* لا تعني الأسطورة في هذا المقام حضور نماذج أسطورية مجسدة لنفس السلوكيات وأشكال الوعي التي كانت متداولة في النماذج الأسطورية العليا. أو فيما كان سائدا من أشكال أسطورية في المجتمعات البدائية prirnitifs أو في بعض المجتمعات التقليدية Traditionnels . أو التي كانت تمثل في صميمها تفسيرا لبعض مظاهر الطبيعة أو لبعض المشكلات التي لم تكن لتجد لها آنذاك تفسيرا مقنعا، أو يضعها في إطار مبرراتها الطبيعية أو غير الطبيعية.
وبصيغة أكثر وضوحا، فنحن لا نعني بالأسطورة، كل ما يتعارض مع الحقيقة أومن الواقع. أو ما يمكر في سياق آخر التعبير عن "حقيقة مطلقة" أو عن "تاريخ مقدس" (1) كل ما كان سائدا
من مثل هذه السلوكيات والأفعال والأفكار (2) فيما يطلق عليه تارة، بـ "الزمن المقدس" أو بالزمن الأسطوري..(3).
ما لا تعني أبدا، محاكاة أفعال الآلهة، أو رواية مغامرات الأبطال أو الصراع الأزلي بين قوى الخير وقوى الشر..(4)
فهذه المظاهر (أو ما كانت توحي به من معان ومظاهر أخرى) تشكل شعريا مرحلة اشتغال كان رواد القصيدة المعاصرة قد استنفدوا جل إمكاناتها وأعلنت عن حضورها بشكل واضح في كتاباتهم، وحضرت إما في شكل رموز أو في شكل أقنعة ثم تشغيلها كـ"نواة" حين كانت الأسطورة كمتطلب أساسي يفي بحاجات الشاعر آنذاك ويلبي رغبته في التعبير عن كثير من القضايا التي لم تكن اللغة وحدها لتسعفه في استجلائها أو ملامستها فالتجأ الى الأساطير يستوحي منها فضاء رؤيته، وبها يبني تارة تصوره ورؤيته للعالم. أسطورة الموت والانبعاث مثلا.
فهذه كانت مرحلة.
ما ما نعنيه نحن بالأسطورة، وفي سياق استحضارنا لتجربة جيل الثمانينات في المغرب تحديدا، هو ذلك التمثل المغاير للأسطورة. لا باعتبارها استجابة لحاجة الشعر ولا باعتبارها ضرورة للتعبير عن موقف أو رؤيا فقط، بل باعتبارها حالة تمثل فردي (5) لمشكلات الوجود ومعضلاته وانعكاس هذا التمثل المأساوي لهذه المشكلات على ذات الشاعر بشكل يجعل هذه الذات كمرآة مشروخة لا تلتئم فيها صورة الوجه الواحد ولا تتوحد بمعادلها الخارجي. بل تنخرط في هذه الانشقاقات وبها تفسر وجودها في هذا العالم.
فالصراع هنا، ليس صراعا بين قوى تمكر الشر وأخرى تنتصر للخير إنه صراع الذات مع ذاتها الأخرى (6) هذه الذات التي تتحول الى كثرة وتمتلئ بنقيضها. هذه الذات التي تتحول بفعل هذه الكثرة،وهذا الامتلاء الى "بنية معقدة متشعبة " وهذا ما يؤهلها الى الانخراط في الأسطوري بمعنى أن الذات تضع نفسها على عتبات الأسطوري، وتنجو من الأسطورة "كجسد أو كيان قائم بذاته، مغلق على ذاته، يصكك وجودا خاصا وماهية خاصة، تقيه من التلاشي في غيره" بعكس الأسطوري "باعتباره واقعا في الأســــطورة، مفارقــــا لها في الآن نفسه" أو الأسطوري "باعتباره بعدا لصيقا بصميم الوجود" (8).
إننا بهذا التمييز بين الأسطورة والأسطوري نكون قد فصلنا بين وجود ين شعريين. وجود بالأسطورة وهذا النموذج. هو النموذج الذي ساد في كثير من التجارب الشعرية لدى رواد القصيدة المعا هوة في العالم العربي خصوصا في مرحلة البدايات. أما التمثل الأسطوري فلم يتحقق في هذه النماذج إلا في لحظة التمثل المأساوي أو المر آوي لمشكلات ومعضلات هذا الكون، ووجود الذات في مفترق انكساراتها كما في قصيدة "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب وفي تجربة "مهيار." لدى أدونيس مثلا.
أما الوجود الأسطوري فقد بدا كما أشرنا، مع بعض الرواد في مرحلة التمثل الحقيقي للذات كبنية معقدة متشعبة، واتخذ أبعادا أخرى جديدة مع الأجيال الشعرية التالية على جيلي الستينات والسبعينات. وهذا يبدو واضحا في كتابات جيلي الثمانينات والتسعينات في المغرب، وفي المشهد الشعري العربي المعاصر، ممثلا بهذين الجيلين. وببعض مشائي جيل السبعينات في المغرب بشكل خاص (9).
فاختبار البرنامج الشعري للقصيدة الثمانينية بالمغرب كفيل بأن يضعنا أمام حقيقة تمكر النص للبعد الأسطوري كبعد من أبعاد الوجود (10)، أو كشكل من أشكال الوجود في العالم (11) ولحضور الذات في امتلائها وكثرتها.
ويبدو من خلال هذا التقديم والتمييز بين هذين الوجود ين الأسطوريين أن الأسطورة كباقي الرموز الأخرى لا تختفي على مستوى السلوك النفسي (كما لا تختفي على مستوى الواقع) فهي فقط تغير مظاهرها وتموه وظائفها وتعيد بالتالي خلق أشكال ومظاهر وجود أخرى. وأبرزها البعد الأسطوري.
ولا يعني التخلي عن الأسطورة بالمعنى المشار إليه أعلاه هو تخل عن وجود ما أو عن شكل من أشكال التعبير، أو شكل من أشكال تفسير بعض معضلات الوجود. بل هو تغيير في الرؤيا فرض على الشاعر البحث من داخل ذاته وهو على عتبات عليها يضع هذه الذات، أو مرآة أخرى جديدة "قرينا، أنا آخر" (13)، كفيلة باستجلاء المحجوب أو المغيب الذي لا تستطيع العين المألوفة أن ترده، إلا في التصاقها بماء مرآتها الجديدة. ويقترب فراي من تفسيرنا هذا، أكثر، خصوصا حين يتحدث في سياق تمييزه بين التنظيمات الثلاثة للأساطير والرموز العليا في الأدب، عن "الميل الرومانسي وهو الميل بإلايحاء بأنماط أسطورية ضمنيه (14) في هذا الميل تشرع الأسطورة في اكتساب منحاها الأسطوري، الذي فيه يظهر بشكل واضح ابتداع الذات (النص) لرموزه وإيحاءاته الأسطورية الجديدة، المفارقة تماما لمفهوم الأسطورة ولأشكال وأنماط تجليها في القصيدة الشعرية المعاصرة عند الأجيال الماضية لأن الرمز الوافد على الشعر من الأسطورة يظل في جميع الحالات نتاجا لفعل استدعاء من خارج النص تم، وهذا من شأنه أن يجعل حضوره في النص لحظه خطر تتهدد ذلك النص نفسه (15). وهذا ما يعجل بموت كثير من النصوص. وبانفراط شعريتها بمجرد استنفاد الأسطورة لطاقتها التعبيرية ولقدرتها على الحياة في غير مائها.
فإذا كانت الأسطورة تمثل نوعا من التفكير الجمعي، أو تحمل رموزا جماعية مشتركة، وهذا ما كانت تصكه الأنماط النموذجية المشتركة، فإن الأسطوري هو ميل معلن الى التفكير الشخصي أو الفردي، الذي فيه تعلن الذات عن وجودها الأسطوري، هذا الوجود الذي يمتص صميم الأسطورة، ويضمن سلامة هذا التصميم حين يهبه حياة جديدة، ونبضا أكثر حيوية وأكثر قدرة على اختراق زمنه، وما سيلبي من أزمنة أخرى. وهذه هي أبرز سمات التعكير الأسطوري الذي يبدع رموزه وأشكال وجوده كماء النهر الذي لا يمكنك أن تسبح فيه مرتين، فهو متدفق، متجدد فيه طاقة خلق قوية. تعيد الحياة وتهبها دون انقطاع.
* يتيح لنا هذا التقديم النظري، لمفهوم الأسطوري، وتمييزه عن الأسطورة أن نختبر مدى تمثل النص الشعري الثمانيني في المغرب، لهذا البعد الأسطوري المفارق للأسطورة. هذا البعد الذي هو إحدى الذرى التي بلفت بها الذات في اختبارها لمجاهلها صميم وجودها وشرط كينونتها ليست كذات رومانسية حالمة، بل كذات متشظية متكثرة، ممتلئة بنقائضها. ذات مركبة. ليس التعبير بضمير الـ "أنا" المتكلم أو بضمير المخاطب الغائب.. إلا أحد أقنعتها الأكثر ازورارا وتمويها. خلفها تتخفى تلك الكثرة وذلك الامتلاء والتشظي.
فكيف إذن تتمثل القصيدة الشعرية المعاصرة لدى شعراء الثمانينات هذا البعد أو الوجود الأسطوري؟ وما هي أشكال التعبير التي من خلالها يحاول الأسطوري أن يكشف عن وجوده في القصيدة ؟ وهل هناك حقا حاجة ملحة وضرورية تستدعي هذا الوجود الأسطوري بالذات، أم أن الأمر لا يعدو مجرد هروب الى الذات وتمكر لها في بعدها الرومانسي بمفهومه السطحي والبسيط؟
وقبل أن نشرع في اختبار حضور هذا البعد الأسطوري في القصيدة الثمانينية من خلال هذه الأسئلة. فلابد أن نسترشد ببعض الموجهات، الأخرى، وهي موجهات ضرورية لاستكمال الصورة. ونعني إنها تجربة هذا الجيل في الشعر وحده واعتبار الواقع مجرد حجاب لا يمكن اختراقا إلا باستعادة الأسطوري كصميم وجوهر لتجربة هذا الجيل.
ن تجربة هذه الجيل هي تجربة شعرية بالدرجة الأولى. أعني. أن انفتاح أفق رؤية شعراء الثمانينات لم يأت نتيجة إحساس هؤلاء بضغط الواقع عليهم بالشكل الذي نجده لدى شعراء السبعينات مثلا. بل جاء نتيجة إحساس هؤلاء بأن الواقع ما هو إلا غطاء سطحي. أو حجاب لا يسمح باستجلاء الرؤيا. وأن اختراق سطح هذا الواقع أو حجابا هو الوسيلة الوحيدة للوصول الى جوهر هذا الواقع. وهذا لا يمكنه أن يحدث إلا بتدمير كل ما يمت الى هذا الواقع بصلة. وهنا يأتي دور الخيال لتصفية الواقع من الشوائب أي بإعادة تصور العالم وإدراك قدراته الذاتية (16).
والتجربة الشعرية في هذا السياق هي أحد ممكنات هذا الاختراق. وهو اختراق لا يمكنه أن يحدث إلا بانصهار الذات أو ميلها الى تحويل العرض والعابر الى جوهر أو النظر الى الشيء في جوهريته.
فالذات. ذات الشاعر باعتبارها بنية معقدة متشعبة، ستحمل وحدها هذا العبء، وستغامر تاركة وراءها كل الأحلام المجهضة وكل الشعارات والأفكار المنطفئة لتختبر مجاهلها. وتنصت وحدها الى واقعها هي، كذات مليئة بالخدوش والتناقضات وتحاول بالتالي أن تعيد بناء العالم، بعيدا عن وساطة الأسطورة، التي هي تغريب للشعري، وامتصاص لشعريته. فالشعري لا يستعيد شعريته إلا مع الأسطوري الذي هو صميم هذا الشعري وروحه.
فهل يمكن إذن، اعتبار الأسطوري "نتاجا لمخيلة شعرية صافية ؟" وهل يمكن اعتبار الأسطوري هو أحد ممكنات اختراق حجاب الواقع لدى شعراء الثمانينات ؟
بهذه الأسئلة وبما سبق من أسئلة سنحاول أن نختبر حضور هذا البعد الأسطوري في القصيدة الثمانينية بالمغرب. وقد اخترنا لهذا الاختبار نماذج شعرية حصرناها في:
1- ديوان "عاريا أحضنك أيها الطين" لمحمد بوجبيري(17).
2- ديوان "امرأة من أقصى الريح" لإدريس عيسى (18).
3- ديوان "على درج المياه العميقة" لمبارك وساط (19).
ن أول ما يثير الانتباه في هذه الدواوين هو افتقارها الكلي للأسطورة رغم ما قد يبدو بين الفينة والأخرى من استحضار لبعض أبعادها. فهو استحضار سيتخذ أبعادا أخرى غير الأبعاد الكية للأسطورة، كما هو الأمر بالنسبة لتجارب سابقة. فهذه الأبعاد الأسطورية تضيع في رحابة النص وتصير بالتالي جزءا مكونا للبعد الأسطوري. أو للأسطوري كأحد الإبدالات الأساسية التي تشتغل عليها تجربة هؤلاء الشعراء. وبعض زملائهم من نفس الجيل (20).
فـ "طيبة" أو "البراق" عند محمد بو جبيري مثلا، هما أحد العناصر المرتبطة بفضاء "حلوان" قرية الشاعر وطفولته. أو المكان الذي فيه تختزل الذات وجودها وكينونتها. وفيه تصير هذه الذات متكثرة ومتشظية تحتفي بخدوشها لاغية كل المعايير والمقاييس. محتكمة الى هذا الرمز في جوهريته وفي صميميته. وليست "طيبة " بالتالي إلا "حلوان " كمكان لكينونته شاردة، تعيش حالة فراغ متواصل مع مختلف تشعباتها وتناقضاتها.
يقول: محمد بو جييري
" أنا والأشياء
في احتدام
حاورتني حاورتها
نحن
في
اصطدام (21)
في نظرنا يعتبر هذه المقطع إما بنصيته أو بتوزيعه الكاليغرافي هو النواة الأساسية للأسطوري في ديوان محمد بو جبيري. فإذا كان الأسطوري هو حالة تمثل فردي لمشكلات الكون ومعضلاته
الحضارية الواهنة... وانعكاس هذا التمثل على نفس أو ذات الشاعر بشكل يجعل هذه الذات كمرآة مشروخة لا تلتئم فيها صورة الوجه الواحد ولا تتوحد بمعادلها الخارجي، بل تنخرط في هذه الانشقاقات وبها تفسر وجودها في هذا العالم. كما سلفت الإشارة فإن المقطع أعلاه هو تعبير صارخ عن هذا التمثل، في وجهي الشعري والخطي بما يمثلانه من تجاور وتباعد. حيث تضع الذات، ذاتها في مقابل مرآة يبدو فيها "الاحتدام" هو المعادل الأخر للذات، التي تصر على وجودها في تصدعاتها وانشقاقاتها لأن بها وحدها تستطيع أن تخترق حجب الواقع، كواقع سطحي ومباشر، وتصل بالتالي الى مأساويته التي هي انعكاس لمأساة ذات تحلم أن تكون نفسها، لا غيرها. وهو ما يعبر عنه الشاعر بوضوح في مقطع أخر.
يث يقول:
" فقط احلم ان أكون الإنسان
كما لا يريدني الآخرون فقط أكون
Auzenith de moi méme
أكون نزهه نفسي" (22)
فالذات هنا هي أسطورة نفسها. هي ذاتها أسطورة. أليست الأسطورة في جوهرها "بحثا في البدايات والغايات" وأسلوبا في "المعرفة والكشف " أو إنها "الإطار الأسبق والأداة الأقدم للتفكير الإنساني المبدع الخلاق " (23) فالأسطوري بهذا المعنى ومن خلال تجربة محمد بو جبيري هو استعادة لجوهر الأسطورة لا للأسطورة كتمثل حكائي بشخوصه وأمكنته ومعطياته الشعرية. لأن في هذا يتم مثل الشعر واغتياله وإقصاء قدراته على خلق أسطورته هو كشعر والذات في إنصاتها لشروخ معادلاتها هي الكفيلة بهذا.
فإذا كان محمد بو جبيري يجسد بوضوح هذا البحث من داخل ذاته هو على عتبات عليها يضع هذه الذات لاستجلاء المغيب فيها. ونقصد الإنسان هذا الكائن الأسطوري بذاته. الذي هو شكل القصيدة ومدارها. فإن إدريس عيسى يحاول في ديوانه "امرأة من أقصى الريح" أن يضع هذه الذات في مهب انشقاقاتها. قال "أنا" تستعير بطفولتها تعود الى جذورها، أو الى مائها الأول، أو بالأحرى الى هيولها. محاولة بذلك الامحاء في الشيء أو في نقيض هذا الشيء. أو هي ذات تحاول بالأحرى أن تخلق "من الإنسان والوحش والحلم والشيء" علاقات جديدة لا محدودة على حد قول ( Hof monnsthal) إنها الذات التي تجاور بين شروخ ذواتها الأخرى، المتكثرة، فيما هي تعصف بكل شيء فحتى الأب، تقله وتتخلص من سلطته ومن وصايته.
مقابل الحفاظ على اناها صافية. لتحتفي آنذاك بتاريخ انهمارها كذات مغسولة بماء القلق. ذات معادلها، ذاتها نفسها.
يقول: إدريس عيسى.
"يا ياسر أنت "أنا" الأقصى ودليل خطاي.
فتش عني فيك
وتعرض في كفيك مرايا الريح
(لماذا نعشق امرأة في البدء فتمرق مهرتنا في خاتمها، وينام البرق خلال أصابعنا ثم نثمر أقمارا، ونقيم مدائن غامضة لنبايعها، ونموت إذا ذابت أجراس خطاها في لجج الوقت ؟! (25).
* أنت تذكرني بالغابة
أنت تذكرن بالجنة
كيف خرجت ؟! (26)
* " أنا المشكاة والمصباح والزيت
أنا اللهب،
أنا الأنفاس، والقصب
(............)
أنا مددي (27)
* "وأنا ملاكان وشيطان وطفل
وبقلبي سبع قرى
ونبي تنكره الأبواب وتزبره الأحجار
من حيرني نهرا من وحش كاسرة؟
* " وحين أضأت ما حولي هتفت:
أنا بباب الله ! ! من أهوى.. أنا
وأنا... الذي أهوى (28)
* " وأنا ولد دموي خلعت أبي،
وتماديت في قتله ثم بايعت ريح البراري" (29)
فهذه النماذج المنتزعة من نصوص مختلفة من الديوان، والتي تمثل أهم وأقوى نصوص الديوان، في نظرنا، تمثل هذا البعد الأسطوري وتعكس شكل التعبير الذي تختاره القصيدة حيث الذات تبدو مركبة متشعبة، لا تلج نقيضها إلا من خلال مرآة تتخذها كوسيط لتأمل شروخها أو تشعباتها. وهذه المرآة إما تبدو علنية، كما في النموذج الأول "وتعرض في كفيك مرايا الريح ". أو متخفية تتخذ تمظهرات مختلفة كما في نفس النموذج. فـ "ياسر هو المرآة. أو المرآة أو ضمير المخاطب "أنت " كما في النموذج الثاني. أو الأنا نفسها في تشعباتها وتناقضاتها "أنا الأنفاس والقصب " أو "أنا ملاكان وشيطان وطفل " كما في النموذجين الثالث والرابع.
فهي إذن، وكما سلفت الإشارة، ذات متشظية متكثرة ممكنة. لها أكثر من قناع، وهي أقنعة مزورة مخاتلة تموه القارئ لتدفعه نحو ذاته هو لاختبار قلقها وانفراطها المستديم.
في الأسطوري الشاعر يحاور جميع الموجودات "يحاور الكون فيها" واستمرار المحاورة على هذا النحو الكفيل وحده بأن يضع الذات على عتبات الأسطوري " (30) ومن هنا تأتي "فاعليه الأسطورة، لا باعتبارها رمزا يتم توظيفه في الشعر بل باعتبار وضع هذه الرموز، حيث تصير هي ذاتها رمزا لا شيء آخر يقع خارجها بل رمز لذاتها. "فيصبح الرمز من ابتداع النص " عالقا بسياقاته وبدلالاته هو كنص، لا بما يحمله هذا النص من تمثلات أسطورية مجتلبة من نصوص وأمكنة أخرى.
فإذا كانت الذات إذن، هي الانعكاس الجوهري للبعد الأسطوري في تجربة هؤلاء الشعراء، فإن هذا الانعكاس يأتي مفعما بأبعاد وتمثلات تختلف لدى هؤلاء كل واحد على حدة، وهو اختلاف سيضفي على القصيدة الثمانينية طابعا خاصا، من حيث مكوناتها ومختبرها الشعري الذي تتعدد فيه آليات اشتغال الشعراء، كما تختلف رؤاهم وأبعاد تجاربهم. وهذا أحد ملاذات هذه التجربة وأحد أهم منعطفاتها.
يتضح هذا الأمر أكثر من خلال الانعكاس الجوهري للبعد الأسطوري. ونعني الذات التي في وحدتها تتعدد المأزق والانشقاقات، كما تتعدد زوايا النظر وطرق اختراق الواقع وتفتيته. وهو ما سيفسح للخيال مجال تصفية الواقع من كل الشوائب العالقة به.
وفي تجربة الشاعر مبارك وساط، يبدو هذا الاختلاف ممكنا حيث تصير الذات ملاذا لتأمل كآبة ما. هي كآبة ذلك الحلم الذي بقي مجرد حلم. أو هي كآبة ذات تنصت لتاريخها الشخصي، وهو تاريخ خدوش وانكسارات وخرائب. أو هو بالأحرى تاريخ مشنوق "بحبال الأفق".
فليس الواقع هنا، هو واقع مختلف الناس أو واقع الخيبات المتتالية التي عبرت عنها تجربة جيلين شعريين في المغرب. بل هو واقع ذات توقع تاريخها شعريا وتعيد تصفية الواقع من الشوائب، من خلال إعادة تصور العالم وإدراك قدراته الذاتية. وفي هذا الاختراق، الذي هو إعادة بناء أو استعادة لواقع لم تلامسه عين قط، تبدو الذات مشغولة بشعرية كآبتها تحل ل الأشياء لتستعيد من خلالها نبض حياتها، كما لو أن العالم يولد لأول مرة:
في قصيدة "أقاليم، (ص 43) نقرأ:
· أثمة أقاليم منسية نحلم أن نبعثها في ذاكرة الأرض
أقاليم مأهولة بالكلمات العارية والعصافير الخرساء
لنعبر إليها، ونطرق أبواب الولادة بعكاز حكمة
مجنونة بقبضة الدم السافر.
ثمة حمائم ومذنبات خجولة
سننتشي بظلالنا حين ننفض عنها غبار الطريق
ونمضي
مهتدين بنجمة في القلب
ثمة ألسنة اللهب الراقص على أهدابنا
هل هي إلا التماعة حلم
على أرض الوحشة الزرقاء؟ ".
إن الضمير "نحن" هنا، هو أحد المعابر التي من خلالها تريد الذات أن تكشف عن فداحة انكسارها. ولا أعني هزيمتها. لأنها ذات تتماهى مع ذوات الآخرين، فيما هي تقيم مسافة معهم لتحدد طبيعة رؤيتهم وموقفهم مما يحدث.
وفي النموذج أعلاه تبد وهذه المسافة ظاهرة، وتحدث بالضبط عندما تنفلت الذات بمفردها لتثير الانتباه الى وجود خلل ما في هذا الحلم في قول الشاعر:
· " هل هي إلا التماعة حلم
على أرض الوحشة الزرقاء؟ ".
إن هذا الإدراك القلق لاستحالة حدوث أو تحقق هذا الحلم، هو في أحد ممكناته إحالة الى فتوق أسطورة ضامرة. وهي أسطورة "سيزيف ". ففي الوقت الذي يتم فيه بناء "هذه الأقاليم المأهولة
بالكلمات العارية " يأتي السؤال ليدمر كل هذا العراء. لأن خللا ما يبدو في الأفق. لعله "شفرة الواقع المسنونة نحو اللهيب " (31) ثم تستعيد الذات ألقها وتعود الى نقطة البداية لتذكر أيضا بأن ثمة أملا يبدو في هذا الأفق أيضا يقول الشاعر:
· "لست متوجسا من هذا
ما دام قلب المرآة ينبض
ثمة أمل كبير في انبعاث الشفاه من رمادها" (32)
فحين يتعلق الأمر بموقف حاسم كهذا، تبرز الذات في خطابها معلنة عن فرادتها ووحدانيتها، في مقابل انبعاث حلم الآخرين. وهنا أيضا تبدو المسافة بين ضمير المتكلم "لست /أنا" وبين الضمير
"نحن" في "انبعاث الشفاه من رمادها".
إن تمثل البعد الأسطوري "الضامر" لأسطورة سيزيف لا يعني البتة أننا أمام نموذج يستعيد منجز قصيدة الرواد. فنحن أمام خيال يتدخل ليحدث تدميرا وتصفية من كل شوائب الأسطورة في سطحية تصكها ليعطي أسطوريته بعدا مغايرا.عين كعين الماء تبني خضرة ما فيما هي تدمر فضارتها. وكأن الزمن يدور حول نفسه بحثا عن نقطة ما تسمح له بالسير في أفق عميق.
وهذا ما يشي به عنوان الديوان كاملا "على درج المياه العميقة ".
يبدو إذن من خلال هذه القراءة أن هناك هما واحدا مشتركا يجمع أفق الرؤيا لدى شعراء النماذج المختارة. وأن هذا الأفق ينسحب على باقي التجارب الشعرية لدى شعراء جيل الثمانينات.
لكن هذا الأفق المشترك لا يعني أن شعراء هذا الجيل ينضوون جميعا تحت نفس الرؤيا. فهناك اختلافات واضحة في التمثل الأسطوري للذات لدى كل واحد من هؤلاء الشعراء. وهي اختلافات كما بينا في الجزء الأول من هذه الدراسة محكومة بطبيعة اختلافات مرجعيات هؤلاء ومكونات رؤاهم وتجاربهم ومختبراتهم الشعرية. هذا من جهة. ومن جهة ثانية يبدو الانشغال بالهم الشعري، باعتباره هو ملاذ النص ومحركه الأساسي، أحد مكونات هذه الاختلافات (الانشغال بجمالية النص، وهو ما سيضمن في نظرنا استمرارية تجربة هذا الجيل الى أمد أبعد من أمد بعض شعراء الجيلين السابقين الذين انحصرت تجربتهم في إطار برنامج ظلت القصيدة تراوح مكانها في أفقه، ولا تحاول تجاوزه أو التفكير في مصادر أعطابه ومآزقه.
إذا كانت الذات بمختلف أبعادها وتمظهراتها التي أشرنا إليها هي فقملة الارتكاز في المشروع الشعري لدى شعراء هذا الجيل، فإن تمظهراتها الأسطورية هي مصدر ومكان الاختلاف.
إن الأسطوري إذن، ليس حلية يلتجئ إليها هؤلاء لضمان هبة ووقار ما يكتبونه. فهذا أمر مستبعد لأن شعرية تجارب هؤلاء الشعراء تبني متخيلها وتسيج أفق شعريتها بالنص وفي النص. فشعرية النص عند هؤلاء تجترع لنفسها أفقا، تعتبر الذات في بعدها الأسطوري أحد خيوط نسيجه العام. فلا فعل ولا فرق بين شعرية النص والذات الشاعرة فكلاهما بالنص يكون، وفيه يحيا ويضمن استمرارية وجوده.
ولعل مسألة "الخيال الصافي هي أحد المعابر الأساسية في إعطاء الذات كل هذه القوة. لأن العالم كما هو واضح في النماذج المقترحة لم يوجد بعد. وما يزال في طور التشكل، وعين الشاعر وحدها، هي الأداة التي بها يتم ردم وهدم ما يبدو أنه الـ "عالم " الذي لا يقبله الشاعر أبدا. وبها أيضا تتم إعادة بناء عالم خال من الشوائب. لكنه ما يزال عصيا. وعند نقطة الاستعصاء هذه تلتقي جراحات تجربة القصيدة الثمانينية وهي قصيدة أدركت مأزقها وأشارت إليه شعريا وهذا مبتدأ رهان حداثتها.
مجلة (نزوى)