نجم والي
(العراق/برلين)

نجم واليفرانتز كافكا مثله مثل الفيلسوف مانويل كانت، لم تقده خطاه الى أبعد من مشارف مدينته. كفافيس لم ينظر إلى هذه الواقعة كحاجة وكتب «إذا أنت تدمرت في هذا الركن الصغير من العالم فستجد خراباً أينما حللت». الكاتب الألماني أيشيندورف أرسل جواله المغني، حوذي عربته الصلب لوحده عبر الغابات الملتمعة فجراً باتجاه إيطاليا. هو نفسه لم يعبر جبال الألب ولا لمرة واحدة. دانتي إكتفى بالتجول في الجحيم ولم يغادر منفاه. طرفة بن العبد دار شبه الجزيرة مثل البعير المعبد. رامبو أراح قدميه في الحبشة. إيزابيل أبيردهارد جالت الصحراء الكبرى بزي الرجال. كاميسو دار حول العالم على سطح سفينة حربية روسية. بايرون قطع البحر المتوسط كله. كارل الثاني عشر سار راكباً من تركيا حتى شترالسوند خلال أربعة عشر يوماً. بوشكين طاف قرى نفيه. دوستويفسكي فرّ من دولة إلى أخرى يلاحقه دائنوه. تولستوي هرع إلى موته راكباً عربات الدرجة الثالثة. سعدي يوسف إقترح عليّ منذ سنوات أن نرحل سوياً إلى الهند. حلاقّتي تحلم منذ سنوات برحلة عبر أفريقيا بواسطة الموتورسايكل. وقبل أسابيع قليلة مات طلاب مدارس صغار في رحلة صغيرة فوق قمم جبلية ثلجية.

باختصار، ليس هناك قانون ولا لوح مكتوب، ولا كتالوجات السفر المغرية التي نستعلم من خلالها «أين يجب على المرء الذهاب الآن» لها مفعول إلزامي. لأن السفر هو رغبة تنبع من القلب، فالقلب حر. ومثلما هو القلب أفق لا متناه، هو العالم أيضاً. مثلما أفق العالم لا متناه، كذلك هكذا هو السفر: هذا اللا تناهي يقف بمواجهة كل شخص ليجربه، حتى لو «سافر» من كلية الآداب في بغداد إلى ساحة الأندلس، مقر إتحاد الأدباء. نعم قطع ذلك الطريق سيراً على الأقدام ربما يُشعرنا بالراحة في هذه الرحلة أكثر من رحلة جوية حول الكرة الأرضية! وأيضاً ليس من المهم أن يكون مكان النوم معسكراً ليلياً، أو غرفة فندق، أو كوخاً صغيراً، أو كابينة سفينة، أو خيمة، أو عربة نوم، أو صالة انتظار، أو تحت سماء مفتوحة، مثلما هو ليس من المهم أن نسافر في الصباح الباكر أو في ساعة متأخرة، في الصيف أو في الشتاء، بسيارة مرسيدس أو بسيارة فولكسفاغن، بقارب أو بواسطة دراجة أو على ظهر جمل، لإن السفر ليس هو أن يملك المرء حساباً في البنك، وليس الأمر معدل ساعات السرعة، إنما هو الاستعداد التام الواعي للتسليم لمسار القلب. الحجاج والجوالون هم أكثر حقيقية من أولئك الذين يحملون حقائب كبيرة في القطارات السريعة.

لا تحتاج أية رحلة لهدف أو سبب، لأن كل رحلة تكاد أن تكون هي حجّة بنفسها: من الممكن أن نعني هنا بأننا يجب أن نسافر، لكي نستريح، أو من أجل دراسة المعمار، من أجل التعرف على بشر لم نعرفهم، من أجل التزحلق على الجليد، لعمل تخطيطات وأخذ صور معينة، أو للتسوق أو لزيارة بعض الأصدقاء. كل ذلك هو لعبة حجج، ولا تهم درجة جديتها لأنها تظل تشبه حجج الأطفال، بريئة لكنها لا تنطلي علينا أنفسنا وتبدو لنا مضحكة إذا ما فكرنا فيها بعمق؛ لمعرفتنا المسبقة، بأننا نسافر، من أجل تهدئة جوع القلب ـ هذا القلب الذي يتفتح والذي يرغب بتأمين تجديد شبابه غير القابل للتحطيم عن طريق معايشة شيء جديد.
الشاطر حسن في الأسطورة يسافر من أجل تجريب حظه. ونحن، ألم نفكر في كل رحلة في زاوية ما من دواخلنا، بأننا هذه المرة سنعثر على الحظ، سنطرق بابه، بأن من اللازم أن تكون هذه المرة القصور الإسبانية أو السواحل الكاريبية أو قرى جزيرة صقلية أو طبيعة إقليم البروفنس الفرنسي التي تنفتح أمامنا وبلا نهاية؛ وفي نهاية المطاف لا بد أن نصل إلى النقطة، التي نستل فيها مفاتيح ذهبية مرمية عند أقدام قوس قزح والتي سنرى بالتأكيد عن طريقها كنوزاً مطمورة؟

في السفر لا نغيب عن العادات والأوضاع المألوفة فقط إنما نغيب عن كل ما هو ثابت في محيطنا بشكل عام. لذلك يحرص المرء عند الرحيل على تغيير أشكال التعليب الحياتية اليومية فقط وليس كسرها. لكن هذا يحدث عندما نسمح لأنفسنا في الدخول في أمر ثابت وتسليم أنفسنا لمجموعة معينة أو لنموذج واحد بالسفر يغوينا تماماً. من يتصرف هكذا، يُسلم نفسه للهرب من نفسه. لكن كل رحلة، لا تكون من أجل أن يعود المرء إلى نفسه، هي ضرب من العبث.

هناك الكثير من كاتالوجات السفر التي جعلت لتكون دليل المسافر. رغم ذلك فإن المرء يحتاج الكاتالوج فقط عندما تكون غواية السفر قد تمت. لذلك السبب يجب أن يتم الإغراء قبل ذلك، عندما أضع في رأسي أمراً ما لطيفاً في زمن غير لطيف. ولكن ألا يحتاج المرء أحداً ليغويه؟ أليست الغواية عن طريق أحدهم أكثر حضوراً وقوة؟

قبل سنوات ما عدت أتذكر عددها عندما كنت في بلاد كان اسمها «الجمهورية العراقية»، رافقت أحد الأصدقاء حتى محطة القطار. في لحظة تحرك القطار، شعرت بقدماي تقودانني إلى القطار، لأقفز في العربة دون حقائب ودون تذكرة. لقد هجمتْ غواية القطار المتحرك على قلبي بصورة كبيرة. نزلت في المحطة الثانية على أمل الرجوع، لكن بعد تجوال في المدينة الصغيرة، وجدتني أُكمل الرحلة في المساء ليس باتجاه بغداد كما كنت أعتقد. ثم رجعت بعد عشرة أيام فقط عند انتهاء هذه المغامرة المتوحشة. وكم كلفني جهداً كبيراً أن أُقنع عميد الجامعة بشطب أيام غيابي، فلم يكن يحق لنا الغياب أكثر من ثلاثة أيام دون عذر. لا أنصح أحداً بتقليد ما صنعته أثناء أيام دراستي الجامعية. لن أنسى الرحلة التي قمت بها إلى فرنسا وأنا أصعد إلى طائرة الخطوط الجوية العراقية في 14تموز 1976 (كان لي تسعة عشر عاماً)، لأظهر في باريس فجأة وفي جيبي ستون دولاراً فقط! كانت سنوات الغواية. ولكن أليس هناك سنّ واضح مثل الشمس يموج بالحرية حيث يرغب المرء في رؤية كل ذلك الذي يجلب معه اضطراب نهاية الرحلة، هدّ الخيام، حرية الرعاة وحيث المرء يكتب وينام في مكان بعيد ـ لا يهم أين ـ؟ طوبى لبطل زماني المضطرب! وأتمنى عبث تلك السنوات الدراسية لكل من يتمنى لقلبه الحرية.

كم هي مغرية أسماء الأماكن الغريبة! كل ما هو حاضر وموجود يغوي: كل ثمرة غريبة، كل نبيذ يهمس لك بسحر مكان للإقامة، كل حقيبة في زجاج محل، كل سكة حديد تلمع، كل بالون على شكل كرة أرضية، كل أطلس، كل حروف جريدة غريبة تنادي آلاف الأصوات. كل شارع يهمس: سر فوقي فقط، إمش فوقي، هكذا ستقف ذات يوم أمام دير مدينة باث الإنكليزية أو أمام بوابة كاتدرائية إشبيلية أو عند أعمدة جزيرة رودوس أو عند منار الإسكندرية، أو على ظهر جمل في صحراء تشون تشان تشين عن طريق الحرير.

بالروسية لا يعرف المرء فقط التمني بـ: »سفرة سعيدة»، إنما بإمكان المسافر أن يردد: «بقاء سعيداً». لا يخلو ذلك من معنى: هناك آلاف القوى من بشر ومكائن وأماكن تبذل جهدها لإسعاد المسافر؛ في الوقت الذي يُترك فيه المقيم مع قوى خبيثة: العثة، الصدأ، والفطر؛ البقاء مدة أطول في سجن الروتين والعادة اليومية في مجرى الزمن البطئ غير المتغير.

مع ذلك فأنت لن تكون سعيداً دائماً في السفر: عند بعض المساءات وعند غروب الشمس ستهجم عليك كآبة ثقيلة، فتور في العزيمة ونفور سيُلقيان غبارهما على قلبك، لتشيخ سعادتك بسرعة، وستكون هناك لحظات تود أن تُسلم نفسك لبحر الصور التي تتماوج أمامك، أن تُسلم نفسك للانهائية الزمن، لكي تتملص من تلك الصورة التي تظهر بإلحاح في نهاية الرحلة: صورة مدير العمل، أو صورة ساعي البريد وهو يحمل لك رسائل مكتب الضرائب، وغرامات البوليس وكاتالوجات الدعاية، وفاتورات دفع الكهرباء والغاز. حينها ستزفر بحرقة وتمد يدك إلى جيوبك. فارغة. كم تتمنى أن تكون بلا إقامة، مبعداً في مكان متروك.

وحيداً أيضاً ستشعر بنفسك وبحياتك في تلك اللحظات، أكثر مما تشعر به في مكان إقامتك. قلبك يضرب بسعادة أو بحزن، لكنك ستحس بضرباته في الداخل دائماً، أكثر حميمية مما لو كنت في البيت. وماذا تريد أكثر من ذلك؟ كنت قلت لنفسك بأنك لا تصلح للصدمات، للنشوات، للرهبة. لكن، لأنك تركت ماكنة تشغيل العادات الروتينية في البيت، فأنك تسقط في الحزن، لكن قلبك مازال مفتوحاً لكل لمسة، قلبك يعرف قيمة فصول السنة، حرارة أنفاس الصباح والمساء، تمسيد الشمس التي بلون العسل، ابتسامة القمر الأبيض، وسقوط المطر الرنان، مثلما كنت تُثمن كل لقاء إنساني بالصدفة في الطفولة. أنت تعيش حياة نموذجية، حياة مليئة ببهجة أكثر قوة، وبكرب أكثر قوة: حياة الكينونة. بأسابيع من السفر تعيش سنة واحدة، سنة واحد لكنها الأبدية بعينها.

ومن أجل انفتاح القلب هذا نسافر. ويصبح السؤال عن هدف السفر ومدة السفر وكيفية السفر ضرباً من العبث. لأننا لا نسافر إلى أماكن أخرى فقط، إنما قبل كل شيء نسافر بمزاج آخر لأنفسنا ذاتها. كل رحلة تحول القرية الصغيرة إلى إحدى مدن الله، إلى العالم والمواطن الصغير ـ أنت ـ إلى المواطن العالمي الذي لا يعرف حدوداً.

المستقبل
الاحد 29 آب 2010