(عن مدينة الإسكندرية)

يوسف بزي
(لبنان)

يوسف بزييكتب الشاعر قسطنطين كفافي
(بترجمة الشاعر سعدي يوسف)
(الإسكندرية 1863 - 1933):
"وأنت تزمع الرحيل إلى إيثاكا
فلتصلّ من أجل أن يكون الدرب طويلاً
مليئاً بالمغامرات والتجاريب.
لا تخف الليستريغونيين والسيكلوبات
وبوزايدون الغاضب
فلن تراهم، ما دمت متسامي الفكر
وما دامت عاطفة نادرة تلمس روحك وجسدك
انك لن تلقى الليستريغونيين والسيكلوبات
وبوزايدون الغاضب، إلا إذا حملتهم في روحك
وإلا إذا نصبتْهم روحُك أمامك.
تمنّ أن يكون دربك طويلاً
أن تدخل في أسحار صيف عديدة
-وبأي امتنان وأي فرح -
مرافئ تُرى للمرة الأولى
وأن تتوقف عند مراكز التجارة الفينيقية.
فتشتري بضاعة طيبة
أصدافاً ومرجاناً وعنبراً وأبنوساً
وعطوراً شهّاء شتى، قدر ما تستطيع
أن تزور مدناً مصرية عديدة
وأن تجمّع معرفة العارفين.
لتكن ايثاكا، دوماً، معك
ان بلوغك إياها، لهو مصيرك
لكن لا تسرع الرحلة في الأقل
والخير أن تستمر الرحلة أعواماً
كي تبلغ الجزيرة شيخاً
غنياً بما كسبته في الدرب
غير متوقع من ايثاكا أن تهبك الغنى
لقد وهبتك ايثاكا الرحلة الرائعة
وبدونها لم يكن بإمكانك الرحيل
وليس لديها ما تهبك سوى هذا

ان وجدت ايثاكا فقيرة، فهي لن تخدعك
إذ غدوتَ من الحكمة في هذه التجربة
بحيث فهمت، فعلاً، معنى هذه الايثاكات".

.. لكن كفافي لم يغادر الإسكندرية، لم يذهب في رحلة إلى تلك الجزيرة. بقي هناك في الأحياء الوارفة الظلال بين شقته المتوارية في زاروب خلف كنيسة قديمة، والمقهى، وكورنيش البحر.. وتلك المطاعم الصغيرة، الأليفة المنتشرة على طول شاطئ المرفأ الشرقي.
عاش كفافي في المكان ذاته، يضنيه التوق للسفر إلى "ايثاكا" بعيدة في الزمن لا في الجغرافيا. قضى عمره كله يكتب القصائد التي تقطر شغفاً وتعلقاً بتاريخ قديم، بماض هلينيستي يعود إلى ألفي عام. لم يخطر في بال الشاعر اليوناني أبداً أن زمنه هو ومدينته نفسها سيتحولان إلى "ايثاكا" معاصرة عصية على البلوغ.. حلم يوتوبي يبعث على ذاك الحنين العميق.
لم يخمن كفافي أن نزوعه إلى تجميد ماضي الإسكندرية البطليموسية والإسكندرية المنارة العجائبية واسكندرية قيصر وكليوباترا والمكتبة الأسطورية، إسكندرية الوثنيين والمسيحيين واليهود والفيثاغوريين في لقائهم النادر والأخير.. سيغدو هكذا معدياً إلى هذا الحد، فتكون إسكندرية كفافي هذه المرة، إسكندرية الايطاليين واليونانيين والهولنديين واللبنانيين والمصريين والمالطيين واليهود والإنكليز والمغاربة... مصدراً جديداً للحلم وسبباً جديداً لتجميد ماض انصرم منذ زمن قليل، وموطناً لنزوع جديد نحو حنين لا فكاك فيه.
إسكندرية كفافي، التي عاشها، وباتت الآن خرافية، ومصدر إلهام أو تحسّر، هي اليوم  - بالنسبة لنا  - الرحلة في الزمان وفي المكان.
انها مشوارنا الطويل لملاقاة تلك الحكمة الغنية أو اكتسابها. الحكمة المفقودة في عالمنا "المعولم"، حكمة التعايش والتسامح، التواصل والتلاقي.. الحكمة القديمة التي صنعت السفن وجعلت البحر الأبيض المتوسط طريقاً لا حدوداً.
نذهب لنصل إلى المدينة ـــ الميناء التي باتت يوتوبيا مرتين. مرة في العالم القديم ومرة ثانية في عالمنا المعاصر. فهنا اجتمعت الأسطورة بالحقيقة، الرموز بالوقائع. مطرح جمع فعلياً جنسيات العالم في بؤرة واحدة.. وبالتعايش. وبالطبع كان ثمة اسكندريات كثيرة هنا. إسكندرية الإىطاليين، واسكندرية المشرقيين، واسكندرية اليونانيين، واسكندرية المصريين الخ. بل وبالطبع كانت هناك فروق طبقية واجتماعية داخل كل جنسية.. هذا أيضاً شكل فرصة تاريخية للمزج الطبقي بين تلك الجنسيات المختلفة. فرصة نادرة لـ"المصالحة".
لم يحدث هذا بالصدفة. فربما كان مرجع التعايش وسط الاختلاف كامناً في طبقات تاريخ المدينة وذاكرتها القديمة: الحقبة الإغريقية، الحقبة الرومانسية (الرومانية  - الهيلنية)، الحقبة المسيحية ثم الإسلامية. كل هذا جعل منها "ضميراً" ومرجعاً ثقافياً وحضارياً، خصوصاً في مطلع القرن العشرين وفي مراحل حروبه الكونية وعصبياته القومية.
الإسكندرية في نموذجها الفريد للتعايش بين الجنسيات والأعراق والأديان، في زمنها السحري ذاك، تشكل اليوم مصدراً للحنين ولتوليده. الحنين إلى المدينة "الإنسانية"، حيث اليوتوبيا تداعب الواقع باستمرار.
اقتفاء لنصيحة الشاعر كفافي، نسعى في الرحلة بحثاً هذه المرة عن "ايثاكا" الإسكندرية، لنكتسب التجربة، من دون أن ننخدع ومن دون أن نصاب بالخيبة: سبعة أيام في المدينة المعيوشة اليوم تستحق بدورها كل هذا العناء، أقله من أجل التخلّص من الأوهام.
من المطار القابع جنوب الإسكندرية إلى الفندق عند الكورنيش البحري في شمالها، تأخذني السيارة ليلاً عابرة عمق المدينة كلها. وفي العتمة الموشاة بالأضواء الكهربائية كنت ألاقي مشاهد المدينة للمرة الأولى. مكان مصري ـــ عربي: مبان حكومية ضخمة وصماء وقبيحة، ثكنات عسكرية كبيرة بأسوارها وبواباتها الكبيرة، سيارات عتيقة بكثرة، دكاكين في كل مكان وباعة جائلون وأحياء شعبية ضيّقة بفوضاها، خليط من الأصوات المألوفة لديّ، أنا المعتاد على فضاءات المدن العربية.
ما إن نطلّ على الكورنيش حتى يطرأ بعض التغيير على المشهد العمومي: بعض الأناقة القديمة، أبراج حديثة متعالية متلألئة، مشاة متنزهون، مقاه مضاءة، أسماء فنادق متتالية، دوريات شرطة هادئة، رائحة بحر وقوارب صيد صغيرة، هواء ربيعي منعش وقلعة من أيام المماليك تربض عند نهاية لسان البر حيث خيّل إليّ مشهد هزيمة انطونيو وهزيمة نابليون.

يصيبني الأرق. من أين سأبدأ في المدينة: المكتبة الجديدة الفخمة؟ الكورنيش؟ منزل كفافي؟ الوسط التجاري التاريخي؟ الأحياء الشعبية القديمة أم الأحياء العشوائية الجديدة؟ بالسيارة أم مشياً على الأقدام؟ أين هو "مفتاح" المدينة السحري؟ آه، "الناس أيها الغبي" أقول في سريرتي. أهبط إلى بار الفندق المتواضع: رجل اسكندراني وقد أخذ منه السِّكر مأخذاً، متأنق وفق موضة قديمة تعود إلى السبعينات على الأرجح، كما وأنه مستغرق بالحديث بلغة فرنسية، بدت بدورها قديمة، مع سائح جزائري يجيد تلك اللغة. ظهر الأمر وكأنها فرصة لهذا الاسكندراني الذي يبدو سليل "الأفندية"، ليتكلم مع شخص يجيد لغة لم يعد أهل المدينة يألفونها. وهو كان حزيناً يسعى إلى استعادة ذكريات منصرمة تحت وطأة حنين استثنائي. هذا ما دفعه على نحو مفاجئ إلى إعلاء صوته شاتماً عبد الناصر وثورته "خرب بيوتنا".
النادل أكد أن هذا دأب الرجال الذين تخطوا عمر الستين، الذين يواظبون على السهر في هذا البار. والنادل بدوره تحسّر على "أيام زمان"، هو الذي لم يتعدّ سن الأربعين. وهو إذ استرسل في كلامه بدا أن "الحنين" متمكن من أهل المدينة، لا يفارقهم: "كل الناس هنا تتأسى على الأيام الحلوة.. قبل خمسين سنة".
في الصباح، أبحث عن أدباء الإسكندرية، ادوار خراط يعيش في القاهرة. إبراهيم عبد المجيد يقيم أيضاً في القاهرة. الشاعر أسامة الديناصوري هاجر. محمد متولي يعيش منذ سنوات في أميركا. لم يبق سوى علاء خالد من الذين أعرفهم. انه يقبع داخل محل لبيع الأنتيكا والارتيزانا وبعض اللوحات الفنية. يقول لي إنه سيلقاني بعد يومين، لنتحادث: "إذهب أولاً إلى أنحاء المدينة وتجوّل، إذهب إلى الانفوشي، والجمرك، والسيّالة ومنطقة بحري وكوم الدكة وشارع فؤاد، ومنطقة الرمل، وشارع صفية زغلول وميدان محمد علي، المنشية، الابراهيمية، حي العطارين، سموحة، منطقة رشدي.. بعدها تعال لنرى كيف سنرسم الإسكندرية الحاضرة". عند باب المحل قال مودعاً، بمسحة ساخرة "لن تجد كفافي ولا اسكندريته، ولا حتى تلك التي وصفها لورنس داريل أو التي يتذكرها ابراهيم عبد المجيد أو التي يؤلفها ادوار الخراط..".
أعود إلى الكورنيش متخلّصاً من الزحام: عربات تجرها أحصنة تبحث عن السائحين أو طالبي التسلية وربما أيضاً العشاق الذين يودون تحقيق "مشهد رومانسي" حسب مخيلة سينمائية فائتة. كورنيش وقد تحول منذ سنوات قليلة إلى أوتوستراد عريض، طريق سريع يحوز على طول الخط البحري! أين اختفى الشاطئ الرملي الشهير. لقد حذفوه تقريباً. قطع باطونية هائلة لصد الأمواج، وبعض العنيدين من هواة الصيد بالقصبة، ومنشآت خاصة (نوادي نقابية).. ولا شاطئ كذاك الذي كنا نراه في الصور السياحية القديمة وفي الأفلام العربية الرومانسية القديمة.
أنشأوا الأوتوستراد وألغوا البحر. فاصل مرعب من ثمانية خطوط لسيارات مسرعة على نحو جنوني ذهاباً وإياباً، بين مياه البحر والمدينة. ولم يبقَ من الكورنيش القديم سوى ذلك الجزء الممتد من محطة الرمل وحتى الميناء الشرقي. استعداء غرائبي للشاطئ. وعلى الرصيف الحديث قلة قليلة فحسب تمارس رياضة المشي أو التنزه. ثم الجسر الذي علقوه فوق البحر أبعد أكثر الواجهة البحرية عن الشاطئ المغيّب. السيارات لاهثة ولا سفن تعبر في الأفق.
أتوغل في الأحياء عشوائياً، انني في منطقة رشدي، شارع غاربو ثم شارع سابا باشا وصولاً إلى شارع أبوقير. ولا جهد كبير في رؤية سيرته العمرانية: عشرات القصور البديعة التي تم بناؤها على الأرجح ما بين أواخر القرن التاسع عشر وبداية الخمسينات من القرن العشرين. طرز هندسية تكاد تختزل ذاكرة الهندسة كلها وجنسياتها. كان يكفي لو وجدنا قصراً يابانياً وآخر هندياً لنقول إن هذه المنطقة تحوي متحفاً لعمارة العالم. متحف هائل.. لكنه مهمل. القصر الأكثر مهابة بات مخصصاً لرئاسة الجمهورية، أما الآخر المجاور له، "قصر جليم" بحديقته الشاسعة الميتة فيبدو أن أحداً قد قرر أخيراً ترميمه. بقية العشرات من القصور متروكة للإهمال ولقسوة الزمن والعوامل الطبيعية المخربة، فيما نجا قصر الملكة فريدة بتحوله متحفاً للمجوهرات الملكية. فيلات كثيرة أيضاً وقصور، مهجورة خربة.. كما لو أن سكانها اختفوا دفعة واحدة وعلى نحو كوارثي.
إلى جانب هذه الحقبة الهندسية، ومن الواجهة البحرية والى الداخل، تنتشر العمارات، والمباني التي شُيّدت ما بين الخمسينات والسبعينات. موجة كاسحة من العمران "الاشتراكي" المتقشف والفقير والخالي من التذويق أو المخيلة وبمواد قليلة الجودة سيئة الصنع، ما أحالها بدورها إلى التآكل والاهتراء. أما الصدأ فلا يعلو المعادن فقط بل الحجر والخشب أيضاً. صدأ مادي قاس يهيمن على كل شيء ويحيله إلى خراب مسكون. بنايات متواضعة، ليست قبيحة تماماً لكنها تفتقر إلى الجاذبية، وقد أصابها الهرم المبكر.
على جنبات القصور البديعة والبنايات المتواضعة تنبت منذ الثمانينات عمارات الأثرياء الجدد. هندسة متأتية من مقاصد الربح السريع وثقافة التبجح الوقحة وتأثيرات "الثقافة الخليجية" المطعّمة على نحو مبتذل بأثر الذاكرة العمرانية الكولونيالية للمدينة. أبراج جديدة بلا هوية، متكاثرة كالفطر، متكبرة وبشعة يقطنها الذين استفادوا وتسلقوا ونجحوا في حقبة "الانفتاح" الساداتية، والتي أتاحت للانتهازية أن تتحول أسلوباً اقتصادياً.
انه العمران الذي في "مرحه" الهندسي يتحول إلى استفزاز منفر. وأنا انتبهت بغتة، إذ كنت أتأسف على ما هو عتيق آيل للسقوط وأستهجن هذا الجديد، كنت في اللحظة عينها أشعر بالحنين، برغبة عارمة للعودة بالزمن مئة عام، أو خمسين عاماً. لقد أصبت أنا أيضاً بما أصاب أهل المدينة: التفكر العاطفي بالماضي واستدعاؤه على نحو دائم. كما لو أن احتمال العيش في هذا المكان مشروط بإقامة علاقة حميمة مع ما انصرم وانقضى واندثر. وتحت وطأة هذا الشرط بدأت "أحب" إسكندرية وفق ما يفعل عشاقها أمثال أستاذ علم النفس الشهير مصطفى صفوان "لا يمكنني أن أرى الإسكندرية اليوم من دون التفكير في إسكندرية العشرينات والثلاثينات والأربعينات: المدينة أصبحت ضحية الكثافة السكانية والتدفق من الأرياف. تنقصها الصيانة (...) الإسكندرية بلد أحببتها إلى درجة أننا في تعريفنا لأنفسنا نكتفي بالقول أننا اسكندريون. وإنني أتمسك بتلك الجملة الشعرية "العروس". لقد كانت مدينة في غاية السعادة".
أنظر إلى الخريطة فتبدو المدينة كأنها مرتكزة على ثلاثة خطوط متوازية: طريق ساحلي ممتد من الشرق إلى الغرب، ثم شريط المترو (الترامواي) الذي يخترقها بالعمق وأيضاً من الشرق إلى الغرب، ثم خط القطار الذي يوصلها بأنحاء مصر.
يبدو المترو (الترامواي) كإبرة ماكينة الخياطة، ينسج باستمرار وكل يوم قماشة المدينة، أو هو يرتق أجزاءها ومطارحها المتباعدة. انه أيضاً جهازها العصبي وعمودها الفقري. كما لو أن المدينة أُنشئت أصلاً من أجل الترامواي لا العكس. ربما هذا صحيح إلى حد ما. ففي العام ،1900 عندما بدأت تتحول الإسكندرية من مجرد مرفأ إلى العاصمة الاقتصادية لمصر وشرق المتوسط.. تم البدء بإنشاء خط المترو هذا، ولتصير محطته في منطقة الرمل، وبزمن وجيز، مركز الثقل للمدينة، وحواليها ستتمركز الأنشطة الأساسية. ومن أجل الترامواي هذا سيكون الميدان الفسيح وستأتي القنصليات وتتمركز حوله ويتم بناء المباني الجليلة لتحتضن المصالح والشركات، وغرفة التجارة المهيبة، وستظهر الفنادق الأفخم والأجمل "سيسيل" العريق، و"سان ستيفانو" بالكازينو الملكي خاصته.
أذهب إلى خط المترو منتظراً عرباته في إحدى محطاته الفرعية التي أعادوا ترميم منشآتها وفق طرازها الكولونيالي الغابر. تصل العربات المتسخة، المتهالكة. أحاول الدخول فتصيح سيدة محجبة سمينة تحيط نفسها بأكياس بلاستيكية كثيرة "لا يجوز". لم أفهم إلا عندما أشارت امرأة محجبة أخرى أن أصعد عربة أخرى. الاختلاط مسموح في كل العربات، لكنهم خصصوا مقصورة واحدة للنساء اللواتي يخشين الاختلاط ويتجنبنه. العربات تبدو شبيهة بتلك التي لا تزال تعمل في دول أوروبا الشرقية، الاشتراكية سابقاً. انها من زمن "الثورة" إذاً. لكن المحطات التي تستعيد صورتها السابقة للثورة الناصرية، تدلنا مرة أخرى على رغبة في "العودة" إلى زمن سابق. أو استعادة رونق ما على الرغم من أن راكبي الترامواي بعيدون عن القيافة المفترضة براكبيه القدماء. الفقر وقلة التدبير والهلهلة طاغية على صورة الترامواي وناسه. الطريق يأخذنا من منطقة سان ستيفانو إلى رشدي، إلى سيدي جابر وشارع الحرية وصولاً إلى الرمل. أكثر من ساعة ونصف الساعة لاجتياز تلك المسافة ببطء وتوقف متكرر، والطريق مزيج من أحياء شديدة الفقر والاتساخ والضوضاء وأحياء طبقات وسطى لا تخلو من الإهمال وأحياء تشي أنها كانت "أجنبية" وقد استوطنها وافدون من داخل مصر لديهم فكرة مختلفة عن السكن ووظائفه. وهذا الاختلاف يحيل الأبنية "الأجنبية" إلى صورة أخرى، كأن نتخيّل قصراً فيكتوري الطراز وقد تحوّل إلى كاراج لتصليح السيارات.

هذان التشوش والفوضى اللذان يربكان العين، يدفعاننا إلى الظن بأن المدينة تم احتلالها ـــ من دون حرب ـــ فتم التصرف بها، وفق ما يفعل "الغزاة" بالمدن المستباحة.
في محطة الرمل، ما إن أهبط من المقصورة، حتى يقترب شاب هامساً "نصرّف دولارات". شاب آخر لمسح الأحذية، وآخر يعرض عليّ قياس وزني (مهنة غريبة ولا شك). تحيط بالمحطة أكشاك مرتبة لبيع السندويشات والكتب والمجلات والألبسة.. الخ. وعلى الرصيف المقابل شابات وشبان وعائلات تتوزع بكثافة على المطاعم الأميركية (الفاست فود) والمحلية ودكاكين البقالة والمقاهي الشعبية. واللافت للنظر تلك العادة التي يتبعها الجميع: الوقوف أمام الدكاكين وشرب المشروبات الغازية وتناول أكياس البطاطا المقلية (التشيبس). أما الظاهرة المستجدة فهي تتمثل بشاب يضع لافتة صغيرة من كرتون كتب عليها "تلفن براحتك.. دقيقة الخلوي بـ3 جنيه" وقد حمل جهاز التلفون الخلوي ملوّحاً به للمارة.
أبحث عن مقهى يقدم قهوة الاكسبرسو. فأكتشف أجمل المقاهي في العالم، باريسية ـــ إيطالية ـــ يونانية الطراز. ويتجاوز عمر كل واحدة منها المئة عام أو الستين عاماً: فسيحة، مزينة ومزخرفة وفق الاغريقية الكلاسيكية، أو طراز الروكوكو، أو الكلاسيكية الجديدة، أو المهجنة بين ما هو حداثوي وروماني، أو مستلهمة ديكورات المقاهي الفرنسية في القرن التاسع عشر. مقاه تستحضر أجواء أوروبا من بوهيميا إلى لندن، ومن أثينا إلى مدريد. بديعة وفائقة السعة، مع ذلك هي اليوم خربة، يأكلها العتق، متهالكة على الرغم من العناية بها، فارغة من الزبائن تقريباً. فعدد زبائنها لا يوازي عدد زبائن "بيتزا هات" القريب. ولا اكسبرسو.. يأتيني الأسى مجدداً من الإحساس بالغياب والفقدان ومشاعر الخسارة والموات على الرغم من امتلاء الأرصفة والشوارع والمحال بالناس والسيارات والصخب المديني القوي.
يبدو أن الحنين لا مفر منه. "ديليس"، "اثينوس"، "تريانون"، "فينيسيوس"، "بسترودس"، أسماء تلك المقاهي ـــ المطاعم التي لا تزال قادرة على إحالتنا إلى صورة متخيّلة، وحقيقية في آن، لحقبة مجيدة لا سبيل على ما يبدو للعودة إليها.
إذاً، لم تحتج مدينة الإسكندرية إلى حرب معلنة ليحتلها "المهجرون" على نحو ما حدث في بيروت، ويقوضوا صورتها ويبدلوا اجتماعها وحياتها، ويستبدلوا مزاجها المديني بآخر ريفي ملتبس، ويغيروا وجهتها وعمرانها وإيقاعها.
لم تحتج الإسكندرية إلى جهد كبير لتنتقل من حال إلى حال. كان يكفي أن تخسر مصر غرباءها وأجانبها حتى تغدو الإسكندرية هكذا، متحفاً هائلاً للحنين في حجم مدينة. فهناك أمام البحر المتوسط، عند الشاطئ الطويل، ترقد الآثار الحية لـ"اندلس" أخرى مفقودة. مدينة حقيقية ومع ذلك لا يمكن تعريفها إلا بوصفها مدينة متخيّلة وخرافية.
"خرافة" أخرى، كانت الإسكندرية، وتم تقويضها في زمن وجيز. في زمن الوطنيات والاستقلالات، كان عليها أن تدفع ثمن التباس هوياتها وهجناتها. كان عليها أن تتخلى عن "عالميتها" أو حتى "متوسطيتها" لتغدو مصرية خالصة، فتفقد كل ما كانت عليه. تفقد سكانها وتطلعاتها واقتصادها وثقافاتها ودورها. كان عليها أن تتنازل عن استثنائيتها ورونقها، وتندرج في قائمة التأميمات القومية وتعميماتها واختزالاتها.
هكذا تم انهيار "منارة" الإسكندرية مرة ثانية. فالعجائب، على ما يبدو، لا تدوم طويلاً.
أعود إلى الشارع. أجتاز "سيسيل" الأبيض الكلسي اللون، وميدان سعد زغلول ماراً ببسطات الكتب على الأرصفة وأقرأ العناوين "التخلص من الجن والعفاريت"، "الأميرة التي هزّت عروش الخليج"، كتب كثيرة، رخيصة إما عن الدين أو الأبالسة أو فضائح الفنانات، أو التداوي بالسحر.. الخ.
أرفع نظري لأجد "بن البرازيل". أخيراً فنجان اكسبرسو حقيقي. المحل بسقفه العالي مزيّن بمرآة ضخمة رسم عليها علم برازيلي كبير وثمة كتابة تقول إن القنصل البرازيلي حضر افتتاح المحل عام 1929. رفوف من الأرض إلى السقف فارغة، إلا من علبة كرتونية كبيرة تبدو منسية منذ 70 عاماً أو 50 عاماً على أقل تقدير. آلات الطحن والتحميص تشبه دبابات الحرب العالمية الثانية. عتق "كافكاوي"، إذا صح التعبير، أما الرجل الجالس عند صندوق المحاسبة بنظاراته السميكة فيبدو أنه على عتبة الثمانين من عمره. كان لونه شبيهاً بالرخام والمرمر الذي يكسو بار المحل: أبيض مضروباً بالبني. لا شيء حدث منذ العام 1929 وحتى الآن في هذا المحل، فقط دخولي إليه ربما كان الأمر الوحيد الذي دلّ على جريان الزمن.

عن موقع : www.babelmed.net/index.php?menu=31&lingua=fr