(سبع قراءات في أنطولوجيا الشعراء المنتحرين لجمانة حداد)

كتابٌ مقدّس
أنسي الحاج

ضمّت جمانة حداد بين دفّتي كتاب، الشعراء المنتحرين في القرن العشرين، تحت عنوان جميل هو في الأصل اسم قصيدة للإيطالي سيزار بافيزي: «سيجيء الموت وستكون له عيناكِ». مقبرة ضخمة جريحة، مخيفة وهشّة، وضعتْ لها الشاعرة -الباحثة - المترجمة شاهدة من الألماني ريلكه: «يا ربّ، اعطِ كلَّ إنسان موته».

تتساءل جمانة: هل يكون يهوّذا أول منتحر في تاريخ العالم الحديث؟ وهل تكون سافو أول شاعرة انتحرت؟ وتخلص إلى الاستنتاج: كل الشعراء المنتحرين خَوَنة، وليس يهوذا وحده. من خائن روحه إلى خائن حبّه أو الشعر أو الجسد أو المنطق. «جميعهم بلا استثناء خانوا الحياة». أو أنهم، وبالمقدار نفسه أو أكثر، هي الحياة خانتهم، فأخذوا «الموت الطوعي الذي يجيء إليّ لأنّي أطلبه» على قول نيتشه الذي تستشهد به أيضاً صاحبة الأنطولوجيا.
يُعْجَب القارئ للجهود المبذولة في هذا السفْر، فكرةً واختياراً وترجمةً وتقديماً وتحليلات. لا التساؤل ينتهي ولا التأويل. موضوع أخطر من الموت.
كتاب صدّاح بالعَتَب، فوّاح بالمؤاخذة: ماذا تفعلون في الحياة؟ تركتمونا نذهب وحدنا؟ أإلى هذا الحدّ تكذبون على أنفسكم؟ أيّ شعراء أنتم؟ شعراء؟ تركتُم الأبرياء وحدهم يعبرون النهر. خذوها، هذه الحياة! خذوها، أمجادكم! إنّ ما تنعمون به ليس سوى فضلات كبريائنا...
أتخيّل هذه الكلمات وأنا أتصفّح قصائد المنتحرين والمنتحرات. لا بدّ أن يكون فيهم احتقار لأمثالنا. احتقار أو إشفاق ورفق. أرواحهم أعلى من جميع الأرواح، يُخيفون كما يُخيف وَلَدٌ لا يعرف الكذب. نهرب من مواجهتهم كما نهرب ممّن خذلناهم.

يُضفي عليهم انتحارُهم هالة صدْق ما كان شعرهم وحده سيوحيها لولا انتحارهم. يَغْسل الانتحار أو الموت في الصبا ما لا يغسله الموت العادي. وما لا يغسله الاضطهاد. كثير من الحَسَد يرافق نظرة الأحياء إلى أطياف المنتحرين.
... وجهٌ آخر، معاكس: ذَهَبَ الأبرياء كي يوقظوا انتباه الباقين إلى أهميّة البقاء. جَرَس توعية. لعلّه تفسير مُصطنَع، لإراحة الضمير، لكنّه غير مستحيل على فئة، بالأقلّ، من الشعراء هي فئة الملائكة، طيور الغاب وبَجَع البحيرات. عندئذ يمكن اعتبار هؤلاء عشّاقاً للحياة لا خانوها ولا خانتهم، بل تَعشّقوها حتّى جعلوا موتهم حاجزاً دونها، يُمنع على الباقين القفز فوقه. منتحرون حتّى لا ينتحر الآخرون.

إلى ما لا نهاية للاجتهاد.

... بل نهاية مُمكنة: حيث الشعر- شعر هؤلاء الشهداء أو شعر أيّ كان - يصبح دعوة إلى الحياة فوق أيّة دعوة. كهذه المنتخَبة من قصيدة للروماني بول سيلان: «تَقدّمي أمام بيتكِ/ اسرجي حلمكِ الثرثار/ دعي حافره يتكلّم/ مع الثلج الذي سرقتِه/ من سقف روحي». أو هذه من قصيدة للأرجنتينيّة إليخاندرا بيثارنيك: «أيّها الربّ/ ارمِ نعوش دمي (...)/ أيّها الربّ/ القفص صار عصفوراً/ والتهمَ آمالي/ أيّها الربّ/ القفص صار عصفوراً/ ماذا أفعل بالخوف؟». أو هذه للروماني غيراسيم لوكا: «مَن يتنفّس قرب المرآة/ هل هي نهاية العالم؟/ مهما يكن إنّه لذّة/ ثمّة شيء يَحْدث/ غلطةٌ/ تنزلق بين شفتيَّ/ هو جسدها الخفيف». أو، أخيراً، هذه للإيطالي سيزار بافيزي: «حيث أنتِ، أيّها النور، يرى الصباحُ النور./ الحياة كنتِ والأشياء./ وكنّا فيكِ نتنفّس يقظين/ تحت هذه السماء التي ما زالت فينا (...) أيّها النور، يا صفاءً بعيداً،/ يا نَفَساً يلهث،/ وجّهي أنظاركِ الثابتة والصافية إلينا./ مظلمٌ هو كلّ صباحٍ يَمضي/ من دون نور عينيكِ».
يبدو المنتحرون كمَن غلب اللعنة بألعن منها. ونبدو حيالهم، نحن المجرجرين أذيال الأيام، كمتعاونين مع العدوّ. ألهذا ينتحر المنتحر؟ ليعكّر علينا صفو صفحة مائنا؟

من فرط حياته، تكاد اليد تتهيّب إغلاق الكتاب، خشية انزعاج أرواحه. فمن قرّر موته بهذه الحريّة يحتاج بعده إلى حريّة أكثر.
لكن لا أحد يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته، على قول بولس. عُلّيقة في البريّة لا تستطيع أن تحمي نفسها من نقدات عصفور. وحين تتساقط فالتراب يأخذها ويُعيدها. لا جديد تحت الشمس وكلّ شيء جديد تحت الشمس. وأشدّ الانتحار عبثيّة، لا يخلو من كونه في مكانٍ ما هديّة.
هذا الكتاب الملعون هو أيضاً كتاب مقدَّس.

(جريدة الأخبار
السبت 2 حزيران 2007)

قصائد تضيء ليل الشعراء المنتحرين

عبده وازن

الشغف الذي تنمّ به «مختارات» الشعراء المنتحرين في القرن المنصرم التي أعدّتها الشاعرة جمانة حداد، يدلّ بوضوح على أن عملها لم يكن مجرّد اختيار وترجمة وتقديم، بمقدار ما كان عملاً ابداعياً. ويتجلّى الطابع الإبداعي أولاً في ترجمة القصائد التي بدت أقرب الى الكتابة بروح شفيفة تشبه أرواح الشعراء والشاعرات الذين أقدموا على الانتحار. تكتب جمانة حداد القصائد وكأنها صاحبتها، تتقمّص شخصيات المنتحرين وتستعيد توترهم وقلقهم وصراعهم الداخليّ ثم تحييهم من خلال لغتها التي تصبح مرآة للغاتهم. وشغفها هذا يذكر بالشغف الذي اعترى الشاعر الفرنسي بول فيرلين عندما «صنع» في العام 1884 كتابه «الشعراء الملعونون» وهو المختارات الشعرية الأولى في هذا الحقل وأورد فيها شعراء اعتبرهم ملعونين من غير أن ينتحروا، ومنهم بودلير ورامبو ومالارمي. ولم يوفّر نفسه فأدرج اسمه ضمن هؤلاء «الملعونين» وكأن غايته الأولى أن يعلن انتماءه الى هذه الفئة من الشعراء. ويخيّل إلي أن جمانة حداد لو أمكنها أن تدرج اسمها بين الشعراء المنتحرين الذين اختارتهم لفعلت من غير تردّد. لكن عملها هذا الذي يرتقي إلى مصاف الفعل الإبداعي كان كافياً لأن تعيش الانتحار شعرياً، في اللغة والذات والجسد، مثلها مثل الكثيرين من الشعراء الذين كتبوا الانتحار (وليس عنه) من دون ان يجرؤوا على الانتحار.
اختارت جمانة حداد عنوان «الأنطولوجيا» من قصيدة للشاعر الايطالي المنتحر تشيزاري بافيزي: «سيجيء الموت وستكون له عيناك» وأرفقته بعنوان آخر: «مئة وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشرين» (دار النهار والدار العربية للعلوم – ناشرون، بيروت 2007). هؤلاء الشعراء الذين يندرج بينهم خمسة عشر شاعراً وشاعرة من العالم العربي، ينتمون الى ثمانية وأربعين بلداً والى عشرين لغة واعتمدوا في انتحارهم اثنتي عشرة طريقة مثل: اطلاق النار، الغرق، الحبوب المنومة، الارتماء تحت عجلات القطار، الشنق... الذكور بينهم مئة واثنان وعشرون والاناث ثمانٍ وعشرون. اللغات الأم التي عادت الشاعرة اليها لترجمة القصائد منها مباشرة سبع لغات: الفرنسية، الانكليزية، الاسبانية، الإيطالية ثم البرتغالية والألمانية اللتان استعانت فيهما بما يُسمى الترجمة الوسيطة. أما اللغات الأخرى (الروسية واليابانية والصينية واليونانية وسائر لغات أوروبا الشرقية والشمالية...) فتصدّت لها من خلال الترجمات الوسيطة. هذا الإلمام باللغات الأجنبية نادراً ما يتوافر لشخص واحد أو لشاعر واحد. وهو يفتح الباب واسعاً أمام فعل الترجمة، ناهيك بما يمنح صاحبه من قدرة على اختبار اللغة في تجلّياتها المختلفة.
إلا أنّ هذا التعدد اللغوي لا يعني أن الشاعرة لم تبذل جهداً كبيراً وكبيراً جداً في عملها. لقد أمضت نحو خمس سنوات في الاختيار والترجمة والتقديم، واجتازت مراحل صعبة جداً هي بحسب قولها في المقدمة الطويلة أو المقدمات: تجميع المصادر والمعلومات، إجراء البحوث، الغربلة، الترجمة، التنقيح، التهذيب، التلميع، الإحصاء، التقديم، المراجعة... لكن الصعوبة الحقيقية والتحدّي الأكبر كما تعبّر الشاعرة، تمثلا في «العناء والجلد والأناة وقدرة الاحتمال الروحية عندما تحتك روح شاعر حيّ بروح شاعر راحل» بل منتحر. هذا «الاحتكاك» الروحيّ يعبّر خير تعبير عن المكابدة التي عاشتها جمانة حداد إزاء تلك القصائد، قارئة وشاعرة ومترجمة. ولولا شغفها القوي والعميق بالشعراء المنتحرين لما استطاعت أن تنجز مثل هذا العمل شبه الموسوعي الذي يفترض جهداً جماعياً. لكنّ التحدّي الفردي هو الذي أسبغ على المختارات فرادتها، شعرياً ولغوياً، وجعل جوّها واحداً عبر لغة الشاعرة نفسها التي هيمنت على القصائد كلّها من دون أن تلغي خصوصية كلّ شاعر. وهكذا تمكن قراءة «المختارات» كما لو أنها ديوان واحد تَشَارَكَ في كتابته شعراء يختلفون بعضهم عن بعض. وهنا تكمن احدى سمات «اللذة» في قراءة هذه المختارات. انّها قصائد الشعراء المنتحرين متجلّية في سرّ الصنيع الشعري الذي تملكه جمانة حداد. وقد لا يُستغرب مضيّ الشاعرة في لعبة «القناع»، حتى أنّها لا تتوانى عن التماهي بهؤلاء الشعراء، معترفة بأنها مسكونة بـ «نواة» منهم. ويبلغ التماهي أوْجه عندما تسأل وكأنها تجيب في آن واحد: «أوَليست الكتابة أيضاً، الكتابة خصوصاً، انتحاراً؟ أوَليس الشعر انتحاراً في معنى ما؟».

بين الذاتية والموضوعية

اللافت جداً في «المقدّمات» التي كتبتها الشاعرة لهذه «المختارات» جمعها بين الذاتية والموضوعية جمعاً لا يمكن الفصل ازاءه بينهما. القضية «العامة» التي تعالجها موضوعياً بل علمياً في أحيان هي في الوقت نفسه ذات وجه ذاتي، شديد الذاتية. وهذا ما جعل بعض «المقدمات» تبدو كأنها نصوص تكتب الشاعرة فيها «قصتها» مع الانتحار. «متى بدأ ذلك؟ كيف؟ ولماذا؟ أنا نفسي لا أعرف. بزغوا جميعاً ذات غفوة... بزغوا وجاؤوني في المنام»، تقول الشاعرة.
وتصف المنتحرين بـ «شهداء» الشعر و «شهداء» أنفسهم مضيفة: «هم أطفالي الشريدون وهذا الكتاب بيتهم، لا مقبرتهم، لا مدفنهم: بيتهم». لعلّ صفة «البيت» هنا هي أجمل ما يمكن إطلاقه على هذه المختارات التي لم تماثلها أي «انطولوجيا» عالمية في شموليّتها وشغفها (أكرّر شغفها). قد تكون المرّة الأولى يلتئم فيها شمل المنتحرين في «ديوان» وفي «بيــــت» وفي عناية شاعرة تشعر بأنها «الأم» التي تضم بنـــــيها الذين يكبرها بعضهم ســـنين طوالاً. «طاردتهم وعشتهم، عشتهم ومتُّهم. مئة وخمسين مرّة عشت ومئة وخمسين مرّة متّ. ومراراً، وكم شــــعرت بأني أنبش قبورهم بيديّ».
اكتشفت جمانة حداد فعل الانتحار في الخامسة من عمرها عندما أقدمت جدّتها على قتل نفسها في 22 حزيران (يونيو) 1976. ولم تتوان عن إهداء المختارات إلى جدّتها التي تدعى «جميلة» و «التي كتبت قصيدة انتحارها». كان هذا الانتحار القصيدة الأولى التي قرأتها الشاعرة. وعندما عكفت على صنع «المختارات» شاءت أن تتملّى صور بعض المنتحرين «بأم العين» كما تقول وكأنها تحاول «معاقبة» نفسها من خلال المشهد «البشع» الذي ينفي شاعرية الفعل. بل كأنها حاولت عبر «الصور» تلك أن تستعيد صورة جدّتها المنتحرة التي «كانت تستحقّ مني أن أفتح عينيّ وسيعتين وعميقتين وأنظر». بعد انتحار الجدّة تناهت اليها قصة انتحار يهوذا الأسخريوطي ثم توالت قصص المنتحرين والمنتحرات... وتعترف: «وقعت في حبّ المنتحرين «مرضى» الحياة، المنتقمين منها ومن أنفسهم، مراراً وتكراراً، وسرق هؤلاء قلبي عاماً وراء عام». ولعل «معايشة» الانتحار، ذكرى وهاجساً، جعلت الشاعرة ترى أن المنتحر ليس «ميتاً عادياً» بل هو «لا ميت ولا حيّ»، إنه «الاثنان معاً» كما تقول. وتسأل: «لماذا ينتحر مَنْ ينتحر؟» ولا تسعى للإجابة ن السؤال لأنه بحسبها «الأهمّ في الوجود أساساً». هكذا تبتعد الشاعرة من «متاهة» التحليل النفسي والفلسفي لمفهوم الانتحار، وقد كُتب فيه الكثير من الصفحات، وتتحاشى الغوص في «الحلقة المفرغة نفسها، حلقة الشاعر القديمة - الجديدة مع الاكتئاب وتدمير الذات والهشاشة والتوتر والقرف». وتعرب عن تحاشيها أيضاً التطرّق الى الأسباب الوجودية أو العاطفية الكامنة وراء الانتحار ومناقشة مقولة ألبير كامو الشهيرة: «الانتحار هو السؤال الفلسفي الجدّي الوحيد» ونظريات شوبنهاور الملهمة عن الموت. وتعترف: «سأنتقل الى الجهة الأخرى من المرآة وأسلخ عن الأسطورة بعض جلدها الزائد». إلا أنّ هذا الانكفاء لا يعني عدم إيغالها في المعنى الوجودي والفلسفي للانتحار، مرتكزة إلى الكثير من المقولات الفلسفية.
تسقط جمانة حداد عن شعر «الانتحار» صفة النوع أو الجنس أو التيار ولا تعتمد الانتحار بذاته معياراً للاختيار والجمع، بل تركّز على المعيار الشعريّ أولاً. فالانتحار وحده لا يصنع شاعراً، وثمة شعراء راجت أسماؤهم تبعاً لانتحارهم وليس لأعمالهم. ولذلك عمدت الى جعل الكتاب في ثلاثة أجزاء أو ثلاث أنطولوجيات: الأنطولوجيا الكبرى والأنطولوجيا الصغرى وانطولوجيا «إحصاء الظلال». الأولى هي الأضخم وتضمّ خمسين شاعراً وشاعرة أفردت لكل منهم حيّزاً كبيراً، تقديماً وترجمة. ومن هؤلاء شعراء كبار أمثال: جورج تراكل، ألفونسينا ستورني، مارينا تسفيتاييغا، مايا كوفسكي، سيرغي يسنّين، أتيلا يوجف، تشيزاري بافيزي، خليل حاوي، بول سيلان، سيلفيا بلاث وسواهم. الأنطولوجيا الثانية أو الصغرى ضمّت أيضاً خمسين شاعراً ولكن مع تقديم موجز وقصيدة واحدة لكلّ شاعر. ومعظم شعراء هذه الأنطولوجيا أقل أهمية من شعراء الأولى ولا يملكون أعمالاً شعرية كبيرة، وبعضهم برزوا في حقول أخرى (الرواية، الفكر...). ومن هؤلاء الشعراء: جاك ريغو، رينه كروفيل، مالكولم لاوري... أما «إحصاء الظلال» أو الجزء الثالث، فهو عبارة عن لائحة مفصّلة بخمسين شاعراً يمكن تسميتهم «شعراء ظل» كما تعبّر حداد. وقد اكتفت بتعدادهم واختيار شذرة لكلّ منهم. وقد تكون بعض الشذرات قصائد بذاتها، نظراً الى كثافتها وتألقها. ومنها مثلاً: «كم من القصائد الضائعة/ تبحث عن يد/ تنتشلها من الصمت» (يوهانس فارس)، أو: «لا تخنقوا الوردة/ الوحيدة/ سأصنع من أشواكها سوراً/ لأحزاني» (لويس دي مونتالفور)، أو: «ألف شمس/ في ألف سماء/ ولا ضوء» (قسطنطين بيبل)...

الخيط والدائرة

ولئن كان الشعراء المنتحرون ينتمون الى مدارس أو تيارات أو أجيال شعرية مختلفة، فإن خيطاً رفيعاً ومتيناً في الحين عينه، يجمع بينهم، بل إن جواً وجودياً وقدرياً يوحّدهم أشخاصاً وتجارب، ولكن بعيداً من القصائد أو الصنيع الشعري. وترى حداد أنّ هذا الخيط هو في آخر المطاف دائرة تحيط بهم جميعاً. ناهيك بأنّ موضوعة (أو تيمة) الموت تهيمن على معظم القصائد، علماً أن شعراء غير قلّة انتحروا من غير أن يكتبوا عن الموت ولو في طريقة غير مباشرة. وفي المقابل كتب شعراء كثر أقدارهم في قصائدهم وبعضهم حدسوا بموتهم انتحاراً وسبقوا القدر الذي كان يتربّص بهم.
وتوضح جمانة حداد في احدى المقدّمات الحافز على اختيارها القرن العشرين حيزاً زمنياً للشعراء المنتحرين، وترى أن سببين وراء هذا الاختيار، الأول موضوعي ويتمثل في طموحها الى أن تعكس من خلال القصائد التي اختارتها التحولات التي طرأت على الشــــعر العالمي، والثاني ذاتي وهو أنها تنتمي شعرياً الى هذا القرن وأسئلته. وتوضح أنها لم تتوسّع كثيراً في النبذات البيوغرافية، واختارت ما قلّ ودل مفسحة المجال للشعر نفسه، كي يعبّر عن حقيقة التجربة. ولا يزعم عملها تقديم بحوث عن هؤلاء الشعراء، سيرة ونقداً.
وتسأل: «هل هؤلاء هم جميع الشعراء الذين انتحروا في القرن العشرين؟» وتجيب: «قطعاً، لا». فالشعراء المنتحرون هم أكثر من هذا العدد. لكنها لم تغفل حتماً اسم أيّ شاعر كبير وأساسي في القرن المنصرم. فالشـــعراء المنتحرون الذين وسموا القرن العشرين حاضرون بشدّة في هذا «الديوان». وقد «جابت» الشاعرة عبر الكتب والإنترنت ثمانية وأربعين بلداً، باحثة عن الشعراء المنتحرين.

ما وراء التخوم

وكان من الطبيعي أن يتعذر عليها الوصول الى بلدان الأطراف أو البلدان البعيدة وشبه المعزولة لأسباب عدة، أبرزها اللغة والمسافة. كيف يمكن الوصول الى منغوليا مثلاً؟ أو سريلانكا وأذربيجان وأندونيسيا وكازاخستان وموريتانيا...؟ في هذه البلدان انتحر شعراء لكنهم لم يتمكّنوا من اجتياز تخوم بلدانهم. ومن المؤكّد أن الطبعة التالية ستضمّ المزيد من الأسماء. هذا قدر المختارات عموماً.
ترصد حداد في ما يشبه العمل النقدي الاحصائي الكلمات الخمس الأكثر تواتراً مع حقولها الدلالية، في القصائد التي اختارتها وهي: موت (حقلها الدلالي: نهاية، خلاص، سقوط، ختام...)، ليل (عتمة، ظلمة، حلكة، مساء، مغيب...)، يأس (قنوط، حزن، كآبة، أسى، بؤس)، وحدة (عزلة، انزواء، غربة، وحشة)، رحيل (ذهاب، هروب، غياب، فرار، ضياع، ضلال...). انها المفاتيح التي يمكن من خلالها النفاذ إلى أعماق القصائد ومعانيها، الظاهرة والخفية. وترفق حداد المقدّمات بجداول إحصائية تتناول ظاهرة الانتحار والمنتحرين في شكل شامل. وليتها لم تنشر نصّها النقدي البديع عن مفهوم الترجمة في هذه المختارات مكتفية بما كتبت عن الانتحار من نصوص أو مقدّمات مهمّة وعميقة، فالنص الذي سمته «تأملاً لمترجمة شغوف... وشاعرة» يستحق أن ينشر في كتاب تتناول فيه الشاعرة تجربتها في حقل الترجمة، خصوصاً أنها تحضّر شهادة الدكتوراه في الترجمة.
لعلّ أجمل ما يمكن أن يقال عن هذه المختارات انها «ديوان» الشعراء المنتحرين. فهي حقاً أشبه بـ «الديوان» الذي يعود الى أصحابه بقدر ما يعود الى الشاعرة جمانة حداد التي جمعته وصنعته أو كتبته عبر نَفَس شعري واحد ولغة جميلة، نزقة وبريئة، متوترة ونقية. وعرفت الشاعرة – المترجمة كيف تمنح كلّ شاعر خصائصه انطلاقاً من لغته الأم في أحايين كثيرة. هذا «ديوان الانتحار»، عالمياً وعربياً، أضافته حداد الى المكتبة العربية التي طويلاً ما انتظرت مثل هذا العمل الخلاق. هذا أيضاً ديوان كلّ الشعراء والقراء الذين يهوون الشعراء الملعونين الذين اختاروا ليل القصيدة وليل الحياة.
«كلّ مرّة ينتحر انسان، يولد سرّ، سرّ منيع لا يستطيع أحد كشفه يوماً»، تقول جمانة حداد. ولعلها في هذه المختارات استطاعت أن تلقي ضوءاً ساطعاً على العالم السرّي الذي يحيط بالشعراء المنتحرين، هؤلاء الذين يختصرون كل الأسباب والحوافز في مأساتهم التي تفوق التصوّر والتي وحدهم يدركون سرّها المنيع. انهم القتلة والضحايا، بل الضحايا والضحايا. تُرى أليس الانتحار «عطية»، كما يقول الشاعر المنتحر جاك ريغو؟

15 شاعراً عربياً

أحصت جمانة حداد خمسة عشر شاعراً عربياً انتحروا خلال القرن العشرين، وهم: خليل حاوي (لبنان، 1919-1982)، منير رمزي (مصر، 1925-1945)، عبدالباسط الصوفي (سورية، 1931-1960)، انطوان مشحور (لبنان، 1936-1975)، تيسير سبول (الأردن، 1939-1973)، عبدالرحيم أبو ذكري (السودان، 1943-1989)، ابراهيم زاير (العراق، 1944-1972)، قاسم جبارة (العراق، 1955-1987)، عبدالله بوخالفة (الجزائر، 1964-1988)، كريم حوماري (المغرب، 1972-1997)، صفية كتّو (الجزائر، 1944-1989)، أحمد العاصي (مصر، 1903-1930)، فخري أبو السعود (مصر، 1910-1940)، فاروق أسميرة (الجزائر، 1966-1994)، مصطفى محمد (شاعر سوري كردي، 1983-2006). وذكرت الشاعرة اللبنانية المنتحرة أمل جنبلاط في المقدمة.

(جريدة الحياة
الأحد 10 حزيران 2007)

سؤال الترجمة، سؤال السفر، سؤال الانتحتار

اسكندر حبش

في نشر مشترك ما بين «الدار العربية للعلوم ـ ناشرون» و«دار النهار» في بيروت، صدر مؤخرا لجمانة حداد كتاب «سيجيء الموت وستكون له عيناك» (مئة وخمسون شاعرا انتحروا في القرن العشرين) وهو عبارة عن مختارات شعرية، تقدمها الشاعرة اللبنانية لشعراء وجدوا في الانتحار، تعبيرا نهائيا عن مسيراتهم المتفاوتة. هنا مقالة عن هذا الكتاب.
«لن يبقى هناك أي نجم في الليل/ لن يبقى هناك ليل/ سأموت ومعي مجموع/ هذا الكون الذي لا يطاق./ سأمحو الأهرامات، الأوسمة،/ القارات والوجوه./ سأمحو تراكم الماضي./ سأحيل التاريخ غبارا، والغبار غبارا./ سأرى آخر شمس شارقة./ سأسمع العصفور الأخير/ سأوصي العدم إلى لا أحد». (خورخي لويس بورخيس، من قصيدة «الانتحار»).
بالتأكيد، لم ينتحر الشاعر الأرجنتيني الكبير، بل بقي «يصارع» حياته وعماه، (الذي أصيب به في مرحلة متقدمة من عمره)، إلى آخر لحظة. حياة عاشها بكليتها، من دون أي تذمر «أونتولوجي»، على قول ألبرتو مانغيل في كتابه عن الشاعر الراحل. ومع ذلك، لم ينف هذا الأمر، من أن يدفع بورخيس إلى التفكير، بالانتحار. لا أقصد بالتأكيد أنه حاول ذلك، بل بكون الانتحار، هذه المسألة الفلسفية العميقة، أو بحسب الكاتب والمفكر الفرنسي ألبير كامو، الإشكالية الفلسفية الحقيقية التي لا قضية من بعدها. لم يكن بورخيس الوحيد الذي فكّر بذلك، وحاول أن يكتبه. عديدون هم الشعراء الذين نجد، في قصائدهم، هذا الميل إلى التفكير بهذه القضية الكبرى. وعلى الطرف الآخر، نجد شعراء آخرين، وقد ذهبوا في ميلهم إلى أقصاه، أي ارتكبوا الفعل المميت، بوسائل شتى، ولأسباب شتى، بمعنى أن انتحار الشاعر الألماني باول سيلان، بإلقاء نفسه في نهر السين في باريس، والذي يجب وضعه في سياقه «التاريخي» أي في كل ما ورثه من «الشوا» وما تعرض له اليهود من قبل النازيين، يختلف بالطبع عن شكل وأسباب انتحار الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، عبر تنشقها الغاز في منزلها، والذي يمكن أن نرده إلى أسباب نفسية (مثلما هو شائع)، مع العلم أن انتحار كليهما، لا بد أن يدخلنا إلى تساؤل عن هذه اللحظة الوجودية للكائن، وللكاتب بخاصة.

التفكير في الانتحار

إن كانت الفئة الثانية التي تختارها جمانة حداد موضوعا لكتابها الأنطولوجي «سيجيء الموت وستكون له عيناك» قد ذهبت في «لعبة الموت»، (إذا جاز التعبير)، إلى أقصاها، فثمة أسئلة كثيرة لا بد أن تطرح نفسها على شعراء الفئة الأولى، أقلها، هل كانت الكتابة عن الانتحار بديلا من ارتكاب الفعل عينه؟ سؤال أجدني أنساق إليه في قراءتي الخاصة، لهذا المجهود الكبير الذي تقدمه لنا جمانة حداد، بمعنى، هل انطولوجيتها هذه هي وجه آخر للتفكير بهذه المسألة الفلسفية؟ ربما، وبخاصة إذا استعدنا ما تقوله حداد (ص 31) «هكذا اتضح لي أني مسكونة بـ«نواة» من الأحباء المنتحرين ما كنت أشك في وجودها».
ليس هدف حداد، أن تقدم لنا، تحليلا أخلاقيا أو فلسفيا لمعنى الانتحار، بل أن ترسم صورة لهذا الفعل، عبر القصائد التي تختارها وتقدمها إلينا، بالعربية. وهذه الصورة، لا تتكئ على كون الانتحار سببا عميقا في جعل القصيدة حاضرة، أي لا نستطيع الادعاء بأن كل شاعر منتحر هو شاعر «كبير» بالضرورة، بل ربما كان الهدف من فعلته هذه لفت الأنظار إليه أو كما تقول حداد (ص 51): «لا، ليس الانتحار امحاء في الضرورة. ليس تنازلا، ليس استسلاما، ليس اندحارا، ليس تراجعا، ليس غيابا ولا هزيمة: بل هو غالبا هجوم إلى الأمام (جبان؟ شجاع؟ لا يهم. هجوم)».

من هنا، اختيارها لهذه التراتبية، التي أجدها منطقية إلى حد كبير، أي تقسيمها هذه المختارات إلى ثلاثة أقسام، تمثل برأيها، الخيط الذي يجب أن يقودنا إلى فعل القراءة. ثلاثة أقسام، حملت العناوين التالية: الأول أو «الأنطولوجيا الكبرى» والذي يضم خمسين شاعرا تفرد لكل واحد منهم مساحة كبيرة، ترتكز، أساسا، على النصوص «التي استفزتني والشعراء الذين حرضوني»، بمعنى أن الاختيار «خضع لمزاج شعري وترجمي خاص» (ص40).
أما القسم الثاني، أو «الأنطولوجيا الصغرى» فعبارة «عن مختارات مصغرة، تشمل أيضا خمسين شاعرا، بتقديم موجز وقصيدة واحدة مترجمة لكل منهم» (ص 40). في حين نجد أن القسم الثالث أو «إحصاء الظلال» فهو «يشكل... لائحة مفصلة بخمسين شاعرا آخر (شعراء ظل، حقا أو باطلا، عن استحقاق أو إجحافا) انتحروا... لكنى اكتفيت بتعدادهم ووضع شذرة لكل منهم...» (ص 41).
لا بد لهذا التقسيم أن يقودنا إلى استنتاج وسؤال. الاستنتاج: يأتي التقسيم وفق مزاج المُعِدّة، الشعري والترجمي، كما هو واضح. من هنا، يلحقه السؤال: هل يحق لها ذلك؟ بالتأكيد، هو الجواب الوحيد الذي لا مفر منه. ليس هدف أي «أنطولوجيا» شعرية، أن يكون بمثابة «كاريتاس»، أي أن تقدم «المساعدة الخيرية» إلى كل من يعانون الحاجة، ولنقل هنا، لكل من كتب أو انتحر، وإلا ما معنى العمل الخاص عندئذ؟ ما معنى هذا الانحياز للقول الشعري، الذي لا بد أن يكون الهدف الرئيس؟ كل أنطولوجيا، ترتكز، في مبدئها الأساسي، على عملية اختيار، ولا بد لهذا الخيار، أن يكون نابعا من رؤية ومن ثقافة محددتين، وإلا تصبح هذه الرؤية وهذه الثقافة، مجرد سمة مشتركة مطروحة بين الجميع، ولا يميزها، عن الآخر، أي معنى حقيقي وعميق.

الاختيار الانطولوجي

لنطرح القضية بشكل آخر: ألا تشكل عملية «الاختيار الأنطولوجي»، هذه، عمق الثقافة العربية؟ كيف نفسر خيارات الأصفهاني في «الأغاني»، على سبيل المثال؟ وكيف نشرح انتقاءات المسعودي في «مروج الذهب»؟ وغيرها الكثير من أمهات الكتب التي وصلتنا. ألم يكن هؤلاء جميعا واعين، لخياراتهم، أي ألم يسقطوا الكثير من أخبار أزمنتهم ومن أشعار حقباتهم، ليفاضلوا في ما بينها؟ بالتأكيد قد قاموا بذلك، من هنا، يبدو الاختيار، معيارا أوحد للقراءة.
هذه القراءة لا بد أن تعيدني إلى السؤال الذي طرحته، قبل قليل، هل يمكن للكتابة أن تكون بديلا من الانتحار؟ الخيارات الترجمية التي تنحاز إليها جمانة حداد، لا بد لنا أن نعتبرها كتابة أخرى، بمعنى أن الترجمة تصبح فعلا بديلا عن الكتابة، لأن على «المترجم» أن يوصل لنا هذا الصوت الآخر. بالتأكيد لا أقصد أن كتاب حداد هذا، جاء بديلا من عملية انتحار محتملة كانت تفكر بها، ولكنه يطرح سؤالا آخر من أن الكتابة هي نفسها، عملية انتحار مستمرة. أقول هذا وأنا أفكر، بمفهومين «ترجميين» الأول صاغه الشاعر والمترجم الشعري الفرنسي أرمان روبان (الذي أجده، برأيي الشخصي، أفضل من ترجم الشعر إلى اللغة الفرنسية) والثاني الذي صاغه المترجم الألماني برنارد لورتولاري (الذي نقل العديد من الأعمال الألمانية إلى الفرنسية). لخص روبان كل عمله في الترجمة، وبعد سنين عديدة من العمل، بثلاث كلمات «raduire,trahire, se traduire أي «الترجمة، الخيانة، ترجمة الذات». هي أيضا كلمات ثلاث نحتها لورتولاري للتعبير عن عمله:«raduire, trahir, detruire» أي «الترجمة، الخيانة، التدمير». ثمة كلمتان يجدر التوقف عندهما في هذين المفهومين، بعيدا عن الترجمة وعن الخيانة (وبعيدا أيضا عن المثل الإيطالي الشهير) وهما «ترجمة الذات» (se traduire) و«التدمير» (detruire). أي اننا نستطيع أن نذهب في التأويل هنا، لنقل إن ترجمة هذه القصائد، ما هي إلى محاولة لترجمة الذات التي تتقاطع في لا وعيها مع الفكرة التي تختارها حداد «150 شاعرا انتحروا في القرن العشرين»، وما الفعل الثاني، «التدمير» إلا النتيجة المنطقية للفعل الأول بمعنى ليس الانتحار سوى تدمير للذات (بالمعنى الآخر) مع العلم أن المقصود هنا، على قول لورتولاري بأن الترجمة هي عملية تدمير. ولكن كما أسلفت، تصبح الترجمة في هذا الكتاب، عملية كتابة جديدة، أيّ أن الكتابة ليست سوى تدمير مستمر، بما يفضي إلى المعنى الكامن: الانتحار.
عدا تقديمها للكتاب وشرحها لبعض النقاط التي ارتكز عليها عملها الموسوعي هذا، تقدم لنا جمانة حداد بعض التأملات في عملية الترجمة التي تقوم بها. من هنا أجدني منحازا بدوري، إلى طرح السؤال معها، لماذا نترجم، وبخاصة الترجمة الشعرية؟
غالبا ما يقدم لنا الشعر هذا التناقض: إنه حاضر داخل حميمية الكائن وفي خاصيّة لغته وثقافته الأم، كما أنه، في الوقت عينه، يشكل مكان ومناسبة تبادل وتقاسم، مكان «حوار مطلق»، فيما لو استعملنا عبارة الشاعر الفرنسي رينيه شار. غالبا ما ينجح الشعر، أيضا، بهذه «الأعجوبة»: يجعلنا نسمع صوتا لا يُختزل بصوت آخر، في لغة مفتوحة على الكوني، كما فاعلا في هذا الذهاب والإياب المستمر، المثير للدُوار، بين «الأنا» والآخر. يستطيع الشعر أيضا، وفي النهاية، على الرغم من أنه يتحدث جميع اللغات واللهجات، أن يُشكل هذه «الاسبيرنتو» المثالية التي حلمت بها جميع العصور من دون أن تستطيع تحقيقها. بمقدوره ذلك لأنه يجعلنا نسمع، تحت غرابة كل لغة، لغة أولى ومشتركة، لغة الأعماق الإنسانية «المترجمة من الصمت» وفق ما استطاع التعبير من خلاله. من هنا تأتي ترجمة الشعر، وبعيدا عن التنويعات الألسنية المتعددة التي ترتديها، هنا أو هناك فوق هذا الكوكب، كأنها وسيلة للالتحاق بهذا المكان الكوني والجذري الذي تنبثق منه كل عبارة وحيث تعترف الأسرار لبعضها البعض، من قرن إلى آخر ومن بلد إلى بلد ثان. من هنا ولإكمال هذا الدرب، أي هذا القرار الذي يعني أيضا الأمل القوي في إيجاد إقامة مشتركة لكل البشر.
هكذا هي ترجمة الشعر، أي هذا الشكل الآخر من الكتابة، التي تسمح لنا أن نتجول بدون توقف، في ما وراء الحدود الفردية والجماعية. من هنا تأتي هذه القصائد، وعلى الرغم من ميلها في أن تحدد إطارها العام، في شعراء انتحروا في القرن العشرين، بمثابة ميل إلى اعتبار أن الشعر، في جوهره، هو مكان هذا اللقاء الخاص الذي تجهد في تكوينه، وفي قلب الخاصيّات الاجتماعية / الثقافية، علاقة حيّة، دينامية، بين مختلف أنواع الوعي. لذلك كلّه يبدو الشعر ـ مثلما يقول الشاعر غينادي إيغيف ـ «الجوهر الحي للأخوة الإنسانية، انه عمل ولغة هذه الأخوة».
هل ثمة أخوة في ذلك؟ بالتأكيد هي أخوة الشعر في الدرجة الأولى، ومن يعش ـ حتى مع هؤلاء المنتحرين، لسنوات ـ فلا بد أن يصبح قريبا منهم. من هنا تأتي نصوص هذا الكتاب وكأنها محاولة للتعبير عن ذلك كله.

استدراج الموت الجميل أو ملاقاته في منتصف الطريق

جهاد الترك

سيّء السمعة هو الشاعر. كائن هشّ يثير، بطبيعته، أجواء ضبابيّة من الشائعات. أكثرها مغرض يبعث على الدهشة والاستهجان. وأقلّها يحمل على الاحترام والتقدير. ومع ذلك، ليست هذه حقيقته. ولأنه دائم التعرّض لغارات منظمة من الطعن بصدقيته والنيل من حياته الشخصية والتهكم على مزاجيته، لم يعد هو إياه في نظر الآخرين. تحوّل كائناً خرافياً، على الأرجح، تُنسج حوله الأقاويل، والأكاذيب، والمبالغات. أصبح شيئاً آخر لا علاقة له بما ينطوي هو عليه في الأصل. والنتيجة أن صورته المتداولة بين الناس باتت صنيعة الغير. وكأنه أُلقي القبض عليه بالجرم المشهود فأصبح متهماً بجريمة لم يرتكبها هو، بل حيكت له، على نار هادئة، ثم أُلصقت به الى الأبد. ولم يعد بمقدوره أن يستصدر لنفسه حكم البراءة. والطريف أن الأكثرية الساحقة من الشعراء راحت تستمتع بخيوط العنكبوت التي أُقيمت حولها من دون علمها. غالباً ما تستأنس هذه الظلال التي أدخلها الآخرون الى حياتها بذريعة أنها تشكل طبقة كثيفة من الغبار الذي يقي الشهرة من الانهيار. فكيف إذا أعلن هذا الشاعر أو ذاك استسلاماً لا عودة عنه، وقرر الانتحار ضارباً عرض الحائط بتلك الهالة التي رسمها الآخرون من حوله؟ الشاعر يستعجل الموت قبل أوانه مستكثراً على نفسه أن يشهد على الحياة بطريقته الخاصة، والآخرون تأخذهم الصدمة على وقع هذا القتل المفاجئ. تزداد حيرتهم غلياناً. يتفجّر في داخلهم إحساس عميق بالهزيمة أمام توقعات لم يضعوها في حسبانهم. والأغلب أن أكثر ما يؤلمهم، والحال هذه، أنهم كانوا آخر من يعلم. وفي ظنهم أن الشاعر خدعهم بإقدامه على الانتحار. يختار الشاعر نفق الموت، فينضم الى طابور الجثث الهامدة. الآخرون يسرعون، من جديد، الى عاداتهم المألوفة. يبدأون بنسج خيوط عنكبوتية جديدة تليق بشاعر ميت. تنهال عليه، وقد أصبح طعاماً للعدم، غارات مختلفة من الشائعات والأقاويل والأكاذيب. يعيدون صياغة ما فاتهم وهو حيّ يرزق. يحاصرونه بعد زواله على نحو أكثر تشويهاً للسمعة. يعتبرون ذلك ضرباً من الفعل الحلال. أليسوا هم من شكلوا صورته في الحياة؟ ماذا يحول دون أن يعيدوا تشكيلها في الممات؟

انتحارات موثقة

تجتهد جمانة حداد في كتابها الهام "سيجيء الموت وستكون له عيناك" الصادر في بيروت عن "الدار العربية للعلوم ـ ناشرون"، و"دار النهار" ـ 2007، في إثارة تساؤلات عميقة تعزى الى هذه التصورات، وتتجاوزها الى حدود بعيدة حول الدلالات التي يسفر عنها انتحار منظومة واسعة من الشعراء. تفرد في كتابها أسماء مئة وخمسين شاعراً لقوا حتفهم انتحاراً في القرن العشرين. توثّق هذه الوقائع المأسوية على نحو لا تبحث فيه عن الأسباب التي رافقت هؤلاء وحملتهم على الانتحار. تكتفي بإيراد نبذة موجزة جداً عن كل من هؤلاء، تتضمن، بالضرورة، الطريقة التي استخدمها لقتل نفسه. ثم تقتبس مقاطع محددة من شعره توحي، على الأغلب، باقترابه التلقائي من حافة الموت الإرادي، وانصياعه، بشكل أو بآخر، لهاجس الانتحار. عمل مرهق، مضن، يستنزف الأعصاب، اضطلعت به الكاتبة وهي منكبة على تعريب هذه المقتبسات من لغات عالمية عدة. نتساءل، ونحن نقلب الكتاب في صفحاته الستمئة والخمسين، عن طبيعة ذلك الإصرار العنيد لدى جمانة حداد وهي تنتقل من انتحار الى آخر، من موت الى آخر، من انتقام بالدم الى آخر، ينزله الشاعر بنفسه وهو مقبل على الفناء كمن يقبل على الحياة. كل من هذه النماذج المئة والخمسين، تقدمه الكاتبة، على نحو يوقظ في النفس رهبة الموت وقسوة إلحاق الأذى بالجسد الضعيف. غير أنها، كذلك، تلتقط هذه الوجوه المكتئبة حتى الثمالة، وهي في أوج تألقها الشعري. وهي تخطو خطواتها الأخيرة للصعود الى الهاوية قبل أن تنزلق القدم الى قعر الجحيم. لا تتطرق، وهي محقة في ذلك، الى الصورة التي رسمها الناس في أذهانهم عن هؤلاء الشعراء. لا ترتكب خطأ شنيعاً كهذا، وإلا لكانت أحالت القراء على صورة للشاعر ليست من صنعه. والأرجح أنها تعمدت اللجوء الى تعريف مختصر بالشاعر خال من الآراء النقدية لتنقذه مما ليس فيه. لتزيل عنه تلك الشبكة من الأوهام التي كان يلتفّ بها من دون قصد منه.

ظلال في نفق الموت

ينتمي هؤلاء الشعراء المئة والخمسون الى جهات العالم الأربع. تستدرجهم الكاتبة بموتهم لا بحياتهم. برغبتهم الدفينة في أن يكونوا ظلالاً باهتة لأنفسهم، وهم يترقبون لحظة الحشر في وادي الموت المزدحم بالأشباح. قصص مذهلة، حزينة، سوداوية لشعراء تاهت بهم السبل فضّلوا في المتاهة. وراحوا يبحثون عن ظلالهم في تلك الصحارى القاتلة المنقطعة عن الحياة في الأطراف النائية من الذاكرة الموحشة. نماذج حيّة لشعراء ولدوا أمواتاً، على الأرجح. ثمة ما يشير في معظم النصوص المعرّبة لهؤلاء، إن لم يكن كلها، بأنهم اهتدوا الى الشعر طريقاً الى الموت. بدا الشعر في هذه المقتبسات تمريناً ميدانياً، إذا صحّ التعبير، حول الكيفية التي تجعل من الموت تعويضاً موضوعياً لحياة تنعدم فيها أسباب البقاء. القاسم المشترك بينها جميعاً، أن أصحابها، وقد جرفهم نهر الموت، باتوا يعتقدون، على نحو من يقين حقيقي، أن في الانتحار ملاذاً مثالياً للارتقاء بجمالية الصورة الشعرية بعيداً عن الاختناق القاتل بين الأسوار العالية للحضارة الإنسانية. يصبح الموت، في هذا السياق، قشعريرة رائعة، نقلة نوعية لا بديل منها للتعبير عن مكنونات لا سبيل الى استخراجها وقد أطبقت الحياة على النفس. نلحظ، كذلك، على نحو لا يُصدق، أحياناً، بأن النقائص، والعثرات، والإحباطات، والبشاعات التي تستهدف الإنسان في الحياة، إنما تتحوّل الى نقيضها في الموت. هاجس من الأضداد يسكن هؤلاء، ليل نهار. لا يفعل فعل الكابوس، بل يترك في النفس أثر الحلم الجميل.
يخيّل إلينا، من خلال هذه المقتبسات، كم أن هؤلاء الشعراء المنتحرين مرضى حتى العظم، يعيشون حالة دائمة من التوتر الهستيري، والاضطراب الشديد في ملكة العقل والتفكير. والغريب أنهم لا يقْدِمون، أبداً، على الاختباء خلف ظلالهم، ولا يظهرون ارتباكاً يذكر، أو تردداً ما، وهم يخرجون الى العلن حقيقة مشاعرهم إزاء الموت، حتى وإن بدت مفعمة بالغرابة والاستنكار أو الاستهجان. أليس ما يثير الدهشة، على سبيل المثال، أن تتحول الرغبة العارمة في طلب الموت، حلماً جميلاً يلازمهم، على الدوام؟ يتبادر الى أذهاننا، ونحن نقتحم عليهم شعرهم، أن هؤلاء يعانون من انفصام مرضي حاد في الشخصية، والأغلب أنهم كذلك، لقدراتهم الفذة على إعادة تشكيل الموت في هيئة الحلم الجميل المرتجى. غير أنهم لا يفعلون كذلك، ولا يشاطروننا آراءنا، على هذا الصعيد. الأهم بالنسبة إليهم، على الأرجح، هو أن يتوسلوا القوة الخفية الطاغية في الشعر لتسهيل عبورهم من الحياة الى الموت، ولجعل هذا الانتقال الصعب أمراً مبرراً لديهم لا يدعو الى الشك أبداً بجدواه الملحة إرضاء لميول مرضية، على الأغلب، الى قتل النفس.

ظاهرة حمّالة أوجه

على هذا الأساس، تقترب حداد، في هذا الكتاب، كثيراً أو قليلاً، من جعله عملاً موسوعياً لتدوين عدد وافر من الشعراء المنتحرين، في القرن العشرين، على وجه التحديد. وهي تفعل ذلك، إما بإيعاز من إعجابها الشديد بنصوصهم الشعرية، وإما بتعاطفها القوي مع هذه الحالات الإنسانية المعذبة، وإمّا نتيجة لاعتقادها بأن هذا التهافت منقطع النظير على الانتحار، قد يشكل، في حد ذاته، ظاهرة ينبغي التوقف عندها، لتوثيقها، على الأقل، وإعطائها حقها أسوة بظواهر أخرى قد تقلّ عنها أهمية، على الصعيد الأدبي والفكري. وفي كل الحالات، يبدو هذا الكتاب حمّال أوجه. فإضافة الى المعلومات النادرة عن هؤلاء الشعراء المنتحرين، في القرن العشرين، والجهد الكبير الذي تكبدته الكاتبة في ترجمة مقتطفات طويلة من نصوصهم الشعرية، ثمة ميزةٌ ثالثة لا تقلّ حيوية وفرادة، تتمثل في إثارة تساؤلات ضرورية. من بينها: هل أقدم هؤلاء على الانتحار لأنهم شعراء بالدرجة الأولى؟ وهل اختاروا هذه النهاية لحياتهم بعد أن ذهبوا بعيداً في متاهاتهم الشعرية الى الحد الذي دفعهم الشغف بالمجهول الى الاعتقاد بأن الموت هو الحلم الأقصى الذي لا توفره لهم الحياة؟ هل ينبغي النظر الى هؤلاء باعتبارهم شعراء أم أفراداً عاديين حملتهم ظروفهم النفسية والحياتية الصعبة على اقتراف جريمة الانتحار؟ هل كان لأوضاعهم السيكولوجية المضطربة، أو المنحرفة، أو المريضة، تأثير إيجابي على جودة نصوصهم الشعرية، بحيث بدا لهم أنهم عاجزون عن الكتابة المبدعة من دون أن تتملكهم هذه الكآبة المدمرة؟

الأرجح أن ثمة شيئاً من هذه التساؤلات جميعاً، وإن بدا أن الكاتبة أميَل الى ترجيح الشعر سبباً رئيسياً حملهم على الانتحار. قد تصيب الكاتبة كثيراً في هذا التصوّر، وقد تخطئ قليلاً. فقد عاشت مع نصوصهم طويلاً، وجهاً لوجه. ولربما اضطرها عملها الصعب هذا الى تقمّص شخصية كل من هؤلاء. وقد أقرّت هي نفسها بذلك.

إنتحر هؤلاء المئة والخمسون، في القرن العشرين، لأنهم شعراء بالدرجة الأولى. وهذه إحدى الحقائق الأساسية التي يتعذّر علينا إغفالها في الكتاب. وقد اتخذتها جمانة حداد ذريعة منطقية مبرّرة، الى حد كبير، لتبني عليها معادلتها الافتراضية التي أثمرت هذه "الموسوعة" الهامة. والأرجح أن الكاتبة أقامت "نظريتها" هذه على أساس من خلفية مثيرة للإعجاب، تتمثل في أن ما يجعل من هؤلاء المنتحرين نسقاً منتظماً، انصرافهم الكلّي الى كتابة الشعر. بعضهم أكثر جودة من بعضهم الآخر. ومع ذلك، قد تبدو هذه "الفرضيّة" متماسكة وفقاً للدلالات الانتحارية التي تنطوي عليها المقتطفات المعرّبة. كل من هؤلاء يرهص بالموت المبكر، أو يسعى إليه، أو يتوهّمه آتياً إليه من المجهول. ثم إن كلاً منهم يستدرج فكرة الموت الى ملعبه الداخلي باعتبارها حافزاً على إطلاق الحلم الجميل من مخابئه العميقة في متاهات الذاكرة. محقّة هي الكاتبة في ما تذهب إليه. ثمة ارتباط وثيق جداً بين التجرؤ على الانتحار من جهة، واستسهال ممارسة هذا العنف الدموي بالشعر، من جهة أخرى. ولو لم يكن هؤلاء مصابين بلوثة الشعر، لترددوا، على الأرجح، في اختصار المسافة التي تفصل بين الحياة والموت.

فرضية أخرى

ومع ذلك، ثمة "فرضية" أخرى قد يلوّح بها ذوو التوجهات النفسية في مقاربة حالات مستعصية كهذه. الأغلب أن أصحاب هذه المدرسة، إذا صحّ التعبير، هم أميَل الى تصنيف هؤلاء الشعراء المنتحرين، من دون تردّد يذكر، في خانة من فقد مناعته النفسية نتيجة لاضطراب عنيف يخلخل مرتكزات الشخصية، فيجعل منها أمراً مشرعاً على كل الاحتمالات، ومن بينها الانتحار بأشكاله المتعددة التي تبعث على القشعريرة. على النقيض من نظرية الكاتبة، يستدل أصحاب هذه المدرسة على الميول الانتحارية المرضيّة لدى هؤلاء بالإشارات القوية التي يبثونها في نصوصهم الشعرية. بينما تعمد الكاتبة الى توظيف هذه النصوص، بشكل أو بآخر، للاستدلال بأن العالم الغامض للشعر، على مستوى التداعيات والانجراف الساحق في تيار الرؤى الشعرية، قد زيّن لهم فكرة الموت انتحاراً. أي من هاتين النظرتين أقرب الى حقيقة هؤلاء، وأيّهما أقدر على تفسير هذه السلوك المبهم، أو إدراجه في دائرة الظاهرة إذا كان لا بد من ذلك. الأرجح أن لا حقيقة ثابتة يمكن الركون إليها للتوصل الى قناعات حاسمة، في هذا الخصوص. الحقيقة غائبة في هذا السياق المتعثر من الفرضيات والنظريات والاحتمالات. ويبدو أن للكاتبة أسباباً موجبة حملتها على الاعتقاد بخطورة الاشتباك المعقّد بين الشعر والانتحار. وهذا لا ينتقص كثيراً من النظرية الأخرى التي تصنف هؤلاء الشعراء في خانة المرض النفسي الخبيث. ويبدو أن الفرضيتين وجهان لعملة واحدة، في نهاية المطاف، طالما أن الانتحار قد قال كلمته، إما بالشعر، وإما بإطلاق رصاصة قاتلة على الرأس.

نصوص مرهفة

ولكن ثمة أرجحية، على الأغلب، لفرضية الكاتبة، من بين أهم أسبابها وأكثرها صدقاً وحميمية، أن هؤلاء المنتحرين شعراء بالمطلق، وإن تفاوتت مواهبهم التعبيرية. جلّهم توغل، عميقاً في مسام الموت قبل حدوثه، بالكتابة الشعرية. لم يستعجل أي منهم الموت، أو يناديه أو يطلبه، بغير وسيلة الشعر. ومع ذلك، تفتح الكاتبة، باباً واسعاً للنقاش، وإن لم تزمع على ذلك. تضع أمامنا ذخيرة حيّة مستخلصة، بصدق، من التجارب المرعبة التي شهدها هؤلاء. فألقت الذعر في نفوسهم، أو أنها حررتهم من الخوف الكبير الذي يسبق، في العادة، قرار الانتساب الى عالم الموت. النصوص المعرّبة لهؤلاء المئة والخمسين، ذات نكهة استثنائية. مشغولة بشفافية عالية حتى على مستوى المفردة الواحدة. تكمن أهميتها القصوى في أن الكاتبة لم تجعل منها ملحقات مبسّطة، أو ديكوراً اعتباطياً ينبغي إدراجه تحت هذا الإسم أو ذاك. ليس الأمر كذلك، على الأرجح. يضاف الى ذلك، الجدية الكبيرة التي تقارب، من خلالها، هاجس الموت لدى هولاء. ثمة خشوع واحترام كبيران يخيّمان على الكاتبة، وهي تعرّب هذه النصوص باعتناء لافت مفعم بتعاطف مرهف لمعاناة هؤلاء الذين شهدوا الموت، وشهدوا عليه، مراراً وتكراراً قبل أن تستفحل عليهم نزعة الفناء.
الكاتبة، في هذا السياق المخيف من التعاطي المباشر مع نصوص مذعورة، متوترة، مرتجفة وحائرة، بدت متناغمة، على نحو موضوعي، مع المغزى الرئيسي للكتاب. لم تحِد، قيد أنملة، عن هذا السياق. بقيت ملتزمة به، في حدوده القصوى حتى لا تقترف، على الأغلب، ما من شأنه أن يظهر هؤلاء على غير حقيقتهم. لم تنبش قبورهم، ولم تعبث بمقتنياتهم. الأرجح أنها احترمت سكينتهم. كشفت شيئاً كثيراً من خصوصياتهم، كما عبروا عنها في شعرهم. غير أنها لم تشهّر بما لا حقّ لها في ذلك.

(جريدة المستقبل
الثلاثاء 12 حزيران 2007)

كل المرايا والنوافذ على تراجيديا الهاوية

غسان الحلبي

دخلت الشاعرة والمترجمة والباحثة جمانة حداد حيوات مئة وخمسين شاعرة وشاعراً لم "ينتظروا أن يُفتح لهم باب الموت، بل قرروا أن يفتحوه بأنفسهم". قادها الحب والعشق والافتتان إلى رحلة أورفية قطفت عبرها قصائد لهم هي أشبه ما تكون بمرايا عاكسة لتخوم معتمة في دواخلنا "الإنسانية"، وقدّمتها لنا في صيغة "أنطولوجيا" لا يمكن مقاربتها إلا تحت الظلال "البارقة" لأسئلة الموت والشعر.
المدخل الذي أقامته جمانة حداد لتلج منه إلى أنطولوجياها المسمّاة "سيجيء الموتُ وستكون له عيناك – مئة وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشرين" (الدار العربية للعلوم – ناشرون، ودار النهار للنشر) يمهّد بحكاياته وومضاته وعناوين فصوله الملتمعة شعراً، بلطافة إخبارية سبيل تراجيديا "الهاوية" التي هندستها، لكي نلج بدورنا إليها من دون سابق إنذار. أو ربما هي استحالت سابية عقول (هنـّادة) siren مستدرجةًً إيانا، بقوة إغواء صورتها الشعرية، إلى قلب ما يشبه العتمة المتوهجة بالموت. ولا تنفك جمانة حداد عن بوحها لنا بتلك "الذرائع الخرساء" التي قادتها إلى مثل قدر لا مفر منه، فهي بدورها انجذبت الى تلك "الأشباح التي خاطبتها سرّا وشدّت أكمامها كأطفال صغار أضاعوا أمهاتهم في الزحمة" انجذاباً بقوّة حبّها لأجملهم عندها.

المدخل إذاً كان سرديا، إحصائيا، إعلاميا، لكنه بالطبع متشح دائما بلوامع الشعر وبوارقه، ودائما بحضور "كلّ الجمانات" اللواتي سبق لحداد أن اعترفت بهن فيها كأنهن الصور المتناسخة لوجه ثقافي يعي، ببراءة مفخخة بكل الخطايا، معنى أن يكون المرء (أن تكون المرأة) شاعرا في حياتنا المعاصرة. وجهٌ لا يتردّد في اقتحام آفاق اللعبة، والارتماء في مسيل النهر الهادر، والانكباب إلى حد الاستحواذ الخالص على خدمة "شغف مطلق" بالشعر، وإن مقطوفا من بين أنياب موتٍ شرس.

جمعت الباحثة قصائد الشاعرات والشعراء الموتى المنتحرين من كل فجّ وصوب، واستقصت المحققة الصحافية سيرهم الحياتية في معالمها البارزة (انحنت على حيواتهم، كما تقول) لتقدِّم بها لكلّ واحد منهن ومنهم "نبذا بيوغرافية"، كما لو أنها تهيّئ المسرح لمأساةٍ وجودية يظللها موتٌ إراديّ مكتمل الحضور. وانكبّت المترجمة على تعريب النصوص الشعرية المعبَّر عنها بلغات شتى (ست لغات غير العربية) لتضع أمامنا النص بلغته الأصلية والمعرّبة فتبدو الصفحة الواحدة مرآة ثلاثية البعد (حين يتورّط القارئ في استكناه المعنى) تتعدّد فيها صيغ التعبير، ويتوحّد فيها الألم الذي يغذّي الكل من نبع واحد.

نظرة ليونتيوس

ثمة واحدة من بين تلك الجمانات "نظرت"، بل أصرّت على النظر بعينين وسيعتين وعميقتين إلى "صور الأشلاء المرعبة والوجوه المتفحمة والصدور الممعوسة في المراجع التي توثق للانتحار بصوَر من سجلات الشرطة". هذه الملاحظة المذهلة التي توردها جمانة حداد، في المدخل، تحيل على الفور، على ما يمكن تسميته "نظرة ليونتيوس".

الحكاية يرويها أفلاطون في الكتاب الرابع من "الجمهورية" ومفادها أن ليونتيوس بن أغلايون كان عائدا ذات يوم من البيريه في محاذاة الجانب الخارجي من الجدار الشمالي الذي كان يشكل جزءا من الجدران الطويلة التي كانت تصل أثينا بالبيريه، والتي أقيمت بناء على اقتراح ثيميستوكل غداة الحرب الميدية الثانية. لمح ليونتيوس جثثاً ملقاة قرب الجلاد، فثارت في نفسه رغبة قويّة للتحديق فيها، لكنه اشمأز مشيحا بوجهه عنها؛ وخلال بضع لحظات قاوم ذاته مغطيا رأسه بيديه، لكنه في نهاية الأمر، استولت عليه الرغبة، فتطلع بعينين وسيعتين (حرفيا) راكضا صوب الجثث وصارخا: "هلمي أيتها العيون الجانّ، تمتعي بهذا المنظر الشهيّ!"

التيموس الشعري

يصعِّد "الفيلسوف الإلهي" الحجة لإثبات وجود عنصر ثالث في النفس. ثمة قوّة في ذات ليونتيوس أبعدته في لحظة ما عن الرغبة وحاكت عقله، فلا هي الرغبة إذاً، ولا هي العقل، بل هي شجاعة من القلب وغضب سمّاها أفلاطون "التيموس" thumos وميّزها عن ملكة العقل والتفكير (نوس) noos من جهة، وعن نوازع الشهوة والشبق (إبيتوميا) épithumia من جهة أخرى. وُسم التيموس بالكثير من الطباع والصفات، أبرزها أنه استعداد في ذات المرء للسخط على الظلم، نوع من غريزة أخلاقية ورغبة في تأكيد الذات. هو "الحصان الأبيض" في صورة النفس الممثلة بالعربة في محاورة "فايذرس"، مفعم بالنشاط وروح القتال والتصميم على تحقيق النصر. ومع ذلك كله، يبقى التيموس قوّة رجراجة تعبّر عنها أصول المعنى اللغوي باليونانية، التي تصفه بقوّة القلب واحتدامه واندفاعه مغمورا بالشغف تارة ومقاوماً له تارة أخرى، متوثبا لنصرة الفكر طورا ومعوقا له طورا آخر، لكن يبقى لديه إمكان المساهمة، كما يقول Moes "في الفرصة المقدمة إلى الطبائع الجسمانية التي فينا لتنجذب إلى المعقول وتستردّ للذات المحبطة أجنحتها وطبيعتها الأساسية".

نظرت جمانة حداد وحدّقت، بل وتفرّست في مرآةٍ ليس لها قرار. مرايا لحيوات متكسِّرة وذوات مفجوعة ووجوه في ياء الهاوية. مرايا اللغة إذ يسنّها الشعر نصالاً حادة لمقصلة الوجود. واللغة في تلاوين عبقرياتها التعبيرية، تتيح فعل تأمّل سحيقاً هو أقرب إلى بعث الروح الغائبة في روح نابضة بالحياة. إزاء ذلك، تبدو النظرة إلى الصور التوثيقية أقل صعوبة مما سبق. كأن جمانة حداد استمدّت قوة من سفر "العناء والجلد والأناة والقدرة" لتصل إلى تلك اللحظة التي استسلمت فيها كليا لرغبة "الرؤيا بأمّ العين" وصولا إلى سورة الغضب: "الشاعر المنتحر شاعر... لكنه، كذلك، مجرم في الدرجة الأولى".
إنما ليس بفعل الإدانة توغلت جمانة حداد، في "مراياها"، وإنما بقوّة ما يمكن أن يُسمّى "التيموس الشعري". بدءاً من حكايات المدخل إلى السيَر المقتضبة إلى كل القصائد التي تضمّها هذه "الأنطولوجيات" (كبرى وصغرى) من حيث القصد من اختيارها ومضامينها الزاخرة بمكابدة الحياة والموت معا وفي الآن عينه، يحفل عمل جمانة حداد بالتوتر الذي تديره الشاعرة بأعصاب مشحونة بالشعر. الشعر هو الذي يقرِّر في كل آن صخبَها الناتج من احتياج قاتل للحياة، وأيضا سكينتها وهدوءَها المترتبين عن حضور الموت حضورا هو أقرب من حبل الوريد.

في عراء الوجود والموت معا

مضت جمانة حداد "بشغف مطلق ومتعة خالصة" إلى مملكة هادس السفلية (Hadès) عالم الموتى وكلّ جحيم. سبرت أغوار عوالم الشعراء المتهافتين بالمرَض، بالوحدة، بالفراق، بالادمان، بالفاجعة، بالفقر، بالجنون، بالحبّ المستحيل، بالانهيارات، بالفشل، بالاكتئاب، بالتشرّد، بالاضطرابات، بالعشق العقيم، بالسوداوية، بالحيرة، بالظلمة، وباليأس، ثمّ بطلقات النار والغرق والاختناق والشنق والسم والجرعات القاتلة، بل وأيضا باللغة والثقافة ونهم القراءة والجوائز والحب مترعا بحس الزمن وأحلام الحياة الهشة، ودائما وعلى الدوام بالشعر والقصيدة الملتقِطة في لحظةٍ ما ماهيّة كائن إنساني في عراء الوجود والموت معا. من هناك قطفت انطولوجيا لتصحبنا معها تحت شمس سوداء بقلب متوهج يمنحنا قوّة لعبور هذا الرواق الممتد كحلم يقظة بين الحياة والموت من جهة وما بعدهما كلاهما من الجهة الأخرى.

الشعر هنا طائر حزين في قفص الوجود، يُفرد جناحيه بقوّة التحديق في وجه الموت ويرى ما لا يراه الناظرون. الشعر هنا مطارَد، تلاحق المأساة ُمخلوقاته (الشعراء) على مدار الزمن، وتتعقب وجودهم بلا هوادة، وتتخم أيامهم بالقسوة والألم، بل "تقصف أعمارهم قصفا"، لتمنحهم في الوقت عينه سكينة تأمل الموت أفقا مفتوحا كما تقول ستورني، أو سلاما أكثر صمتا كما تقول تيسدايل، أو فنا يُمارَس كدعوة كما تفصح سيلفيا بلاث.
القصيدة فوق كل هذا الركام الانساني لـُقيا فريدة أشبه ما تكون بترياق سام به شفاء، أو هي مضاد حيوي (أنتي بيوتيك) من الصعوبة تناوله ببرودة عقل طبيعي أو توثب غريزة جامحة، بل بشجاعة القلب (التيموس) وصولا إلى معنى الحياة كما فعلت جمانة حداد بكلّ "الجمانات" اللواتي يقمن فيها.
العمل ليس إنتاج "الإعلامية" منهن. مقاربته بهذه "الإدانة!" المسبقة هي مقاربة تؤدي إلى قراءة ظالمة وراسبة في المستوى الغريزي، لأن النواة المحورية فيه هي "ثيمة" الشعر أولا، ومن ثم الموت، وكلاهما موضوعان على الضد تماما من الدارج الطاغي فوق "البلاتو" الإعلامي. ففي نهاية المآل، تضعنا الانطولوجيا أمام أسئلة الشعر والموت، وهي أسئلة تدور في قلب الحياة لا في المنقلب السوداوي منها.

الأعراس السرية للموت والشعر

كانت حنة أرندت في الرابعة عشرة من عمرها (1920) عندما شارفت حدّ الهاوية في عالم مزّقته الحرب والأفكار الخامدة. بات الشعر ملاذها في حياتها "المسكونة بالموت"، كتبته مشبعا بالكآبة: "بلا دفة أنا في الحياة/ لا شيء فوقي سوى الفظاعات/ مثل عصفور جديد أسود كبير:/ هو وجه الليل".
نهمها إلى الخلاص بالمعرفة أودى بها إلى صف هايدغر الذي كان يدرّس الفلسفة وسط حلقة من الجامعيين المهووسين به وبكلماته التي جعلت الوسائل القديمة في التفلسف "أرضا محروقة". لفتت لور أدلر في كتابها عن فيلسوفة الكفاح ضد الشمولية، إلى أنّ العلاقة "الشاملة" التي جمعت هايدغر وأرندت كان لها أثر "تخصيبي" عميق في المخاض الفكري الذي أدّى إلى ظهور "الكائن والزمن"، الكتاب الذي تضمّن النواة الصلبة لفكر هايدغر وساد أجواء الفلسفة في القرن العشرين بقوّة لا تضاهى. المهم هنا هو أن سر تلك الرابطة "الوجودية" كان "الأعراس السرّية للموت والشعر" على ما تقول أدلر. الشعر هنا هو غذاء وملاذ، مسكون بالنبوءة، مشحون بلغة إملاء متعال، متلبس بالانفعالات الحميمة ليؤديها كظاهرة، بل هو قوّة حضارية مهذبة لبناء الذات، وعزاء يرسل التحية، كما تقول حنة، إلى أمير الظلمات الوحيد: الموت الكلي الحضور.
ومضى هايدغر بالشعر إلى حدود قصوى، إلى فسحة اختبار فكري جديد (منهجيا) هو استخدام العلاقة بين الفلسفة والشعر موضوعا بذاته في حقل الاستبصار الفلسفي الحديث، معتبرا أن الفلسفة لا تقبل في مستواها الفكري إلا الشعر، بمعنى أن عالم الفكر الشعري ليس بأقل حقيقة من عالم الفكر الفلسفي. ومعلوم أن "القلق الوجودي إزاء الموت" هو لبّ المعضلة القائمة بين "الكائن" و"الزمن".
غادامير، الذي بدأ تلميذا لهايدغر، عمّق معنى "العمل الفني" في اتجاهٍ هيرمينوطيقي. في اختصار، تأثر عميقا بفكرة كيركيغارد عن اللحظة الوجودية الحاضرة، وبفكرة بولتمان عن القلق الذاتي الذي يجده مستحضرا في النص، وردّد مرارا بيت ريلكه المتحدث عن نداء العمل الفني: عليك أن تغيّر حياتك! وقد أولى أهمية لاختبار اللغة الشعرية "لأن القصيدة في الرأس لا تحيل على أي شيء آخر سواها"، واعتبر أن التراجيديا هي لعبة الحياة أيضا، وأن "التطهر" catharsis الذي تولده في الذات وفقا لمقولة أرسطو الشهيرة لا يعني تنقية الانفعالات والمشاعر من الاحباط والقلق، بل يعني أنها تصبح أكثر خفة ولطافة.
كل هذا المسار الموغل في "استشعار" الشعر يمسّ عميقا اختبار تلقّي قصائد الانطولوجيا التي جمعتها "الجمانات" بكليّتها. قصائد ملقاة أمامنا من العالم الداخلي الذي تتسع آفاقه خلف وجوهنا المدبوغة بوهم القناع. مرايا يغيب من قعرها الزمن، لانطباق كل الأبعاد الهيرمينوطيقية الغاداميرية المذكورة أعلاه عليها بامتياز. ويبدو جليا أن جمانة حداد الشاعرة تحديداً لم تبذل وقتها بشغف العاشق مع الموتى. الشاعرة هنا اقتحمت، بقوة سحر جمالية الشعر، عوالمهم بروح أورفية مكّنتها من "الاشتباك" الوجودي الحي معهم وكأنهم أحياء يرزقون. ألم تعدنا بـ"مرايا العابرات في المنام" كتاباً يتضمن حدسها الشعري بتجربتها مع بعض شاعرات انطولوجياها؟
لقد عادت إذاً جمانة حداد بقيثارة الشعر، بـ"نافذة مفتوحة أبداً" ترى منها الموتَ عريّاً من كلّ صفات الموت. لا تراه الآن نهاية، إن هو سوى أوّل الحكاية... حكاية عين الحياة .

(الملحق الثقافي
الأحد 10 حزيران 2007)

يوم أصبح للشعراء المنتحرين أنطولوجيا و... منزل

زينب عساف

من الخيط الخفي الذي يربط بين الانتحار في وصفه فعلاً شعرياً، والشعر في وصفه فعلاً انتحارياً، يولد كتاب "سيجيء الموت وستكون له عيناك" للشاعرة والمترجمة جمانة حداد، الصادر حديثاً لدى دار "النهار" و"الدار العربية للعلوم"، في 656 صفحة من القطع الوسط، في مجلّد فخم صممت غلافه الفنانة عبر حامد.
بين حرفَي السين، سين فعل يجيء وسين فعل تكون، يُحشَر الموت. بين سينَين مستقبليين يصبح للموت مستقبل ومعجم يضمّ أسماء الذين من خلال فجوة الموت والشعر وضعوا عينهم على المجهول.

الخيانة مبتدأً

"مئة وخمسون شاعراً وشاعرة انتحروا في القرن العشرين. مئة وخمسون صرخوا (أو همسوا): "كفى"، وسبقونا إلى الضفة الأخرى". "كيف بدأ ذلك؟"، تسأل الشاعرة نفسها، ثم تجيب: "لا أعرف... جلّ ما أعرفه هو أننا نحن الشعراء محاطون بأشباح يخاطبوننا سرّاً". هؤلاء الأشباح هم أنفسهم الشعراء المئة والخمسون. ثمة "أمومة" ما إذاً في اعتبار الكاتبة هؤلاء الشعراء المنتحرين أشباحها وأطفالها. ثمة أمومة تنبش قبور أبنائها الذين قضوا وباتوا تراباً تحت التراب، وتجبرهم على "تمثيل" جرائمهم الرائعة مرة أخرى. لكن نبش قبر مَن كان شاعراً ومنتحراً، هو أشبه بالعبث بمصباح علاء الدين السحري. ليس من وعد تضربه في عبث مماثل إلا مع المجهول واللامتوقع والسري، لكن المخيف أيضاً. هذا ما تشير إليه جمانة حداد في بحثها عن العلاقة بين تيمتَي الكتاب، أي الانتحار والشعر، معترفةً بأنها أُصيبت بالصدمة حين رأت صور الجثث المتفحّمة أو المشوّهة ولم تعثر فيها على أي شاعرية. نحن نتحدّث إذاً عن "البلاد المجهولة التي لا يعود منها أي مسافر"، كما يقول شكسبير الذي تستشهد به حداد، أو "النزل الذي يظهر فجأة أمام عيني المسافر"، على ما يقول الشاعر المنتحر جورج تراكل في إحدى قصائده المتضمنة في الكتاب.
المشروع الذي بدأ لأربعة أعوام خلت بـ33 شاعراً، كما تروي حداد، وصار يتوسع تدريجاً، انطلق من سؤال عن صحة الزعم بأن يهوذا الإسخريوطي كان أول المنتحرين في العالم الحديث. سؤال له شِباك. سؤال مغوٍ. سؤال صيّاد. هكذا، وقعت حداد في حبّ أول المنتحرين هذا. بالطبع ثمة تلميح في جعل يهوذا الخائن والمنتحر مبتدأً (هل لاحظتم كيف تحاكي صفة "الشاعر المنتحر" صفة "الخائن المنتحر"؟). فالشعر في معنى ما من معانيه الكثيرة هو خيانة أيضاً. والانتحار خيانة. والترجمة خيانة. خيانة يهوذا تجمع ولا تفرّق، إذاً، بين شعر فلاديمير ماياكوفسكي وانتحاره، بين شعر تشيزاري بافيزي وانتحاره، بين شعر سيلفيا بلاث وانتحارها...الخ.
في اكتمال الدائرة
تقول المعاجم عن الانتحار إنه الفعل الإرادي الذي يؤدي إلى أن يضع الشخص حدّاً لحياته الخاصة. ويتحدّث الطبّ عن الدمار الذاتي أو الـautolyse (عن اليونانية: auto أي نفسه، و lyse أي تدمير). ويضيف القانون أنه من أجل اعتبار حالة ما انتحاراً، يجب أن يكون الموت هو الهدف الرئيسي للفعل وليس أحد نتائجه. البحث لا يدور هنا حول هذه الأبعاد اللغوية أو الطبية أو القانونية، بل يتمحور حول تلك الـ"لماذا؟" الوجودية العملاقة التي لا تنفكّ تتضخّم كلما تابعنا توغّلنا داخل هذه الأنطولوجيا التي تطلبّت ابحاثاً هائلة. لا تزعم جمانة حداد أنها كشفت أسرار المنتحرين كلهم بعدما نفضت يديها من تراب قبورهم، وهي لا تريد ذلك أصلاً، بل إنها تحاول أن تعاين عن قرب تلك الحقيقة التي لخّصتها في جملة لجان أميري يقول فيها: "أنا أموت، إذاً أنا موجود"؛ الجملة التي نطقها مئة وخمسون شاعراً وشاعرة بأكثر من عشرين لغة وبمئة وخمسين طريقة مختلفة. هذه المعاينة تتمّ من خلال رسم شجرة عائلة أو تتبّع خيط ما بين هؤلاء المنتحرين جميعاً. تقول حداد إنها جمعت هذه الأسماء بين دفّتي كتاب لا لأنها تشكّل "نوعاً" أو "جنساً" أو "تياراً" أو "عائلة" شعرية متجانسة، بل من أجل خلق "جوّ" شعري متناغم، إذ اكتشفت بعد انحنائها على حيوات هؤلاء المنتحرين أن ثمة ما يربط الواحد منهم بالآخر في المعنى الوجداني والقدري، وليس الشعري كما تشرح، ملاحِظةً إن نيلغون مارمارا وأميليا روسيللي مثلاً كانتا تعشقان سيلفيا بلاث. أما ألفونسو كوستافريدا فقد ألّف كتاباً عن الانتحار، وأسس جاك ريغو "الجمعية العامة للانتحار"... إلخ. على هذا النحو تواصل جمانة حداد الحفر في أرض القربى الغريبة التي تجمع بين هؤلاء، لتكتشف أن الخيط هو في النهاية دائرة. الدائرة التي قد نكون جميعاً عالقين فيها.

150 شاعراً... 47 دولة

هالة الانتحار لم توقع جمانة حداد في حبائلها. فالكاتبة لم تقتنع بأن الموت وحده كفيل أن يجعل شاعراً ما شاعراً عظيماً، فإذا بها تعتمد في معايير الاختيار على الشعرية أولاً، أي على استحقاق تجربة كل شاعر. من هنا جاء التقسيم بين أنطولوجيا كبرى وأنطولوجيا صغرى، مع وجود بعض الاستثناءات كاستحالة الحصول على نصوص لبعض الشعراء المستحقين التصنيف ضمن الأنطولوجيا الكبرى، ما اضطرّها إلى ضمّهم إلى الصغرى.
وتشدد الشاعرة على أن الهمّ الأساسي في عملية التبويب لم يكن الفرز المرتكز على عامل مشترك، قدر ما كان "شرعية التجربة الشعرية"، أي جودة النصّ الشعري، من دون وجود "أولوية للأسماء والنصوص الإدهاشية على حساب أسماء ونصوص أخرى أكثر استحقاقاً". وتضرب حداد مثلاً على ذلك، الكاتب الأميركي الشهير إرنست همنغواي الذي كتب الشعر، لكنها لم تدرجه في لائحة الشعراء لأنها لم تعتبره مستحقاً كشاعر.

ولم يفت حداد القيام بالنقد الذاتي، تصويباً لمسار الأنطولوجيا وقطعاً للطريق أمام المشككين، فهي تفترض أن عدد الشعراء المنتحرين في القرن العشرين لا بد أن يكون أكثر من مئة وخمسين، لأن ثمة شعراء كتبوا بلغات غير منتشرة على نطاق واسع، وتالياً كان من المستحيل الاطلاع على تجاربهم أو الحصول على نبذة عن حيواتهم. وهي إذ تشير إلى النواقص التي لا بدّ أن تعتري عملاً كهذا، نظراً الى ضخامته، تعلن أن الطبعات اللاحقة ستكون مناسبة للتنقيح وسدّ الثغر، لا سيما أن "مسعى هذا المجلّد ليس أنطولوجياً فحسب، بل هو موسوعي كذلك، ويرمي، بقدر الإمكان، إلى أوسع مسح متاح لموضوعه".

اختارت حداد تقسيم الكتاب أجزاء ثلاثة: الأنطولوجيا الكبرى، وهو القسم الأضخم في الكتاب ويشمل خمسين شاعراً (34 شاعراً و16 شاعرة) من 35 دولة، أفردت لكل منهم مساحة كبيرة بين التقديم لهم وترجمة قصائدهم. الاعتبار "الكمّي" كما سبق وأشرت، خضع لمزاج شعري وترجمي خاص، أي لمدى تفاعل المترجمة مع النصوص التي استفزّتها، لكن المعدّل العام لكل شاعر راوح بين ست وعشر صفحات.

القسم الثاني أو الأنطولوجيا الصغرى، عبارة عن مختارات مصغّرة تشمل خمسين شاعراً (40 شاعراً و10 شاعرات) من 27 دولة، مع تقديم موجز وقصيدة واحدة مترجمة لكل شاعر. أما القسم الثالث فيضمّ خمسين شاعراً أيضاً (48 شاعراً وشاعرتان). يرد ذكر هؤلاء الشعراء جميعاً في الأقسام المختلفة بحسب الترتيب الكرونولوجي، من الأقدم إلى الأحدث، وهم ينتمون إلى 47 بلداً مختلفاً: بلغاريا، الولايات المتحدة، النمسا، الأرجنتين، روسيا، اليونان، أسوج، مدغشقر، المكسيك، المجر، اليابان، إيطاليا، الدانمارك، لبنان، مصر، كولومبيا، فرنسا، سوريا، الأردن، السودان، كوبا، الجزائر، العراق، أرمينيا، البرازيل، النروج، الصين، تركيا، الهند، المغرب، اسكتلندا، بريطانيا، سويسرا، البرتغال، لاتفيا، رومانيا، البيرو، إسبانيا، كندا، جنوب إفريقيا، بولونيا، استونيا، بلجيكا، ألمانيا، فنلندا، تشيكيا، وفنزويلا.

وتلخّص الكاتبة أسباب هذا الفرز في ثلاثة: أولاً، غالبية الشعراء في القسم الثاني أقلّ أهمية من شعراء القسم الأول، وقد يكون بعضهم أكثر بروزاً كروائيين أو مفكرين.
ثانياً، ثمة عدد من الشعراء المنتحرين يحتلون موقعاً جوهرياً في آداب بلادهم، لكنّ الكاتبة قررت رغم ذلك أن توردهم في القسم الثاني لا الأول، لأن شعريتهم ليست على مستوى شهرتهم. على هذا الأساس، ضمّت الشاعر الأميركي جون بيريمان الذي يُعتبر ركناً أساسياً في بانوراما شعر القرن العشرين في الولايات المتحدة إلى القسم الثاني، بينما تكبّدت عناء كبيراً في الحصول على إحدى مجموعات الشاعر المدغشقري جان جوزف رابياريفولو من دار نشر فرنسية مغمورة، وضمّته الى القسم الأول لأنه مستحق.
ثالثاً، كانت هناك مشكلة في عدم توافر النصوص لبعض شعراء القسم الثاني، بما يكفي لإدراجهم في القسم الأول. أيضاً، بعضهم كتب القليل ولم يكن هذا القليل مصنّفاً في خانة الشعر رسمياً.

في العودة إلى القسم الثالث الذي يحمل عنوان "إحصاء الظلال"، اكتفت الكاتبة في هذا القسم بتعداد الشعراء ووضع شذرة لكل منهم "لأني إما لم أعتبرهم جديرين بالانتماء إلى القسمين الأولين، وإما واجهت صعوبة كبرى في العثور على قصائد لهم، ومعلومات موسّعة ودقيقة عن غالبيتهم، سوى الجنسية وسنة الولادة والانتحار". عدم التوسّع كثيراً في الثبت البيبليوغرافي جاء هنا لمصلحة إفساح المجال للشعر كي يقول كلمته ويروي قصة الشاعر: "فما أهمية وقائع الحياة أمام "وقائع" القصيدة؟".
ليس ذلك فحسب، بل يضمّ الكتاب أيضاً جداول إحصائية عديدة ومعلومات إضافية عن الشعراء المنتحرين، من بينها طرق انتحارهم وأسبابها والتوقيت الذي قرروا فيه ترك هذه الدنيا وجنسياتهم وأبراجهم الفلكية وغيرها، إضافة إلى ملحق خاص، قد يصلح خميرة لأنطولوجيات أخرى، يضم أبرز الشعراء الذين انتحروا قبل القرن العشرين، فضلا عن لائحتين ببعض أبرز الروائيين والفنانين المنتحرين في العالم. أيضاً تطرّقت حداد، في أخلاقية أدبية ومهنية علمية عاليتين، الى المراجع الأجنبية المختلفة التي تناولت موضوع انتحار الكتّاب من قبل، وعدّدت تلك التي تمكّنت من الحصول عليها والاستناد إليها، في مقدّمتها وفي لائحة المصادر والمراجع على السواء.

تحسس التضاريس

للكتاب الصاعق الذي بين أيدينا خطة بالطبع، ولهذه الخطة مقدّمة أدبية/ علمية/ أكاديمية/ بحثية ذات هندسة دائرية (كدائرة الموت والحياة)، تطرح فيها حداد (القارئة والشاعرة والباحثة والمترجمة) كل ما يمكن أن يخطر في بال الآخر (وبالها) من أسئلة، ثم تجيب عنها: متى بدأ ذلك؟ كيف وقعتُ في حبّهم؟ لماذا كتاب للشعراء المنتحرين؟ أيّ شعر لأي شاعر؟ لماذا شعراء القرن العشرين تحديداً؟... هذا السؤال الأخير تجيب عنه الكاتبة بجواب ذي شقّين: الأول موضوعي، وهو الطموح إلى عكس تحوّلات بانوراما الشعر العالمي وتموّجاته وتنويعاته على مدى القرن الماضي، والثاني ذاتي، وهو انتماء جمانة حداد الشعري إلى هذا القرن. إذاً، نحن أمام محاولة استقراء وتحسس لتضاريس الشعر بوجهة نظر لا تخلو من "لوثة" سيكولوجية، برزت أكثر ما برزت من خلال التركيز، في انتخاب المختارات الشعرية، على النصوص التي تتمتّع بقدرة تنبوئية: "في الغد سيطلع الضوء على شاعر ميت"، "تلك الخطى الهادئة ورائي خطاك أيها الموت"... إلخ. أما الشعراء الذين انتحروا ولم يكتبوا شيئاً عن الموت فقد رجّحت حداد في اختياراتها كفّة النصوص الأكثر جمالية ودلالة على تجربة الشاعر ومسيرته ورؤيته الشعريتين. وتعترف حداد بـ"تحيّزها" العربي في هذا العمل، في معنى عدم إخضاعها الشعراء العرب المنتحرين (15 شاعراً) للتقويم الذي قام عليه التقسيم الثلاثي للكتاب. ربما انتصاراً لهذه الفئة القليلة و"الضالة" في بلاد فاق فيها عدد "الانتحاريين" عدد المنتحرين.

قبور حيّة

تكمن أهمية هذا الكتاب ايضاً في أن جمانة حداد ترجمت القصائد مباشرة عن الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية والألمانية والبرتغالية، موضحة بدقّة "ضميرية" ونزاهة علمية ندرت في أيامنا هذه أنها استفتت مراجع ثنائية اللغة في ما يتعلق باللغتين الأخيرتين. والملاحظ أيضاً أنها حرصت على إيراد نصوص القصائد بلغاتها الأصلية زيادةً في الدقّة، شارحةً في "استطراد" طريقة عملها ومفهومها للترجمة. وفي هذا الصدد، يمكننا أن نستعير لغة الشاعر هولدرلين لنقول إن حداد كانت "وفيّة في قلب اللاوفاء".
من جهة أخرى، تفتح لنا الشاعرة نافذة في مقدّمتها على مجموعتها الشعرية المقبلة، "مرايا العابرات في المنام"، التي تصدر في مرحلة لاحقة، والتي "تنتقم" فيها شعرياً من معاناتها مع الشعراء المنتحرين طوال الأعوام الأربعة التي استغرقها إنجاز هذه الأنطولوجيا، من خلال ارتمائها الشعري في أحضان اثنتي عشرة شاعرة من المنتحرات في العالم.
في حديثه عن الحلاج يقول جان جينه إنه "يدفن اللغة وهو يبدعها"، في معنى دفن الدلالة المتداولة ثم إحيائها دلالةً جديدة مدهشة. وقد علّق الشاعر والناقد ممدوح عدوان على ذلك في كتاب "هوامش الشعر" بالقول: "الشاعر يدفن اللغة المتداولة، ويستخرج لغته الخاصة به. ثم يأتي المترجم فيعود إلى القاموس بحثاً عن المعاني. أي أنه يعود إلى القبر الذي كان الشاعر قد دفن اللغة فيه، ليستخرج الجثة ويعيد التعامل معها". في كتاب جمانة حداد ثمة نبش لقبور كثيرة بالطبع، لكنها قبور شعرية ساخنة لها نبض ومزاج وفتنة. قبور لها دورة شعرية ولغوية ودموية على السواء... وأكثر: قبور حيّة.

(جريدة "النهار"
الأربعاء 2007 23 أيار 2

مئة وخمسون شاعراً

خليل قنديل

حين تحدق بملامحهم تفجعك تلك النظرة الحادة المنبثقة كسياط غامضة من بؤبؤ العين، وإن امعنت أكثر في أعماق تلك النظرة، لابد وأن تستدل على ما يشبه الاستغاثة، أو حتى الصرخة المكتومة، وحينما تحاول تعميق النظر بملامحهم، ستتأكد من أن أرنبة الأنف الدقيقة، تبدو وكأنها تستعجل فراغ الأوكسجين واستدعاء الاختناق، وأما الفم المضموم بشفتين رقيقتين، فهو يتستر على نطق الكارثة المقبلة، وشح الكلام، وعند العنق الممتدة بنحل ستلاحظ أن حبلا سريا يكاد يُشبه حبل المشنقة يلتف عليها.
هذه هي صورهم كما وردت في كتاب الشاعرة اللبنانية ‘’جمانة حداد’’ والموسوم بـ’’مئة وخمسون شاعرا انتحروا في القرن العشرين’’.مئة وخمسون شاعرا كانوا يقيمون في مساحة قرن كامل، عاشو حالة الولادة الطبيعية الموزعة على جغرافيا كوكب كامل، وتلقفتهم امهاتهم الودودات، والآباء، والأعمام، وأصدقاء العائلة، واشتباكات التخيل الموجع في الفصل المدرسي، وتوزعوافي تشعبات طفولية مُدهشة، واقتادتهم لذة المشاهدة، الى الوقوع في افخاخ الكتابة ونطقها الحبري، وانتزاع لقب الشاعر.
مئة وخمسون شاعرا وشاعرة، من كافة الاعراق والاجناس على هذا الكوكب، استدرجهم مخيال الشعر، واغوتهم رؤاه، تلك الرؤى التي تجعل الواحد منهم، ينسحب تدريجيا من فهاهة الحياة ورتابتها، والذهاب هناك نحو جمر المشهد اللاذع، حيث المغنطة الأبدية، وحيث البهاء المرتجف في الروح.
المرعب في أمر هؤلاء الشعراء انهم وحينما غادروا فكرة القطيع، وذابت أرواحهم في متعة المشاهدة، ساقتهم اللذاذة نحو طلب المزيد، ولكن حينما طفح المزيد في الروح والحبر، وبيت القصيد، فقدوا القدرة على معاودة ترويض ارواحهم في اليومي العادي والرتيب، فقدوا آلية النوم واليقظة، وبساطة القاء التحية، وهذر الحوار، والمنطق العادي الذي يقود الإنسان مسرنما بعماء خاص تتقنه الحياة.
وهنا عند هذه اللحظة، عادوا الى الإقامة في الشعر، وصاروا قصائدا تمشي على أرجل، فكيف يمكن للرجل او المرأة القصيدة، ان يعيشا في اتون اليوم الانساني العادي وتداعياته؟

والمرعب ايضا في امر هؤلاء الشعراء، أنهم وحينما عادوا للشعر، ولمنطقته الجمرية، أدركوا حجم الكارثة، واطلقوا جرس الانذار، في قصائد تدلل حتما على نية الانتحار. فالقارئ لمجمل القصائد التي تضمنها الكتاب، سوف يلحظ، الاعلان المرعب عن نية الانتحار.

وهاهو الشاعر اليوناني ‘’كوستاس كاريوتاكيس’’ الذي اطلق الرصاص على نفسه تحت شجرة’’أوكاليبتوس’’ العام 1928 يقول في مقطع من قصيدة له قبل ان يُقدم على الانتحار: "قضي الأمر. /ها هي رسالة الوداع /موجزة كما ينبغي، عميقة، وبسيطة،/طافحة باللامبالاة والتسامح/ حيال من سيقرأها ويبكي/ ينظرون في المرآة، ينظرون في الساعة،/يتساءلون هل الانتحار جنونٌ ربما، أو غلطة/ يهمسون: ‘’قضي الأمر الآن’’؛ / لكنهم طبعا، في أعماقهم، سيؤجلون التنفيذ’’.

وهاهو الشاعر والمخرج والرسام اللبناني ‘’انطون شحور’’ الذي أطلق النار على رأسه، في تشرين الثاني العام 1977 يقول في مدخل لإحدى قصائده:
‘’مدخل/ كي لا أتكلّم قط على هذه القيود التي توثقني منذ أيام برمال الصحراء سوف أتمدّد على مياه البحيرات على غرار عرائس النيل وسأتحدث مع الريح. كل عشبةٍ على الضفاف سوف تكون قدري المسائي، وكي لا أدرك قط حدود الكرب سوف يحوم ظل الأوفيليات الميتة على جلدي./ سأبسط خيوط الدم في جسدي شراعاً وسأقول وداعاً للأرض / أتقدّم بين تنهيدات الطحالب وما همّني إن كنتُ جئتُ الدنيا في شكل إنسان؟ إنني ألاقي الأثير الأصلي لما لم ينوجد قط/ منذ رحيلي نبتت على جسدي كمية من الأعشاب المجهولة ومن الأزهار/ لن أرجع أبداً الى هذه الأرض’’.
مئة وخمسون شاعرا جميعهم أطلقوا صرخة الاستغاثة، قبل الاعتداء على الجسد، لكن ما من أحد سمعهم إلا الشعر، أبانا هذا الذي يمسك بأصابعنا الطفولية المرتعشة من فرط الدهشة، ويأخذنا نحو قبره الجميل.

(جريدة "الوقت"، الاثنين 14 أيار 2007)