صباح زوين
(لبنان)

صباح زوينهذه هي السويد. من نافذة الطائرة رأيتها لأول مرّة. جنوبها يقابل من على بعد بضعة كيلومترات مدينة كوبنهاغن في الدانمارك. جسر فوق البحر في جزء منه، وتحت البحر في جزئه الآخر، يصل الدانمارك بالسويد.
طيران بعد ظهر مشمس بعد انتظار طويل جداً في مطار ميلانو، حيث سبقه أرق ليل طويل ومتعب. وفي ارهاقي قلت للشاعرة زينب عساف المرهقة أيضاً من طول مكوث في المطار، هذا اضافة الى خوفي الدائم من الطائرة. قلت لها: "كل هذا فقط من أجل بضعة أبيات شعر؟!". وأخذت تردد معي هذه الجملة طيلة الوقت، من جهة لكي نسخر من تعبنا، ومن جهة أخرى لكي نضحك ونتسلّى. ولم نتقاسم فقط هذه الجملة ترداداً وتكراراً، لكننا كذلك تقاسمنا خوفنا من هذا الجسم المعدني الطائر. فهي تخاف من الاقلاع والهبوط، في حين أني أخاف من اهتزاز الطائرة في الفضاء، في الفراغ. ثم بانت ستوكهولم في عصر مشمس. بانت وحولها كل الارض السويدية متشققة تخرقها المياه من كل جهة. فمن هذه الارض المبللة جداًٍ ، ما انفصل ليشكّل مئات الجزر المجاورة، ومنها التي كالمنخل، أي الارض الام والاوسع، مثقوبة مستطيلات من المياه. وعلى الرغم من ذلك، وخلافاً للدانمارك، فهي أرض صخرية تكثر فيها الهضبات والمنحدرات حتى في العاصمة ذاتها. والهندسة في ستوكهولم تحمل الطابع القديم وبالكاد نرى  بناية أو بيتاً حديثاً. وثمة حيّ في قلب العاصمة يعود عهده الى أواخر القرون الوسطى.
جميلة ستوكهولم، لكني رأيتها خزينة أو صارمة. الا أني أحببتها لقدمها وهضباتها وخلجانها. وأكثر ما أحببت فيها بيت الكتاب الذي أقمنا فيه وشارعه، شارع دروتنينغاتان، أي شارع الملكة والذي حفرت في وسطه بالفولاذ مقتطفات من نصوص ستريندبيرغ.
الا أننا قبل ستوكهولم رأينا مدينة أوبسالا حيث أعرق وأقدم الجامعات السويدية وحيث كاتدرائية دوم القروسطية. اذاً اليومان الاوّلان في أوبسالا حيث الاقامة في بيت الشاعر العراقي ومنظم هذه الدعوة جاسم محمد. وعنده كان لقاؤنا الاول بالشاعر السويدي ماغنوس وليام اولسون والشاعر العراقي ابراهيم عبد الملك. اجتمعنا ليلتها على قراءات شعرية حميمة حيث نحن بالعربية وهو بالسويدية، وهذا كله على أنغام أتى بها ابراهيم الينا وعلى أكل وخمر وأحاديث من كل نوع. ماغنوس زار لبنان قبل ثلاث سنوات وفهم الوضع الثقافي والشعري عندنا بأساليبه .
والعالم ارتبط ببعضه بعضاً لحظة لقائي بماغنوس اذ تبيّن أنه يعرف احدى صديقاتي اللبنانيات، الفنانة غريتا نوفل، كما يعرف كرستين (شرستين) اكسيل، أستاذة جامعية ومستشرقة أعرفها أنا أيضاً. ولم ينته مسلسل المفاجآت. منذ اليوم الاول لورشة الترجمة في ما بعد في ستوكهولم، بعد مغادرتي اوبسالا أنا وزينب برفقة جاسم، اقتربت مني الشاعرة السويدية جيني تونيدال و قالت لي أنها قرأت قبل سنوات قصائدي  بالانكليزية في انطولوجيا ناتالي حنظل، فأرادت أن تراني. وعندما وصلت الى بيروت مع ماغنوس وآن هالستروم وشعراء آخرين ، سأ لت عني كثيراً لكنها لم تحظ برقم هاتفي . ومرّت ثلاث سنوات وأرادت الصدفة أن نلتقي. فعملت على ترجمة قصائدي مع الفريق الذي وضعوني ضمنه وكان يرأسه الاستاذ الجامعي والمستشرق تيتس رووك. فريق ثان من السوييديين مع زينب كذلك عمل على ترجمتها. وفريق ثالث عمل على ترجمة سهام جبار الشاعرة العراقية التي حضرت قصيدتها لكنها غابت هي اذ لم تحصل على الفيزا في الوقت المناسب.
اليوم الثاني من الورشة كان مكرّساً للترجمة عن السويدية الى العربية للشاعرة السويدية كاتارينا فروستنسون.  اشتغلت مع الفريق ذاته الذي اشتغل على قصائدي في اليوم الاول فكان ينقل لي المعنى عبر الانكليزية لقصائد الشعرة السويدية فروستنسون.
وكالعادة، كما فعلت سابقاً في أمستردام وفي كوبنهاغن، كان يسهل عليّ أحياناً فهم بعض الكلمات السويدية لشبهها الكبير بالالمانية. كان فريقي السويدي يفرح باكتشافاتي الايتمولوجية، وأنا كنت أثمل بمقارناتي اليومية تلك، والتي بدأت أمارسها حتى قبل ورشة العمل هذه ، أي منذ اللحظة الاولى في طريقي من مطار ارلندا باتجاه اوبسالا.
وبين يومي ورشة الترجمة ويومي القراءات الشعرية، استراحة يوم الخميس. في ذلك اليوم دعيت الى العشاء عند المصوّر الفرنسي لوران دونيمال الذي عرّفته في الوقت ذاته على زينب عساف.
قصتي مع لوران بدأت في آرل، حيث رأيت صدفة في مكان اقامتي، في المكتبة، كتيّباً يجمع مصوّرين عالميين، بينهم دوينمال، بالاحرى رأيت توقيعه لصور بيروت كان قد قام بها قبل سنة. بيروت المدينة في بضع لقطات. ارسلت له ايمايلاً أهنؤه دون أي اضافات، وكنت قليلة الامل في أنه سيجيبني لعدم معرفتي به الا أنه حصل عكس ذلك، فردّ عليّ وقال لي أنه يقيم في السويد. فقلت له أني مدعوة في الخريف  الى ستوكهولم، فكان اللقاء الجميل ، وصوّرني وصوّر زينب في اليوم ما قبل الاخير، وسلّمني نسخاً من كتيّب يجمع فيه صور كتّاب عالميين، ومن بينهم اللبناني الوحيد عباس بيضون. عباس في الصفحة الاولى، في لقطة جميلة. قال لوران: "أحب كثيراً صورة عبّاس". لوران أيضاً من العارفين بالوضع الثقافي في بيروت.
ثم كانت الامسيتان، واحدة قرأت فيها الشاعرة زينب عساف مع شعراء سويديين اضافة الى قراءة قصائدها بالسويدية . والامسية الاخرى قرأت فيها أنا في العربية والشاعرة سارة ةانهايمر قرأت قصائدي بالسويدية.
وكان لي مفاجأة أخرى أضيفها الى السابقات. حضرت غريتا نوفل الامسية ولم أكن أعلم أنها ستكون في ستوكهولم. واشارة الى ان الشاعر وصاحب مجلة "ملامح "، باسم المرعبي كان له قراءاته الشعرية ايضا اضافة الى كل من ذكرتهم اعلاه.
يمكنني القول أن رحلتي السويدية كانت سلسلة من المصادفات الجميلة، كلها متّصلة ببعضها البعض، كما يمكنني القول ان ورشة الترجمة كانت العمود الفقري للحدث ككل وأن من شارك فيها من الباحثين والاساتذة والمستشرقين السويديين كانوا على مستوى عال من الجدية والعمق.
بتعبير آخر ، اجمل وأهم ما اجده في الدعوات الشعرية ، هو ورشات الترجمة بلا منازع . انها وتكرارا ، العمود الفقري، الأساس ، القلب والرأس في كل دعوة. فيكثر حماسي واهتمامي وشغفي عندما نجلس الى طاولة العمل ونباشر بعملية النقل والمقارنة والمقاربة، وعندما من جهة اخرى نقع على مصاعب وحواجز بين العربية واللغة الأجنبية، فنتبادل المعلومات ويغتني يومنا بالإكتشافات.

القدس العربي
السبت في 6 أكتوبر 2007