عبد الرحيم الخصار
(المغرب)

عبد الرحيم الخصارفي بلاد كبلادي حيث يداس على الزهور دون رحمة، أو بشكل أدق، دون وعي، كان يصعب أن أجد من يفسح الطريق لكلماتي، إننا ننبت هنا دون أن يسقط علينا المطر، ننبت و نحيا فقط بسبب الجهد الذي نبذله و نحن نمدّ جذورنا إلى المياه البعيدة.

في الطرقات و المقاهي و الشوارع و الغرف حين تحضر ذكرى بيسوا يغيب كلّ شيء، قرأت "راعي القطيع" في ليلة، أو على الأرجح في جزء من ليلة ، و لم أكن أعرف حينها أن بيسوا كتب هذا النص الكبير في ليلة واحدة واقفا على طاولة، قرأت "راعي القطيع" في لحظة خوف و ريبة، كنت حينها في حاجة لمن يعمّق إيماني بالكتابة و بالحياة أيضا، و هذا النص في تلك الليلة تحديدا سيبدأ في تغيير حياتي، لقد منحني جرعات من الإيمان رغم الشك الهائل الذي يغلفه.

في بلاد كبلادي حيث يداس على الزهور دون رحمة، أو بشكل أدق، دون وعي، كان يصعب أن أجد من يفسح الطريق لكلماتي، إننا ننبت هنا دون أن يسقط علينا المطر، ننبت و نحيا فقط بسبب الجهد الذي نبذله و نحن نمدّ جذورنا إلى المياه البعيدة.
تعلمت من بيسوا ألا أنتظر شيئا من الخارج و أن أضرم النيران في داخلي كي أضيء المسالك الوعرة و المظلمة التي اختارتها قدمي، و التي لم تخترها أيضا.

هذا ما حاولت أن أشرحه لصديقي جايم روشا، الشاعر البرتغالي الذي رافقني ساعتين باتجاه مطار مارسيليا و جالسني ثلاث ساعات أخرى بانتظار طائرة لشبونة.

لا تزال في حوزتي المذكرة الزرقاء التي رسم على إحدى صفحاتها جايم خريطة البرتغال، حيث نهر تاغوس الذي يقسم البلاد إلى نصفين، الأول بارد بتضاريس عالية و الثاني منبسط بحرارة أكثر، البرتغال ظلت عبر التاريخ تتقلص و تتمدد من خلال تحولها من دولة مستعمِرة إلى مستعمَرة، حيث تعاقب عليها الرومان و الجرمان و المسلمون وفي فترة لاحقة الإسبان و الفرنسيون، و بين الفترتين كانت لها مستعمراتها في إفريقيا و آسيا و أمريكا الجنوبية.

كان جايم يحدثني بهدوء عن تاريخ لشبونة و شوارعها و حاناتها و مقاهيها و أجوائها الأدبية، بعد بيسوا لم يعد هناك شعر في البرتغال، هذا تقريبا ما فهمته من جليسي، لكن بيسوا على كل حال و رغم عظمته و امتلائه بذاته لن يرضى أن يكون أنانيا إلى الحد الذي يزيح فيه سواه، غرفة الأدب البرتغالي قد تكون ضيقة أو شاسعة، من لويس دي كامويس إلى خوسي ساراماغو مرورا بصوفيا دي ميللو أندريسن، كل كاتب يؤثث فيها جزءا و يملأ منها مكانا ما، لكن بيسوا بالنسبة لي هو الباب.

لا أزال أذكر تلك الطريفة التي وقعت لجايم في تركيا، وقف أمام محلّ ليسأل صاحبه عن وجهة ما، خاطبه بالانجليزية ثم بالفرنسية، لكن صاحب المحل لم يكن يفهم سوى لغة الأتراك، قدّم له عصير برتقال، شكره جايم وقال مع نفسه :"بلاد كريمة هذه التركيا"، ثم رجا منه أن يدلّه على المكان الذي يبحث عنه، فقدم له عصير برتقال آخر، شربه جايم و قال له في جملة لم يفهمها:"لم أكن أعرف أن تركيا كريمة إلى هذا الحد"، و طلب منه للمرة الثالثة أن يدله على المكان فقدم له عصير برتقال ثالث، أزعجه هذا الكرم فوجد جايم نفسه يقول الكلام و يعيده راسما بيديه غابة من الإشارات ليضحك كلاهما كثيرا بعد أن اكتشفا أن كلمة "بورتكَال" التي كان يرددها جايم في كل مرة تعني له هو "البرتغال" فيما تعني لمضيفه الكريم "البرتقال".

رسم لي روشا قرب الخريطة المسار الذي كان يقطعه بيسوا لسنوات من بيته إلى الحانة، و ذكر لي أسماء الشوارع و المقاهي و الأماكن التي كان يمر منها، حكى لي حكايات جديدة و أخرى مستعادة عن حياته و أنداده، عن حكمته و جنونه أيضا، عن حبه الوحيد و الغامض"أوفيليا"، و عن السماوات الرتيبة التي كانت تتفجر فيها قصائده، عن تمثاله وسط المدينة و عن مجسّمه الذي يجلس في حانته الأثيرة، و أمامه على الطاولة قنينة خمر و كأس، حيث لا يزال محبّو بيسوا يتوافدون على هذه الحانة ليلتقطوا صورا معه، كأنه لا يزال على قيد الحياة، كأنهم يواصلون الشرب معه، و من لا يروقه أن يكون نديمَ راعي القطيع؟

قبل ليلتين كنا نقف خلف عدد هائل من الفرنسيين و من الذين وفدوا إلى فرنسا خصيصا لرؤية تلك الأسطورة القادمة من الرأس الأخضر، لم نجد مكانا نقف فيه رغم أننا لم نصل متأخرين، كان الفرنسيون يرقصون بنشوة و يصفقون بحرارة زائدة لتلك المرأة التي لم تقل طوال الحفل سوى كلمة واحدة بالفرنسية هي "بونسوار"، بينما غنت روائعها و أساطيرها و ألقت ما ألقت من سحر بلغة البرتغال.

سألني جايم: "هل حضرت حفلة سيزاريا إيفورا؟" لم أجبه لا بالنفي و لا بالإثبات، و إنما رويت له قصتي مع "سوداد"، و وجدت نفسي أحكي له عن صدى الرنين الذي خلّفه هذا الاسم بداخلي: قبل سنتين اشترى أحد أصدقائي سيارة من امرأة يبدو أنها كانت مختلفة عن النساء اللواتي يقدن سيارة في شوارعنا، تركتْ له عددا من أشرطة السي دي في درج السيارة، فأهداها لي و قال: "لعلها الموسيقى التي تحب"، و كانت كذلك: بوب دايلن، داير ستريت،تشارلز أزنافور، بونيم، بين هاربر، و سيزاريا إيفورا، كانت تلك أول مرة أسمع فيها هذا الاسم، و ستصبح أغانيها لفترة طويلة مفتتح صباحي و منتهى ليلتي، و على إيقاعها سأكتب عددا من النصوص التي تشبهني و التي يصعد من قرارتها صوت سيزاريا إيفورا الرخيم و الساحر و المثخن بالحب و بالجراح أيضا، العاشق للحياة و الزاهد فيها، صوت المرأة و صوت الرجل أيضا، و صوت الكائنات التي أخرس الجَمال لسانها.
لم أكن أدخن و لم أكن أشرب، لكنني مع أغاني سيدة الرأس الأخضر كنت كما لو أني أنتشي بسجائر كوبا و خمور بوردو.

قبل يومين سأسمع و أنا في مقهى لاهاوس شابا فرنسيا يجلس بجانبي و يخبر صديقته بأن حفلة الليلة ستحييها مغنية يحبها الشعراء و الفنانون اسمها سيزاريا إيفورا. يا الله ، المرأة السمراء التي حركت بملاعقها قهوة الحب في فناجيني توجد هنا.

ذهبنا مساءً إلى ساحة الكاتدراء حيث أعدّت منصة كبيرة بمدرجات عالية لم نجد فيها مكانا لنا، على الأرجح لم يتركوا لنا مكانا فيها، كنا متعبين من جولات النهار، لكننا وقفنا ثلاث ساعات نسكر بأغاني سيزاريا إيفورا.

أنهى روشا و جبته الخفيفة "كروك مسيو" و سألني إن كانت سيزاريا لا زالت تحافظ على عادتها القديمة، قلت: "نعم"، ففي منتصف السهرة تترك الموسيقيين يعزفون قطعة راقصة و تجلس في عمق المنصة على كرسي قبالة منضدة، تملأ كأسا، تدخن سيجارة، ثم تعود لتغني، حينها تتعالى الصيحات و يضج المكان بالتصفيق، مزاج رائق هذا الذي تلملكه إيفورا، و عمق و هدوء و سحاب من الفتنة يتكاثف ثم يتبخر مع كلماتها.
قال لي جايم :"هذا المشهد يتكرر في كل حفلاتها، إنها تشرب كأسا و تدخن سيجارة على المنصة في منتصف السهرة منذ أكثر من ثلاثين سنة، لازالت سيزاريا كما كانت منذ شبابها، لم يتغير شيء سوى أن مشيتها الخفيفة تثاقلت، و شعرها الغزير اعتلاه بعض الشيب".

في مطار مارسيليا حلّق طيف بيسوا و إيفورا مثلما حلّقت طائرات عديدة نحو الجهات الأربع، تأبط جايم لير و الماغازين ليترير و جرّ حقيبته الصغيرة باتجاه قاعة الإركاب، فيما ظللت ساعة أخرى أفكر في الأيام التي مرّت دون أن نراها، و أنتظر طائرة تعيدني إلى مطار الدار البيضاء.