أمجد ناصر

(1)

أمجد ناصرمرة واحدة كنت بالقرب من عمان حدث ذلك في مطلع العام 1981 عندما زرت محـافظة "المهرة اليمنية الجنوبية (كانت يومها تسمى المحـافظة السادسة) في معية ثلة من الطلبة العرب المبتعثين إلـى عدن.

كنت، حينذاك، طالبا من نوع خـاص، أتلقى أقساطا كثيفة من العزلة والضجر والصمت أكثر مما أتلقى العلوم التي جئت للنهل منها وكـانت تلك علوم السمة المميزة للعصر الطابعة متنه وحـواشيه بتوقيعات الثلاثي: ماركس، انجلس، لينين على ما لقننا إياه، بإيمان العجـائز الوطيد، أساتذة روس وألمان شرقيون ويمنيون "جنوبيون متدرجون في مراقي الاشتراكية العلمية.

كان ابتعاثي إلى عدن المحروسة بأنصال الرواسي البركانية نوعأ من العقوبة لشخص يقيم في مدينة يلعلع فيها كل شيء الرصاص القصائد، النساء، الشعارات، ملصقات الحياة والموت التواريخ التي تكتب والتواريـخ التي تمحـى.

لذلك تصرفت كما يتصرف المنفي: عداء وتجـاهل للمكان الجديد واحتشاد بالحنين المرسل على عواهنه إلى بيروت
ولا أملك، الآن، سوى الأسف على خيلاء الفتوة
التي جعلتني أمشي على الأرض مرحـا منصرفا عن تقري الأزمنة المتعاقبة
على الصهاريـج الحجرية
التي قورتها الجن
والروح الباسلة التي تناضل فـي الأشجـار القليلة
والصلة التي تتجـاوز التطير بين النافذة والغراب الأسود
والصمت البليغ الذي يفرض نفسه سيدا أوحد على الظهيرات
والخلخـال الفضي الذي يلمع فـي كاحل هضيم لامرأة تصعد الهوينى إلى الحـافلة العمومية
والعيون السود الكحيلة التي طورت فـي احـتجـاب الجسد معجما خـاصا لتراسل الأشواق وروائح البخور والعطور الشرقية
الثقيلة المعششة ببعض الحوانيت الباقية من الحقبة الكولونيالية
والخط البحري لشركة الهند الشرقية

وليس بلا دلالة إنما تحضر عدن مقرونة بالجنة مرة وأخرى بالجحيم كما انه ليس بلا دلالة عجـائبية هذه المرة أن تطوح المصائر بعلي سالم البيض آخر زعيم اشتراكـي لليمن لاجئا سياسيا إلى عمان!.

لكنني، اليوم، لست في وارد استعادة صورة "اليمن الجنوبي " فـي ذهن الفتى النزق الذي كنته إلا كمدخل لعمان وهو مدخل يبدو غريبا للوهلة الأولى فلم يكن هناك ما يجمع "اليمن الجنوبي" بعمان إلا التنافر والخيارات المشدودة على طرفي نقيض ففيما "الأباضية" هي المذهب السائد في عمان فان الغلبة للسنة الشوافع في جنوب اليمن.

وفي الوقت الذي كانت فيه عدن تولي وجهها شطر "الكتلة الشرقية" كانت عفان تدير وجـهها جـهة الغرب في عدن كانت "الاشتراكية العلمية" تجرب حظها العاثر في أفقر مصر عربي وسط صراع الأجنحة الدامي في "الحزب الاشتراكـي " فيما كانت مسقط تخـرج من وراء أستار العزلة القاسية التي فرضها عليها انحطاط مصائر التاريخ وتجتث آخر التمردات الكبرى في شبه الجزيرة العربية، حاثة الخطى للحاق بالعصر فـي طوره الغربي.

ولم تكن عمان في نظري، يومذاك، سوى مصر عربي مجهول أشد عزلة من اليمن، معلومها الوحيد عندي، وعند أبناء جيلي، هو "ثورة ظفار" التي انقصم ظهرها في العام 1975 وتشتتت فلولا فـي الأفاق ولم تقم لها قائمة بعدئذ.

وبسب بقايا "الثورة الظفارية" وبيارقها المهزومة وكتبها الحمراء المبعثرة ذهبت إلى "المحـافظة السادسة" في ركب فتيان من الطيف العربي الواسع متطوعين بحماسة ثورية لتعليم الصغار والأميين من أهل الصقع و لاجئيه من الظفاريين مبادئ القراءة والكتابة.

وكانت تلك أقرب نقطة من عفان بل لعلها النقطة التي عبرت منها بعض الهجرات التاريخية للقبائل العربية الجنوبية التي هجرت مرابعها بعد انهيار سد مأرب واستقرت في عمان ويبدو أنني لم آنس في نفسي ميلا للتعليم ولا للبقاء في ذلك المكان فقفلت عائدا إلى عدن ومذ ذاك انتهى تماسي العابر مع عمان.

كـان الشعر والعمل الصحـافي هما اللذان حملاني إلى الأماكن التي زرتها وليس طلب الرحلة في حد ذاتها فالحياة العربية العاصفة والمنشقة على نفسها تجعل الرحلة، حيث ترغب، دونها خرط القتاد فالشعر إذن، هذا الشغف العربي الذي لم تفتر له همة، كان بوابة دخـولي إلى عمان.

فمسقط، عاصمة الديار العمانية، بادرت منذ عامين إلى إقامة مهرجان شعري سنوي ينظمه "النادي الثقافي " وهو مؤسسة غير حكومية تعنى بالنشاطات الثقافية الأهلية بذلك تكون مسقط هي العاصمة الوحيدة في شبه الجزيرة العربية التي تستضيف مهرجـانا مكرسا للشعر غير مصحوب بعدة المهرجـان الثقافية من فنون وفلكلور وترفيه.

وأحسب أن الأمر بادرة من الكتاب والشعراء العمانيين المنضوين فـي "النادي الثقافي " ممن عرفوا الحياة الأدبية العربية بتنوع صورها واتجاهاتها يتقدمهم، كما لاح لنا، محمد اليحيائـي وهو شاعر وكاتب قصة أشرف على القسم الثقافي في صحيفة، (عمان " ردحـا من الزمن.

ولئن كـان اليحيائي وزميله في مجلس إدارة النادي الكاتب علي المعمري ممن يميلون إلى الحداثة والحداثيين فإنما في النادي الثقافي شخصيات وسطية متنورة تحـاول الموازنة بين القديم والجديد مثل الشيخ سالم العبري عضو مجلس الشورى العماني الذي كان له مع كاتب هذه السطور نقاش تحلى بالتفتح والعمق.

ويرأس "النادي الثقافـي" الذي يشبه رابطة للكتاب والمثقفين (إذ ليس في عمان، على حـد علمي، نشاط نقابي)، الشيخ سيف بن هاشهل المسكري ذو الأفق العروبي.

هكذا انطلقت من لندن إلى مسقط على متن "طيران الخليج " لسبع ليال بقين من شباط فبراير الماضي بصحبة الشاعر الفلسطيني محمد القيسي في رحلة استغرقت ثماني ساعات ونصف من الطيران المتواصل، كانت مثالا للعبور الخـارق من الأرض.

التي يهدر حدها بحر الظلمات إلى الأرض التي يسرح على حوافها خليج عمان خفيفا أزرق كالأبد غادرنا لندن في مساء رمادي بارد ووصلنا مسقط في صباح مكلل ببركات الشمس التي كان لها في تلك الديار، شأن سائر بلاد الشرق العربي، معابد وتهاليل.

أمجد ناصركانت فـي استقبالنا، بعد أن دلفنا إلى قاعة المطار، موظفة سمراء ترتدي زيا حـديثا محتشما وتغطي رأسها بإحكـام لم يكن صعبا التعرف إلينا، فلم تصل إلى مطار مسقط في ذلك الصباح المبكر سوى الطائرة القادمة من لندن وليس بين ركابها ذوي الغلبة الإنكليزية والهندية عرب، ربما، سوى نحن الاثنين قادتنا الموظفة إلى قاعة خـاصة وأحضرت لنا قهوة سألتنا أن نرتاح ريثما تهيئ معاملات الدخول قلت للشابة: هل أنت سودانية؟ فضحكت، مستهجنة سؤالي، وأجـابت وهي تصرف هذا الاحتمال الغريب بحركة من يدها: لا. لا. بل عمانية! ثم أردفت: أمي إيرانية الأصل ووالدي عماني سألتني وهي تبتسم: ولم ظننت إنني سودانية؟ لم أقل لها: إن ذلك بسبب سمرتها الداكنة وملامحها الأفريقية، بل قلت ربما بسببي فلست على معرفة باللهجة العمانية.

ويخيل إلي أن مظن سؤالي لا يتعلق باللون والملمح فقط بل أيضا بما وقر في ذهني عن بلدان الخليج لجـهة اعتمادها المفرط على العمالة الخـارجية وستبرهن لي الأيام التي قضيتها فـي ربوع هذا البلد أنني مخطئ فأوجه الشبه بين عفان وأخواتها في "مجلس التعاون الخليجـي" ليست كبيرة، خصوصا على هذا الصعيد وسيتعين علينا أن نرى عمانيات وعمانيين يعملون في مرافق شتى جنبا إلى جنب مع عرب وأجـانب فالخطاب السياسي الرسمي الذي وقعنا على شذرات منه هنا وهناك يدرج الاعتماد على العمالة العمانية مدرج الهدف الوطني العالي فرغنا من قهوتنا فعافى الشابة وقد أنجزت جـانبا"من معاملاتنا.

فمهرنا جـوازات سفرنا بالأختام السلطانية ووضعنا حقائبنا كل على "تروللي" وهممنا بالخروج لكن أحـد أفراد الشرطة طلب، في اللحظة الأخيرة، أن يرى الكيس البلاستيكي الذي يحمله محمد القيسي فوجـد فيه زجـاجة سوداء الغلاف، اسكتلندية المنشأ قال الشرطي: إن إدخـال المشروب إلى عمان ممنوع من قبل المسلمين فرد القيسى: ولكنني ابتعتها من الطائرة الخليجية القادمة إلى عمان ولم يقل لي أحـد أن المشروب ممنوع هنا فقال الشرطي: هذه هي التعليمات لاحظت إننا كنا نحمل جـوازات سفرنا بأيدينا القيسي يحمل جواز سفر أردنيا غامق الخضرة، وأنا جـوازا بريطانيا أحمر.

ألهذا، يا ترى، لم يطلب الشرطي أن يرى شيئا من أمتعتي مع أنني كنت أحمل كيسا مطابقا للكيس "المشبوه" الذي يحمله زميلي؟ هكذا عن لي أن أتساءل في ما بعد كان على القيسي أن يحضر، "مراسم" إتلاف الزجـاجة الاسكتلندية سوداء الغلاف أمام ناظريه ولكنه أعفي، أقله، من دفع الغرامة البالغة خمسة ريالات عمانية، أي ما يعادل خمسة عشر دولارا، نظرا لكونه شاعرا في باحة المطار الخارجية كان راشد المكتومي مندوب "النادي الثقافي" وثلاث كاتبات عمانيات يستقبلوننا وقد تساءلوا عن سبب تأخرنا في الخروج فأبلغناهم بحديث "الزجـاجة" فضحكوا قائلين إن هذا ما جرى للشعراء العرب "المسلمين " الذين حلوا قبلنا.

الرحلة العمانية 1997

استغرقت الرحلة مرا مطار " السيب" إلى فندق " الانتركونتنيال" الواقع على "ساحل القرم" في العاصمة نحو عشرين دقيقة. كانت المنطقة التي تمر بها السيارة منبسطة وخالية من العمران الذي أخذ يلوح ويكثف كلما اقتربنا من الساحل.

تقع مسقط على خليج عفان، في الجزء الجنوب مما يسمى ب "ساحل الباطنة" وتتصل شرقا بسلسلة "جبال الحجـر" التي تشكل قوسا عظيما يتجه من الشمال الشرقي للبلاد إلى جنوبها الغربي. والعاصمة العمانية تتكون، كما خبرنا لاحقا؟ من مدينتين اثنتين واحـدة تدعى "مسقط" والأخرى تبعد عنها نحو ميلين وتسمى مطرح.

والاثنتان تحتلان شريطا ساحليا ضيقا يقع تحت أنظار الجبال الجرداء14. فـي الأولى تقع المرافق السلطانية والحكومية ويندر فيها وجود سكن أهلي أما الثانية فتتوافر على الأسواق الشعبية والسكنى معا وتختلط فيها سحن بشرية متنوعة، هـان كان الملمح الأسيوي (الهندي) هو الغالب.

وباستثناء القصر والمرافق السلطانية وبعض أسواق "مطرح" و حـاراتها القديمة فإن أحياء العاصمة الأخـرى مثل "روي " و" ساحل القرم " و" الخوير" و" بوشر" حديثة العهد، ومعظمها تم تشييده بعد عام 1970.

***

فحسب بعض المنشورات الحكومية الذي يتحدث عن النهضة، وهي مصطلح يشير الىتسلم السلطان قابوس مقاليد الحـكم في البلاد، فإن العاصمة لم يتجـاوز امتدادها على الساحل أكثر من نصف ميل في العهد السابق. عهد والد السلطان قابوس المتسم بالغموض والعزلة والاضطرابات الداخلية العنيفة والتفكك الإداري واسع النطاق.

فقد كانت رقعة العاصمة في العهد السابق ص-- مضغوطة بين قلعتي "الجـلالي" و، "الميراني" اللتين ترجعان أصداء الصراعات الداخلية والخـارجية على المكـان، وبهذا المعنى تعتبر مسقط بأحـيائها الجديدة وحدائقها المستنبتة وشبكـات .. اتصالها وطرقها من أحدث العواصم العربية.

ولا يخفى على الناظر، وهو يعبر شوارعها أن يلحظ نظافتها الاستثنائية. وليست النظافة متأتية من قلة الحركة (وهذه ظاهرة ملفتة للنظر) بل من الجـهود البلدية المبذولة على هذا الصعيد. والحـال، فليس غريبا أن تشاهد أكثر من يافطة مكتوب عليها "ممنوع البصق في الشوارع.

وقد انتهى إلى علمنا أن البلدية تفرض غرامة مالية على كل من يضبط متلبسا" بهذا الفعل القبيح! لكن مسقط الحديثة لها آفتها أيضا، وهي آفة عربية الطابع فكأن التحديث، في التصور العربي، هو قطع حبل السرة مع البيئة وخبرات الماضي واستجلاب مواد وأنماط بناء وعيش "عصرية" لا تستقيم مع المحيط الطبيعي.

فالنمط المعماري العماني الذي تحض عليه الإدارة السياسية لا يتجـاوز، فـي الواقع، حدود الشكل والزينة ما دامت مادته غريبة عن البيئة وهجينة عليها. وقد لاحظ هذه الآفة أكثر من باحـث ودارس بينهم هلال بن علي الهنائي الأستاذ في كلية الهندسة بجـامعة السلطان قابوس في مقالة نشرها فـي العدد الأول مرا مجلة "نزوى" تناول فيها الأنماط المعمارية التقليدية في عمان. وفي مقالته تلك يرى الهنائي أن التطورات المعمارية التي شاعت.

الأنماط المعمارية التقليدية في توفير بيئة حرارية ملائمة في جو المنطقة القاسي خلال مئات عديدة من السنين ونتج عن إهدار هذا الإرث، كما يرى الهنائي، إسراف كبير في توليد واستهلاك الطاقة الكهربية لمواجـهة الإحتياجـات المتزايدة للبناء ونمط العيش الجـديد والتي وصلت، في سلطنة عمان على سبيل المثال، إلى استهلاك 70 % من الطاقة الكهربية المولدة لتكييف المباني الحديثة ذات الكفاءة الحـرارية المنخفضة.

ومشكلة عمان على هذا المستوى أكثر إلحـاحـا"مرا سائر بلدان الخليج العربي الأخرى، نظرا لكون المخـزون النفطي في السلطنة يقدر بحوالي 40 عاما، وهي فترة أقل مرا العمر الافتراضي لأي مبنى حديث فالتحديث لم يقتصر على إهمال مواد البناء المستنبطة من البيئة والإستعاضة عنها بالاسمنت والحديد بل طاول، دون شك، أسلوب البناء التقليدي ونمط المعيشة نفسها ومرا المؤكد أن التغلب على الحـرارة العالية والرطوبة القياسية، خصوصا"في المناطق الساحلية، كـان هاجس العمارة التقليدية فها هو ماركو بولو يصف مدينة "هرمز" العمانية في كتاب رحلته إلى الصين فيقول "فالحـرارة التي تنجم هنا مفرطة.

ولكن القوم يتزودون بكل بيت بمراوح يدخلون بواسطتها الهواء إلى مختلف الطوابق هو الى كل شقة من شقق المنزل حسب الإرادة فلولا هذه الوسيلة ما أمكن العيش بتلك المنطقة" وها أنذا بعد ماركو بولو بقرون عديدة وفي فصل من أجمل فصول عمان، هو فصل الربيع، أجلس مع رفاقي الشعراء العرب والعمانيين في صالة من صالات "الانتركونتنيال " العديدة في جـو من التكييف الصناعي الذي تكتم هديره الكهربي التنكولوجيا الحديثة ويمكن لنا أن نتخيل أي صورة من صور الجحيم ستكون عليه الحياة في هذا الطود الأسمنتي المحكم الإغلاق إذا ما انقطع التكييف الصناعي فـي صيف تتجـاوز فيه الحرارة خمسين درجـة مئوية مصحوبة برطوبة تبلغ نحو سبعين فـي المئة؟.

عم أن عمان ظلت حتى عهد قريب من أكثر الأقطار العربية غموضا ونأيا، ولعلها ما تزال كذلك في خيال البعض إذ قلما يصادف المرء أسمها أو صورتها في أخبار العرب التي لا تكف عن إدهاشنا بمدى سوئها وفي الحـال العربية فان " اللا أخبار" هي حسب المثل الإنكليزي، أخبار جيدة مع أن الناس في داخلية عمان ما يزالون إلى يومنا هذا يبادرون الضيف بالسؤال عرا الأخبار! غير أن "غموض " عمان ليس متأتيا من قلة "الأخبار" فقط بل من الموقع الجغرافي والتكوين المذهبي وانكفاء البلاد على شؤونها أيضا ولكننا إذا عدنا إلى المراجـع التاريخية العربية وأدبيات الأخبار بين العرب سنجد لها ذكرا حميدا.

***

وقد نفاجـأ أيضا إذا عرفنا أنها كانت، يوما "امبراطورية" ذات شوكة تمكنت من بسط نفوذها على شرق أفريقيا ووصل مجالها الحيوي إلى الهند والصين ولنبدأ من حيث يرد أول ذكر لها في الوثائق التاريخية ويبدو، حسب ما جـاء عند وندل فيليبس الذي وضع كتابا"عن تاريخ عفان لا ينقصه الهوى والابتسار، أن بطليموس هو أول مؤرخ أجتبي يأتي على ذكرها فقد وصفها بأنها "بلد قاحل، عنيف ء...... وقاس، يقطنه سكان انطبعت نفوسهم على ما أضفته عليهم بيئتهم " ولا ندري عن أي قوم يتحدث بطليموس هـالى أي مدى احتك بهؤلاء السكـان المنطبعة في نفوسهم صور القسوة والعنف.

ير أن بعض الروايات التاريخية يشير إلى وجـود مملكة مزدهرة في عمان قبل وقوع الغزو الفارسي في عهد "قورش العظيم " الذي كانت من جملة مآثره إعادة اليهود إلى فلسطين بعد سبيهم على يد نبوخذ نصر الكلداني أما المؤرخ العماني الإمام نور الدين السالمي فيشير في كتابه القيم " تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان " الذي أهدانيه حفيده زاهر السالمي فيرجـع أول وجود عربـي في عمان إلى فترة متقدمة على الإسلام، فيقول " وسمعت من يدعي المعرفة بذلك يقول: إن ذلك كان قبل الإسلام بألفي عام وذلك بعدما أرسل الله على سبأ سيل العرم وخرجـت (قبائل) الأزد منها إلى مكة وأرسلوا روادهم فـي النواحـي يرتادون الأمكنة، وتفرقوا من هنالك إلى الأطراف وخرج مالك (بن فهم) في جملة مرا خـرج إلى (جبال) السراة، ثم منها إلى عمان " ومن المستبعد أن تكون هجرة الأزد قد حدثت قبل الإسلام بألفي عام والمرجـح، حسب أكثر الروايات تطابقا بأنها حـدثت في القرن الثامن قبل الميلاد.

ما قصة خروج مالك برا فهم زعيم قبائل الأزد العربية إلى عمان التي ترد عند أكثر من إخباري عربي بينهم المسعودي والسجستاني فهي على قدر معتبر من الطرافة والدلالة في آن فيروى أن أبناء أخـي مالك بن فهم كـان يسرحون بأغنامهم على طريق بيت جـار لهم كانت لديه كلبة تنبحهم وتفرق شمل غنمهم كلما مروا فمان كـان من أحدهم إلا أن رماها بسالم فقتلها فرفع صاحب الكلبة الأمر إلى مالك فغضب قال: لا أقيم ببلد ينال فيه جـاري مثل هذا ثم خرج من أرض السراة فيمن أطاعه من قومه ومن اتبعه من أحياء، "قضاعة" وسار متوجـها إلى عمان تاركا وراءه بني أخيه الذين اعتدوا على كلبة جـاره وقد اعتزل عنهم ابنه جـذيمة الأبرش بن مالك فيمن والاه من الأزد وسافر إلى أرض العراق ويروى أيضا أن أبل زعيم الأزد بعد أن قطعت شوطا بعيدا عن "السراة" حنت إلى مراعيها وأقبلت تتلفت نحوها فأنشد مالك قصيدة منها هذا البيت: فحني رويدا.

واستريحـي وبلغي فهيهات منك اليوم تلك المألف. عبر مالك بن فهم في مسيرته الشاقة من "اليمامة" في أرض الحجاز إلى "قلهات" القريبة من ميناء "صور" العماني مارا بحضرموت فوادي مسيلة ومنه إلى "سيحوت". وقد بلغه أن جيشا عرما من الفرس يعسكر في عمان فبعث برسالة إلى "المرزبان " عامل الملك الفارسي على عمان يقول له فيها "لا بد لي من المقام في قطر من عمان وان تواسوني فـي الماء والمرعى.

فإن تركتموني طوعا نزلت في قطر من البلاد وحمدتكم وان أبيتم أقمت على كرهكم وان قاتلتموني قاتلتكم، ثم أن ظهرت عليكم قتلت المقاتلة وسبيت الذراري ولم أترك أحد أمنكم ينزل عمان أبدا". فرفض عامل الملك الفارسي طلبه فاستعد مالك لمقاتلته. وقيل أن الجيش الفارسي المرابط في عمان كـان يبلغ زهاء ثلاثين ألف رجل فيما لم تتجـاوز عزوة مالك بن فهم عشرة آلاف.

ويفيد بعض الروايات أن القتال بين الجيشين الذي دارت رحـاه بالقرب مرا مدينة "نزوى" في وسط عمان، استمر نحو أربع سنوات كانت الغلبة فيه لأتباع مالك بن فهم. فاضطر "الفرس" إلى عقد هدنة بين الطرفين لكن هذه الهدنة نقضت لاحقا فعاد رجـال مالك إلى منازلة الفرس وهزموهم مرة أخرىا. وحسب وندل فيليبس فان مالك هو أول حـاكم عربي مستقل بسط نفوذه على أرجـاء واسعة من عفان واستمر حكمه حسب الروايات العربية زهاء سبعين سنة وقتل خطأ على يد أصغر أبنائه وأكثرهم حظوة لديه وقد بلغ من العمر العشرين بعد المئة.

هـالى مالك بن فهم ينسب بيت الشعر العربي القائل: أعلمه الرماية كل يوم ولما اشتد ساعده رماني. وتلك إشارة محزنة إلى السهم الذي أطلقه عليه إبنه الصغير عندما كان مولجا حراسة مقره ظانا أنه متسلل يريد الغدر بوالده!-. ويبدو أن مالك بن فهم قد بسط نفوذه على البر والبحر وصار تنسج حوله الأساطير.

فها هو المؤرخ نور الدين السالمي ينقل فـي مؤلفه " تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان " حديثا أورده المؤرخ العماني العوتبي في كتابه "الأنساب" عن أبن عباس يقول إن مالك هو الذي جـاء ذكره في القرآن بأنه كان يأخـذ كل سفينة غصبا، ويحيلنـا هذا إلى قصة موسى والخضر.

يقول السالمي في الرواية المعنعنة " فأنطلق موسى والخضر ويوشع بن نون، حتى إذا ركبوا السفينة ولججوا خرق الخضر السفينة وموسى عليه السلام نائم. فقال أهل السفينة ماذا صنعت؟ خرقت سفينتنا وأهلكتنا. فأيقظوا. ا موسى وقالوا ما صحب الناس أشر منكم. خرقتم سفينتنا في هذا المكان. فغضب موسى حتى قام شعره فخرج م ن مدرعته واحمرت عيناه وأخـذ برجـل الخضر ليلقيه في البحر فقال "أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا.

قال له يوشع يا نبي الله أذكر العهد الذي عاهدته. قال صدقت. فرد غضبه وسكن شعره وجعل القوم ينزفون من سفينتهم الماء وهم منها على خطر عظيم وجلس موسى في ناحية السفينة يلوم نفسه، يقول لو كنت في غنى عن هذا في بني إسرائيل أقرأ لهم كتاب الله غدوة وعشية فما أدناني إلى ما صنعت؟ فعلم الخضر ما يحدث به نفسه فضحك ثم قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا.

ت نفسك بكذا وكذا؟ قال موسى لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقوا حتى انتهوا إلى عفان وكان الملك يريد أن ينتقل منها وكان كلما مرت سفينة أخذها وألقى أهلها فإذا الناس على ساحل البحـر كالغنم لا يدرون ما يصنعون فلما قدمت سفينتهم قال أعوان الملك أخرجوا عن هذه السفينة. مالوا إن شئتم فعلنا ولكنها مخرقة. فلما رأوها وخرقها قالوا لا حـاجـة لنا بها. فقال أصحـاب السفينة جزاكم الله عنا خيرا فما صحب قوم قوما أعظم بركة منكم. وأصلح الخضر السفينة فعادت كما كانت". ولم يكن الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا سوى مالك بن فهم؟ و الله أعلم.

الرحلة العمانية 1997

(2)

أن يتركوا عمان دون نصيبها من القصص العجيب مثل ذلك ما يرويه العوتبي في "الأنساب عن مرور النبي سليمان بن داوود صاحب الجن في عمان فيقول "إن سليمان بن داوود عليهما السلام سار من أرض فارس في قلعة أصطخر إلى عمان نصف يوم ونزل موضع القصر من سلوت من عمان، وهو بناء جديد كأنما رفـع الصناع أيديهما منه في ذلك الوقت و إذا عليه نسر فسأله نبي الله عليه السلام عنه فقال: يا نبي الله أخبرني أبي عن أبيه عن جـده أنه عهده على هذه الحـال فقال فـي ذلك بعض الشياطين الذين صحبوا سليمان عليه السلام.

"عدونا من قرى اصطخر.. إلى القصر فعلناه
فمن سأل عن القصر.. فبانا قد وجـدناه
وللشيء على الشيء.. مقاييس وأشباه
يقاس المرء بالمرء.. إذا ما المرء ماشاه"


لكن القصة عند هذا الحد لا تبلغ الدلالة المتوخاة منها وليس علينا أن ندقق في خبرها من زاوية صدقه أو واقعيته أو كون الشياطين تنشد شعرا بالعربية، ركيكا إلى هذا الحد فما هذا مربط الفرس ذروة القصة أو خبرها هو أن سليمان بن داوود أقام في عمان عشرة أيام وأمر الشياطين أن تحفر ألف نهو في اليوم فكانت حصيلة الزيارة عشرة آلاف نهر تفجرت في أنحـاء عمان! فهل هذا الذكر العابر لسليمان بن داوود وبضعة أخبار يهودية أخرى ما دفـع المؤرخ اللبناني المرموق كمال الصليبي إلى توسيع فرجـار حفرياته اللغوية، في تقصيه أصل التوراة، ليطال عمان أيضا؟
المؤكد، في تاريخ عمان، إن مالك بن فهم ومن خلفه من زعماء الأزد لم يبسطوا نفوذهم على كامل الأرض والسواحل العمانية فملكوا شطرا كبيرا منها وظل الفرس يملكون على بعض السواحل ولا تشير الروايات إلى مواجـهات كبرى بين العرب والفرس بعد واقعة مالك بن فهم، بل يبدو أن التعايش والتبادل التجاري ظلا قائمين بين الطرفين ولن تتبدل هذه الحال إلا مع انتشار الدعوة الإسلامية وبلوغها أطراف شبه الجزيرة العربية، ومن بينها عمان وفي صدد إسلام عمان هناك روايات عديدة يوردها المؤرخ العماني الإمام نور الدين السالمي في مؤلفه "تحفة الأعيان" نقلا عن مؤرخين وإخباريين عرب عديدين.

***

وإن كانت الروايات، كلها، تجمع على حدوث ذلك في أواخر عهد الرسول وكلها يجمع على أن عمرو بن العاص كان رسوله إلى أبني الجلندي حـاكمي عمالا في تلك الآونة ولا يحدثنا السالمي عن العبادة التي كانت سائدة في عمان قبيل وصول عمرو بن العاص إليها ولكن يبدو أنها مماثلة لما كان سائدا"في شبه الجزيرة العربية يومذاك حيث اختلطت الوثنية (عبادة الأصنام) بالمسيحية واليهودية وفي الحالة العمانية يمكن أن نزيد الزرادشتية بسبب من وجـود الفرس فترة طويلة هناك والمؤكد أن إسلام القبائل العربية العمانية تم طوعا! فلم يكن مع عمرو بن العاص رسول النبي محمد جيش ولا قوة عسكرية ففاوض عبد وجيفر أبني الجلندي وعرفهما على مبادىء الإسلام فاستجـابا إليه بعد تلكؤ خصوصا عندما علما بأمر الزكاة والخـراج وما شاكل ذلك من جـبايات.

وبقي ابن العاص عاملا على عمان حتى بلغه نبأ وفاة الرسول فقفل راجعا إلى المدينة يرافقه عبد بن الجلندي الذي سلم على أبي بكر وبايعه وهناك رواية تفيد أن القبائل العمانية ارتدت بعد وفاة الرسول مع من ارتد من القبائل العربية، فحـاربها أبو بكر لكن نور الدين السالمي ينفي ذلك بحمية ويراه تخرصا أساس له من الصحة وليس من صلب اهتمامي التاريـخ ولا اقتفاء أحداثه ونوازله ولا هذا من أدب الرحلة ولا من دأبها لكنني وجدت نفسي ملزما الغوص في بطون كتب عديدة لاستخـلاص ما يعين على بناء مسرح للأحـداث ذات الدلالة الخـاصة التي شهدها هذا البلد العربي النائي.

فقد اكتشفت أن ذخيرتي من أخبار عمان وأحـوالها لم تكن أكثر من شذرات وشظايا ليست كلها صحيحة، على كل حـال من ذلك، مثلا، ما وقر في أذهاننا أنها البلد الذي اعتصم به "الخوارج " بعد حـادثة "التحكيم " بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وما جرى بعد ذلك في واقعة "النهروان " و"الخـوارج "، مصطلحـا، يلحظ كما يقول الباحث صالح بن احمد الصوافي في كتابه "الإمام جـابر بن زيد العماني أثاره في الدعوة،.

أولئك الذين خرجـوا مرا " الكوفة" إلى " النهروان " وكـان ذلك في أول أمرهم... ولم يكن خروجهم في ذلك الوقت خروجـا عن الدين أو مروقا عن الجـادة بل العكس هو الصحيح فعلي بن آبي طالب لما سئل عنهم ووصفوا بالكفر أمامه قال بل من الكفر فروا ونفى عنهم النفاق غير أنه من الثابت بعد ذلك افتراق أمر هؤلاء الخوارج لأنه بعد واقعة "النهروان " عمد البعض إلى سلوك طريق لا يتفق قع الأصول الصحيحـة للشريعة و أحدثوا في الإسلام حـدثا كبيرا بما استحلوا من استعراض المسلمين بالسيف وتكفير أهل القبلة الذين لا يذهبون مذهبهم وتفرق هؤلاء الخـارجون الى فرق عديدة كـان منها الأزارقة والصفرية والنجـدات وهؤلاء هم الذين أصبحوا يعرفون بالخـوارج
أما " الأباضية" فهم لا يرون رأي الخوارج بل يرونهم مارقين عن الدين ورغم انهم يوالون "المحكـمة" الأولى وعلى رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي إلا انهم لم يوافقوا الأزارقة ومن والاهم من بعده بل تبرأوا منهم"

ويعانى العمانيون الذين يعنيهم الأمر من هذا الاعتقاد السيار في أوساط السنة العرب ويرون ذلك مثالا على سوء الفهم والإحتطاب ليلا فالمراجـع التراثية العربية تقرن الأباضية، وهي المذهب الحـاكم في عمان، بالخوارج. ولم يشذ عن هذا الصراط مؤرخ معتبر من عيار إبن خلدون ولا حتى المعاجم المصنفة اليوم ففي موسوعة المورد يرد تحت كلمة الاباضية ما يلي فرقة من الخـوارج تنسب إلى عبد الله ابن إباض الذي انشق على الخوارج الأكثر تعصباعام 684 للميلاد. ثارت على الأمويين وسيطرت فترة مرا الزمن على اليمن وحضرموت وعمان وانتشرت تعاليمها انتشارا واسعا بين البربر في شمال إفريقيا.

ويتواجد الإباضيون اليوم في عمان، في المقام الأول، وفي تونس والجزائر. وفي كتاب الفرق بين الفرق جاء تحت بند الإباضية ما يلي: اجمعت الاباضية على القول بإمامة عبد الله بن إباض وافترقت فيما بينها فرقا يجمعها القول بان كفار هذه الأمة يعنون بذلك مخـالفيهم- براء من الشرك والأيمان وانهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار.

وأجـاروا شهادتهم وحرموا دماءهم في السر واستحلوها في العلانية. وصححوا مناكحتهم والتوارث منهم وزعموا انهم في ذلك محـاربون لله ولرسوله ولا يدينون دين الحق . ويستخلص الدكتور ألبير نصري نادر محقق كتاب الملل والنحل لعبد القاهر البغدادي الصادر عن دار الشرق اللبنانية ثلاثة مواقف مهمة للإباضية تفردها عن سائر الفرق الأخرى هي.

عدم قبول الإباضية بالقدر على ما قالت به المعتزلة
الانسان غير محـاسب عن التوحـيد ما لم يأته نبي يعلمه بان الله واحد لا شريك له
يجـوز أن يأمر الله بحكمين متضادين في شيء واحد.. ص ويتصدى الإمام نور الدين السالمي المؤرخ العماني الذي تكررت الإشارة إليه في هذه الرحلة، بعصبية، للخلط الشائع بين الإباضية و الخوارج قائلا: "إطلاق لفظ الخوارج على الاباضية أهل الحق والاستقامة من الدعايات الفاجرة التي نشأت عن التعصب السياسي أولا ثم عن المذهبي ثانيا لما ظهر غلاة المذاهب. وقد خلطوا بين الأباضية والأزارقة والصفرية والنجدية.

***

فالاباضية أهل الحق لم يجمعهم جـامع بالصفرية والأزارقة ومن نحـا نحوهم إلا إنكار الحكومة (يعني التحـكيم) بين علي ومعاوية. وأما استحلال الدماء والأموال من أهل التوحيد والحكم بكفرهم كفر شرك فقد انفرد به الأزارقة والصفرية والنجدية وبه استباحوا حمى المسلمين. ولما كان مخـالفونا لا يتورعون ولا يكلفون أنفسهم مؤنة البحث عن الحق فيلقفوا عنده.

ولكن بماذا ينفرد "الاباضيه" عن السنة والشيعة ليكونوا مذهبا اسلاميا خاصا؟ ص-- يجيب عن هذا السؤال نور الدين السالمي نفسه في مبحث من مباحث كتابه تحفة الأعيان " بالقول: (...) وأهل عمان هم أهل الطريق القويم وأهل الصراط المستقيم الذي جـاء به محمد صلى الله عليه وسلم ودعا العرب والعجم إليه وجـاهدهم عليه حتى دخلوا فيه رغبا ورهبا، وعليه لقي ربه، صلى الله عليه وسلم، وعليه نص الخليفتان الراضيان المرضيان حتى لقيا ربهما (يقصد أبوبكر وعمر) وعليه مضى عثمان بن عفان في صدر خلافته حتى غير وبدل فقاموا عليه وعاتبوه فتوبوه فرجـع إلى تغييره، وأعذروا إلى الله حتى عذروا بين الخـاص والعام.

وطلبوا الإعتزال عن أمرهم فأبى فاجتمعوا عليه وحـاصروه حتى قتل في داره، ثم اجتمعوا على علي بن أبي طالب فقدموه وبايعوه على القيام بما يرضي الله ومضى على ذلك ما شاء الله من الزمان وقاتل أهل الفتنة القائمين لقتاله المتسترين عند العوام بطلب دم عثمان حتى قتل منهم ألوفا وهزم صفوفا ثم رجـع القهقرى وحكـم الرجـال على حكم أمضاه الله، ليس لأحد أن يحكم فيه برأيه.

فعاتبوه فلم يعتبهم وخـاصموه فخصموه فكـانت لهم الحجة عليه، فهم أن يرجـع إليهم ويترك ما صالح عليه البغاة من التحكيم في حـكم الله فقامت عليه رؤساء قومه فأطاعهم وعصى المسلمين فاعتزلوه بعد أن خلع نفسه بتحكيم الرجـال في إمامته وهو يظن أن الأمر باق في يده وهيهات والواضح أن الفئة التي رفضت التحكيم وعاتبت علي بن أبي طالب عليه قد نصبت على نفسها إماما هو عبد الله بني وهب الراسبي الذي سار علي إلى جماعته وقاتلهم في موقعة النهروان.

ويبدو أن علي بن أبي طالب قد أباد طائفة كبيرة منهم ولم ينج إلا نفر قليل ولكن اتباع هذا الفريق اسلامي في عمان ظلوا متمسكين برأيهم وعمدوا إلى انتخـاب أئمة منهم حكموا بينهم طوال قرون عديدة ولم تستطع الخلافتان الأموية والعباسية وما تلاهما من أمراء طوائف وأعراق الشرق أن يفرضوا رأيهم أو حكمهم على عفان.

وبمختصر القول فان الاباضية تفردت فـي معارضة قيام الحكم الاسلامي على أساس الوراثة أو على أساس الشوكة الاجتماعية وقالت بمبدأ انتخاب الأفضل والأصلح وبحسب العرف الساري يخضـع انتخـاب الإمام إلى شروط صريحـة منها: أن يكون ذكرا بالغا، وأن لا يكون مصابا"بعاهة جسدية، وأن يكون ورعا تقيا وأن ينال سهما"وافرا"في الانتخـابات.

ولا يستفتى في شأن إمامة الإمام جمهرة الناس بل العلماء منهم الذين لهم الحـق فـي نزع الإمامة عنه متى حـاد عن الجـادة. وللإمام الحـق في تفويض السلطة إلى خليفة يختاره شريطة أن لا يكون من صلبه. وخـلال 955 سنة من حكم الأئمة في عفان سجلت حـالة واحدة انتقلت فيها الإمامة من الأب إلى الابن وذلك عند توليه الإمامة لناصر بن مرشد مؤسس حكم اليعاربة وهو الذي قاد عملية تحرير عفان من الاحتلال البرتغالي وتمكن من حصر وجـودهم في قلاع كل مسقط ومطرح وصحـار.

هناك بضـع عاديات يمكن لزائر"مسقط " أن يذهب إليها ويقف من خلالها على شيء من تاريخ هذه العاصمة التي عرفت الغلبة يوما والغلب يوما آخر، الانتشار إلى حدود الصين وشرق أفريقيا حينا والانكفاء وراء أسوارها حينا ثانيا وذلك تبعا للأحوال الدولية والإقليمية من جهة وأحوال الأسر والممالك العمانية التي تعاقبت. على حكم البلاد من جهة ثانية. ص وفي الأيام التي قضيتها في "مسقط" حـاولت أن ألم بشظايا من تواريـخ مبعثرة مكتوبة مستعينا بالعيان والملاحظة والسؤال، فضفلا عما أمكنني الحصول عليه من مراجـع مكتوبة كيما أكون تصورا تاريخيامتسقا لتاريـخ هذا المكـان الغامض.

ولشد ما أدهشني أن اكتشف قلة ما تبقى من آثار الممالك المتعاقبة على حكم "مسقط " سواء تعلق الأمر بأسرة " اليعاربة" التي يرجـع إليها الفضل في طرد البرتغاليين من عفان وتوحيد البلاد تحـت رايتهم، أم ما يتعلق ب "أسرة البوسعيد" التي حكمت منذ العام 1749 وما تزال على رأس البلاد إلى يومنا هذا. هـ لكن ما يثير الدهشة أكثر هو ضآلة المادة التاريخية المكتوبة عن عمان خصوص! بأقلام عمانيين معاصرين.

فباستثناء كتابي "تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان " للإمام نور الدين السالمي وكتاب "نهضة الأعيان بحرية عفان " لأبنه أبي بشير، فأنك غير واجد سوى شذرات ومقالات لا تبني سياقا" متكاملا لتاريخ هذا البلد الذي كان جـزءا حيويا، وفاعلا"في محيطه منذ أقدم العصور.

وقد احتاجني الأمر إلى صحبة ولم أطل حتى وجدتها. هكذا لم أكن وحيدا في استطلاع المكان والوقوف على معالمه بل رافقني مثقفون عمانيون عرفت بعضهم بالاسم والنتاج الأدبي من قبل مثل الشاعر سماء عيسى والفنانة التشكيلية نادرة بنت محمود والقاص محمد الرحبي وآخرون تعرفت إليهم هناك وهؤلاء هم الأحدث سنا وتجربة مثل الشاعر عامر الرحبي والكـاتب مرهون العزري بفضل هؤلاء جلت في "مسقط " و"مطرح " والأحياء الجديدة التي تسمى "مدنا"مدينة الإعلام" و"المدينة الدبلوماسية" التي تضم مباني الهيئات الدبلوماسية الأجنبية وسكن الدبلوماسيين و" المدينة التجـارية" التي تضم المجـمعات التجـارية الكبيرة ومؤسسات المال العمانية وبورصة "مسقط " والأسواق الشعبية التي تكاد تكون حكرا على العمالة الأسيوية الفقيرة حيث محلات " كل شيء بريال "! ومن الملاحظات التي لا بد أن تسترعي انتباه الزائر سيطرة الهنود و"البلوش" على التجـارة الصغيرة مقابل سيطرة "اللواتـي "، وهم من أصول شيعية إيرانية، على ما يبدو، على التجـارة الكبيرة. وكل "مدن " العاصمة العمانية يمكن لك أن تستنفذ زيارتها في ساعات قليلة. فالمدينة رغم ما هي عليه من "مدن" تظل صغيرة بالقياس إلى العواصم العربية غير الخليجية.

***

ولا يتجـاوز عدد سكـانها، بما في ذلك العمالة الأجنبية، نصف مليون نسمة. أما أبرز ما تقع عليه العين من الأثر القديم فليس هناك أهم من قلعتي "الجـلالي" و"الميراني" و"حصن مطرح" وقد أنشأ البرتغاليون هذه المعاقل العسكرية الثلاثة لدى احتلالهم للشواطئ العمانية. فقلعه "الجلالي" شيدت عام 1578 فيما أنشئت قلعة "الميراني " في العام 1588. ولم أقف على ذكر لتاريخ إنشاء"حصن مطرح" ولكنه لا يتجاوز، على ,الأغلب، حدود هذين التاريخيين.

والقلعتان مشيدتان على مرتفعين صخريين يتحكمان بالمدخـل المائي للعاصمة ولا يمكن الوصول إليهما إلا عبر ممرات ضيقة، وهما يمثلان نموذجـا لعمارة القلاع البرتغالية في القرون الوسطى. ومن نافل القول انهما شيدتا في هذين الموقعين الحيويين لأسباب دفاعية. فبإمكان المدافع المنصوبة في الكوات صد أي هجوم أو تسلل إلى المدينة عن طريق البحر. فالسيطرة البرتغالية على قسم من الشواطئ العمانية والتي استمرت نحو 140 عاما لم تكن محكمة علي الدوام ولا حالت دون الهجمات المتكررة التي قام به! العمانيون أو القراصنة أو القوى الطالعة على المسرح الإقليمي كـالعثمانيين مثلا لطرد البرتغاليين من عمان.

وللملم بقسط من تاريخ عمان لا يمكن النظر إلى القلعتين المتقابلتين دون أن يتذكر الرؤوس التي جندلت فيهما والأجساد التي ألقيت منهما إلى البحر والمؤامرات التي حيكت للوصول إليهما أو في داخلهما. ولعله يتذكر بصورة خاصة اقتحامهما على يد الإمام سلطان بن سيف اليعربي، لينطوي بذلك، وإلى الأبد، الاحتلال البرتغالي الوحشي لعمان مؤذنا في الوقت نفسه، بأفول نجم الإمبراطورية البرتغالية لا في جنوب الجزيرة العربية فحسب بل في شرق أفريقيا والمحيط الهندي.

أيضا ليصعد في سماء المنطقة نجم امبراطورية جـديدة هي الإمبراطورية العمانية التي ظلت تحتفظ إلى عهد قريب بأملاك لها في زنجبار (… التي لا بد أن تكون الفتاة العمانية أفريقية الملامح التي لاقتنا في المطار تتحدر، هي وعشرات الوجوه الأفريقية التي تراها في مسقط، من هناك) وإلى هاتين القلعتين و"حصن مطرح " هناك البناء الحديث اللافت للنظر مثل مبنى "بلدية عمان " الذي فاز بجـائزة المدن العربية عام 1994 وهو مزيـج من المعمار الإسلامي والمعمار الحديث. فضلا عن مبنى "الأوقاف والشؤون الإسلامية" في "الخوير" الذي ينبثق ببياضه وزرقة قبتيه الخفيضتين وسط خضرة مستنبتة جـاعلا في الفراغ المحيط متكئا مريحا للعين. والأبيض لون سائد في المعمار العماني الجديد فيما اللون الأشهب هو السائد في المعمار القديم.

الرحلة العمانية 1997

(3)

الذاهب إلى "مسقط" لا يصيب من شخصية المكـان العمانـي إلا لمحـات ولا يظفر من تواريخـه وثقافته واجتماعه، إلا بكل ما يؤيد اللحظة الراهنة المنخـرطة في معمعان التحديث فهي اليوم شأنها شأن الحواضر العربية المستحدثة هجينة نوعا، مختلطة الوجـوه والطرز وإن كانت على قدر ممتاز من حسن التنظيم والتخطيط ويتوجب على المرتحل إلى عمان قصد تقري شخصية المكان وجس نبضه أن يمضي إلى داخلية البلاد ولن تكون له وجهة أفضل من نزوى.

هذا أسم علم في التاريـخ العمانـي له رجعه القوي في المدونات التاريخية العربية والعمانية التي أرخـت لسيرة وأحوال هذا الشطر من ديار العرب ومن حسن حظنا أن القائمين على "مهرجـان مسقط الشعري الثاني " جعلوا واحدة من أمسياته تعقد هناك هكذا انطلقنا ثلة من الشعراء العرب تضم عبد الرزاق عبد الواحد العراق، ممدوح عدوان سورية، المنصف المزغني تونس، محمد القيسي فلسطين وكاتب هذه السطور يقودنا إلى رحـاب المدينة الشيخ سالم العبري مسؤول الأنشطة في النادي الثقافي وكان خير الرفيق والدليل، لإلمامه بالحواضر العمانية من جهة ولكونه من أبناء الجبل الأخضر أحد أعمال ولاية نزوى من جـهة ثانية.

تبعد نزوى عن العاصمة العمانية نحو 170 كيلومترا تربط بينهما طريق تتسـع في قسط منها إلى خطين فيما بقي القسط الأكبر خطا واحـدا، ولكنه حديث على العموم، مزود بالشواخص والشارات الضرورية التي تنبه السائق إلى مخـاطر أو مفاجـآت الطريق وتحدد الوجهة الرئيسية والوجـهات الثانوية التي تتفرع منها وهو أمر قلما تصادفه في الطرق العربية على هذا النحو الدقيق ويحاذي الطريق، الذي شق فـي أرض منبسطة نسبيا سلسلة جبال الحجر ذات الطابع التراكمي، التي تقطع تراصها ثغرة هنا وثغرة هناك وهذه السلسلة الجبلية جرداء.

عموما لا ينبت فيها سوى القليل من النباتات الشوكية، جبال شاهقة، حـادة لا يكـاد يطير إليها الطير، تخلف فـي النفس انقباضا واحساسا بالحصار فليس ثمة مجـال لتسريح النظر فهو إما مصطدم بهذا الطود الراسـخ أو متطلع إلى السماء، وحيثما يممت ستظل الجبال ترقبك بحدقاتها القاحلة وقد كنت أحسب قبل زيارتي إلى عمان أن تكرار لفظة الجبال في قصائد الشاعر العماني سيف الرحبي ووسمه عمله الأخير بها، مجرد رمز أو مجـاز حتى طالعتني هذه السلسلة الجـبلية، الفريدة من نوعها، بحضورها ألا محيد عنه ولا يعدم وجـود تلال وتلعات صغيرة عند أقدام الجبال الضخمة تبدو لناظرها أشبه بتكوينات عائلية، فخلفها قمم السلسلة الجبلية تعلو أو تدنو والتلاع الصغيرة متكئة إليها أو طالعة من رحمها القاسي وحيثما تتواجـد قرية بمائها الشحيح ونخيلها وبيوتها القليلة يكون على هذه التلاع أبراج مراقبة صغيرة ترابية اللون مثل التي يراها المرء فـي القلاع والحصون التي تكثر فـي داخلية عمان.

وحسبما فهمنا من الشيخ سالم العبري فان لهذه الأبراج أهميتها الدفاعية أيام الاضطرابات الأهلية التي كـانت تشهدها عمان في غيبة الحكم المركزي فقد كان شائعا أن تتبادل القبائل الغارات على خلفية التنابذ العشائري والمذهبي ولا تفصح المصادر العمانية التاريخية عن سبب هذه الانقسامات التي شغلت البلاد طويلا ولكنها ترجـع، على الأرجـح، إلى انقسام القبائل العمانية إلى عربية جنوبية، أصلها اليمن، وأخرى من وسط وشمال الجزيرة العربية وانقسامها مذهبي كذلك، إلى سنة وإباضية وان كان للأخيرة، غالبا سدة الحكم وصولجـانه، لكن البلاد سرعان ما تلتئم لحمتها كلما هددها غاز أو مشى إليها مجتاح ولا ينبغي أن يفوت عن البال، تماما، الباعث المذهبي أو القبلي في إشعال فتيل الاضطرابات والمنازعات الحادة مهما كانت الأقنعة السياسية أو الأيديولوجية، التي تتخذها لنفسها وفي السجل العماني والعربي.

آيات كلاسيكية على ذلك ويلفت نظر المرتحل على طريق مسقط- نزوى حفاظ القرى على الطابع العمانـي في المعمار واللباس رغم زحـف الأسمنت ومظاهر التحديث على هذه الدساكر التي بالقليل من الماء، القليل حقا، ابتدعت طراز حياة متسق مع الطبيعة القاسية وتحدياتها واستنبتت في السفوح وما تركته الجبال من انبساط، خضرة تقتات منها وتفيء إلى ظلالها فليس نادرا أن تجد الصحون اللاقطة للبث الفضائي تستدير بأجـرامها المتباينة حجما صوب جـهة من السماء وغالبا ما يكون ذلك في الجهة المقابلة لسلسلة الجبال.

كذلك ستلحظ الإعلانات والعلامات التجـارية لسلع لا تفتأ تخترق حصانات الهوية والثقافة وأنماط العيش الخـاصة وبإمكانك أن ترى الصبية يروحـون ويغدون بجـلابيبهم والرجـال بأزيائهم العمانية الجميلة المكونة من دشداشة بلا ياقة وعمامة ملونة أو بطاقية دون عمامة يسمونها الكـمة، بعضهم يتزنر بحزام عريض يتوسطه خنجر فضي معقوف ويحمل بيده قضيبا خيزرانيا أو عصا يمكن له أن يتوكـأ عليها وبعضهم الأخـر من دون الخنجر والعصا ولكن، قط، ليس من دون العمامة أو الكـفة وان صادفت رجـلا في داخلية عمان يرتدي ثيابا إفرنجية فهو، قطعا ليس عمانيا حتى في العاصمة فان قلة.

مرا الشباب العماني يرتدون مثل هذه الثياب وقد علمت أن ارتداء الزي العماني الكامل (أي بالخنجـر) إلزامي في جميع المصالح الحكومية باستثناء الجيش والشرطة وكم كانت دهشة كبيرة أن أرى الصديق الشاعر سيف الرحبي مرتديا الزي العماني وقد شعرت لوهلة بأن هناك "خطأ" ما ووجـدت الزي العماني الذي استجملته على الآخرين.

غريبا بل غير مصاقب البتة لسيف الرحبي فهو صرم شطرا كبيرا من حياته في منافي الجبر والاختيار، ولم يعد إلى بلاده، نهائيا (!)، سوى منذ ثلاث سنوات ليؤسس ويرأس تحـرير الدورية الثقافية المرموقة "نزوى" المسماة على اسم ونية المدينة العمانية العريقة.

كما أن لقاءاتي السابقة بسيف الرحبي وهي كثيرة، تمت كلها على "أرض محـايدة" لا تستوجب التسربل بالزي الوطني .

***

ندخـل "نزوى" ظهرا الشمس تتوهج فوق هذه المدينة الترابية المتكئة، برسوخ، على حواف الجبال، فتعبق رائحة القدامه فجـأة تطلع لك "نزوى" من كتاب التاريخ، ولولا أعمدة الكهرباء والطرق المسفلتة والسيارات الحديثة التي تجوب شوارعها وبضعة إعلانات سفيهة لسلع غربية لقلت بأن "نزوى" ما تزال في زمن الأئمة.

الكبار: أشجـار النخيل المباركة، قاتمة الخضرة، تترامى حـولها والقلعة والحصن يذخران الشوكة والمنعة من دون بهرج القوة وصلافتها لا عليك من ضخـامة معمار القلعة والحصن وغلظ الأسوار فذلك لا يتناقض إلا ظاهريا، مع السكينة التي ما تبرح أن تتحسس دفقها في الحنيات والمنعطفات والأزقة والأسواق الظليلة وفي هوينى حـركة الأجساد وملامح العابرين بلا جلبة من طرف في المدينة إلى آخر فإذا مضيت إلى الأسواق ستهب عليك، فجـأة، روائـح الأفاوية والبخور والأعشاب والهال وماء الورد والعطور الشرقية.

وسترى أمام المحـال الصغيرة الباعة في أزيائهم العمانية بعضهم يبيع من دون مساومات حـادة مع المشترى، كعادة الأسواق العربية، وبعضهم الآخر مستكين إلى النداوة التي تمنحـها ظلال السوق ومن الصعب أن تتفادى غواية اللعبة الأبدية بين الظل والضوء، بين الحر والنداوة خصوصا في هذا المكان الذي تحكم فيه الشمس، مع الجبال، حصارا لا فكاك منه فتأخذ في رصد تراقص الأضواء المتسربة من الفتحـات والكوى العالية والأزقة الضيقة فبمجرد انتقالك مرا الساحة إلى "السوق الشرقي" مثلا، ستعبر من الضوء الوهاج إلى الظلال والرطوبة.

فكـأنك تنقل الخطى بين عالمين يتبادلان لعبة يعرف الجدار والكوة والزقاق والنوافذ العالية قانونها جيدا وسيبرهن بناء القلعة على الاستعدادات الكبيرة لصد هجوم الشمس الذي لا يفل له ساعد واستثمار الحد الأقصى للظلال في القيظ الذي يمضغ بخـاتمة اللهاب معظم شهور السنة وفي الساحة الصغيرة التي تتفرع منها مداخل الأسواق المصممة على النمط العماني القديم تشعر لوهلة بأنك وسط ديكورات لفيلم تاريخـي.

فاللون الترابـي الموحـد وجـدة ونظافة المعمار، ورؤوس أشجـار النخـيل التي تلوح من بعيد ومن خلفها الجبال تدفعك لأن تحـاول تقري الجدران بيديك لتقف على حقيقتهما هذا ما قلته للشاعر التونسي المنصف المزغني الذي لم يتوقف عن التقاط الصور بكـاميرته الصغيرة المثيرة للشفقة، فوافقنى قائلا: فعلا كـأنها صفحة من كتاب "ألف ليلة وليلة" لم يكن المزغني وحده الذي "يطقطق" بكاميرته بل سرعان ما لحق بنا فوج سياحـي يابانـي كبير شرع أفراده على الفور باستلال كاميراتهم وأخذوا يمسحون المكان بأعينهم الصغيرة وعدساتهم سواء بسواء.

سأترك لهذه الذكرى التي تهب، فجـأة، أن تستولي علي وأن تستزد أبوابا كبيرة لخـانات وحصون وبيوتات وجـهاء وأكابر، خشبها مشقق النسيج لكنه صامد للعوادي تثوي فيه مسامير بطبعات صدئة سيئة الاستدارة ومزاليج ضخمة تقلب عليها الحر والقر والمطر والريح والنسيان سأتذكر أيضا بوابة صغيرة في الجـانب الأيمن من الباب الكبير تفتحـها يد غضة فتصدر أنينا كأنين ناعورة عربية مهجـورة رأيتها في ظاهر غرناطة.

يوما سأترك للذاكرة أيضا أن تمعن في التداعي: دخـان شفاف يتصاعد من أثاف أمام بيوت طينية بعلو قامة رجل وروائح مختلطة: لبن مخيض، صابون جلبه مسافرو الليالي، قمح غامق الخضرة يشوى، شاي بالقرفة ثمة شمس هائلة وهاجة تبسط أحكـامها على المشهد الصامت كيف انبثقت هذه الذكرى وأنا أجلس مستظلا حـائطا بالقرب من "السوق الشرقي" في "نزوى" ومما تألفت؟ ومن أين جـاءت؟ أمن قرى "حوران" التي عبرها عمي "موسى" على صهوة حصانه الأسحم وأنا مرادف خلفه أطالع بعين الطفل الذي كنته بيوتا طينية وأخرى كحلية الحجر يتصاعد فوقها الدخـان وأبقارا تقضم الأعشاب الكثيفة على حـواف السواقـي وأشباه المستنقعات، وفي البعيد تنداح أصوات أراغيل ومواويل شجـية.

وفي واحدة من هذه القرى يترجل عمي المهرب الأسطوري (في نظري آنذاك) أمام بيت كبير من الحجـر له باب خشبي كبير ذو مزاليج حـديدية واحدها بطول ذراع رجـل وفي الجـانب الأيمن بوابة صغيرة ذات مزلاج حديدي صغير يعبرها، هو، متطامنا واعبرها أنا دون أن أنحني؟ أم جـاءتني هذه الذكرى من زيارة مبكرة لواحة الأزرق الأردنية حيث ينبثق الماء بمعجزة وسط الصحراء فيصنع حياة خضراء في قلب الصفرة والهجير والصمت والانقطاع.

ثمة قلعة كبيرة أيضا أو لعلني أظنها كذلك وبيوت من الحجـر الأبيض المصفر ببوابات خشبية كبيرة يدخلها الفارس على صهوة جـواده؟ أم لعل هذه الذكرى المباغتة انضفرت من قراءات الأسفار ووصف مدائن الأحلام سمرقند، بخـارى، غرناطة، فاس، بغداد؟ أو قد تكون ذكرى باقية من حياة سابقة عشتها محـاربا في جـيوش الإسلام التي فتحت مدنا أسطورية ووصلت بقاعا لم تطأها حوافر الخيول العربية من قبل؟ لن أصر على محـاصرة هذه الذكرى وردها إلى منشأها الأول لا جدوى من لت لك ولا ضرورة أيضا- يكفيني هذا الأثر البهيج لخلخلة الذاكرة- وتقطع سلسلتها المحكمة يكفيني أن تكون بوابة في "نزوى" قد جـعلتني أعيش أزمنة هنا وهناك فـي اللحظة نفسها.

الرحلة العمانية 1997

(4)

لكن ليس هذا ما توحـي به لك قلعة "نزوى" وأنت تقف ضئيلا أمام جرمها الحجري الهائل. لا. لا ألفة بينك وبين هذه الكمأة الحجرية الهائلة لا تجدي المقارنة ولا فائدة من حذاقة الذاكرة فليس لها، أغلب الظن، مثيلا في أي مكان آخـر لا لأنها كبيرة، فهناك قطعا ما هو أكبر منها حجما ولا لإعجازها الهندسي فهناك دون ريب ما يبزها على هذا الصعيد ولكن لأنها نسيج وحدها فهي لا تشبه القلاع العربية والصليبية التي رأيتها في الأردن قلعة الكرك، قلعة عجلون قلعة الأزرق الخ.

ولا تشبه أيضاقلعة حلب التي وقفت ذات يوم بعيد تحت أسوارها المتطاولة ولا تشبه قلعة "أرنون" التي شهدت مقتلة كبيرة للفلسطينيين والإسرائيليين فـي غزو عام 1982 ولا قلعة "صيدا" التي تتلاطم تحتها أمواج المتوسط ولا قلعة المذبحة الشهيرة في القاهرة ولا تشبه حتى قلعتي "الميراني" و"الجلالي" في مسمط اللتين بناهما البرتغاليون إنها ابنة المكـان العماني بامتياز ابنة حجره وجصه وأخشابه ابنة سؤاله الوجـودي والروحـي المقتفي تأويلا خـاصا للرسالة المحمدية ابنة تحدي ضعفه.

وهوان أمره سيداخلني تهيؤ إنني أسمع وأنا ألج بوابة القلعة التي يربض أمام مدفعان على قاعدتين حجريتين، الإمام سلطان بن سيف اليعربي وهو يحث رجـاله على صنع أعجوبة تسير بها الركبان فها هم المهندسون والصناع والعبيد المجهولون يرفعون البناء أعلى فأعلى تحت حـدقة الشمس الملتهبة والإمام الأسطوري يستزيد فهو عائد لتوه من موقعة "ديو" التي هزم فيها البرتغاليين في واحـدة من أكبر موعدهم العسكرية في آسيا وأغتنم ثرواتهم وسبى بعضا من ذريتهم البيضاء وجـاء بمدافعهم أيضا ليحصن داره بما لا قبل لأحـد به، قبل أن يكر كرته القاتلة عليهم في مسقط ويفنيهم عن بكرة أبيهم ولكنني أسمع أيضا أنين الأجراء والعبيد وهم يرفعون بناء سيظن الأهلون الذين لم يشهدوا ملحمة الحجر هذه إنه من صنع الجن، لا الأيدي التي براها الحجر وأفناها التراب وصارت نسيا منسيا.

لم نكن نظن ونحن لنغادر "مسقط " إلى "نزوى" إننا سنكون إزاء واحـدة من أكبر مفاجآت عمان بل لعلها الأكبر طرا، فقصارى ما حملني إليه الظن هو أننا نساق إلى دسكرة أو بلدة قديمة رفعها المديـح الأهلي المبالغ به إلى مصاف الحاضرة فلم نكد نسمع مذ حللنا في "مسقط" سوى حماسات مفرطة ل "عاصمة العلم" و"عاصمة عمان القديمة" و"بيضة الإسلام " و" الشهباء" قلت فـي نفسي إن القوم يحتاجون إلى نوع من "قيروان" أو "قرويين" أو "كوفة" أو "فسطاط" خـاصة بهم ولا أظن أن شيئا أبعد من هذا دار فـي خلد رفاق رحلتي من العرب فهم نزلوا عند رغبة القائمين على "النادي الثقافـي" لقراءة قصائدهم فـي بقعة نائية لا يعلمون من أمرها شيئا ولعلهم اعتبروا الرحلة بمجملها تضحية تكافئ أريحية المضيفين!.


إقرأ أيضاً:-