(عن أنطولوجيا "الصوت المفرد: شعريات جزائرية") (*)

بنعيسى بوحمالة
(المغرب)

بنعيسى بوحمالةفي ظل مصاب عدم التواصل الثقافي و الإعلامي بين الدول العربية، بل و حتى بين جهات من العالم العربي تبقى مؤهلة، بالأقل نظرا لعامل القرب الجغرافي، كالمغرب العربي، يتبدّى العمل الأنطولوجي القيّم "الصوت المفرد: شعريات جزائرية (1)" - في 164 صفحة من القطع المتوسط و بغلاف من تصميم الفنان فاروق ادرارجة - الذي أنجزه الشاعر الجزائري أبو بكر زمال ذا فائدة كبرى في تمكين المتتبّع المختص، كما القارئ العادي، من الاطلاع على مجريات الشأن الشعري الجزائري في السنوات الأخيرة و الوقوف على مجمل مستجداته و تفاعلاته.. اعتمالاته و تجاذباته.. و موقعته، و ربّما عدّ هذا هو الأهمّ، في القلب من محفل نصي منتقى و موضّب بعناية فائقة يسمح، بدرجة أو بأخرى، بمقايسة ذبذبة الإنتاج الشعري الجزائري الراهن و التي تجسمها وفرة من العناوين و الإصدارات الشعرية التي تظل، للأسف، حبيسة النطاق الجزائري الضيق و متداولة، هكذا، محليا لا يكاد يعرف عنها لا المتتبّع المختص و لا القارئ العادي أي شيء..
ممّا يرد في المقدمة التي كتبها أبو بكر زمال لهذا العمل ".. كيف تنفتح سماء هذه الأسماء في كتاب ؟ ماذا ستقول لقارئ ملوّح بسيف النظر و الريبة من نصوص لا تعيره دوما ما يريده حتى و لو كانت متسرّبة من الدم و الموت" (ص 5)، و إذ يتسربل التمهيد بهذا الإرباك المتقصد فلحاجة متعهّد الأنطولوجيا إلى نوع من التواطؤ الخلاق من لدن القراء، جزائريين و سواهم، الذين غالبا ما اعتاش أفق انتظارهم على شعرية جزائرية بمواصفات بنائية و تخييلية و رؤياوية قنوعة.. محتشمة.. مهادنة تعوزها القدرة على تحريض أفق الانتظار هذا على الانتفاض ضدا على قيم الثبات و الاجترار و الكسل.. التواطؤ مع أصوات و ضمائر و خبرات و مخيّلات فتية كانت نشأتها، و لعله قدرها الوجودي و الإبداعي المأساوي المسطر، في الرحّم الجهنمية لخراب تاريخي مريع ران على بلد بأتمّه و نغّص على أبدان و وجدانات بنيه و بناته..
و إذن يتصل الأمر، في هذا المشروع الذي لا يخلو من قيمة إضافية إن توثيقيا أو إبداعيا، بأضمومة قصائد لأسماء شابة، فتية، سوف تتبلور شخصيتها الشعرية في غضون العقود و السنوات الأخيرة.. أسماء تتوزعها تجمّعات و ائتلافات ثقافية فاعلة كاتحاد الكتّاب الجزائريين و رابطة كتّاب الاختلاف و بيت الشعر في الجزائر و جماعة المعنى و الجبهة الوطنية للمبدعين.. يشتغل أغلبها في الصحافة المكتوبة و السمعية - البصرية، في الإعلام الثقافي بخاصة، و بعضها يمارس، علاوة على الكتابة الشعرية، الكتابة السردية و النقدية و تتولى أعمالهم بالنشر و الترويج جهات معنية بتحفيز من تعتبرهم مستخلفين جددا في المشهد الشعري الجزائري و تيسير مداولة مقترحهم الشعري في الوسط الثقافي و الإعلامي الجزائري كمنشورات رابطة كتّاب الاختلاف و كادموس و البرزخ و جماعة المعنى و الجاحظية..
تجمع الأنطولوجيا بين دفتيها نصوصا شعرية لثمانية عشر شاعرا، من بينهم نسبة لابأس بها من الأسماء الشعرية الأنثوية المكرسة في الجزائر، مرفقة بأوراق - إضاءات مختصرة تنهض كل واحدة منها بالتعريف بالشاعر المعني و بسط القسمات الأساسية لسيرته الحياتية و الكتابية، هذا عدا الكلمة التقديمية، من توقيع أبي بكر زمال، الملمع إليها قبل حين.
هذه الأسماء هي، على التوالي، مقرونة، وفقا لهذا التسلسل، بتاريخ ميلادها و عنوان الورقة - الإضاءة المرفقة و إصداراتها الشعرية و غير الشعرية:
عبد الله الهامل (1971)، هامل في الشعر، ديوان "كتاب الشفاعة".
لخضر بركة (1963)، شاعر التفاصيل المخبّأة، ديوان "إحداثيات الصمت".
فاطمة بن شعلال (1968)، بداهة شاعرة، ديوان، قيد الطبع، "لو.. رذاذ".
نجيب حماش (1966)، قارئ أبراج الكتابة، ديوانا "كائنات الورق"، "فرغان".
ميلود حكيم (1970)، شعرية ماضي أحلامه، دواوين "جسد يكتب أنقاضه"، "امرأة للرياح كلها"، "أكثر من قبر، أقل من أبدية".
رشيدة خوازم (1968)، كتابتها بالسر، رواية "قدم الحكمة".
ميلود خيزار (1963)، صوت يأتي من شرق الجسد، ديوانا "نبي الرمل"، "شرق الجسد".
مصطفى دحية (1961)، كنعان الشعر، ديوانا "اصطلاح الوهم"، "بلاغات الماء".
أحمد بوعلام دلباني (1968)، شاعر قلق، ديوان، قيد الطبع، "كتاب القصائد السبع".
سليمى رحال (1970)، مجمرة القصيدة، ديوان "هذه المرة".
أبو بكر زمال (1967)، زئبقية شاعر، ديوان "غوارب أبي بكر زمال و هامشها غبار الكلام"، كتاب "عيارات حب.. كتابات دامية" الذي صدر عن منشورات اتحاد الكتّاب الجزائريين، و رهن الإعداد مشروع سلسلة من الأنطولوجيات سوف تصدر ضمن منشورات بيت الشعر الجزائري و منها "أنطولوجيا الموت: عن شعراء و كتّاب انتحروا أو قتلوا"، "أنطولوجيا الصورة و الكتابة".
محمد علي سعيد (1961)، شاعر حاضر في العزلة، ديوان، قيد الطبع، "روح المقام".
عادل صياد (1968)، شاعر متوحش، ديوان "أشهيان".
أحمد عبد الكريم (1961)، طائر الصوفية، ديوانا "كتاب الأعسر"، "معراج السنونو".
نصيرة محمدي (1969)، متلبسة بالحلم، ديوانا "غجرية"، "كأس سوداء".
عمار مرياش (1964)، مكتشف العادي، ديوان "اكتشاف العادي".
علي مغازي (1968)، أسير في جهة الظل، ديوان "في جهة الظل".
سعيد هادف (1960)، حامل أسرار شعرية، ديوان "و عيناي دليل عاطل عن الخطو".
و قد سطرنا تشكيلة الأسماء الشعرية التي آوتها الأنطولوجيا لنقل، مع معدّها دائما، لعل ".. هذه أنطولوجيا تطرح نفسها بديلا عن الصمت المطبق على وجود شعري يؤرخ لآثار هؤلاء الذين مروا على الديار، استمروا في الكتابة رغم المستحيلات و الدمار، و رصدوا ما يعتمل في الباطن و ما يشتعل" (ص 5). و بتعبير رديف إنها لأشبه ما تكون بمانيفست شعري مقدام، متجاسر النبرة، لجيل شعري مأساوي مخروم الكيان و منجرح الروح انفتح وعيه على الوجه الكارثي لبلد و تاريخ كانا، إلى عهد قريب أمثولة مشعّة في الأوساط السياسية و الثقافية العربية و العالمثالثية بحيث شكلت مع الفيتنام و كوبا ما يمكن نعته بمثلث برمودا الثوري ، ألم "تعتبر الثورة الجزائرية من أعظم الثورات العربية في القرن العشرين، و قد خرجت هذه الثورة من رقعتها المحلية المحدودة في قلب المغرب العربي لتصير ثورة لكل العرب و كل الأحرار في العالم الثالث، و بفضل الثورة الجزائرية تمكنت الجزائر أن تصبح ذات سمعة عربية و إسلامية محترمة، و كان يكفي ذات يوم ترديد اسم الجزائر لتقشعرّ الأبدان" (2) ، بل أو لم يكن حلم الرئيس الراحل هواري بومدين "..أن يجعل الجزائر يابان العالم العربي" (3)، لكن ".. مات هواري بومدين و ماتت معه أحلام الجزائر، و بموته بدأت السفينة الجزائرية تنعطف في غير المسار الذي رسمه للجزائر" ..
فإذ انوجد شعراء هذا الجيل مزجّا بهم في الطور الحاسم لانهداد جزائرهم المحلوم بها مهادا للحرية و الجدارة و الأمل نفضوا أيديهم من أسطورة الجزائر الأخرى، المتعالية، التي لقّنوا، كما مواطنيهم، قداستها و تنزّهها، بالتالي، عن أيّما تشكيك أو مساءلة. كذا سيشيحون، بتفكيرهم و تخييلهم سواء بسواء، عن ذاكرة جمعية تنوء بثقلها الفعلي و الرمزي على حاضر مغاير و، بالتبعية، على مستقبل أكثر مغايرة، و يتنصلون من جاذبية علاماتها و مفاصلها، بله من سطوة أيقوناتها الفارقة: من الأمير عبد القادر و من مصالي الحاج و جميلة بوحيرد.. من كابوس المذابح الاستعمارية و ثورة المليون شهيد.. من نونبر 1954 تاريخ اندلاع الثورة الجزائرية و خامس يوليوز 1962 تاريخ استقلال الجزائر و تاسع عشر يونيو 1965 تاريخ انقلاب هواري بومدين.. من جمعية العلماء المسلمين و جبهة التحرير الوطني و جبهة الإنقاذ.. من الثورة الزراعية و شقيقتها الصناعية و إمبراطورية سوناتراك النفطية العملاقة.. من مخلّدي البانثيون السياسي الوطني كمحمد بوضياف و زيغود يوسف و رابح بيطاط و فرحات حشاد و محمد خيضر و أحمد بن بلة و هواري بومدين و حسين آيت أحمد.. و مخلّديه الثقافيين لا المعرّبين منهم كمفدي زكريا و الطاهر وطار و عبد الحميد بن هدوقة و الحبيب السائح.. و لا الفرانكوفونيين كمولود معمري و مولود فرعون و محمد ديب و آسيا جبار و كاتب ياسين.. ذلك أنهم الأبناء الشرعيون لتاريخ آخر، لمنقلب أكثر دراماتيكية في عمر الجزائر المستقلة، و كما يقول أبو بكر زمال فقد "كان خريف الغضب 5 أكتوبر 1988 علامة بارزة لهؤلاء الشعراء، تاريخا ليس اعتباطيا أو اختياريا أو قدريا، إنه عنوان وجود آخر مستلّ من روح أفصحت عن روحيتها وسط أرواح بالية سقطت رافعة صوتها في خضم أصوات لطالما ارتفعت مهلهلة بقيم المحافظة و الأصالة و العزة و الكرامة، و لكنها خفتت أمام سطوة الغضب التي هزت المجتمع الجزائري آنذاك" (ص 6).
بدءا من هذا المنعطف - الفلتان الملحمي الجسيم سيمسي كلّ شيء محلّ معاودة و تدبّر و تسآل: ما الذي يراد.. هل جزائر الأصولية الثورية، أو الأصولية العقدية لا فرق، هل جزائر الدولتية و الاستبداد و القبضة الحديدية و الرأي الواحد.. أم جزائر المواطنة الحق و التعددية و الحرية السياسية و المدنية و الثقافية، جزائر الكفاف الاقتصادي أم جزائر الرفاه و نعماء الاستهلاك، و لأنه جيل شعري مشدود بقوة الأشياء، شأنه شأن شبيبة العالم، إلى تحولات العالم و تبدلاته المتسارعة.. إلى إملاءات العولمة و إغواءاتها.. إلى قيم السوق و الاتصال و التبادل و التفاعل.. إلى رمزيات و طوطمات المشهد الكوني الحالي.. إلى بيل كلينتون، فاكلاف هافيل، مهاتير محمد، ميشيل فوكو، جاك ديريدا، رولان بارت، ريجيس دوبري، يورغن هابرماس، فرانسيس فوكوياما، غابرييل غارسيا ماركيز، ميلان كونديرا، سيرج بّي، بيل غيتس، كلوديا شيفر، دافيد بيكهام، شاكيرا، هيفاء وهبي.. في مقابل تلك التي أمّمت، لردح من الزمن، الشعور العام للإنتلجنسيا الجزائرية السابقة كتشي غيفارا، فيديل كاسترو، ماوتسي تونغ، جوزيف بروز تيتو، جمال عبد الناصر، جان بول سارتر، ألبير كامو، أندري مالرو، مكسيم غورغي، ستيفان زفايغ، فرانز فانون، إنجيلا ديفز، إديث بياف، إلفيس بريسلي، أم كلثوم، بّيلي.. فما عادت تعنيه استيهامات الحماسة الوطنية لعقدي الستينات و السبعينات من القرن العشرين و لا الامتثالية الصارمة لضمير جمعي أحادي و خنوع.
فلقد كان هذا المنعطف بمثابة تتويج لمأزق أمّة برمتها غدت في مهب الشك و المجهول و اللامعنى لكن وطأته ستستشعرها بكيفية أوغل النخبة المثقفة الشابة و في مقدمتها رعيل من الشعراء ما كان لاحتقان سياسي و مجتمعي و قيمي من ذلك الحجم سوى أن يستدرجهم من أفق المهادنة و اللامبالاة إلى أفق أكثر قلقا و جذرية، أفق النهوض بشاغل تحديث مجتمع معيق، تحديث الفكر و الروح الجزائريين و تحديث النص الشعري الجزائري دفعة واحدة. و في هذا المضمار تكتسب كتابات الراحل بختي بن عودة، الأب - الأخ - الصديق الروحي للجماعة الشعرية الجديدة، قيمتها و الذي ستطحنه الآلة الأصولية العمياء جزاء جرأته الفكرية و النقدية، إذ بالقدر الذي خاض فيه حوارات فكرية و سجالات نظرية مع أركان الفكر الجزائري، من أمثال عبد الحميد بن باديس و مالك بن نبي و محمد حربي و علي الكنز و محمد أركون..؛ مفكّكا أطروحاتهم و منظوراتهم حول الذات الجزائرية الجمعية و الذاكرة الوطنية و ماهيات الدولة و الهوية و الثقافة و القطيعة و الحداثة.. لم يتوان، من جهته، عن تشخيص البدائل و المخارج لمجتمع ولاؤه للثبات و السكونية أكثر من انضوائه في تيار التقدم و الدينامية، ذلك "أن عداوة الجزائري للتأمل في ذاته و عدم الحسم مع مكوناتها النفسية و اللاهوتية و التربوية، بل و حتى المعيشية المترسبة في لاوعيه عبر مجمل التواريخ الفاعلة في جسده و كينونته و ثبات ثقافاته البعيدة و القريبة خارج الاحتفال بما يتبصّره (و ليس ما يبصره) هي كيفية أخرى لا ترضى بطرق التمييز و الفصل بين الزمان و التاريخ، بين الفردانية و المواطنة، بين ماضيه الجريح و حتمية الخروج إلى لغة الحداثة كعقد صلب و متفتح مع الرموز التي لا تحتاج إلى شرعيات و تقنيات و زخارف" (3).
إثر انصرام سنوات عدة على اكتساب شعراء هذا الجيل لموطئ قدم في الفضاء الشعري الجزائري سيحل الشاعر المصري السبعيني رفعت سلام بالجزائر العاصمة ليقضي بها زهاء أربع سنوات بصفته مديرا لمكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط. و من موقعه كشاعر أتيح له أن يحتك عن قرب بالوضع الشعري الجزائري و يخبر مقدماته و حقائقه و معضلاته و حدوده، بل و أن يرتبط بعلائق شخصية مع بعض من الفاعلين الجدد في الشعرية الجزائرية المعاصرة، يقدم، إن شئنا، ما يشبه بورتريه تقريبي لهذا الوضع. فعن سؤال حول تعليله لما يعتبره سمة ماضوية في الشعر الجزائري كان جوابه " يبدو لي أن الصراع مع الفرنسيين أفضى إلى ضرورة التأكيد على اللغة العربية كمقابل للمحتلّ الفرنسي، و أول النصوص الشعرية المكتوبة بالعربية خرج من عباءة جمعية العلماء المسلمين بطابع ديني و بطبيعة الحال عمودي، و يبدو أن شعراء العربية قد تملّكتهم الرغبة في تأكيد الذات و امتلاكهم لناصية اللغة العربية إلى حدّ أدّى إلى تشبتهم بالتقليدي و المحافظ، كشارة على هوية عربية في مقابل اللغة و الثقافة الفرنسيتين، و ربما لم يستطع الشعراء المعاصرون الإفلات من هذا الإرث فواصلوا المسيرة التقليدية فيما وراء الشعر العربي بحوالي خمسين عاما على الأقل. فمثلا فيما كان شعراء السبعينيات في مصر و البلدان العربية يطرحون قضايا التجريب و الخروج على المنبرية و الخطابية و الجماهيرية كان نظراؤهم في الجزائر يكتبون قصائد عن الإصلاح الزراعي و التحول الاشتراكي" (4).
إزاء وضع شعري كهذا يتراوح بين الاتباعية و الجماهيرية و يرين عليه مناخ جدانوفي خانق كان لزاما أن يعتنق شعراء الجيل الجديد أخلاقيات كتابية مضادة كالحداثة و التجريب و المجازفة و القطيعة و تفجير - تهجين النص و النثرية و تذويت الموضوعات و الأخيلة و الرؤى و أسطرة السير و الحيوات الشخصية و تمجيد الحميمية و الانفتاح المرجعي.. كإبدالات في مرمى تحرير النص الشعري الجزائري من مجمل انحباساته التصوّرية و الإنجازية و التداولية المتراكبة. و إذن سوف لن يحال، و الحالة هذه، على ذمة تاريخ شعري وطني ما عدا صرح شعري كبير من عيار النيو - كلاسيكي مفدي زكريا، و إنما أيضا أسماء أخرى لاحقة برزت في سني الاستقلال كالخمسيني عبد الحميد بن هدوقة و الستيني بلقاسم خمار و السبعينيين حرز الله بوزيد و أحلام مستغانمي و زينب الأعوج.. إن تاريخا جديدا ليقتضي انهماكات تعبيرية جديدة.. أداء شعريا مغايرا.. جملة شعرية وليدة.. يقتضي سجلات لفظية و توليفات و إيقاعات و جماليات و إعمالات كنائية و مجازية و إجراءت ترميزية و تيمات و إيهامات يسوّغها، وظيفيا، اقتصاد شعري جديد كل الجدة، و إذ عزفت قصيدتهم عن التراث الموضوعاتي المتقادم لشعرية الأجيال السابقة فإنها لن تتقاعس عن اجتراح محمولاتها الخاصة و تبئير ما كان يندرج سابقا في خانة المهمل أو المرذول كالحسرة.. الألم.. العزلة.. الصمت.. الغياب.. الذاكرة.. التشظي.. الحب.. الجسد.. الرغبة.. الشهوة.. المحرّم.. اللامرئي.. المصير.. الموت.. اللغة.. الكتابة.. أيضا الاعتناء بما يحفل به الواقع و اليومي من تفاصيل و تشذّرات و مستدقات و مفارقات.. اتخاذ الكتابة الشعرية متخذ لعب خلاق و سخرية موخزة امتصاصا لبشاعات تاريخ فانتازي صاعق.. تصفية الحساب، رمزيا، مع كل صنوف الرداءة و الانحطاط و التختر التي يحفل بها المعيش المكرور، المتبلّد، لآدميين يضربون في أديم الحياة كيفما اتفق..
و مثلما اقتضى هذا التاريخ الجديد انزياحا شعريا حادّا بهذه الدرجة، ثم و لأن أيّما أفق شعري جديد إلاّ و يستدعي أفقه المرجعي الملائم فإن الأولوية ستغدو من نصيب أسماء و تجارب شعرية ستنخرط معها نصوص شعراء الجيل في تعالقات، سافرة أو ملتبسة، متعددة الأوجه و الكيفيات، سيان كانت عربية كأعمال محمد الماغوط و أنسي الحاج و سعدي يوسف و وديع سعادة و قاسم حداد و سركون بولص و فاضل العزاوي و محمد بنيس و مبارك وساط و عقل العويط و خالد النجار و عيسى مخلوف و سيف الرحبي و زاهر الغافري و هاشم شفيق و زاهر الجيزاني و عبد المنعم رمضان و رفعت سلام و فاطمة قنديل.. و عالميا كأعمال هنري ميشو و أوجين غلليفيك و فرانسيس بّونج و يانيس ريتسوس و جويسيبي أونغاريتي و بول سيلان و جوزيف برودسكي و روبرت كيللي.. و ذلك في الحين الذي استندت فيه قصيدة الأجيال السابقة على أعمال كلّ من محمد مهدي الجواهري و سليمان العيسى و عبد الوهاب البياتي و كمال عبد الحليم و أحمد عبد المعطي حجازي.. و ناظم حكمت و فلاديمير ماياكوفسكي و لويس أراغون و فديريكو غارسيا لوركا..
و لعلها كانت نباهة مسطرية دالة من لدن أبي بكر زمال أن يتم التنصيص في العنوان للأنطولوجيا على "شعريات جزائرية" بدل استعمالها في المفرد لأننا و نحن نقرأ القصائد المقترحة علينا نحسّنا، من فورنا، حيال نوع من الكثارية الشعرية، بإزاء تمثلات كتابية تقوم على التعدد و الاختلاف داخل وحدة جيلية مفترضة الشيء الذي ينصبّ عضويا في المعنى الجوهري لأيّما حداثة إبداعية أو فكرية بما هي منافية للوحدة السالبة و مرادفة للحرية و الفردية و الاختيار الذاتي المسؤول. فهؤلاء الشعراء ".. ليسوا سوى الصوت المفرد في المضمر، و في المتعدّد و في الهامش، ما هم سوى أحبّاء الحقيقة و أبناءها، أنصتوا من أفق جمالي لرهبة الحياة و هدير الأعماق المكسوة بالتيه و الضوء، اقتحموا، فيما اقتحموا، المناطق المحرّمة و المحصّنة بأجيال أخرى تقاسمت نفس الأجواء و الشعر و لكنها أبقت على عمرها في الثبات، و رهنت ما تملك من حساسية في عرين سلطة أمرتهم أن يقولوا ما تريده و كمّمت أفواههم على ما تريده" (ص 5 - 6)، وفقا لتأكيده. أما و قد وفّقوا إلى اقتحام المناطق المذكورة فما من سلطة سيبقى بمقدورها تكييف حساسيتهم على مقاس أوامرها و نواهيها و، بالتالي، لن يصير البرّاني سوى تعلّة لانفصاح الباطن الشخصي الحميم و ضمنيا غير عنصر، من بين أخرى، يأتمر بابتغاءات و مقاصد قصيدة معنية، في المقام الأول، بالاشتغال لحسابها الخاص بدل الاشتغال لفائدة كل ما يمكنه تبديد شعريتها و كثافتها، بحيث إنه "مع حركة الحداثة الشعرية صار الشعر صوت قائله، أي صوتا داخليا لا خارجيا تفرضه القبيلة أو السلطان أو المناسبة القومية أو الاجتماعية" (7).
و لو أن المنطلق التعريفي الذي يستحكم في هذه الورقة لا يخوّل نوعا من التوسعة النقدية بما يطول كافة الأسماء و النصوص الشعرية الواردة في الأنطولوجيا، أو جلّها، فإن التمثيل بعيّنة محصورة منها لكفيل، فيما نرى، بوضعنا في صورة الشعرية الجزائرية الحالية و استمالتنا إلى مزيد من الانتباه لما يجري في أوعيتها من دماء و طاقات واعدة.
لنأخذ، كمثال أول، تجربة الشاعرة فاطمة بن شعلال التي يتلامح الرجل في قصائدها بمثابة عصب الحكي الشعري أو النواة الصلبة للتخييل و الإيهام، و إذ يشكّل عنصرا مهيمنا مقارنة مع العناصر الأخرى فإنه يفضل، في مخيلة الشاعرة، محض عتبة رمزية إلى مخبوءات و أعطاب مجتمع بأسره، عاجز عن / أو لا يشاء التفريط في إيديولوجيا ذكورية تصرّ على إحلال المرأة محلّ تعنيف و توجس و احتراس و حقارة.. على إدامة هامشيتها الفعلية و الرمزية.. كذا تخترق قصيدتها ذلك التّحت السحيق للاوعي مجتمعي شامل و تباشر المناورة، مجازيا، بما لا يحصى من التقاطبات و المفارقات ضمن لهجة تنتصر لجدارة الكينونة انتصارها لشيم الحب الصميم، النبيل، و الاغتباط الجميل، الحميم:

هذا الذي
حين أتثاءب
أحاول إغفاءة عند ضفة كذبته
فتنوء عيني
بالحرج
و حين في حقل لهفته
زرعت أمنيتي
حصدها
بظنّه السّمج ؟!
/ قصيدة "هذا الذي".

هذا و إذا كان "شعر فاطمة بن شعلال يمتد في أحلامها، يقترب من لغة ترشح بروح الغبطة، تسع قصائدها الفرح و الألم، الهزيمة و الانتصار، بينها و بين الحب ألف حكاية و رجل هلامي، شيء و مسيرة تبدأها، لا يهمّ أين ينتهي حلم نصها" (ص 23)، فإن ".. ما يرويه ميلود حكيم في نصوصه بالذات في هذا الحلم، الحلم كملاذ شعري يثير من خلاله الأسئلة، يجعلها أكثر بساطة و عمقا و قربا، تجد لغتها في الهوامش و الفواصل و الخراب و الأنقاض لذا عنون مجموعته الأولى "جسد يكتب أنقاضه" ليعبّر عن هذه الكتابة المتمنّعة و الصعبة، النازعة و المندمجة في أغوار الذات، يغرق فيها و يخرج منها متناقضاته و يشيعها بيننا. داخل هذا الجو المشحون تتشكّل شعرية الشاعر ميلود حكيم، تتبلور في عمق الحلم ليكتب في البداية و في النهاية نصا واحدا هو نص الحلم" (ص 41 - 42). فعلى منوال السرياليين و الدادائيين، شعراء و رسامين، لا يتحرج هذا الشاعر في شعرنة التراجيكوميديا الجزائرية عبر بورتريهات، مشهديات، و توضّعات مجنحة في غرائبيتها بحيث نصبح قبالة ذوات ناشفة الروح يلبسها الخراب التاريخي الماحق لبوسا فانتازيا صادما، متوسلا تقنية كتابية تجريدية، أي تغييب الدلالة لكون ".. أبرز ما يتجسد فيه الغياب الدلالي في شعر الحداثة هو "التجريد".." ، تقنية، بالأولى، فطنة، ماكرة، تستقوي بالحلم و الباروديا على ضراوة واقع يلذ له أن يمرّغ هذه الذوات في وحل الضجر و العدمية:

أيها الرجل الأخير دائما
الرجل الذي يحمل قبّعة مثقوبة
تطير منها عصافير بلا أجنحة
و مشاريع جرائم
سيقترفها عندما تخونه البداهة
و عفوية الأنهار
أيها الرجل - لا تكثرت عندما تخسر أقل ممّا تريد

يرتّق الذاكرة بإبرة المستحيل
و حين ينتهي تتفتّق كل أحلامه
في ماء الرتابة.
/ قصيدة "المنعطفات" (عن هواجس الريبة و سلالات الطيش).

لدى مصطفى دحية نجدنا في خضم حساسية شاعر ".. لم تخفه المغامرة، بل ولج إليها و لازمها، خاض فيها و أخرج منها نصوصا مضمخة بالتجريب و المعاني العميقة للروح لا بمفهومها الديني الصرف، بل بدلالتها الوجودية القلقة، السائلة عن المصير و المستقبل و الأفق. كانت أسئلته الشعرية نابعة من جسد أرهقه الفقه و أرهقه بالمحرّم و الممنوع، لهذا روت نصوصه التفاصيل، خلقت كسياقها تاريخا خاصا، سرّبت من غير تجريد انتباهاته و رؤاه و آراءه حول الحياة، الله، الموت، الجسد، الوطن…إلخ، تيمات تجتمع و تلتف في بنية نصوصه، فضاؤها هذا البحث الدائب عن التجديد و الحداثة و التفرد" (ص 71). فهذا القادم، و قد استفحل قلقه و لايقينه في الحقائق و البداهات و الموجودات، من عليائه الصوفية إلى درك أرضي - تاريخي يطفح ببشر و حيوات و مصائر.. بمتعيّنات ملموسة، لا هلامية كتهيّؤات الماوراء، لن يتباطأ، نازعا عن بصيرته غشاوة الفقه و الهجود و تاركا من وراء ظهره طمأنينته الرواقية، عن الدفع بروحه و مخيلته كلتيهما إلى أتون الحقيقة، التي لا تماديها أيّما حقيقة، نعني حقيقة العبث المطلق، حقيقة غودو، القادم الشبحي في مسرحية صامويل بيكيت، الذي كان، و ما نفك، غير معنيّ البتة بأشواق منتظريه و تحرّقاتهم بقدر ما تحول إلى متاجر حاذق في كل شيء، ابتداء من السلع الجارية و العاديات المرونقة إلى كبريات الأمور و الماهيات كالأزل و الذاكرة، بل و حتى رأسماله:

سرير طاعن في العقم
صور تناسل كالرمل
أبخرة تهذي
جرار أفرجت للتّو عن نسخ شبيهة
ما الأب ؟
ما الابن ؟
ما الميراث ؟
نثار الورق و الضوء ؟
يعبّئ الروح و الشهوة في الألفية الثالثة
و فيما تستحم الأرض
تسفر الغيوم عن غودو الجديد ملتحفا أسماله
يبيع الأزل
و الذاكرة
و رأسماله.
/ قصيدة "رؤية".

أمّا لدى سليمى رحال فتبلغ حميمة البوح، اعتمادا على جملة شعرية شذرية غالبا، مبلغا على قدر من الكثافة و الإشارية تنقاد معها الذات المتلفظة، في القصائد، إلى حيث لا سلطة توجّه التّلفظ الشعري و تختط له مساراته الكنائية و الاستعارية و الترميزية غير سلطة الأسراري، المكنون، المخبوء، المرجأ، المجهض.. و لكأنمّا هو تعبير سيري - شعري تندرج معه القراءة إلى طبقات دخيلة في حاجة إلى التخفّف، ضمن تلوين سخروي للرجل، من أثقال من المرارات و الأشجان. و إذن "هذه هي تجربة سليمى رحال الآن، قليل من اللغة لأجل الكثير من المعنى، أسرار بسيطة من الصعب فهمها، تعبير حرّ و عال عن الحرية في الكتابة عن كل شيء" (ص 85)، من غير ما وجل أو تردّد:

كنت أسكت
عديد في صميمي
و أمسح عن خاطري
ما نزّ
إذ في الباب ظلّ
مهلا !
دع شاحب الضوء
يلقي خيالك في الحوش
علّ من هجعة
تفزع أمي
هفّ، خفيفا، غصنا يكاتفك
ربما، من حفيف، تخبله شكوك أبي
يشد نبضه عند الباب كي لا ينهمر
برهة
ثم يعدل.
/ قصيدة "لا فائدة".

هذا و إذا كنا قد نعتنا، قبل هنيهة، الكاتب الراحل بختي بن عودة بالأب - الأخ - الصديق للجماعة الشعرية الجديدة فلن نكون مبالغين إن نحن وصفنا أبا بكر زمال بدينامو الجماعة، فهو لم يقتصر على الفعل الشعري فقط بل إنه سيجشّم نفسه مأمورية إرساء العمق المؤسسي، اللوجيستيكي، للدينامية الشعرية المستجدة في الثقافة الجزائرية و ذلك عبر الانكباب على إطلاق هيئات جمعوية كفيلة باستيعاب هذه الدينامية و تحصينها كرابطة كتّاب الاختلاف و بيت الشعر في الجزائر.
إنه شاعر "لا يعترف بحدود معينة في الكتابة، فهو يراها دائما انطلاقا و بداية و شغفا و لذة و رغبة و جنونا و اختراقا و قلقا و إشراقا و جسدا" (ص 91)، و لأنه كذلك فهو يصرّ على تسخير كتابة مركّبية توائم بين الشعري و النثري.. التخييلي و الحكائي.. ساعيا إلى تعقّب العلامات و المعاني..الاصطخابات الصموتات.. المرئيات و اللامرئيات في القارة المتراحبة لذاته،-.. في شعابها و مطبّاتها.. الذات بما هي منشفة جسدية - روحية لامتصاص تعجرف العالم و تجبره، متشبها، على هذا النحو، براينر ماريا ريلكه الهشّ بدنيا، و ياللمصافة، مثله مثل أبي زمال في تحفيز المخيلة على استدراج العالم، مهما يكن حجمه و شسوعه، إلى مضايق الذات التي تفصّل لها الكتابة الشعرية هيئة تبزّ هيئة العالم عظمة و تخومية. أيهما يقهر الآخر هشاشة الذات الشاعرة النّيرة، التواقة إلى ممكن وجودي أكثر إنسانية و امتلاء أم خبط العالم و عماؤه.. هذه هي المعادلة الرفيعة التي تتحرك في مهبها قصيدة الشاعر المدموغ، كما مجايليه، بعنف مطبق، أهوج، لا يبقي سوى على إمكانية واحدة هي إمكانية الموت المحقق:

ما الذي ستراه ؟
و في عيونك شموس طرية تحترق
أيجري الموت لغير الموت ؟
أعرف كيف أموت
و لا أعرف لماذا أموت ؟

السؤال عرّاف شرس
مشهد تتوزعه القرابين
و قطيع هارب من جفوني نحو حقول نائلية لا ترى
………………………………….
لي هواء يسيل على الجدران
و يدفعني إلى أرض تتسكع بنبوءات غامضة

كانت مملوكة لعاشق مملوك للجنون، حلّ وثاق بئرين كانا مشدودين إلى شجرة كرز مباركة، كان يرعاها كلما سمع أنين قلبه، و فاض شيء لا هو بالماء و لا هو بالعسل و لا هو باللبن و لا هو بالخمر، بل قيل إنه دمه نذره بحق لأجل حبيبة منحته مرة لعبة شحيحة و منحها حياة جمعها في سلال من نور و رذاذ، لكنه لم يفهم الإشارة فتمادى حتى نسف، و ما زال الأهالي يعتقدون أن النثار الذي خلّفه النسف هو علّة حياتهم و حياتها..

/ قصيدة "صدفة رأت".
و في المقابل تلوح نصيرة محمدي، هذه الغجرية، سحنة و روحا، و منذ أن انتزعت لنفسها موقعا مستحقا في المشهد الشعري الجزائري الراهن، موصولة إلى طريق شعرية مديدة لا تني تغريها بالمزيد من تفعيل هواجسها، اختلاجاتها، و أحلامها الأنثوية الرعناء و تحفزّها على إعادة تأهيل، إن أردنا، كينونتها كامرأة داخل القصيدة و من خلالها سواء بسواء..
إن قصيدتها البسيطة - المنعضلة، في آن معا، لتدخل، و ذلك استئناسا بالأدبيات النقدية العربية الكلاسيكية، في إطار خاصية السهل الممتنع، فلا مادة شعرها و لا مفرداتها و لا توليفاتها و لا اجتراحاتها الأسلوبية بالعناصر المستشكلة. إنها تصدر عن مبدأ شعري تبسيطي - لكن ليس بالمعنى القدحي - ما في ذلك ريب لكنها لا تتراخى، و لعلها أبرز خصلة تخييلية تتمتع بها، عن تمثّل ذاتها، و الواقع معها، تمثّلا قصيّا، مفتوحا على ما لا يتوقّع من الانتظارات و الاستشرافات، تصير بأثره هذه الذات جغرافيا رمزية لارتحال حلمي، شارد، و لانهائي تماما كما ارتحال جموع الغجر المزمن، البهيج و الأليم في آن معا، إلى حيث تكمن حقيقة ذات في حلبة أرض تنكّل ببنيها إناثا و ذكورا شرّ تنكيل، و الواقع أنه "من النادر أن يفيض الحلم بهذا الزخم في مجموعة شعرية أو في عوالم كتابة ما دون أن نسقط متلبّسين به عن وعي أو عن غير وعي.. بحب أو بدونه، من هنا يندر أن تفك نصيرة محمدي قيد هذا الحلم، فهو في النهاية يضفي عليها مسحة الغجر أولئك الحالمين دوما بأرض موشومة بالأحلام التي لا تنتهي" (ص 131 - 132)، و التي تنقّي، بالتالي، الروح من أدران الرتوب و القنوط و الجهومة:

شاغرة هذي الشاعرة
نافذة خطواتها
ساهم طرفها
عند باب لا يؤدى إليه
تطرق لسهو
يلتذ بأهدابها
و تتحلّل في سهد رفيع
مطبقة حكايتها
على شفاه خبرت الصمت
و إشارات الرحيل
كما يطبق السواد على نجمة.
/ قصيدة "أنفاس".

إن المنتخبات الشعرية التي أوردنا قد تفيد، و إن بشكل نسبي، في الاقتراب من الفاعلية الشعرية الجزائرية الجديدة التي توثّق لها هذه الأنطولوجيا و تلمّس مدى تململ الذات الشعرية الجزائرية و انخراطها في مشروع كتابي مفتوح و واعد يتغيّا القطع مع حالة الاحتباس الشعري، إن جاز التوصيف، التي كانت تحياها الجزائر مقارنة مع الفورة الشعرية التي نلفيها، مثلا، في البلدين المغاربيين المجاورين، المغرب و تونس، مشروع يراهن على تشبيب الجسد الشعري الجزائري و إبدال ترهّله و وهنه بجرعة من فتوّة التصور و الممارسة. من المحقق أن "التجربة ما تزال هشة" (8) و تشوبها العديد من هنات البداية و انزلاقاتها، إن لم نقل اندفاعاتها، لكن لا أحد قد يجادل في صدقية انتواءاتهم و صلابة عزائمهم خصوصا و أنهم، و هو ما يحسب لهم و ذلك مهما كان احترازنا من مقترحهم الشعري، قد امتلكوا القدرة بنظر أبي بكر زمال، على قول ".. لا.. قالوها بحواس محمومة متوقدة، منتبهة لكل صغيرة و كبيرة، متسلّلين بها إلى حياتهم الصغيرة البسيطة الهامشية التي ترى بالعين و باليد.. بدأ شعراء الصوت المفرد في استنطاق شتات تلك البرهة الغامضة التي انفجرت فيها الجزائر و لفّت حياتهم و حفرت في الأشياء المحيطة بهم. أدركوا أن ثمة وعيا عاليا بضرورة التوغل داخل المغامرة الشعرية الجديدة المشرعة على احتمال القتل و الجنون، و بأنهم سيفقدون العلاقة مع الموروث الشعري المحدد بأشكال و مضامين لا تخرج عن النموذج و النمط و السائد" (ص 6).