن العشرين

فيديل سبيتي
(لبنان)

سكنى الشعراء

يقام في شهر آب من كل عام مهرجان للشعر المتوسطي في بلدة لوديف الفرنسية. يدعى اليه شاعران من كل بلد متوسطي، ويكون العدد الاكبر من المشاركين من الشعراء الفرنسيين المخضرمين والجدد. تشارك في المهرجان فرق موسيقية مختلفة. وتقام النشاطات في شوارع البلدة وساحاتها، ويستضاف الشعراء في منازل السكان، ما يخلق جوا للتعارف بين الشعراء وبينهم وبين أبناء البلدة والجمهور الذي يكون في غالبيته من القادمين من بلدات ومدن قريبة. هنا نص في وصف الرحلة الى البلدة الفرنسية ومجريات أحداثها على هامش المهرجان الشعري الأخير.

( 1 )

كانت تستند بظهرها الى احد أعمدة محطة مونبيلييه للقطارات السريعة. نحيفة، شعرها كستنائي قصير، عيناها عسليتان، لا ألوان او مساحيق على وجهها. تحمل لافتة كُتب عليها اسمي، وتنظر هنا وهناك وهنالك، علّها تلمحني بين جموع الخارجين من القطار. هي تعرف انني قادم على متن قطار هذه الرحلة. في الخامسة والعشرين من عمرها، ترتدي ثيابا ملونة وفضفاضة كملابس الهيبيين. نظرة حزن قديم تمنح وجهها هوية خاصة تميزها عن وجوه المارة في محطة القطارات. حين رأتني رفعت يدها بتباطؤ وكسل مشيرةً الى إسمي على اللافتة. تقدمتُ نحوها. قالت: أنا سيسيل ومهمتي أن أرافقك الى بلدة لوديف. كانت متطوعة لمساعدة ادارة المهرجان في نقل المشاركين فيه من محطة القطارات الى البلدة. قالت ان عملها الحقيقي هو استكشاف المغاور ومساعدة السياح والهواة في الدخول اليها. كانت تقود سيارتها مسرعة على الاوتوستراد، مستمعة الى اغان انكليزية وتلفّ سجائر تخلطها بالحشيشة أثناء القيادة. ربما تتخيل أن الحشيشة والأغاني الانكليزية تناسب بداية تعارف بشاعر شاب قادم من بلد بعيد اسمه لبنان الى بلدة نائية في الريف الفرنسي اسمها لوديف. فكرت انها تبحث عمّن تحادثه في أمور تتعلق بالحياة هناك خارج البلدة الصغيرة. وصلنا الى مكتب ادارة مهرجان الشعر المتوسطي، فأشارت بهدوء الى مكان المكتب وطلبت مني ان أنقل أغراضي اليه ثم رحلت. لقد أنجزت عملها ورحلت. بعد ثلاثة أيام، ستوقف سيسيل سيارتها في وسط الغابة في ساعة متأخرة من الليل لتطلب مني الخروج من السيارة: "إنزل. وأرحل"، قالت بصوت حاد وقاطع ومن دون ان تصرخ. كنت قد نبشتُ بسكين لساني جرحاً ظنّته غائرا، حفرته علاقتها اليائسة بوالدها.
في وسط البلدة حيث مكتب ادارة مهرجان الشعر كانت مجموعة من النسوة في انتظار القادمين من الشعراء، بعضهن من العاملات في المكتب، وبعضهن من سكان القرية، أردن انتقاء الشعراء الذين سيبيتون لديهن. جميعهن تعدين سن الخامسة والخمسين. بضع شابات ممن لم يبلغن الثلاثين من العمر من المتطوعات، كن في المكان. وكان قد وصل عدد من الشعراء من جنسيات مختلفة الى باحة المكتب وراحوا يتعارفون في انتظار توزيعهم على المنازل التي سيقيمون فيها.
كن يتقدمن واحدة تلو الأخرى فألقي عليّهن التحية وأعرّفهن بإسمي وتعرّفني كل واحدة بنفسها واسمها ووظيفتها في المهرجان. فأبادلهن الابتسامات على جاري لقاءات التعارف الاولى، لكنهن كن يبالغن باللطافة وكأنهن يستقبلن رجالا من كوكب آخر او من بلاد بعيدة هي في مخيلتهن بلاد غريبة يعيش أهلوها في عالم آخر غريب. كان يخالط تلك اللطافة بعض الرأفة، أو هي ربما نظرات النسوة المسنات، غالبا ما تكون ممزوجة برأفة. كعاطفة الجدّات. شعرت أن انتظارهن من يستقبلنه يشبه لعبة حظ. فهل يكون من ينتظرنه لطيفا ومهذبا ونظيفا ومرتبا واجتماعيا، ام يكون عكس ذلك؟ استضافة شخص غريب في المنزل فيه كثير من الحظ.
اقتربت مني امرأة فرنسية في عقدها السادس وقالت انها ترغب وزوجها باستضافتي في منزلهما. قبل قليل كانت تقف على مسافة منا نحن الواصلين الى الباحة وكانت تنظر فينا وكأنها تنتظر أحدا في عينه، وحين اختارتني بدت كأنها اتخذت القرار في اللحظة نفسها. في لحظة تأمل فكاهية، تخيلتني في عالم النساء اللواتي يجلب لهن الرجال من أماكن بعيدة وقصية فيوضعون في باحة ويأتين ليخترن من بينهم من يعجبهن. سوق نخاسة عصري تصلني صورته من فيلم ما. دفعتني الفكرة الى الابتسام بدرجة أكبر مما تتطلب المناسبة.
قلت لها ان لا مشكلة البتة، فأنا لا أعرف أين سأقيم أصلا. ثم سألتني اوديل (وهذا اسمها) بهدوء الشخص الذي حين يكلم شخصا آخر للمرة الاولى يحاول ان يبدو متعاطفا معه او ان يهيئ الطريق لمصادقته، عما اذا كنت أريد ان أتعرف الى جميع الحاضرين قبل الانتقال الى المنزل. أجبت بأنني ارغب بالانتقال الى المنزل لترتيب أغراضي وأخذ قسط من الراحة بعد الرحلة الطويلة والمتعبة من باريس. تلقائيتي هذه وردّي السريع هما ابنا سؤالها الهادئ وقسمات وجهها التي تشي بأنها عقدت معي صداقة قبل أن تراني حتى. لا تردد او خجل امام هذا النوع من النساء. في تلك اللحظة وصل زوج اوديل ويدعى جان ايف الى المكان. كان يحمل حقيبة على ظهره كشاب في الثانوية. بدا كأنه شرب كأسين من النبيذ للتو. كان مرحا وجريئا. فقالت له أوديل مشيرة إليّ: "هذا هو الشاب الذي سنستضيفه في بيتنا"، فربت بمرح كتفي وقال: سنكون مسرورين باستقبالك في منزلنا وستكون مسرورا بنا أيضا، بينما ضحكة عالية تخرج من فمه وسط مراقبة الجميع المأخوذين بهذا الاستقبال السريع والعارم. للتو عرفت ان عطلتي في لوديف ستكون رائعة. يا لجمال القسمات المرحة التي سينكشف من تحتها روتين الحياة، قلت في نفسي وكأنني أحدس بما سأكتشف.

( 2 )

عند نهر لوديف أوديل معلمة في مدرسة البلدة. تهوى الطبخ. هادئة. صوتها منخفض دائما. نظرتها مليئة بحزن قديم، هو خليط مجموعة أحاسيس كما أخبرتني لاحقا، أن اختيارها وجان إيف ترك باريس وبلدتهما في بروتاني شمال فرنسا للانتقال للعيش والسكن وشراء منزل في لوديف جنوب فرنسا، ورحيل ابنها الى باريس للعيش وحيدا، وزواج ابنتها من سويسري وتركها فرنسا الى سويسرا، وشعورها بأنها كبرت في سنوات ركضت ركضا في عمرها بينما لم تقم بكل ما يجب ان تقوم به. كل هذا يمكنه ان ينطبق على أمي. هنّ المدرّسات اللواتي هجر أبناؤهن منازل الاهل، يمتلكن العاطفة نفسها على ما اعتقد.
جان إيف قرر ترك عمله في شركة الاعلانات التي كان يرسم لها اعلاناتها، وقرر العمل منفردا على مواضيع رسم خاصة. كان الموضوع الاخير الذي يعمل عليه هو الأشجار. قال انه بات في عمر لا يسمح له بتلقي الاوامر من مدير غبي. كان ناشطا في عام 1968، أي شابا من شباب ذاك العام الفرنسي الذي يسمّيه "سكرة القرن". كان احد أولئك الذين حين تعرض صورهم على التلفزيون يكونون فتيات وشباناً يفترشون الحدائق العامة ويتبادلون القبل الجماعية ويرتدون ملابس غريبة ويطيلون شعورهم ويلبسون نظارات شمسية ولا يتوقفون عن التدخين. اولئك الذين كانوا يريدون القول ان الحياة العابثة أفضل بكثير من الانظمة المحافظة والتي تصنع الحروب. تعاطى حينها المخدرات الجديدة والمهلوسات وتنقّل بين البلدان متسكعا حاملا حقيبته على ظهره. بعض من هذا كله، لا يزال في شخصيته. المرح، حب النساء، هوى النقاش في مواضيع ثقافية. ولكن هذا كله يخبئ حزنا خفيفا في عينيه. حزن الرجل الذي ينظر في العمر الذي خلّفه ولا يفتأ ينظر فيه ويتمنى العودة اليه. هذا كله فيه الكثير من أبي. هكذا نقلت امتعتي الى منزل أمي وأبي الجديدين، اللذين لم يتوانيا عن التعامل معي وكأنني إبنهما المفقود. يا للأبهة في بلدة فرنسية نائية.

( 3 )

يقع منزلي الجديد قرب النهر الذي يقطع البلدة قسمين. قسم يسكنه أهلها الأصليون من الفرنسيين وفيه الساحات الرئيسية التي تقام فيها نشاطات مهرجان الشعر المتوسطي. القسم الثاني يسكنه جزائريون من الـ"أركي" (حركي) وهم الجزائريون الذين قاتلوا في الجزائر الى جانب الجيش الفرنسي فاتهموا بالعمالة. وها هم في البلدة الفرنسية البعيدة لا يندمجون في مجتمعها، فينتحون نواحي أحيائهم ويجتمعون في مسجدها الصغير يشربون الشاي بالنعناع، بعيدين عن بلادهم التي لا يمكنهم العودة اليها. حالهم كحال اللبنانيين الذين تعاملوا مع الجيش الاسرائيلي إبان احتلاله جنوب لبنان وهربوا الى اسرائيل بعد انسحاب جيشها. كل وقائع المهرجان تقع في القسم الاول من البلدة ومن شارك من الـ"حركي" فيها كانوا عدداً قليلاً من الفتيات السمروات ذوات الجمال الجزائري الاصلي واللواتي تؤكد أشكالهن ان لا تزاوج وقع بين الجزائريين والفرنسيين في البلدة.
في الطريق نحو المنزل أخبرني جان ايف عن ضيف السنة الماضية وكان شاعرا اسرائيليا وزوجته. قال ان الضيف الاسرائيلي راح يتبرم من عدم وجود مكيف للهواء البارد في المنزل ومن صغر حجم المطبخ ومن تفاصيل أخرى، فاضطر جان ايف لتقريعه بالقول ان منزله ليس فندقا وانهما يستقبلانه وزوجته تطوعاً. وقد فهمت الرسالة مباشرة.
بعد وصولنا الى المنزل لم يسمح لي جان ايف بالصعود مباشرة الى غرفتي، فقد اراد ان نشرب كأسا من الباستيس الشبيه بالعرق اللبناني كبداية لتعارفنا. كأس من الباستيس تلتها كأس أخرى، تحادثنا خلالهما عن بلادي وعن حياتهما واولادهما وعن علاقتي بأهلي. كان دخولا سريعا في الحياة الشخصية والخاصة. وكانت تلك الجلسة الاولى عنوان الجلسات المقبلة التي ستكون ملائمة لعطلة صيفية قصيرة في بلدة فرنسية تحيطها الغابات ويمر فيها نهر صغير ولا ينقطع سيل السياح عنها طوال مدة المهرجان.

( 4 )

أقيمت السهرة الافتتاحية في ساحة الكاتدرائية الواسعة. قرأ عدد من الشعراء قصائدهم، وعزفت فرقٌ موسيقى متوسطية من مختلف البلدان حول البحر. الجمهور تفاعل مع الموسيقى الاسبانية الراقصة كما هي حال جمهور الموسيقى في العالم اليوم. تجمهر في الساحة الواسعة عدد كبير من زوار المهرجان القادمين من مختلف المناطق الفرنسية وتوزع بينهم سكان البلدة. في تلك السهرة التقينا بالشعراء المشاركين ومنهم الشعراء العرب الذين، ومنذ سهرة الافتتاح، راحوا يمضون جلّ جلساتهم بعضهم مع البعض الآخر في الساحة الرئيسية. الفرنسيون الذين تعرفت اليهم تلك السهرة كانوا من العاملين والعاملات في المهرجان، فاصطحبوني الى سهراتهم وتجمعاتهم التي تنتقل من حانة الى أخرى ومن زواية الى زاروب في البلدة. كان عليَّ ان انتبه الى انني في ابتعادي عن الشعراء العرب أقوم بما يمكن اعتباره خروجا على "انتظامهم العام،" اذ بعد مرور أيام ثلاثة على بدء المهرجان وبينما كنت مارا بطاولتهم مع أصدقائي الفرنسيين، قال أحدهم بصوت أرادني ان أسمعه: "هناك من لا يرغب بالتعرف الى أقرانه العرب ويفضل عليهم الفرنسيين". اقتربت منه وهمست في أذنه جملة آتية من زمن قديم ولكنها لا تزال صالحة للاستعمال بالنسبة اليَّ: "أنا شخص بلا هوية". هذا الشاعر نفسه انتقل عبر الغابات الى النروج بعد المهرجان. لم يرغب بالعودة الى بلاده التي يحكمها أصوليون اسلاميون. حين ودّعته في اليوم الأخير من المهرجان، كان قد عزم على البقاء في اوروبا. صافحته قائلاً له انه سيكون في أحسن حال في ذاك البلد الاوروبي، كنت أقاوم دمعة على أهبة السقوط من مقلتي.
في السهرة عرّفنا سمير التونسي، صاحب الحانة الرئيسية في ساحة الكاتدرائية، بنفسه. حين علم اننا قادمون من بلدان عربية مختلفة هلل لقدومنا، وقدّم الينا قنينة شمبانيا. وراح يمازحنا ويروي لنا الطرائف ويخبرنا عن علاقته بشعراءعرب قدموا الى لوديف في السنوات السابقة، ولم يكف عن سؤالنا خدمة يقدمها الينا. كان يتصرف كعربي على رغم انه لا يتكلم اللغة العربية منذ تركه تونس صغيرا برفقة أهله الى أسوج ومن ثم استقراره في بلدة لوديف بعد حصوله على الجنسية الأسوجية وإبقائه أسباب تركه تلك البلاد الى هذه البلدة البعيدة طي الكتمان. كان كلما وصلنا الى حانته يسمعنا الموسيقى العربية ويرفع صوتها حتى تبدينا تلك الموسيقى نافرين في تجمع الجمهور اللوديفي. كأنه باستقبالنا هكذا اراد ان نراه عربيا مثلنا على رغم أسوجيته وفرنسيته. بعد مرور أيام على تعارفنا، أطلقت عليه اسم "الحب العربي" بعدما كان يلقب بـ"الجنرال" من دون سبب وجيه، بحسبه. قلت له ان اسمه بات "الحب العربي" من الآن فصاعدا، "لأنك تبيعنا بسعر مضاعف عما يبيعنا به الفرنسيون، ولكنك تعوّض عن سلبنا مالنا بالترحاب المبالغ. هكذا نحب بعضنا البعض نحن العرب"، قلت له ممازحا. ضحك يومذاك ضحكة عالية، ولكنه منذ ذلك الحين راح يتجنب الالتقاء بي، فصار يرسل الى طاولتي "الولد" الذي يعمل عنده كي يؤمّن طلباتي. صرت كالغرباء الفرنسيين في نظره... يجب معاملتي بحياد.

( 5 )

في ليلة الافتتاح كانت الرغبة بالتعارف مبثوثة في هواء الساحة. المشاركون يتنقلون بين الطاولات، يعرّفون عن أنفسهم ويتعرّفون الى مشاركين آخرين وجمهور من أهل البلدة ومن الزوار والشباب القادمين أفراداً ومجموعات، بعضهم ليعرض أعماله الفنية على جمهور المهرجان من دون ان يكون مشتركا فيه، وبعضهم يمر في البلدة في طريقه الى مكان آخر، ومنهم من يستثمر مساحة صغيرة كمطعم او مقهى. العاملات في المهرجان تنقلن بين الطاولات بدورهن. وسرعان ما ظهر ان فتيات المهرجان الاداريات كن وسيطات في العلاقات المشبوكة بين إدارة المهرجان والمشاركين الكثر، وبقين كذلك حتى النهاية. كان هذا التواصل مع الحاضرين جزءاً من عملهن الذي يهدف الى إشاعة جو من الإلفة. كان للنبيذ الفرنسي الرخيص الثمن دوره ايضا في إرساء هذا التعارف. وكان في إمكاننا شراء النبيذ او البيرة من أي مكان في الساحة او في الزواريب المحيطة بها. في الشوارع المؤدية الى ساحة الكاتدرائية كانت تنتصب في المساء عشرات "البارات" المرتجلة، الواحد منها عبارة عن لوح خشبي مرتفع يحيط به عدد من الكراسي، في جانب منه يقع البراد الذي يحتوي على النبيذ والبيرة. هكذا تتحول تلك الشوارع الى مضافات متوسطة الكلفة لجميع من في البلدة.
في تلك السهرة كان جان إيف دليلي. هذا الرجل الستيني لا يزال شابا ومرحا ويحب التحادث مع الفتيات الجميلات وغالبيتهن ممن يعملن في ادارة المهرجان. كان قد تعرف الى بعضهن في اليومين السابقين على وصولنا واثناء تحضيرهن لانطلاقة المهرجان. قادني من يدي وراح يقدّمني الى كل واحدة منهن على انني الشاعر اللبناني الشاب. قال لي ممازحا لا بد ان كل واحدة منهن ترغب بالخروج معك الى السهرة. حدست انه يجري إسقاطا لرغبته عليَّ. بعد جولة او جولتين بين الحاضرين والحاضرات تأكدت من حدسي، رحت أشعر أن جون إيف يستخدمني كطعم الصنارة ولكن من دون أي سوء نية. كان يستشعر بي صديقا يذكّره بشبابه او يعيده الى شبابه البعيد، وانا لم يزعجني الامر البتة، فمن عادتي الشعور بالأسى على من تقدم به العمر بينما يشعر بأنه لا يزال شابا.

( 6 )

تلتف حول بلدة لوديف طريق دائرية. ومنها تتفرع الطرق الصغيرة الى داخل البلدة القديمة التي يمنع على السيارات دخولها. الطرق الضيقة توصل الى ساحات عامة تنتشر فيها المقاهي والمطاعم، وتكتظ بالزبائن صباحا للفطور وظهرا عند الثانية عشرة والنصف لوجبة الغداء، ومنذ السابعة مساء لوجبة العشاء. اما في ساعات بعد الظهر فينتشر الزبائن في مقاهي الحلوى والبوظة وفي المطاعم. الشارع الرئيسي الذي يقسم البلدة القديمة يقام فيه طوال فترة المهرجان معرض لكتاب الشعر الفرنسي والمترجم الى الفرنسية، فتأخذ كل دار مكانها في الشارع وترصف معروضاتها على طاولة. قال لي صاحب مكتبة البلدة ان كل دار من العشرين المشاركة قد يبيع ما يزيد على عشرين مجموعة شعرية خلال الاسبوع. أي ما يزيد على أربعمئة مجموعة شعرية في ايام المعرض. هذا العدد أكبر من عدد كل المجموعات الشعرية التي تباع في معرض الكتاب الدولي في بيروت خلال الخمسة عشر يوما.
النهر أشبه بساقية. تأثيره جمالي على البلدة فقط. فمياهه غير صالحة للشرب ولا للسباحة ولا ثروة سمكية فيه. اهميته الوحيدة انه يمنح لوديف صورة البلدة الاوروبية القديمة في الافلام التاريخية او في الرسوم المتحركة للاطفال. بلدة صغيرة، يعلو القرميد منازلها وفيها كاتدرائية كبيرة وتحيط بها الغابات ويمر في وسطها النهر.
لا يمكن الشعور بوجود الكاتدرائية الا حين يقرع جرس ساعتها كل ستين دقيقة، رغم ان الكاتدرائية القديمة والجميلة هي من أضخم مباني البلدة وأعلاها، لا يمكن الشعور بوجودها لانها خارج نطاق دورة العمل اليومية، ولا تقوم بدورها الديني الذي نعرفه للكنائس والكاتدرائيات. فلا يدخل اليها المصلون، ولا تخرج من أرجائها موعظة دينية، ولا رجال دين يجولون في المكان، ولربما لا يعمل في الكاتدرائية أي رجل دين.

( 7 )

في اليومين الاولين عرفت ان وجود هذا العدد الكبير من المسنّات ليس من قبيل المصادفة. كنت قد ظننت ذلك في حفلة الاستقبال العاجلة أمام مكتب الادارة حيث رأيت ان ثمة فاصلا كبيرا بين سن الفتيات المتطوعات للعمل في ادارة المهرجان والنسوة العاملات او المتطوعات لاستقبالنا في بيوتهن. ظننت حينذاك انه اليوم الاول ولم يحضر الجميع بعد. لكن في اليومين التاليين عرفت ان هذا الفرق العمري لن يتقلص، وان معظم الزوار والموجودين في البلدة هم من المسنين والمسنات.
كان الامر يبدو وكأن جيل النسوة اللواتي في عقدهن الثالث او الرابع مفقود الاثر وغير موجود، وأن نسوة المهرجان الشعري إما غير متزوجات وإما مطلقات وإما تركن رجالهن في مكان ما آخر. ليس من المصادفة ان لا تجد إمرأة واحدة تبلغ الثلاثين او الاربعين من العمر او ما بينهما، وان يكون عدد النساء فائضا الى هذه الدرجة عن عدد الرجال.
قالت سيسيل ان الامهات من جيل الستينات أنجبن في سن متأخرة، وان هذه حال عامة في معظم الديار الفرنسية، فبنات ما سمّي "ثورة الستينات" الثقافية غالبيتهن أنجبن في السنوات البيولوجية الاخيرة التي تسمح للمرأة بالانجاب. اي في الاربعين من العمر. لذا فإن الفتاة التي تبلغ اليوم الخامسة والعشرين تكون أمها بين الستين والخامسة والستين. وبحسب سيسيل فإن الفرق بين الامهات وبناتهن ليس في السن فحسب، بل وفي النظرة الى الحياة والثقافة. يمكن ملاحظة هذا الفارق الثقافي من خلال الملابس وطريقة التبرج وأنواع الاحاديث، وفي الصلة التي تربط جيل الامهات بجيل بناتهن. نادرا ما تلتقي مجموعة من النسوة المختلطات العمر (مسنات - شابات) في سهرة او في وقفة حديث عابرة او الى طاولة عشاء في مطعم. لكل من الجيلين جماعته ومطاعمه واصدقاؤه. لا يقوم التواصل بينهن الا في ما يختص بالعمل. والفتيات مرتاحات في ملابسهن وتبرجهن البسيط وفي محادثاتهن العفوية والتلقائية على غرار كل فتيات العالم في عمرهن، فيما تحاول النسوة البروز دوما بمظهر المتصابيات لكن على طريقة أزياء الستينات والسبعينات من القرن الماضي. فساتين مزركشة وملونة، تداخلها ملابس أخرى فوقها من الطينة نفسها، الى تصفيفات الشعر القديمة وطريقة التبرج الاقرب الى طريقة تبرج بريجيت باردو.
حين سألتني مضيفتي بعد يومين من وصولي عن أكثر ما يزعجني في البلدة، قلت مشاهدة النسوة المسنات في كل مكان. كانت هذه صدمة لها. أخبرتها انني لم اعتد هذا الامر في مدينتي حيث أعيش، اذ ان بلادنا شابة. والنسوة حين يبلغن عمرا معينا تكتنز أجسادهن بالدهن وتتجعد وجوههن وبعضهن يختبئن خلف مناديل وفساتين واسعة وبعضهن ينزوين في المنازل لا يخرجن الا لقضاء أمر، وهذا كله في انتظار ملاك الموت. قلت لها انني لا أعرف ما اذا كان انزعاجي سببه الصورة الجديدة التي أحصّلها عن النساء المسنات، أم هي صورة النساء المسنّات في بلدي، اللواتي يتعاملن مع العمر وتأثيره وكأنه قدر لا يمكن تغييره.

( 8 )

أقف صباحا على شرفة منزلي الجديد في الطبقة الرابعة حاملا فنجان القهوة في يد وسيجارة في يد أخرى. أنظر الى الجهة المقابلة من القرية حيث يسكن الـ"أركي" الجزائريون وحيث المسجد بسقفه القرميد الذي لا تعلوه مئذنة، فلا تجعله مسجدا الا لافتة مكتوبة باللغتين الفرنسية والعربية: مسجد، mosquée. ثم انظر الى النهر والجسر الروماني الذي يعلوه وأرتال البط التي تسبح فيه، ثم أصل بنظري الى أسفل المبنى حيث الحديقة. أوديل ترشّ شتول الخضر بالماء. جان إيف يسند الشتول بالقصب حتى لا ترتطم ثمارها بالارض، وموسيقى قديمة هادئة تخرج من تحت الخيمة التي تظلل الحديقة. أنظر نحوهما محاولا الاستيقاظ. هدوؤهما الذي اختاراه بإرادتهما غلافاً لحياتهما السابقة والحالية، يتسلق نحوي الى الطبقة العليا كالنبات المعرش من الارض الى أعلى المبنى حتى نافذة غرفتي. كانا راضيين عن حياتيهما السابقتين التي أمضاها كل منهما على حدة، وها هما راضيان عن حياتهما الحالية التي يعيشانها معا. هي لديها اولادها من زواجها الاول وهو لديه أولاده من زواجه الاول. اولادهما في مكان ما يعيشون حياتهم كما كانا قد عاشاها، وها هما يعيشان حياتهما الجديدة وكأنهما يبدآن من جديد. الحياة الجديدة الهادئة يملأها حزن رحيل الاولاد وتغرّبهم بعدما كبروا، ولكنه حزن أقل من أن يكون مؤذيا.

( 9 )

من ايجابيات إقامة الشخص الغريب في منزل في البلدة، هو الاندماج في حياة بشر حقيقيين، فتنتقل من كونك مشاركاً في مهرجان الى كونك فردا إجتماعيا في مجتمع جديد. هذا ما لا يمكن الفندق ان يقدمه. الفندق يبقي نزيله ضيفا غريبا. الاستضافة في المنزل تفتح لك كوة في جدار اجتماعي يصير رويدا رويدا أليفا.
قبل يومين من موعد سفري، سألتني أوديل ما اذا اشتريت بطاقة الباص الى أمستردام بعدما أخبرتها انني سأمضي عطلتي المتبقية في العاصمة الهولندية. أجبتها سلبا. قالت ان علينا شراءها عبر الانترنت، ثم سألتني هل أعرف كيف أصل الى محطة الباصات في باريس، وكنت لا أعرف كيف أصل الى المحطة. فاتصلت فورا بإبنها غوينيل الذي يعيش مع صديقته في شقة في باريس، وأخبرته أني قادم الى باريس وان عليه ملاقاتي الى محطة القطارات السريعة وايصالي الى محطة الباصات، وارسلت اليه صورتي حتى يتعرف اليّ حين يراني. كلّمته عبر الهاتف ما يزيد على الخمس مرات في النهار حتى تتأكد انه سيكون جاهزا. كانت تساعدني وفي الوقت عينه تجد مبررا للاتصال بإبنها الوحيد. لم أشكرها على هذه الخدمة، فبعد تسعة أيام أمضيتها في منزلها لم يعد الشكر واجبا والا لبدا زائفا. تكراري الشكر وافتعال التهذيب حتى الايام الاخيرة من مدة اقامتي عندهم، سيجعلني أبدو غريبا لم يدخل في إطار العائلة كما كانا يرجوان. تصرفت كما لو ان هذه الخدمة جزء من الخدمات التي يؤديانها لي، كما فعلت حين قررا دعوة يوسف وريم وبضعة أصدقاء فرنسيين الى وجبة غداء في حديقتهما. قالت أوديل حينذاك إنها ترغب لو نجتمع كلنا في الحديقة لتبادل الانخاب في منزلهم. لم تقل لتناول الطعام لانها اعطت الجلسة تصنيفا مسبقا: تبادل الانخاب. هذا ما سيرفع الكلفة مسبقا بين الحاضرين. كان غداء مكلفا بالنسبة الى عائلة فرنسية متواضعة الدخل. فقد أحضرت انواعا مختلفة من الاجبان، وكان الطبق الرئيسي من ثمار البحر، وحضر الى الطاولة إضافة الى النبيذ والبيرة، الويسكي النادر في بلدة فرنسية كلوديف. جان ايف الذي انتبه الى مللنا من شرب البيرة والنبيذ، انا ويوسف، قرر ان يكرمنا بقنينة ويسكي نشتريها في لبنان بأقل من عشرة دولارات ولكن لا يقل ثمنها في لوديف عن الثلاثين اورو. يومذاك أيضا لم أشكرهما، تصرفت في الجلسة كأنني مضيف مثلهما، فوزعت الطعام على الحاضرين، وسكبت الكحول في الكؤوس، وتحدثت مع الضيوف الفرنسيين وكأنهم قادمون لزيارتي. كانا فرحين بطريقتي في تقديم نفسي على انني فرد من العائلة، وكانا يلمحان في عينيَّ بريق الالم الذي يلوح كلما فكرت انني سأعود الى بيروت. وكانت أوديل تقترب مني في كل مرة تجدني ساهما وتربت كتفي وتقول وكأنها تقرأ أفكاري: "ستعود الى هنا يوما ما. لا تقلق".

( 10 )

التقيت في شوارع البلدة، بمسنّ ملامحه عربية يجلس أمام منزله يتمتع بشمس الصباح الدافئة، لكن نظرة الغريب تستولي على وجهه. هي نظرة الذي يعيش في بلد لا يرغب في العيش فيه، ومع ذلك لا يتركه. لكن نظرة هذا المسنّ أقسى من نظرة غريب، لانه لا يريد العيش هنا ولا يمكنه العودة الى بلاده لانه خائنها كما يتهمه أهلها. حين رآني ماراً، اقترب مني بخطوات وئيدة وظهر محنيّ ومدّ يده نحو ساعدي ليوقفني في مكاني، وسألني: "هل أنت عربي؟"، ففكرت ان جوابي بالإيجاب سيعيده الى ذاكرة بعيدة حين كان هو عربيا ايضا، وأنه سيشتم هذه البلاد وأهلها المتعالين. حدست انه سيحدثني ببضع كلمات عربية غير متناسقة حتى يؤكد لي احتفاظه بإنتمائه العربي الاصيل. شعرت ان مثل هذه المحادثة ستكون طويلة في صباح هادئ كهذا الصباح، فتمتمت بضع كلمات إنكليزية متصنعاً عدم فهم السؤال. راح ينظر اليّ، حانقا وصامتا وكأنه حدس بما يدور في خلدي. أثناء مسيري فكرتُ ماذا لو لم يكن يريد تأكيد عروبته ولم يرد شتم الفرنسيين؟ ماذا لو أراد محادثتي، هكذا على سبيل التعارف وتسجية الوقت؟ لكن سرعان ما تراجعت عن هذه الفكرة لما نظرت إليه مجددا ورأيته يلبس العباءة العربية البيضاء والواسعة ويضع على رأسه قلنسوة بيضاء. عرفت ان ظني الاول لن يخيب. فهذه البلدة ليست بلدته ولو ان أولاده وأحفاده ولدوا فيها.
في المقهى في إحدى الساحات الداخلية، انتظرت ان تصير الساعة العاشرة. كان عليَّ بعد قليل ان أبحث عن المكان الذي سأقرأ فيه الشعر. كان صباحا مشمسا وهادئا. الاشجار أكثر من خضراء مرتمية في حضن الشمس والجميع نيام بعد سكرة الأمس الجماعية. وحدي وبعض السياح كنا نجوب القرية. وفيما كنت أنظر في أطراف الساحة ومقاهيها ومنازلها، كانت فتاة شقراء عيناها خضراوان تتجه نحوي. على كتفيها حملت حقيبة وعلى وجهها بسمة خفيفة. اقتربت سينتيا التي تشبه الممثلات الاميركيات في مسلسل "دالاس" بقصة شعرها وملابسها القديمة الطراز. سألتني ما اذا كنت الشاعر الذي سيقرأ بعد قليل. فأجبت بالايجاب. قالت انها ستدعوني الى كوب من البيرة ريثما يحين الوقت.
سألتني سينتيا عن القصائد التي سأقرأها بالعربية وعن ترجمتها بالفرنسية. سينتيا هي الفتاة التي ستقرأ قصائدي بالفرنسية بعد قراءتي لها بالعربية. قلت لها انها أقرب الى سائحة من قارئة شعر. فضحكت ضحكة عالية وقالت انها بعد قراءات عدة ستعتاد وقع الشعر على مسمعها حتى تروح تقرأ من دون ان تحتاج لفهم ما تقرأه. وهذا صحيح اذ اني بعد قراءات عدة وجدت ان قارئي الشعر باللغة الفرنسية يقرأون كل القصائد بالوتيرة وبالنغمة الصوتية ذاتها. كما كنا نقرأ قصائد الاستظهار في الصفوف الابتدائية. حينها قررت أن أقرأ قصائدي بالعربية وبالفرنسية، هكذا يمكنني ان اوصل بالصوت أحساسا لم تتمكن الترجمة السريعة والمرتبكة من إيصاله.
بعد كوبين من البيرة قالت سينتيا انه علينا ان نلتحق بالمكان الذي سنقرأ فيه. في الطريق فكرت انه ربما عليَّ الانحراف بها ناحية الغابة. كان يمكننا ان نلعب لعبة "ليلى والذئب" هناك.

( 11 )

طرقت الباب مرتين قبل ان أدخل الى المنزل عند الساعة الثانية صباحا. لم أتوقع أن يفتح لي أحد، ولكن جان ايف فتح الباب وكان أحمر الوجه مغتبطا، وقال: "انت مهذب اكثر مما يجب، كان عليك ان تفتح الباب بمفتاحك، ولكن بما انني ضبطتك متلبسا فأنت مجبر على إكمال السهرة معي". ابتسمت وقلت ما يفيد بأنني لا أستطيع إكمال السهرة. فضحك ضحكة عالية قائلا ان القرار بات في يده الآن هو معتقلي عند باب المنزل. كنت أعرف أن جان أيف يسلّيه التحدي. يشعره ذلك بأنه يمتص ما أمكن من شباب يفتقده. لم يكن أمامي سوى الانصياع الى الاوامر. سكب كأسين من الشنابس، الكحول الالماني الاثير على قلبه والذي يقول عنه: "لو أعطيت فيلاً مستوحدا في الغابة قدحاً من الشنابس فسيعتقد انه أسد". شربنا القدحين دفعة واحدة، ثم أخذ غيتاره وراح يعزف موسيقى تشبه تلك التي دأب على عزفها طلاب الستينات الباحثون عن بدايات قوس قزح ونهاياته. كانت عيناي مقبلتين على الانغلاق، ولكن حاسة السمع لا تزال قادرة على المقاومة ولو بصعوبة. رحت استمع الى نغمات غيتاره بينما يغزوني النوم وانا على الكرسي، وهو ينظر في وجهي ويبتسم، ثم يناديني بإسمي: "فيديل، فيديل، لم يحن وقت النوم بعد". فأستيقظ ظانا انني في بيروت على سريري. ثم يسكب قدحا ثانيا له ولي، فنكرعه دفعة واحدة، فأمعن في النعاس بينما يمعن في نقل أصابعه بين الاوتار. وحده الغيتار ثالثنا غير السكران، يتأملنا بهدوء وكأنه يعرف دور موسيقاه في الجلسة كلها، فيما شخير اوديل يهبط من الطبقة الثانية نحونا، حاملا أحلاما كلها قد تتعلق بالشباب الآفل.

( 12 )

مررت بقرب كشك المكتبة التي أهديت الى صاحبها كتبي ليبيعها. مجموعة شعرية واحدة نفدت. كانت قد اشترتها صفية، او صوفي، الفتاة الجزائرية الفرنسية التي تعيش في لوديف. اقتربت مني وقالت انها اشترت المجموعة الشعرية الحمراء على رغم انها لا تقرأ العربية. فسألتها لماذا اشترتها طالما لا تقرأ العربية. للذكرى قالت. ثم طلبت مني ان أكتب لها جملة ما على الغلاف. نظرت الى وجهها الجزائري الذي لم تخالطه اي فرنسية، بعينيها السوداوين الكبيرتين ورموشها الطويلة وشعرها الاسود المجعد بترتيب وبنيتها الضخمة من أكل الكسكس الجزائري والكرواسان الفرنسي، ثم كتبت: "الى صوفي، التي حين يصل الامير على حصانه الابيض، ستدير ظهرها له". لا اعرف من أين أتت هذه الجملة على بالي. لكن صوفي أعجبت بها أيما إعجاب، وظنت انني اعرف معاناتها في هذه البلدة الفرنسية البعيدة. ظنت انني اكتشفت شعورها بالغربة، فهي تريد ان تكون فرنسية ولا تتمكن من ذلك بسبب موانع المجتمع الجزائري الذي تعيش فيه، ولا تريد ان تكون جزائرية بسبب فضولها تجاه المجتمع الفرنسي المجاور ورغبتها في ان تكون فردا فيه. حتى الخلط بين جزائريتها وفرنسيتها لا تتمكن من تحقيقه. فالجزائري الذي يبدي رغبة بالاندماج في مجتمع القرية الفرنسي سيشعره أهله بأنه يتغرّب عنهم. طوال ايام المهرجان ظلت مسافة ما بيني وبين صوفي. المسافة نفسها كأننا مربوطان بشلف من حديد. هي تحضر كل الجلسات التي أقرأ فيها الشعر، وانا أنظر إليها بين الجمهور وكأنني اقرأ لها. لا أكثر.

( 13 )

كادت البلدة ان تصير بلدتي. راحت قدماي تسيران فيها من دون معوقات، وشيئا فشيئا صرت أعرف غالبية سكانها، حتى ان صاحب السوبرماركت صار يرحب بي كما يرحب بزبائنه من سكان القرية. تعرفت الى اثنين من فتيانها الاشقياء. لم يبلغا الثانية عشرة من العمر ولكن من الواضح انهما سيدا عصابة الفتية في البلدة، لا يثنيهما شيء عن ترديد الشتائم وتبادلها ومغازلة الفتيات في الشوارع، وكانا يطلبان مجة من سيجارتي خفية، فأعطي كل منهما سيجارة ليدخنا على راحتهما. قالت اوديل ان هذين الصبيين يحوّلان المدرسة الرسمية الوحيدة ورشة مشاجرة. أحدهما فرنسي الهوية والشكل والاخر عربي جزائري وهما صديقان منذ طفولتهما، فقد ترعرعا في الحي نفسه، ولكنهما في المدرسة يتحولان قائدي عصابتين، واحدة فرنسية واخرى جزائرية. لم تكف العصابتان عن المشاجرة الا بعد طردهما من المدرسة، وبالطبع حين يطردان لا يعودان الى المنزل، بل الى الغابة القريبة يصطادان العصافير بالنقيفة ويأكلان التوت البري. واذا عادا ليلا الى البيت فلا يسألهما أهلهما عما فعلاه خلال النهار. فالاول يعيش مع والده السكير والثاني يعيش مع جدته وجده العجوزين.
قالت اوديل مبتسمة، انني أحسن استغلال وقتي في لوديف. لم أفهم ماذا تقصد، وربما هي لا تقصد شيئا. فأجبت، انني أحب هذه البلدة ولولا انني ذاهب الى امستردام لمكثت فيها. ابتسمت اوديل مرة جديدة وقالت ان أمستردام اجمل بكثير، وعليَّ ان ازور هذه المدينة الجميلة، فهناك سأرى صورتي في مرآة حقيقية. ولم تخطئ أوديل. فبعد عشرة أيام أمضيتها في شوارع أمستردام صرت أراني في مرآتها غير ما أراني في مرآة بيروت. لكأن أمستردام أخرجت مني طاقة كامنة من الهدوء وغياب القلق. طاقة تظل مكبوتة في بيروت. ففي امستردام نفضتُ عني كتلة مقبضة من التوتر لا تتخلى عني في بيروت. هناك تيبس كتلة القلق والتوتر وتتساقط عن الجسد والروح، كوحل ناشف يتفسخ فوق الجلد.
اكمالا للحديث مع اوديل، سألتها عن شتلات البندورة التي تزرعها في الحديقة، فقالت ان عليها ان ترفع النبتات عن الارض على القصب، وانها تؤجل هذا العمل يوما بعد. تخاف ان يمتص التراب ماء الثمار، فتستحيل جافة وغير صالحة للاكل. قلت عليك ان تتركي بعض البندورة للتراب ودوابه، وبعضه لك، وأخبرتها عن "سهم العصافير" من الحبوب التي ينثرها فلاحونا في موسم البزار. فهمت قصدي وضحكت قائلة: "وأنا. ماذا افعل اذا ما تصالحت شتلات البندورة مع التراب وداباته؟".
جان ايف باغتني: "لقد سمعناك تقرأ الشعر اليوم". كانت أوديل تنقره في كتفه ظناً منها انه سيقول كلاما لن يعجبني كما يفعل حين يكون مزهزها بعد كرع ثلاث كؤوس من النبيذ المحلي، لكنه دفع أوديل دفعة خفيفة وكأنه يمنعها من التدخل، وقال: لقد أعجبتني قصائدك عن الاشجار. انفرجت أسارير اوديل وابتسمت. قلت له: لماذا قصائد الاشجار تحديدا؟ قال: لانك تعلم ان الاشجار تملك جهازا عصبيا. رفعت كأسي له وشربنا النخب. ثم جعلني أنظر في رسومه التي كان موضوعها الاشجار. وكانت جميلة فعلا، مرسومة بذهنية رسام يعرف ان للاشجار أجهزة عصبية .

النهار الثقافي- 1 نوفمبر 2009