صالح العامري
(عمان)

(1)

صالح العامري

بعد أن صعدتُ إلى القطار الباريسي المتوجه إلى مدينة مونبيلييه، في طريقي إلى لوديف في الجنوب الفرنسيّ، برفقة الشاعر سماء عيسى، صدف أن حطّت عيناي على المقطع التالي، في رواية "شيطنات الطفلة الصغيرة" لماريو بارغاس يوسا:"استيقظتُ حوالي التاسعة صباحا. لم تكن هناك شمس. ومن خلال كوّة السقف كانت تظهر سماء غائمة، لها لونُ كرش حمار. إنها السماء الأزليّة الباريسيّة". كانت هذه العبارة تكفي في الحادية عشرة صباحاً لتأمل السماء من نوافذ القطار الفسيحة. الشمس برتقالية تملأ الأفق بوهجها الساطع، تُـعمِّد سماء ذات لون بنيّ خافت يختلج بالورديّ، لكنها تنزع إلى التلاشي في أبيض ندفيّ غريب. إنه لون قطة لوديف. إنها السماء الأزلية أيضاً بشيطناتها الطفولية المتثائبة، بتحولاتها الماكرة...

حال أن دلفتُ وصديقي إلى الشقة اللوديفيّة المندسة في عمارة من القرن الثامن عشر، بمعية صاحبة الشقة الفرنسية الأسكتلندية الروسيّة مدام سوزان، تقدّمت نحونا قطيطة، ذهبتْ تتمسّح بقدم المرأة، التي اعتذرت عن وجودها تحسباً لمظانّ كثيرة ليس آخرها أننا نكره القطط. لكننا أخبرناها بأنه لا مشكلة لدينا في بقائها معنا، خصوصاً وأننا لسنا على شاكلة صديقنا العمانيّ أبو غنيم، أو جنرالهم الفرنسيّ نابليون، فيما يتعلق برُهاب القطط، فلدينا رُهابات أخرى غير قططية..

كان باب المجاملة مفتوحاً على مصراعيه؛ لذا بقيت القطة في صالة الشقة، وأغلق كل منا باب غرفته على نفسه، بينما كانت تلك "الحيوانة" تسرح وتمرح، أو تتثاءب وتتمطى، أو تتشمس أو تنام في صالتها الفسيحة..

ويبدو أن قطة لوديف، افتقدتْ تدليل ألكسندر-صاحبها الذي يكبرها بعامين- وحنان ورعاية والدته مدام سوزان، فألجأها ذلك إلى التلصص على الغريبين القادمين من صحراء الربع الخالي وجبال الحجر وساحل عُمان، فقد رأيتها مرّة منكمشة على نفسها على الأريكة قبالة سماء عيسى بينما كان هو غارقاً في النوم على محفته الخالدة، ومرّة أخرى هرعتْ إليّ وأنا على السرير، بينما كان باب الغرفة موارباً، آتية كنـُمير وديع، كأنني أعرفها منذ بدء الخليقة، كاسرة الحاجز النفسيّ والكِلفة المتوقعة في العلاقات. أحرجتني قطة لوديف، ولم أستطع أن أنهرها، وبتمسيدة صغيرة، هامساً بكلمات عربية فصحى وراجياً أن تذهب إلى كرسيّها في الصالة. انصاعتْ سريعاً لرجائي، كأنما كانت تقرأ عينيّ أو قلبي، وتسللت بنفس طيرانها السابق بعيداً عنّي...

وها إني أتذكّر ريلكه، مستحضراً في ذهني -في ذات الوقت- ألكسندر، الفتى الصغير صاحب القطّة، فلماذا هذه المقارنة يا صاح؟. لقد كان ريلكه هو الابن الوحيد الذي نجا من الموت لأبوين ألمانيين، كما كابد محنة انفصال الأبوين حين بلغ التاسعة من عمره. أسرة والدة ألكسندر من جهة الأب قد نزحتْ من إحدى دول الاتحاد السوفيتيّ السابق، بعد الحرب العالمية الأولى، وقد أرتني القصاصات القديمة التي كان يكتبها الجدّ في الصحف الفرنسيّة إثر قدومه القسريّ. لكن هذا لا يكفي يا صاح لتتذكّر ريلكه الآن وأنت تستحضر وجه الفتى ألكسندر. في رسالة لريلكه إلى زوجته كلارا يتحدث عن "تجواله في الحوانيت العاطلة القائمة على نهر السين، بينما باعتها يجلسون ويقرأون.. غير عابئين بما يحمل لهم الغد، وغير قلقين على النجاح. ربما يجلس، أمامهم كائن جميل ككلب أو قطة، تؤكّد هذا السكون من حولهم وهي تلعق صفوف الكتب على الأرفف، وكأنها تزيل أسماء كاتبيها من فوق الأغلفة وإلى الأبد"...

إنّ شيئاً غامضاً في هذه القطيطة التي أطلق عليها ألكسندر اسم الضفيدعة (Froguette). أليس ذلك الشيء الغامض هو عينيها المختلفتين، التي تكرع إحداها من براري لوديف وسفوح جبالها الخضراء، والأخرى التي تشتبك في أحراش سمائها الصيفية الزرقاء الباهتة؟ أليستْ تتلوّن في حضورها بما يطلق عليه نوفاليس "اللاوجود التامّ الذي هو لون مائل إلى الزرقة"؟ أليس ذلك الشيء الغامض هو وداعتها التي لا تحتمل وهدوءها الفاتر الأسيان؟ ربما كان ذلك، لكن الشيء المؤكّد أنّ غامضها هو لا-انتظارها، لا- اكتراثها في احتضارها، بينما هي تتشمّس وتتنقّل وتستكين وتحضن جسدها الآيل إلى الفقد. تقول لي مدام سوزان وهي تفصح عن سرّ لا تودّ البوح به لكي لا تثلم صورة تلك الضفيدعة في عيون الآخرين بأنّ القطّة مصابة بالسّرطان، وأنّ الطبيب قد اقترح أن تُجرى لها عمليتان جراحيتان لإزالة أورامها الخبيثة المستترة. وإذن ما رأيك يا ألكسندر؟ كيف ترى في أمر ضفيدعتك الحبيبة؟. قام ألكسندر واحتضن قطّته، كأنْ لا يوجد كنز إلاها. لن يقبل ألكسندر بأية عملية جراحية لها، بل سيدعها ترعى طليقة مستسلمة لقدرها الأكّال ولنهايتها المشرّدة كأيّ آدميّ عجوز ينتظر أن يتفتّح في سرّ الموت. ومادامتْ قد بلغت السابعة عشرة من عمرها، ومادامت أعمار القطط في الغالب ثمانية عشرة عاماً، فلن يقبل بأن يكون عامها المتبقّي في أيدي الجرّاحين أو تحت رحمة المباضع والمشارط. لن يقبل ألكسندر إلا أن يحتضن قدرها بين يديه وأن يداعب رفقتها وحضورها الناعم.

وإذن لم تجد يا صاح في لوديف شيئاً أو كائناً لتتحدث عنه سوى هذه القطّة؟ ألم يكن مدعاة للكتابة ذلك الكُـليب المنبطح على الرصيف والذي كان يحاول جاهداً أن يلعق كوز الأيسكريم بين قائمتيه الأماميتين، بينما كان العابرون يمطرونه بالصور الفوتوغرافية؟، أو (سمير) البهلوان المغربيّ النشط الذي يروي عطش وجوع المتحلقين حول مقهاه المقابل للكاتدرائيّة؟ أو (مصطفى) الجزائريّ صاحب البقّالة الذي تخيّر ثلاث طاولات على الرصيف المجاور لبقّالته لكي يضع عليها أباريق الشاي الأخضر؟ أو الشعراء المائة الذين توافدوا من أرجاء العالم ليقرؤوا شعراً، وبينهم الشعراء العرب البائسون في أوطانهم؟ أو (كلثوم) الجميلة التي تنهمر في عينيها نجوم ليالي الصحراء العربيّة، والتي تحوّل اسمها إلى كِلثوم (بكسر الكاف) لكي يأكل المبحلق كثيراً من الثوم والعسل (بالفصحى والدارجة) من وجهها المستدير كرغيف خبز حارّ مبتسم؟ أو الأرصفة والأزقّة واللطف والفنّ والمباهج اللامرئية والموسيقا وصديقات الشعر العجائز وكلوشارات لوديف الذين يحتضنون جيتاراتهم ولوحاتهم وينامون على حوافّ النهر؟ أو أحمد راشد ثاني الذي بيّض إحدى قصائده وأعاد كتابتها ورمى بالقُصاصات المقطّعة بعد ذلك في مكبّ النفايات لكنّه اكتشف أنّ قصيدته المنقحّة قد قُطّعت ورُمِيَتْ أيضاً، ذاهباً سراعاً لكي يسترجع تلك الكومة المقطّعة من الأوراق جميعها ليلصق من جديد موجته التي كتب عنها؟ أو الطفولات الهاربة التي يفتش عنها سماء عيسى ويستعيدها بقوّة الذاكرة ونُواس الألحان الضائعة؟ أو عن تلك الصور المعلقة فوق رؤوسنا بينما نمضي ظهيرتنا في مقهى لوديفيّ يخدمنا فيه بمودّة بالغة (عبدالقادر) الفاسيّ القادم هذه المرّة من استوكهولم؟ ، أوعن تلك البورتريهات الموزعة على جميع الأنحاء والتي رسمها كريستيان سريسولا؟، أو عن ليلى التي غنّت أمام الكاتدرائيّة مواويلها الشجيّة؟، أو عن غسان أو شادية أو عبدالرحيم أو المغازي أو السويركي أو حمّودان أو ياسر أو بزّي أو فاطمة أو دياب أو جوكي أو ماريا أو مديرة المهرجان أو الأمين الذي تخرج من فمه الكلمات العربية كمن يحاول أن يلفظ لؤلؤة، أو عن أيّ كائن جميل آخر التقيته أو أغنية صغيرة مسّتْكَ وضربتْ رأسك الأصلع؟...

ها هي القطة وحدها تتمشّى في لوديف، في المهرجان، وبين باعة الكتب، وعلى الأرصفة، وهاهي تحمل جيتارها الأنيق وتعزف موسيقاها على أصداء الكلمات التي تنطلق من أفواه الشعراء المجانين حدّ السماء، والطفوليين حدّ الحُمق، والصادقين منهم حدّ الإيمان بالشِّعر وحده..

ها هي القطّة وحدها تتعرّف على الأطفال، وتتفرّس في معادنهم ورُقعاتهم المازحة وعلى فراديسهم وجنائنهم المعلّقة في الأكباد، وعلى سلالمهم وخطواتهم التي تصافح لثغة الطريق الباديء...

ها هي لوديف كلّها في قطّة حائرة، تلعق لبن الزمان، دون أن تنتظر أيّ عربة أو قطار، ودون أن تفوتها طائرة، ودون أن تأخذ قسائم الغداء والعشاء كأيّ شاعر مدعوّ، لأنها مواطنة فرنسية بامتياز. وبعينين مختلفتين الواحدة عن الأخرى، تقرأ كتاب النور الذي يتزوّج الظلال، وتلحس العشاء الذي أعدّته مدام سوزان احتفاءً بي ورفيق الرحلة.. تلك السوزان التي استضافت عباس بيضون ووديع سعادة في الشقة ذاتها قبل عامين من الآن...

في "شيطنات" ماريو بارغاس يوسا أيضاً يقوم ريكاردو مع مدام أرنو بالتجوّل في مقبرة أسنيير للكلاب، "وفضلاً عن الكلاب كانت تُدفن هناك قطط وأرانب وببغاوات- ونقرأ الكتابات المتأسية، الشاعرية، الحالمة، السخيفة التي ودّع بها الناس حيواناتهم المحبوبة"...

(2)

حزينة كمنفى
مَرِحة كعَودٍ أبديّ
شهيّة كجريمة عادلة
ومع ذلك
تنامين مثلي في قيامة الوقت
تحصدين الارتطام المبارك
تتلقفين الشعاع الأخير بلا أدنى اهتمام..
من يدري
لعلك أمّي التي لم أصطدها بعد
لعلني حبيبك الذي
غدرتْ به المصائر

***

متى ستقفزين من اللوحة أو النافذة
يا جنيّة المدينة
يا قطّة الحقيقة والموسيقا
متى سترشدينني
إلى السفينة التي لها أذنان مرهفتان
في صخب البحر؟
متى ستدفعين بالغيوم السيّارة
صوب سمائي الخالية؟

***

حُزنك راحل عنك
ألهذا لكِ عينان مختلفتان
وخيط واحد؟
ألهذا تمتعتِ بالنّدم
كمحاربة مسحورة بالنوم؟
كقصيدة
تتوسّل لحافها من الريح؟
كجمرة لا تنتظر أحداً أبداً؟...

***

الحكمة تركتِها للحكماء
الشعر للشعراء
المدينة لأنفاسها
والآن عليكِ أن تغمضي عينيك
كي أستيقظ فيكِ
أستيقظ بكِ كعين الهِرّ
في الشجى الذي تحيّرتْ فيه الأقمار
كي أقول لشعبي
أنني
أكتبُ قصيدَتِك...