عناية جابر
(لبنان)

عناية جابرفي القاهرة مرة جديدة، الفضاء معطر في الحسين ، وتشع هالة عطرة كلما توغلت فيه. اصغي بهدوء الي الصديق الذي اصطحبني، واستنشق في الفيشاوي جرعات عميقة من الهواء الغني بالبخور. الرائحة شقيقة الحسين وتتغلغل في صميم الأجساد، تدخلها.

روحه ثملة وهنيء البال، جلس صديقي في أقصي المكان وابتسم، عضلات وجهه مرتاحة ولم المح في عينيه ومض قلق، فتساءلت في سري عن مبلغ رضاه. سر رضاه. كان وجهه بريئا براءة انسان سعيد وطمــــأنينته باردة منعــــشة، كالتي يلدها وعي القوة الذاتية، وعي مــــن ينتــــمي الي المكان، تاريخه وراهنه.
أصبت بسكينته اصابة بالغة وسرت بي. اعارني صديقي سكينته. ان الحسين ليس مكانا بالنسبة له، ليس شارعا حقيقيا، انه علي الدوام عاطفة. ولأني كنت بحاجة مهلكة الي عاطفة، فلقد غلبتني رغبة الاسترخاء، والشعور القوي بالاحتماء من امور صعبة تشنج كل شيء فيّ. جعلتني اتنفس بجنون، اصغي بجنون، اتأمل ما حولي بجنون وقد تحولت رغبتي الي حمي.
لا أذكر تماما ما قاله لي صديقي عن المكان وناسه. لكنني اعرف، كما أعرف إسمي بأنه لم يقل لي إلا الغامض والمثير، واقول لنفسي انني الآن، اشبه ما قاله للتو.
لصقنا كراس وطاولات عليها ناس، وتظللنا جميعا سحب دخان داكنة، هي التمثيل الدقيق للدخان الكوني الشامل.

ابتسامات الاجانب كثيرة، استعدادا لالتقاط الصور. ظننتني ملكة ليلية وقد قارب سهري ساعة الفجر. بدأت تضجرني حكايات صديقي التي لم تنقطع. اردت شــــيئا آخر، كلمات اخري لم تستهلك، تخضــــــني وتباغت صمتي الذي طال.

اظن انه ليس هناك من هن اكثر ترويعا، من حاملات حياتهن الخاصة علي اكتافهن. انا احملها، أحملها معي اينما رحلت، لذلك شعرت انني مريعة ودأبت بسكون في البحث عن مخرج عبر الضحك بين نوبة صمت واخري. الحظ، وقد الفت اخيرا الزحام، وناس الطاولات اللصيقة، ان صمتي الذي لا بد له من ان يقتلني يوما، غالبا ما يفعل العكس، ويصبح مصدرا لطاقة مضحكة، غير متبصرة، فحكيت لصديقي خبريات عن اصدقاء لنا مشتركين، واسترسلت في الحكي طويلا غير ان متانتي الداخلية بدأت بالتـــــراجع فسكت فجأة، ابتلع حكيي طاقتي. أنا لست من تكلمت، وافلت مـــــني المكان والزمان، والمزاج. بسبب من الصوت المتقد لصبي القهوة الذي يروح ويجيء مرددا طلبات القاعدين، عدت مــــن غيـــــبوبتي المؤقتة.

المرأة الفرنسية علي ما حسبتها من لغتها، ومن شح حضورها، بقيت تحاول ان تكون احدا منا، فالحياة لا تهبها غير فرصة واحدة لتكون في الحسين ، حيث مزاج الليل متذبذب بين السخط والسخرية والرقة. مزاج الليل في فرنسا لا علاقة له بمثل هذه الاشياء. بقيت كما لو تُقشر بياض بشرتها، في رغبتها بجوارحها كافة، الي ان تشبـــهنا تكون احدنا سوي انها بقفطانها الفيروزي وعقدها النيلي وطريقتها في احتساء الشاي بالنعناع، منحت مشهدها ظلا قاسيا، صارما بالنسبة لي في انتمائه الي ليل آخر، ومكان آخر، ولغة اخري ثلجية، ليست من هنا.

شعرت بانهاك مهلهل، حطم السهر الفريد في الفيشاوي. انغلقت روحي في الزاوية التي ضيقتها كثرة طلبات القاعدين، وسدت الطريق الي عبورنا الي الزقاق، سيدة ممتلئة، ومحملة بحلي ذهبية ثقيلة، وتساءلت كيف لجسدي الذي لا يكاد يلحظ ان يتأتي له حمل كل هذه الغنائم. كل هذا الذهب الذي يجرح العين.

ثمة حزن خاص في مغادرة اي مكان. في اللون الليلي، وأخذ ينوص، ويتثائب اغلب القاعدين من دون الرغبة بمجرد زحزحة اجسادهم، غادرنا صديقي وأنا، وقد القيت نظرة اخيرة معتقدة ان قصيدة جديدة تأتيني، وتتشكل في رأسي الآن. حين عرفت في غرفتي في الفندق، ان ما من قصيدة اكتبها، دخلت الي نومي ابحث عنها.

القدس
27-9-2007