هاشم صالح
(سوريا/فرنسا)

لكي نفهم ما يجري حالياً من صدام بين الحركات المتزمتة والغرب من المفيد أن نعود إلى تلك المناظرة الشهيرة التي جرت بين جمال الدين الأفغاني والفيلسوف الفرنسي إرنست رينان قبل قرن وربع القرن تماماً: أي عام 1883. من المعلوم أن رينان كان آنذاك في أوج مجده على الرغم من أنهم طردوه من الكوليج دو فرانس، قدس أقداس الجامعة الفرنسية. لماذا؟ لأنه طبق المنهج التاريخي على المسيحية بشكل صارم وشكك في ألوهية يسوع المسيح على الرغم من اعترافه بأنه أعظم شخص ظهر على وجه الأرض أو من أعظمهم على الأقل. وهكذا هيَّج عليه التيار الأصولي الكاثوليكي الذي فصله فوراً من التعليم وعلَّق دروسه لفترة على الأقل. بل ويقال بأن هذا التيار نزل إلى الشارع في مظاهرة عنيفة في الحي اللاتيني وهدد بقتله لأنه تجرأ على تطبيق المنهج التاريخي على الشخصية المركزية للدين المسيحي وشكك في العقائد الأكثر رسوخا. وهنا تكمن المشكلة الكبرى بين المتدينين الدوغمائيين والفلاسفة. فالأولون سجناء العقائد الموروثة المفروضة من فوق دون نقاش، والأخيرون لا يستطيعون أن يؤمنوا إلا بما يبرهن عليه العقل.

وفي ذات الوقت راح رينان يشن هجوماً عنيفاً على الأصولية الإسلامية ويتهمها بأنها سبب تخلف المجتمعات الشرقية وخروجها من التاريخ: أي تاريخ الحضارة والعلم والتقدم. يقول رينان مشخصاً أمراض العرب والإسلام في محاضرته الشهيرة عام 1839، والتي اتخذت العنوان التالي" العقيدة الإسلامية والعلم"، جاء فيها "إن أي شخص مطلع ولو قليلاً على أحوال عصرنا يعرف مدى تدني مستوى البلدان الإسلامية بالقياس إلى أوروبا ومدى الانحطاط الذي أصاب الدول المحكومة من قبل الإسلام ومدى الخواء الفكري للشعوب التي تستمد من هذا الدين فقط ثقافتها وتربيتها. كل أولئك الذين زاروا بلاد الشرق أو أفريقيا الشمالية صدموا بمدى محدودية عقل المؤمن الحقيقي هناك. لقد صدموا بذلك النوع من القفص الحديدي الذي يحيط برأسه من كل الجهات ويجعله مغلقا كليا على العلم وعاجزا عن استيعاب أي شيء مختلف أو الانفتاح على أي فكرة جديدة. في الواقع إن الطفل المسلم يكون يقظ الروح حتى سن العاشرة أو الثانية عشرة مثله في ذلك مثل بقية الأطفال في العالم. ولكنه بدءا من تلك اللحظة يتحول فجأة إلى متعصب ظلامي بسبب التربية الدينية التي يتلقاها والتي تملؤه ثقة بالنفس وتشعره بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة من دون جميع البشر. وعندئذ يشعر بافتخار شديد لا مثيل له، يشعر بالاعتزاز والتمايز عن كل الشعوب والأمم. ولا يعود يشعر أنه بحاجة إلى بحث أو علم أو تجريب. فلماذا يبحث أو يتعلم شيئا جديدا إذا كان يمتلك الحقيقة المطلقة بين يديه؟ لماذا يبحث عن الفهم إذا كان قد ختم العلم؟ ولكنه لا يدرك أن في مفخرته هذه يكمن مقتله..." انتهى كلام رينان.
وعندما يعترض عليه أحدهم قائلا بان الاسلام لم يكن دائما هكذا وانه شهد العصر الذهبي للعلم والفلسفة أيام العباسيين والفاطميين والأندلسيين عندما كانت أوروبا، التي يفتخر بها وبحق، تغط في نوم عميق يرد فورا : "هذه الفترة التي تتحدثون عنها لم تكن إلا فاصلا قصيرا في تاريخ العرب والإسلام. وهي ناتجة عن تأثير العبقرية الفارسية في ظل العباسيين ، وعن الإرث الفلسفي الإغريقي، وعن الدور الذي لعبه المسيحيون العرب في وادي الرافدين. باختصار شديد، هي ناتجة عن كل ما ليس عربيا ولا إسلاميا..صحيح أنه ازدهرت في تلك المنطقة ثقافة كبرى ولكنها لا تدين بأي شئ للإسلام. على العكس فان الفلسفة العربية أو المكتوبة باللغة العربية نشأت كشئ مضاد للإسلام. ولهذا السبب فان الفلسفة بقيت غريبة عند المسلمين، لقد ظلت أجنبية دخيلة. نعم لقد كانت تلك الفترة محاولة مجهضة وبلا عواقب أو تأثير على التربية الفكرية لشعوب الشرق. فبعد القرن الثالث عشر حصل ضدها رد فعل فقهي أو لاهوتي أدى إلى تدميرها". ) الإشارة هنا واضحة إلى الغزالي وكتابه العنيف ضد الفلاسفة، أي تهافت الفلاسفة، وكل عصور الانحطاط التي تلت.(
ثم يتهم رينان الأصولية بأنها اضطهدت دائما العلم والفلسفة في كل البلدان التي انتشر فيها الدين الإسلامي إلى درجة أنها خنقتهما. وسادت عندئذ عقلية التسليم والتواكل والانغلاق الفكري والتكرار والاجترار. والليبراليون الأوربيون الذين يدافعون عن الإسلام لا يعرفونه جيدا. فالإسلام هو الاتحاد المنصهر بين الروحي والزمني أو الديني والدنيوي. انه يعني هيمنة العقيدة التي لا تناقش ولا تمس على كل شيء في المجتمع. إنه السلاسل والأصفاد الثقيلة التي لم تشهد لها البشرية مثيلا من قبل. وبالنسبة للعقل البشري فان الأصولية الإسلامية لم تكن الا ضررا ماحقا على مدار التاريخ... لقد جعلت من البلدان التي فتحتها ساحة مغلقة ضد الثقافة العقلانية للروح.

ثم يصل الأمر برينان إلى حد القول بأن ما يميز المسلم عن غيره هو كرهه للعلم واعتقاده بأن البحث العقلاني شيء ضار، تافه، بل وحتى كافر تقريباً. فالبحث في العلوم الطبيعية مثلاً، أي اكتشاف القوانين الفيزيائية والرياضية للكون، يعتبر في نظر الشيوخ تطاولاً على القدرة الإلهية. والبحث التاريخي أيضاً لا معنى له لأنه إذا ما طبق على الفترات السابقة على الإسلام فانه قد يعيد الأخطاء القديمة ،أي الجاهلية، إلى سابق عهدها... ثم يصرخ رينان قائلا ومستفزا: لقد انتصر الإسلام ويا للكارثة، كارثته هو قبل الآخرين. فبقتله للعلم قتل نفسه وأدان ذاته بموقع الدونية الكاملة قياسا إلى الآخرين. ينبغي العلم بأن الأصولية الإسلامية تقمع مناطق شاسعة واسعة من العالم حاليا وتكرس فيها الفكرة المتخلفة الأكثر عداء للتقدم: ونقصد بها الفكرة القائلة بأن الدولة تستمد شرعيتها من وحي مزعوم وأن اللاهوت الديني هو الذي يحكم المجتمع أو ينبغي إن يحكمه...وهذا وهم بالطبع ولكنه وهم جبار يتحكم بعقلية الملايين. وبالتالي فان انبعاث البلدان الإسلامية لن يكون عن طريق الإسلام وإنما عن طريق إضعاف الإسلام أو تحجيم تأثيره على العقول.
هذه هي باختصار شديد أطروحات رينان الشهيرة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها حتى هذه اللحظة. ولكن قبل أن ندخل في سياق نقدها وتشريحها ينبغي أن نموضعها ضمن سياقها التاريخي لكي تفهم على حقيقتها. وقبل أن نعطي حق الكلام لجمال الدين الأفغاني بل ولكي نثبت مسبقا مدى ذكاء رده وعمقه فإننا سنقول ما يلي: لقد كتب رينان هذه الكلمات في عز القرن التاسع عشر، أي عندما كانت أوروبا تهيمن على العالم كله بعلمها وحضارتها وفلسفتها وتكنولوجيتها. وعندما كانت بقية شعوب العالم تعيش حالة التخلف والبدائية والفقر والجهل. لقد كتبه عندما كانت أوروبا واثقة من نفسها إلى حد الغرور وعندما كانت العرقية المركزية الأوروبية تسيطر على عقول كبار المفكرين بمن فيهم كارل ماركس... في ذلك الوقت كان علم الأنثربولوجيا يقسم البشرية إلى أعراق عليا وأعراق دنيا، أعراق قادرة على صنع الحضارة وأعراق عاجزة، أعراق خلقت للتقدم وأعراق لم تخلق له... ولهذا السبب قال رينان بأن الفرس هم الذين صنعوا الحضارة الكلاسيكية لا العرب لأن الفرس بحسب التصنيف الأنثربولوجي السائد ينتمون إلى العرق الهندي الاوروبي لا العرق السامي المتخلف الذي يشمل اليهود أيضا وليس فقط العرب.. ولهذا السبب أيضا قال بان المسيحيين ساهموا في نشر الفلسفة الإغريقية في منطقة وادي الرافدين لا المسلمين لان المسيحية في رأيه دين حضاري على عكس الإسلام ناسيا ان المسيحية قضت على الفلسفة أيضا وحاربتها لمدة عدة قرون بل وحاربته هو شخصيا وأوقفت دروسه في الكوليج دو فرانس كما ذكرنا آنفا. لكن رينان بسبب شهرته وعلمه الغزير استطاع أن يرسخ هذه الأفكار التي لا تزال مسيطرة على جماهير الغرب حتى هذه اللحظة. وبالتالي فمؤسس صدام الحضارات ليس صموئيل هانتغتون ولا حتى برنارد لويس على عكس ما نظن دائماً وإنما هو ارنست رينان أستاذ الغرب وفيلسوفه (1823-1892).
كل النظرة السلبية السوداء السائدة عن الإسلام والمسلمين والعرب في الغرب حالياً تعود في جزء كبير منها إلى تلك المحاضرة الشهيرة لأرنست رينان. لا ريب في أن تخلف المجتمعات العربية والإسلامية قياسا إلى المجتمعات الأوروبية خلع مصداقية كبيرة على أطروحات رينان ليس فقط في أوساط المثقفين الفرنسيين وإنما أيضا في أوساط قسم كبير من المثقفين العرب الذين ضاقوا ذرعا بالتقليد الخانق والفهم الجامد والقمعي للدين..ولا ريب في أن التفجيرات الإرهابية الكبرى في نيويورك، ومدريد، ولندن، وشرم الشيخ، وبالي، الخ... ساهمت في ترسيخها وتعميقها على أوسع نطاق. ولكن النواة الأساسية بخطوطها العريضة كانت موجودة سابقاً.

وقد شاءت الصدفة أن يكون جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده لاجئين في فرنسا آنذاك بعد أن هربا من ملاحقة الاستعمار الإنجليزي لهما في مصر. ومعلوم أنهما أسسا مجلة "العروة الوثقى" في باريس. وقد رد الأفغاني على محاضرة رينان بتاريخ 18 مايو/أيار عام 1883: أي بعد صدورها مباشرة تقريباً. وكان رده من الجرأة والذكاء والصراحة بحيث أنه أحرج ليس فقط رينان وإنما المسلمين أنفسهم أيضاً! ولهذا السبب فإن محمد عبده لم يتجرأ على نشر الترجمة العربية لرده في مصر خوفاً من عواقبها. فما الذي قاله الأفغاني في ذلك الرد العميق يا ترى؟ نلاحظ منذ البداية أنه لم يكابر ولم يراوغ وإنما اعترف بالحقيقة التي نص عليها رينان: وهي أن الشعوب العربية والإسلامية عموماً تعيش حالة انحطاط وتخلف بالقياس إلى الشعوب الأوروبية. هذه حقيقة لا مراء فيها. وكيف يمكنه أن ينكر ذلك ومجرد إلقاء نظرة على كلا المجتمعين كاف للكشف عن مدى التفاوت التاريخي بينهما؟ ولكنه يفسر أسباب ذلك بطريقة مختلفة عن رينان ويرفض أن يلقي بمسؤولية ذلك على الإسلام كإسلام أو على العرق العربي الذي يحتكر التخلف لوحده على ما يبدو من بين جميع الأعراق البشرية!. انه يرفض التفسير العنصري والطائفي الذي قدمه رينان عندما قدم الفرس الآريين على العرب الساميين أو عندما اعترف بالقدرات الفلسفية للمسيحيين في العصر العباسي ونفاها عن المسلمين بشكل تعسفي واعتباطي. نقول ذلك وبخاصة أن معظم الفلاسفة كانوا عربا أو مسلمين أو الاثنين دفعة واحدة. يكفي أن نذكر هنا اسم الكندي أو الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد الخ...
يقول الأفغاني بما معناه: لا أحد ينكر أن العرب كانوا بدائيين في عصر الجاهلية والبربرية والهمجية. ولكنهم انطلقوا بعدئذ، أي بعد ظهور الإسلام، في طريق التقدم الفكري والعلمي بسرعة لا تعادلها إلا سرعتهم في تحقيق الفتوحات الكبرى. ففي خلال قرن واحد استطاعوا أن يهضموا كل مكتسبات العلوم الإغريقية والفارسية تقريباً والتي كانت بلورتها قد استغرقت من هذه الشعوب العريقة عدة قرون..فالعرب على الرغم من فظاظتهم وجهلهم في البداية إلا أنهم استعادوا ما كان مهجورا من قبل الأمم المتحضرة السابقة وأحيوا العلوم المنطفئة جذوتها وطوروها وأغنوها وخلعوا عليها بهاء أو سطوعا لم تشهده أبدا فيما سبق من تاريخها. أليس هذا دليلا وبرهانا على حبهم للعلم؟ ولم يكتف العرب بأخذ العلم والفلسفة عن الآخرين وإنما أضافوا إليها الكثير من عندهم وأبدعوا وطوروا بشكل رائع ومدهش. ثم أضاف الأفغاني قائلاً لكي يفحم رينان هذا الكلام الذي يحلق شاعريا: إن المسلمين هم الذين كانوا السبب في يقظة أوروبا ونهضتها. وأنت أول من يعرف ذلك يا مسيو رينان لأنك ألَّفت أطروحتك الجامعية الضخمة عن ابن رشد والفلسفة الرشدية. فالحضارة العربية هي التي أضاءت بأنوارها ذرى جبال البيرينيه و أقاصي الغرب كله يوماً ما. والأوروبيون لم يفهموا أرسطو ولم يكتشفوه إلا عن طريق العرب وشروحات ابن رشد الكبرى والصغرى. فأين هو قصور العرب إذن كعرق أو كجوهر؟
بقيت مسألة الدين. وهنا نلاحظ أن جمال الدين الأفغاني الذي دافع عن العرق العربي على الرغم من أن أصله أفغاني أو بالأحرى فارسي يدهشنا بعمق تفكيره وكيفية توسيعه لإطار المناقشة إلى أقصى حد ممكن. وهو هنا، وفي هذه النقطة بالذات، يتفوق على رينان على الرغم من عظمة هذا الأخير وغزارة علمه. ولكنه ظل أسير النظرة العرقية أو العنصرية التي سيطرت على القرن التاسع عشر: عصر الاستعمار والاستعلاء الأوروبي بامتياز. ومعلوم أن هذه النظرية سقطت في أوروبا ذاتها الآن على يد كلود ليفي ستروس وبالأخص على يد بيير بورديو وعلم الأنثربولوجيا الحديث كله. وبالتالي فهناك علم الإنسان الكولونيالي، وعلم الإنسان ما بعد الفترة الكولونيالية. والثاني ليس إلا نقدا للأول وتوسيعا لمقولاته أو تعديلا لها على الأقل إن لم يكن نسفا وتفكيكا.
ففيما يخص تأثير الدين على الفكر أو الثقل الكبير الذي يضغط به عليه فان الأفغاني لا يعتبره سلبيا بالضرورة كمرحلة أولى. يقول: لا نستطيع أن ننكر أنه عن طريق هذه التربية الدينية،سواء أكانت إسلامية أم مسيحية أم وثنية، فان جميع الأمم خرجت من مرحلة البربرية إلى مرحلة حضارية أكثر تقدما. ولكن الأفغاني يضيف قائلا ، وهنا يفاجئنا بفكرة ما كنا نتوقعها منه على الإطلاق: لا ريب في أن جميع الأديان متعصبة أو تميل إلى التعصب بطبيعتها. وتصبح بالتالي في مرحلة لاحقة وبعد أن تنتصر وتهيمن عقبة في وجه تقدم العلم. وهنا تتبدى مسؤولية الدين الإسلامي كاملة عن حالة التخلف والانحطاط التي نعيشها. فمن الواضح أنه حيثما ترسخ وسيطر فان هذا الدين حاول أن يخنق العلوم العقلية وقد ساعده على ذلك بكل قوة الاستبداد السياسي الشائع في كل أنحاء العلم الإسلامي. ولكن ينبغي العلم بان الأديان كلها تتشابه أيا تكن أسماؤها ومسمياتها، أو عقائدها وطقوسها..ولا يمكن أن يحصل أي توافق أو مصالحة بين هذه الأديان والفلسفة. لماذا؟ لأن الدين يفرض على الإنسان إيمانه ومعتقده هذا في حين أن الفلسفة تحرره من ذلك كليا أو جزئيا. وبالتالي فكيف يمكن أن يحصل التوافق بين الطرفين؟
بعد أن نقرأ كلمات الأفغاني هذه نكاد نرتجف من الرعب ونفهم لماذا لم يترجم تلميذه محمد عبده النص الفرنسي لمقالته إلى العربية. ولا أعرف فيما إذا كان قد ترجم حتى الآن بحذافيره إلى لغة الضاد. بلى أعرف. لقد ترجم بعضه وأدين فورا من قبل شيوخ الإسلام حيث كفر الأفغاني واتهم بالماسونية والضلال.. ونلاحظ هنا أنه يتفق مع رينان إلى حد كبير ولكنه يختلف عنه في نقطة واحدة: وهي أن التعصب ينطبق على جميع الأديان وليس فقط على الدين الإسلامي. وهنا يبدو لنا الأفغاني أكثر رحابة صدر واتساع أفق من فيلسوف الفرنسيين. فرينان الذي اضطهده الأصوليون المسيحيون بسبب أبحاثه التاريخية الجريئة عن شخصية يسوع وبدايات المسيحية الأولى كان ينبغي أن يكون أكثر عدلا في الحكم على الأديان وأكثر إنصافا فلا يميز بينها من ناحية التعصب أو الانفتاح. فالتعصب موجود في كل الأديان كما قال الأفغاني. ومحاكم التفتيش أنهكت أوروبا في فترة من الفترات قبل أن يحصل التنوير الفلسفي والتقدم العلمي. وبالتالي فالإسلام لا يشكل أي خصوصية أو استثناء على بقية الأديان الأخرى على عكس ما توهم رينان وعلى عكس ما يظن معظم مثقفي الغرب حالياً، بل والعديد من المثقفين العرب أنفسهم.

هنا تكمن حداثة موقف الأفغاني المدهشة والتي لا تكاد تصدق بالنسبة لعصره. فهو يموضع الأمور ضمن منظور المقارنة الواسعة والفترة التاريخية الطويلة لكي يفهمها على حقيقتها. أما الشيء المرعب الثاني فهو أنه يضع أديان التوحيد على قدم المساواة مع الأديان الوثنية! وهذا شيء لا يكاد يصدق ويصعب أن يصدر عن مفكر مسلم في حجم جمال الدين الأفغاني. إنه لا يمكن أن يصدر إلا عن علماء الأنثربولوجيا الحديثين الذين قطعوا مع فكرة الأديان السماوية وأصبحوا يدرسون المقدس في كل تجلياته الأرضية كظاهرة لا يخلو منها أي مجتمع بشري يجد نفسه في مواجهة مشكلة الموت. فلا يوجد مجتمع بشري بدون مقدس كما أثبت علماء الأنثربولوجيا. ولا أعرف في تاريخ الإسلام أحدا تجرأ على مثل هذه النظرة الواسعة للدين إلا محي الدين ابن عربي في أبياته الجميلة والتي لا تكاد تصدق هي الأخرى. فلنحاول أن نستذكرها ونستمتع بقراءتها إلى ما لا نهاية:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني

ولكن هناك نقطة أخرى مهمة في محاجة الأفغاني الرائعة وهنا نصل إلى بيت القصيد: وهي أن المجتمع المسيحي في أوروبا كان أول مجتمع يخرج من مرحلة التعصب الديني والانغلاق ويمشي على درب التقدم والعقل. أما المجتمعات الشرقية أو الإسلامية فلا تزال ترسف في أغلال الاستبداد والتعصب الأعمى والجهل. ومن هذه الناحية لا يسعنا إلا أن نقول: ما أشبه الليلة بالبارحة! ولكن الأفغاني يعتقد أن هذه مرحلة مؤقتة وسوف يتطور المجتمع الإسلامي أيضا مثلما حصل للمجتمع المسيحي. سوف يخرج من دوغمائيته وتحجره يوما ما. وبالتالي فالمسألة مسألة وقت ليس إلا.
على الرغم من كل هذا التفاؤل الإيجابي إلا أن الأفغاني يظل متشائما فيما يخص مصير الصراع بين الدين والفلسفة في المطلق. فهو يعتقد أن الدين سوف ينتصر على الفلسفة أي الفكر العقلاني الحر لأن الجماهير بحاجة إلى التدين الأعمى ولا تستطيع أن تفهم الفكر الفلسفي المعقد بطبيعته. سوف تظل الفلسفة إذن حكرا على الخاصة ومعزولة. وهذا يشبه ما قاله ابن رشد سابقا عن الموضوع عندما حذر من تعليم الفلسفة للعامة وتركها للدين فقط.
ولكن هذا الكلام ينم عن خوف من الجماهير وعدم ثقة بها باعتبار أنها غوغاء رعناء الخ... وهذه نظرة استعلائية قديمة لم تعد صالحة الآن لأن تجربة البلدان المتقدمة في أوروبا أثبتت أن الجماهير يمكن أن تتعلم وتستنير وتفهم العلم والفلسفة إذا ما توافرت لها الظروف المناسبة والتعليم الصحيح. أنظر حالة فرنسا حيث تم تعميم دراسة الفلسفة على كل طلاب المدارس الثانوية دون استثناء ناهيك عن الجامعة. وحتى فيما يخص الصراع بين الدين والفلسفة نلاحظ أن نظرة الأفغاني أصبحت قديمة ومتأثرة بأجواء القرن التاسع عشر التي كانت تعتقد باستحالة المصالحة بينهما.ومعلوم أن هذا القرن العظيم الذي كان استمرارية لعصر التنوير والذي حقق اكبر انتصار للعلم إلى حد أن الناس اعتقدوا بأن الدين انتهى، أقول إن هذا القرن العظيم شهد أكبر المجادلات بين النظريات العلمية والمعتقدات الدينية. لنفكر ولو للحظة هنا بالصراع الذي دار حول نظرية التطور وأصل الأنواع لداروين..
أما الآن فان العلماء أصبحوا يعتقدون بإمكانية المصالحة بين العلم والدين إذا ما فهمنا الدين بطريقة حديثة حرة مختلفة جذريا عن الفهم الضيق والطائفي الذي كان سائدا سابقا. عندئذ يعود للدين أو بالأحرى للإيمان مجاله وللفلسفة مجالها ولا داعي للخلط بينهما أو اعتداء أحدها على الآخر. أنظر مثلا الحوار العالي المستوى الذي جرى بين البابا الحالي وبين الفيلسوف الألماني الشهير يورغين هابرماس حول هذه المسائل الكبرى. فقد اعترف هابرماس أمام البابا بفائدة الدين ومشروعيته من الناحية الأخلاقية والروحية والميتافيزيقية ولكن بشرط عدم تسييسه أو العودة إلى الوراء أو الاعتداء على الحريات الأساسية كما كان يحصل سابقا قبل انتصار التنوير والحداثة. وقد وافقه بابا روما على ذلك معترفا بالطاقة التحريرية الهائلة للعلم والفلسفة ولكن محذرا من شطط التطبيقات العلمية أو التفسيرات المادية المحضة للإنسان والكون هذا ناهيك عن الانحرافات الإباحية التي أصبحت تهدد العائلة والعلاقة بين الرجل والمرأة في الغرب. ومعلوم أن بابا روما فيلسوف من أعلى طراز. نقول ذلك على الرغم من الكبوة التي سقط فيها إبان محاضرته التي أشعلت الدنيا.. وبالتالي فالأمور لم تعد تطرح الآن كما كانت تطرح سابقا أيام رينان وجمال الدين الأفغاني، على الأقل بالنسبة للغرب المتقدم..
أخيرا يبقى السؤال مطروحا: هل كان الأفغاني يعتقد بما يقوله في هذه المحاضرة عن الدين؟ينبغي العلم بأنها كتبت مباشرة بالفرنسية ونشرت في جريدة المناقشات le journal des debats ولم تترجم إلى العربية إلا لاحقا كما قلنا. وبالتالي فان البعض يعتقد بان الأفغاني كان يمارس نوعا من التقية أو الخطاب المزدوج: أي كلام موجه إلى الغرب، وكلام آخر موجه إلى المسلمين يعاكس الأول أو يختلف عنه كثيرا. وهذا جائز. ودليلهم على ذلك أن كل كتاباته وأعماله المنشورة بالعربية أو الفارسية لا تنحو باتجاه الابتعاد عن الدين كما يتجلى من خلال رده على رينان وإنما تدعو إلى العودة إلى الإسلام الأولي النقي الصافي والتخلص من القشور والخرافات التي لحقت بالإسلام لاحقا والتي تهيمن على المسلمين حاليا. وهذا هو معنى الإصلاحية السلفية التي دشنها مع تلميذه محمد عبده. لقد كان يرى أن الانبعاث لن يتحقق إلا باستلهام الحضارة الإسلامية في عصورها الأولى المبدعة وكذلك الاستفادة من المكتسبات الايجابية التي قدمتها أوروبا إلى العالم في آن معا.
ولا نزال حتى الآن نراوح في هذه النقطة: كيف يمكن أن نوفق بين الأصالة والمعاصرة؟ أو: كيف يمكن أن نصالح بين التراث والحداثة؟ ربما كان الشيء الوحيد الذي حققناه تقدما بالقياس إلى عصر الأفغاني هو أننا لم نعد قادرين على الإيمان بإمكانية العودة إلى الوراء أيا يكن هذا الماضي عظيما بالقياس إلى وقته لأن الحضارة الحديثة تجاوزته بما لا يقاس وفي كافة المجالات ولم تعد له إلا قيمة تاريخية. ولكن يبقى السؤال مطروحا: ماذا نأخذ من التراث وماذا ندع؟ أين هو الجوهر وأين هي القشور؟ ما هو الشيء الذي في التراث الإسلامي يشدنا إلى الخلف ويعرقل انطلاقتنا، وما هو الشيء الذي يشعرنا بالارتباط بأعماق أعماقنا ويعطينا طاقة دفع هائلة إلى الأمام؟ ما هي العناصر التقدمية العقلانية في التراث والعناصر الظلامية الرجعية؟ ومن سيتجرأ على القيام بأكبر عملية غربلة نقدية للتراث العربي الإسلامي كما فعل فلاسفة أوروبا بالنسبة للمسيحية؟ فالمصالحة بين الإسلام والحداثة سوف تتحقق بعد القيام بعملية الغربلة الواسعة هذه وليس قبلها. بمعنى آخر، فإننا لن نستطيع أن نتصالح مع أنفسنا إلا بعد خوض معارك قادمة يشيب لهولها الولدان...

الاوان- الاثنين 2 نيسان (أبريل) 2007