خالد النجار
(تونس/هولندا)

1
خالد النجار ... أراني قبل عشرين سنة في أمستردام، في ذاك البيت الذي يعود معماره للقرن السابع عشر بشارع برنسن خراخت، ذكرى القناة المائيّة التي تسيل أمام البيت.. وخيال الأشجار يتحرّك على زجاج النّافذة التي أمامي، والبطّ الذي يجول في ظلال الغيوم المنعكسة على سطح المياه... ويعودني مشهد القارب الراسي أمام البيت بحديقته البحريّة و الديك الذي يتحرّك وسط الحديقة على سطح القارب، وسط الزّهور البرتقاليّة والحمراء والبنفسجيّة.. وأنا منكبّ على أوراقي أكتب في الطابق السفلي، أصغي إلى موتزارت تصلني ألحانه من الغرفة المجاورة في زرقة ذاك الصباح الهولندي...

*

اليوم يعودني كلّ ذلك مثل شريط صور و قد أعيد تركيبه حسب ألاعيب الذاكرة.. اختفت أشياء وظهرت أخرى على السّطح... القارب الذهبي المعلق في سقف كاتدرائية أمستردام الكبرى- ساعات الرّايكس موزيوم التي ماتزال تدقّ منذ قرون – بقايا من مخطوطات القبالة اليهودية المهرّبة من الأندلس – المنجم الهولندي كما رسمه رامبرانت أمام صورة الأرض – برج المرأة النائحة -

*

ها أنا في هولندة الفلاميّة الجرمانيّة المتفرّدة التي ولدت من دياجير البحر، واستمرّت علاقتها الجوهريّة بالمياه، إبحارا و صراعا لردم البحر. مساحات بحرية شاسعة حوّلها الهولنديون على امتداد القرون إلى أراض زراعيّة، هولندة هي ملحمة انتصار الانسان على البحر... و يقضي الهولنديون أوقاتا كثيرة في معالجة المياه ونقلها من مكان لآخر وتفريغها وتجفيفها بواسطة سدود وبوّابات نهريّة لا تعدّ ليصنعوا بلادا... وما تزال لديّ صورة فوتوغرافية أخذتها لخرفان وديعة متجمعة على الشاطئ تشرب مياه البحر الذي صار بحيرة حلوة بفعل تطويقه من كلّ الجهات بعدها يقع تجفيفه ويصير أرضا جديدة... وتكبر مساحة هولندة.

***

هنا أيضا بلاد الدرّاجات والقوارب و طواحين الهواء والطواحين المائيّة والأبقار الهولندية المرقّطة بالأبيض والأسود، والمتاحف... وجبنة لافاش كي ري، و كلّ أنواع الديزاين الحديث، وزهور التوليب، و سمك الهارينغ النيء و المدخّن والذي يؤكل في موسم محدد. وراديو فيليبس في أربعينات و خمسينات القرن الماضي ببلور لوحة الترددات المضيئة حيث تقرأ أسماء محطات راديو تونس الجزائر ليون بيروت لوكسمبورغ باريس مدريد واشنطن الرباط القاهرة موسكو برلين مرسيليا... آه لتلك المدن التي كانت تطير في الليل مع أصوات مذيعي محطاتها حتّى تبلغ إليك و أنت في السّرير... قبل أن يظهر التلفزيون ويقضي على رومانسية الاتصالات...

***

هنا ظهر فان غوغ مثل الشهاب وانطفأ. فان غوغ الشبيه في حياته المأساويّة ولعنته برامبو، إنّه رامبو الرّسم، فقد ولدا كلاهما في نفس السنة وماتا في نفس السنة تقريبا، وعاشا حياة مشرّدة طافحة بالألم... هنا أيضا ابتُدع الفنّ التجريدي الذي غزا فيما بعد العالم بأسره؛ ولد على يد موندريان عندما بدأ يجرّد الشجرة من أوراقها وأغصانها وذلك كلما أعاد رسمها من جديد حتّى اختزلها إلى مجرد تقاطع هندسي.. أزال الصورة الواقعية وترك على قماشة اللوحة من خلال خطين المعنى الذي يمور في أعماقه، ومن يومها وقع انقلاب جذري في تاريخ الرسم العالمي... لم يعد الفنان يرسم العالم الخارجي صار يرسم صورة العالم كما تنطبع في أعماقه من خلال أبجدية الألوان والأشكال، وترك مشهد العالم الخارجي للكاميرا تصوّره...
***
وأمستردام هي أيضا فينيسيا الشمال.. بقنواتها التي لا تنتهي و جسورها و بناياتها المستطيلة العريقة التي تتكئ على بعضها البعض، وتلك السفن التي تمخر قنواتها فتبدو من بعيد من خلال البنايات وكأنّها تسير على البرّ، زوارق شراعيّة سفن للسكن و قوارب لإقامة الحفلات... وهي شبيهة فينيسيا برسّاميها أيضا رامبرانت ، فيرمير، فان دايك، فرانز هيلز الذين تلقاهم في المتحف الملكي : الرّايكس موزيوم...

***

وأمستردام ميناء العودة لأولئك البحارة التراجيديين الذين جابوا بحار العالم، البحارة الذين أحبّهم نيتشة لأنّهم تجسيد لفلسفته في العيش على حدود الخطر كما هم في قواربهم على امتداد قرون وسط المياه الوحشية النائية...
لقد كانت هولندة البلد الصغير في يوم ما أمبراطورية تسيطر على مياه بحار العالم..
ذهب بحارتها إلى بلاد السورينام و آروبا في أميركا الجنوبيّة.. وفي الشماليّة شيّدوا مدينة أطلقوا عليها اسم أمستردام الجديدة وهي نيويورك؛ والناس اليوم نسيت أن نيوررك مدينة هولندية.. وشرّقوا في بحار آسيا حتى وصلوا إلى جزر أندونيسيا.. وهم من اكتشف جزر نيوزيلندة...
لعلّ البحر أورثهم قلقا تسلل إلى روح الهولندي وإلى عقله، وللتخلّص من هذا القلق فأنت ترى البحّارة وبمجرد دخولهم الموانئ يغرقون أنفسهم في الخمر و النّساء... وظلت أمستردام إلى اليوم أكبر ميناء في أوروبا وليس من باب الصدف أنّها تضمّ أيضا أكبر ماخور في أوروبا حيث النساء من كلّ الأجناس و الأعراق بيض و سود و خلاسيات يقفن عاريات هناك وراء فترينات الزجاج تحت المصابيح الحمراء مثل تماثيل الشمع... ككببغاوات عملاقة ممّا قبل التاريخ

***

هناك و في متحف البحر القائم في الميناء الداخلي القديم زرت ذاك المركب التاريخي الذي ظل في المياه منذ قرون وهو يجدد باستمرار وعادت إليّ قصيدة سان جون بيرس أنشدته التي كانت هنا والتي يمجد فيها القوارب الهولندية :
... صبّاغو الأثاث الصينيّون الشيوخ أيديهم حمراء فوق زوارقهم التي من خشب أسود، والقوارب الهولندية الكبيرة تضوع برائحة القرنفل....

***

و اليوم اختفى ذاك البحار الهولندي، تحوّل إلى صورة متحفيّة. البحار الذي غناه لوركا وأبولينير وجاك بريل والذي كان يعود من البحار البعيدة :

حاملا في قلبه
سمكة من بحار الصّين
تلمحها أحيانا صغيرة جدّا
تعبر في عينيه
ينسى البحريّة
وكذلك البارات و البرتقال
فيديريكو غارسيا لوركا

اليوم، لم تعد البارات تكتظّ ببحارة أبولينيير و لوركا و جاك بريل القادمين من جزر الذهب ومن البحار الاستوائيّة الدّافئة... و أسطورة الهولندي الطائر وإنّما تمتلئ بشباب من كلّ الأعراق والبلدان البعيدة.. على الجسر الرابط بين نيومركت و أوبرا أمستردام رأيت ذاك الشاب الأسمر النحيل بسحنة عربية لعله تونسي أو مصري أو خليجي و زجاجة نبيذ في يده وهو يترنّح ممسكا بدرابزين الجسر الحديدي تحت شمس الخريف البرتقاليّة... متأمّلا بعينين متعبتين العالم من حوله بإحساس من يمتلك العالم وبدا لي أيضا وكأنّه يقف بشكل رمزي في مفترق طرق مصائره المجهولة متأمّلا رعب حياته... قلت لآنيت كم هي رائعة حماقات الشباب فقد مررنا قبلها في طريقنا بالكافي شوب المقهى الذي في ركن شارع بيثانيان جنب المكتبة حيث يجلس شباب آخر جاؤا هم أيضا من كلّ بقاع العالم انكليز وعرب وأميركيون لاتينيون لتدخين أنواع الحشيش؛ عيون نصف مفتوحة تحت تلك الأضواء الشرقية من حمراء وخضراء و بنفسجية داخل المقهى في شبه عتمة ساحرة... تراهم مجتمعين و لكن، كلّ كان قد أبحر في عالمه اللاّنهائي الساحر... هكذا يخيل لك... قلت في نفسي لعلهم من بقايا أتباع كارلوس كاستنيدا فيلسوف توسيع الوعي بواسطة العقاقير المهلوسة؛ كاستانيدا الذي مات بشكل غامض و أحرق جدثه وذُري رماده فوق صحاري المكسيك العليا في طقس سرّي.. أ من أتباع تيرانس ماكينا الفيلسوف الذي يدعو للعود إلى الديانات الشامانيّة الأولى في مواجهة حضارة الغرب العقلانية التي عملت و منذ ديكارت على نزع الحسّ بالمطلق لدى الانسان...

***

الحجّ إلى أمستردام لحظة في حياة شباب أوروبا الباحث عن الحريّة و التحرّر، و الحج إلى أمستردام رمز الضياع إلى هنا هرب قبل قرون روني ديكارت أقام في حي الجزارين في شارع كالفر شتراسا قريبا من ساحة الدام

شباب ثورة ماي 1968

واليوم بدأت تغرب صورة هولندة الكلاسيكية الناس تشتري الحليب المصنّع في العلب، والجبن المصنّع حسب مواصفات وحدة الاتحاد الأوربية في لوكسمبورغ، البقر الهولندي الأرقط بالبقع البيضاء و السوداء تراه يهيم سئما في الحقول كما يغنيه جاك بريل في قصيدته الرّائعة هو أسطورة الفلاحين في حقول الشمال الافريقي من تونس إلى السنغال..