أكرم قطريب
(سوريا/أمريكا)

أكرم قطريبهل فعلاً يمكن الحديث عن منفى أو صيغة مكان بعيد وحسب، لكثرة ما لفتت نظري هذه المفردة وثمة من يتلمظ بها من دعاة ادب المهجر ليلا ونهاراً في هذا القرن بالذات وبعد عزيزنا الستلايت. هجرة، رحيل، أو مغادرة لشظف ما عسف أو وحشة مستحكمة، أمل ما بالعثور على صرح أو سرير لهذا الجسد المنهك، ولن ازيد الا تثاؤباً. فكرة المهجر مضحكة الى حد من اليأس، فالبوابة التي يدخل اليها الكائن من اوراقه الثبوتية وبسبوره الوطني وسحنة مرتبكة ملقاة في علبة شحم وهو يسترق النظر الى الغابات التي تحيط بمطار البلد الجديد المفترض انه الجنة التي لن تخذله ولن تعجز عن ان تكشط كل هذا الأكسيد العالق تحت جلده.
سيكتب لي مرة سامر ابو هواش يدعوني ان ازور البلاد هناك لمرة واحدة بعد كل هذا الغياب فانني، على حد تعبيره، لن ازداد الا وحشة وبجملة انكليزية يختم رسالته ان الوحشة هي جزء من لحمنا او جلدنا لا ادري كيف هي احواله بعد ذهابه الى ابو ظبي وبعد الغرق في الكتابة.
كتابة قصوى كأنها نوبة متواصلة يمسك بأرديتها وهو يعد اعمدة الكهرباء ذهابا وايابا بين البيت ومكان العمل في الجريدة. تضحكني فكرة الادب المهجري الآن والاوطان كلها تضحكني وأشعر بالغثيان لمجرد ان ارى كل هذه الحشود المستعرة والدم يغرقها الي الركب وهي تقفز بحركات بهلوانية وتزمجر في صورة عتيقة لقبائل ايام زمان وهي تنهش بعضها البعض بالرماح والسكاكين لاجل فتات خبز او قطعة ارض او صحن ذرة، خذوا ارضي فلن آخذ منكم الا صفعة الباب. احببت امكنة بعينها وتعلقت بها، امكنة ضيقة غالبا ويملأها الدخان. أنا الذي لا ادخن وأحب رائحته. قلت لعارف حمزة على الهاتف انه حتى الأمكنة التي اشتاق إليها لم تعد موجودة على الارض، اغلقت او هدمت على رؤوس اصحابها، والحيز الذي اريد لم يعد موجودا الا في رأسي. لو طاولة وكرسي على رصيف في شارع العابد او زاوية ما في سيدي حسين او لوح من حجر علي ساحل طنجة. الزاوية التي كنت اشرب فيها البيرة في الشي اندريه ببيروت تغيرت، وضحكة علي النادل في البار تغيرت. حتى السهرة الاخيرة فيه منذ سنتين مع ناظم السيد ومحمد الحجيري والرسام محمد شمس الدين وعهد فاضل ويوسف بزي صار لها سمت آخر من البهجة وصار الجفن ثقيلا والفم متثائباً. يملأه هواء اصفر لهروب هذه اللحظات الى الرأس الممتلئة بالجعة والرطوبة والوحل.
أية هجرة والارض مثل حبة العدس المنقوعة في طشت الحمام. احببت امكنة في الكتب ايضا: عرفت الاسكندرية بعد ان قرأت كافافي ثم زرتها قبل عشر سنوات فتمنيت لو لم افعل. كانت رحلة برية شاقة في منتصف صيف قائظ، ابتدأتها بدمشق مروراً بعمان والعقبة ثم سيناء الى القاهرة الى مسقط رأس الشاعر اليوناني ثم الصحراء الليبية التي جبتها سابقا في روايات ابراهيم الكوني على جمل اعرج. هناك بين مصر والجماهيرية حيث كانت خيام الفلسطينيين مشلوحة في العراء لسبب ما. وصلت الى بنغازي ثم الى طرابلس حيث تعرفت على فرج العربي وآخرين، وكم كانت الصحراء في رواية التبر أجمل من المدن التي دخلتها متعبا ولا اريد البقاء طويلا فيها. كنت اريد ان اكمل الى تونس فالجزائر فالمغرب العربي، انا المولع بمراكش وسواحل طنجة من قراءتي لكتب محمد شكري وجان جينيه ومشاهدات خوان غوتيسيلو وأمجد ناصر. لكني عدت ادراجي من التعب واليأس والصدمة على متن باخرة كان اسمها طليطلة الى مالطة. في الكابينة كنا اربعة انا وتركي وعراقي وبولوني صامت طوال الرحلة، ثم الى حضن امي التي كانت تنتظرني امام باب بيتنا المفتوح طوال اليوم. وكم صدقت كتابة هنري ميلر عن نيويورك تحديدا بعد اقامتي الاميركية هذه. قد يكون والت ويتمان رومانسيا مقارنة به، من القصائد التي فتحت لي باب ارض الميعاد قصيدة "عواء" لآلن غينسبرغ، ثم زادت من قتامة المشهد قصيدة لشاعر من اصل جامايكي يشبه الى حد بعيد مغني الريجي بوب مارلي تحدث فيها عن النفط والعراق والسي آي إيه. كانت قصيدة ناصعة في مقهى ضوؤه خافت وزبائنه يدخلون اليه ثم ينضمون الى جوقة السميعة الالهيين. لم ازر "صور" كما لا ادري الى اي حد لها علاقة بصور عباس بيضون الغنائية وهي تحدث في العاطفة والمخيلة وتقيم اعمدتها من شغف كان يسكن في قلب طفل لا في عقل رجل.

***

أحببت الغرف اذ يمكن تحويل الغرف الى بلاد. ربما لن انسى غرفتي في دمر البلد، او غرفي في دمشق كلها وأنا انتقل من جهة إلى أخرى هناك بين زواريب مخيم فلسطين والكيكية في حارات الأكراد، إلى باب توما قرب كنيسة السيدة مريم في ساحة القشلة والدويلعة التي تسممت فيها.
كان جاري حينها علي سفر حيث كان يقطن مع أهله. الى غرفة ابراهيم الجبين أيام تحرير مجلة ألف، إذ كم من الصفحات تم تصحيحها في الصقيع الذي كان يلفها، وكم مرة لجأنا إليها أحمد اسكندر سليمان وأسامة اسبر وفتيات من القرن التاسع عشر كن يرافقننا حتى آخر زمهرير الصبح. الى غرفة تحت الدرج في حي الشعلان وكانت تسكن في الحي راقصة نسيت اسمها دعتني الى مقصف العراد الذي كانت تقضي وصلتها فيه بعد الواحدة ليلاً. ثمة بيت لن أنساه ذهبنا إليه بعد قضاء يوم جهنمي أخذني إليه لقمان ديركي فيما انقطعت فينا السبل منتصف الليل إذ فتح الباب بمفتاح كان بحوزته ثم دخلنا بشكل مريب وصعدنا الى غرفة علوية. لم يشرح لي لقمان كثيراً عن هوية مالك البيت، لكن كل شيء كان يدل على أن قرابة ما للقمان بأهله. هذا ما حدست به. نزل وأحضر بطانيات وبهدوء لم أعهده لديه، هدوء اللص الذي يحاول أن يسرق شيئاً أو الذي يحاول أن يداري فعلة غير مستحبة، نمنا وفي الصباح طوى البطانيات وأنزلها بنفس الطريقة التي أحضرها ليلة البارحة، ووضب الغرفة قبل نزولنا، على غير عادته، وهو بوهيمي الفوضى القادم من شرق الغجر السحيق. ونحن نستوقف تكسي في الشارع سألته: لقمان هل كنا في بيت عبدالله أوجلان. الغرفة كانت مغبرة قليلة تناثرت فيها هنا وهناك بعض قصاصات لقصائد ومقالات له أعد بعضها بمشاركة راسم المدهون منشورة في جريدة الحياة واصفرارها كان يذكرني بالجرائد القديمة التي كان يحتفظ بها أبي وكانت تحتوي مقالات لسامي الجندي على ما أذكر.
أما أن تنام في بيت حازم العظمة فهذا يعني أنه يجب عليك أن تحضر معك لحافك إذ لا يوجد سوى الحصر وبعض مخدات فالبيت على أطراف دمشق. بعده عن العاصمة كان ينقذ صاحبه من الزيارات الكثيرة والمباغتة. إحدى السهرات حضرها الشاعر البحريني قاسم حداد وكان حاضراً كل من عادل محمود وحنان قصاب حسن وأمية ملص وهالة محمد ولقمان طبعاً وفارس البحرة وشاكر الأنباري قبل رحيله الى العراق. غرفة بندر عبد الحميد التي ورثها من إيجار قديم كان يلفها ضوء خافت وتعبق بها رائحة أكل ديري. غرفة لها قوانين صارمة قضينا فيها أوقاتاً لا بأس بها لكنني كنت أنعس فيها بعد عشر دقائق من دخولي إليها ربما لبرودتها أو ربما بسبب الهدوء الذي طالما كان يطبع جلساتنا بين جدرانها. أذكر رياض شيا ونحات من العراق اسمه منقذ سعيد وعمر شبانة وفتاة حين عرفنا عليها بندر كان يغمغم بكلمات غير مفهومة، أغلب الغرف التي سكنت فيها كانت تتموضع قرب درج حجري مع مطبخ صغير الى درجة أنني تعودت على ذلك وصرت لا أستطيع أن أتأقلم بسهولة مع صيغة أن يكون لي بيت بمنافع كما يقول أهل الشام: صالون وغرف هنا وهناك مثلاً. وفي بيتي الآن ألجأ الى أضيق حيز وأتمدد فيه. نوع من طمأنينة لم أكتشف سرها. سأذهب مع اسكندر حبش أن المنفى داخلي، ومع صموئيل شمعون أن البلد هو كأس بيرة سوداء ايرلندية أو ليتر ويسكي على حافة بحيرة. أية بلاد تلك التي يسكن فيها شاعر عنصري أو روائي طائفي أو موسيقى قبلي من المدني. كل ما أحتاجه الآن أن أعود لأسكن قرب كل ما تهدم، وأن أمحو من مخيلتي كل هذا الوهم وأنطرح كسمكة شبوط في قارب شبه محطم ولو تحت شمس بغداد الحارقة. أن أقف كملك وهو يتفرج على جيشه المهزوم في السهوب وفي يده عصا وقفاز غنمه من غزوة ما. سأغرق رويداً وبشكل ملائم وليس ثمة من يخيط أزرار قميصي المقلم وأنا أحك رأسي بدون ربطة عنق.

نيوجرسي ـ الولايات المتحدة الأميركية

نوافذ
المستقبل
الاحد 28 أيار 2006