(فوزية أبو خالد- السعودية)

صبحي حديدي
(سوريا/فرنسا)

فوزية أبو خالدكما يشير عنوانها، تسعي هذه الورقة (*) إلي رصد المشهد المعاصر لقصيدة المرأة في دول الخليج العربي، من خلال مناقشة عدد من التجارب الشعرية الراهنة التي إذا كانت تتباين أو تتقاطع أو تلتقي في الخصائص الأسلوبية الفردية لهذه الشاعرة أو تلك، فإنها في الإجمال تشكّل ظاهرة فريدة في الصورة الأعرض للمشهد الشعري العربي المعاصر. فمن المسلّم به أنّ الشعر في منطقة الخليج العربي ينفرد عن سواه من المناطق الشعرية العربية (بلاد الشام أو العراق أو مصر أو المغرب العربي) بوجود هذا العدد الكبير من الأصوات الشعرية النسائية التي حقّقت درجات عالية من التنامي والتجديد والتطوّر والاكتمال.

وإذا وضع المرء بعين الاعتبار حقيقة الظروف، الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي أعاقت ظهور مشهد شعري نسائي في الخليج العربي إبّان سنوات التجديد العارم التي اجتاحت الشعر العربي منذ أواسط الخمسينيات وحتى أواخر السبعينيات، فإنّ المستوي المتقدّم الذي تبدو عليه اليوم تجارب عدد من الشاعرات المعاصرات إنما يدلّ علي مقدار التقدّم الكبير الذي حققته الشاعرات الخليجيات في زمن قصير نسبياً، بالقياس إلي تجارب أقرانهنّ في مناطق شعرية عربية أخري.

كذلك فإنّ شيوع قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر في الكتابة الشعرية يدلّ من جانب آخر علي أنّ تلك التجارب الشعرية بدأت (ثورية) في الأساس، أو هي أنجزت ما يشبه (حرق المراحل) حين انتقلت مباشرة إلي التحديث والأشكال الحداثية، فتفاعلت سريعاً مع منجزات تيّارات التجديد العربية دون المرور بمراحل انتقالية. وبهذا المعني يبدو شعر المرأة في الخليج العربي تحرّرياً، أو ربما (انعتاقياً)، أكثر من أيّ موقع شعري آخر في العالم العربي، خصوصاً إذا تذكّرنا ثانية أنّ العديد من الأسباب الثقافية والاجتماعية ــ وأحياناً الجمالية ــ المحلية كانت كفيلة بإعاقة تقدّم هذه التجارب، أو علي الأقلّ تأخير وصولها إلي الحداثة مباشرة وسريعاً.

وفعل (الانعتاق) هذا مقترن، في قناعة كاتب هذه السطور، بأدب المرأة أينما كانت، سواء في بلدان تسودها ثقافات تقليدية وتقاليدية، أو في بلدن أخري تتحرّك ثقافتها في فضاء ليبرالي مفتوح. والأمر ببساطة، ودون الخوض في الكثير من تفاصيل التيّارات النقدية النسوية، يعود إلي الموقع الاجتماعي الذي تشغله المرأة بالقياس إلي الرجل، وإلي انعدام التكافؤ في اقتسام علاقات القوّة علي الأصعدة المختلفة، السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية. ما تكتبه الشاعرة في الولايات المتحدة لا يقلّ نزوعاً إلى الانعتاق عمّا تكتبه الشاعرة في الإمارات العربية المتحدة، مع حفظ فضيلة خاصّة للشاعرة الإماراتية لأنها إنما تخوض معارك الإنعتاق في شروط أصعب، وأكثر تطلباً للمثابرة والعزم والمقاومة.

وهكذا فإنّنا نعثر عند الشاعرة البحرينية حمدة خميس على هذه التساؤلات الخاصّة بالأسباب التي تدفع المرأة إلي الكتابة:
(لماذا نكتب نحن النساء المنذورات ــ كالقرابين ــ للغياب، القابضات علي الغبار، المرسومات بفرجار وفق زوايا منحنية! نحن اللاتي صُهرن في قوالب أضيق من مساحة الكتابة وأفقر من ثرائها. قوالب مدججة بأقاويل غامضة تنتج ذاتها علي مرّ العصور. قوالب متشابهة تمّ تشكيلها وفق هيئة عامة تنتج أشكالاً لا تختلف إلا بقدر يسير لا يعلن ولا يشي. تبدو معها كلّ النساء متشابهات.. مسيّجات ضدّ أرواحهن، وذواتهنّ، مبرمجات منذ الولادة حتى الموت وفق معطيات واحدة تتكرّر علي مدي الأزمان.. برمجة كلما أوشكت على الاهتراء أعيدت في أشكال جديدة (...) إذن لماذا نكتب وفعل الكتابة أصعب من طلق الولادة، هذه التي لا تميّزنا ككائنات إنسانية بقدر ما تميّز جميع الكائنات المولودة في الطبيعة عن ذكورها! لكن طلق الولادة وجع آني.. أمّا الكتابة فهي وجع ممتد. إذن لماذا نكتب ونحن ندرك أننا نضع أصابعنا ــ المنذورة للحناء ــ في أسيد الكتابة الحارق؟).

لماذا، إذاً، تكتب المرأة؟، تجيب حمدة خميس:

(لأجل أن تفرغ البرمجة المضادة لذاتها وعقلها وروحها وكيانها.. من أجل أن تعيد برمجة ذاتها وفق شروطها هي وتطلعاتها هي.. وفق أحلامها وقواها الكامنة وقدراتها الخفيّة وجوهرها المتميّز. المرأة لا تكتب لأنها لا تريد أن تسقط في النسيان بعد موتها أو لكي توقف الزمن وتسرمد اللحظة، كما يجيب الرجال عندما يٌسألون عن أسباب الكتابة. المرأة تكتب كي تؤسس حضورها، لا في الواقع الذي غُيّبت عنه طويلاً فقط، بل في الواقع الإنساني بشموليته، الواقع الذي وُضعت فيه في زاوية منحنية ومنسية! تكتب لكي تعبّر عن حركة وجودها، كي تعلن أنها كائن إنساني وموجود.. كي تنهض بذاتها.. وبالحياة في أرقي أشكالها وتجلياتها.. الكتابة فعل ممارسة للحياة لكن الحياة في عمقها وتعقدها، في حدّتها وشفرتها.. الحياة في مائها وتبدلاتها. فعل الكتابة هو فعل انبعاث وصمود.. هو فعل تهشيم للتهميش الذي حاق بالمرأة، وفعل تأسيس في الآن ذاته). (1)

I ـ الجسد، اللغة، المكان

ولعلّ الموضوعات الشائعة في قصائد معظم الشاعرات الخليجيات هي الدليل الأفضل إلى تلمّس فعل الإنعتاق ذاك، والتماس أشكاله المتعدّدة التي تبدو ــ هنا أيضاً ــ وكأنها تتباين أو تتقاطع أو تلتقي لا لشيء إلا لكي تصنع مشهداً متجانساً في نهاية الأمر، جدلياً في اختلاف الشاعرات واتفاقهنّ، وحيوياً في تعبيره عن البُني الشعورية المعقدة للمرأة الخليجية المعاصرة. وبدل تقديم مسرد تقليدي بالموضوعات التي تتناولها قصائد الشاعرات الخليجيات، سوف أحاول حصر هذه الموضوعات في ثلاثة مفاهيم ذات طابع كوني إنساني عريض، وتأخذ غالباً شكل الهواجس الوجودية الكبرى: الجسد، اللغة، والمكان.
وفي سياق فعل الإنعتاق الذي تمارسه الشاعرة الساعية إلي تحرير الذات فإنّ الجسد ليس موقع الرغبة الحسيّة أو مادّتها أو موضوعها، ولهذا فإنه ليس الجسد بمعناه الجنسي أو البهيمي. إنه مقام الذات ومنفاها في آن معاً، ولا سبيل إلي تحرّر الذات وخروجها من منفاها هذا إلا إذا تحوّل الجسد إلي نصّ ناطق بدل بقائه ــ أو إبقائه ــ كتلة من اللحم والأعضاء. ولأنّ فعل الكتابة أصعب من طلق الولادة كما تقول حمدة خميس، فإنّ تحرّر الشاعرة من صورة الجسد المسخرّ لإشباع الرغائب البهيمية وحدها هو في الآن ذاته تحرير للذات من المنفي، وهو عتبة إطلاق النصّ وانطلاقه. وفي هذا تقول الشاعرة الإماراتية ميسون صقر في قصيدة بعنوان (رماية):

لما صدّني هذا الجسد الناحل عن أحلامي
اختبأت في ركن داكن ومعتم ورطب،
ثم صوّبت جيداً حتى أُسقط آخر علامات
انهزامي
وأرحل إلي هذا الجسد الواهن في أيّامي. (2)

وفي قصيدتها الطويلة (جريان في مادّة الجسد)، التي تحمل أيضاً اسم مجموعتها الشعرية، تتابع صقر هذه العلاقة بين الجسد والانعتاق، وتقول بوضوح تامّ: (والجسد لغة بها ابتدئ/ كلّ قبيلة مسوّدة لتاريخ قمعي/ كلّ ضلفة باب يسدّ عليّ قامتي)، قبل أن تختتم القصيدة هكذا: (فليس كلّ هذا التشتت/ كلّ هذا الطلوع لمعرفة الحقيقة/ كلّ هذا الجريان في مادّة الجسد/ حادثاً عرضياً).

الشاعرة السعودية (غيداء المنفى)، وهو اسم مستعار لشاعرة كتبت خلال سنوات 1980 ـ 1983 واختفت دون أن تكشف عن اسمها، تقول في علاقة الجسد بالانعتاق، وعلاقته تالياً بالقصيدة:

بكت خطواتي الدهاليزُ..
والطرق المعتمة.. قتلتني الممرات
إنّ المدينة مرهقة
والحصار يعاقر نافذتي
والرداء الذي يرتديني.. ثقوب
القصيدة تلبسني.. باشتهاء. (3)

وأمّا عند حمدة خميس فإنّ الجسد الأنثوي بضاعة في سوق النخاسة (وهذا ليس جديداً)، غير أنّ القاهر يمكن أن يحوّل عري الجسد إلي وثاق للأنثى، هذه التي تستطيع بدورها تحويل عريها إلي موقف مقاومة حين تلبس عري الشمس فتستردّ بذلك وجهها، وجه الإنسان. وليس بغير مغزى خاص أنّ حمدة خميس تطلق اسم (قراءة) علي هذا المقطع من قصيدتها (توهّج إنسان عبر الزمن):

ملوني إلي سوق النخاسة
اشتراني حذاء الخليفة
استبدل الخليفة حذاءه بوجهي
شدّوني إلي عريي ــ لبستُ عري الشمس ــ
غسّلتني حافظة القصر المبتورة عورتها
بسياط الطاعة
فسحبت سياط جنوني المتأصل في الإنسان
وشمت قفاه ــ المختومة بالغلمان ــ
علي مضجعه
فتقيأ في سترته الملكية.
خرجت روحي من قفص الطاعة
ولبست أنا
وجهي الإنسان. (4)

لكنّ الجسد لغة كما تقول ميسون صقر، واللغة في قصائد شاعرات الخليج ليست مجرّد استخدام من نوع آخر لمفردات القاموس ــ الذي قد يصحّ القول إنه ظلّ ذكورياً أمداً طويلاً ــ بل هي في الآن ذاته محاصصة للمعني، واقتطاع لما يمكن اعتباره حصّة الأنثى من دلالة المفردات والمصطلحات والأفكار. اللغة هنا مطالَبة بإعادة صياغة كامل التجربة الإنسانية للأنثى ــ من موقع الأنثى هذه المرّة ــ ومطالَبة بتحويل هذه الصياغة الجديدة إلي أداة للحوار مع الرجل، وربما مع العالم الخارجي بأسره.

ذلك لأنّ اللغة الأخرى، لغة الرجل بمعني ما، هي اللغة السائدة للنظام السائد الذي تحاول الشاعرة الإنعتاق من إساره بوسيلة كتابة القصيدة. إنها أيضاً واحدة من أدوات تنظيم القهر وتعميمه، ولعلها الأكثر قدرة علي التوغّل إلي أعماق النفس، وتكبيل الأحاسيس والرؤى والأحلام، والانقلاب إلي قيد ثقيل لا يعيق الإنعتاق فحسب، بل يحوّل المعني إلي سجن لغوي، والكلام إلي صمت. والشاعرة الكويتية سعدية مفرّح لا تخفي ارتيابها في أنّ هذه اللغة القمعية هي بوّابة السراب والموت واليباب، وفي مقطع من قصيدتها (الخروج الأخير) تقول:

نطلعُ الآنَ...
لم يعد بيننا وجموح اللغات سوي مفردات الخنوعْ
لم يعد بيننا وشموخ الأغاني سوي نغمات الخضوع
لم يعد بيننا وبياض الصلاة سوي كلمات الخشوع
لم يعد بيننا والكلام سوي هيئة الصمت...
لم يعد بيننا والسماء سوي غيمة يابسة
وبقايا دعوة عابسة...
نطلع الآن...
إذاً
قبل سيول السراب
وقبل انتحار الحمام البهيج
بين شظايا اليباب. (5)

واللغة أيضاً وسيلة الشاعرة إلي الانفتاح علي ذاتها، بلغة ذاتها، بدل مقارعة العالم الخارجي بلغات يصعب أن تنفصل عن أنظمة القهر السائدة في العالم الخارجي. وكتابة القصيدة قد تكون واحدة من أرفع حالات حوار الشاعرة الأنثى مع ذاتها، بعيداً عن الكوابح والمحظورات والمحرّمات، مادّية كانت أم معنوية. وفي مقدّمة مجموعتها الشعرية (انتحار هادئ جداً)، تقول الشاعرة الإماراتية ظبية خميس:

(دائماً كنت أصبو إلي كتابة أشعار مرحة. لكن، ومع السنوات، وجدتني أكتب قصائد غير مرحة، إطلاقاً. الشعر هو وسيلتي، وقد كنت أتمني وسيلة غيره لأقول ما أضطرّ لقوله. علاقتي بالشعر هي علاقة غامضة، ربما وراثية، وربما عاجزة.. وعلاقتي بالحياة هي علاقة شبه انتحارية، صدامية متمردة علي قوالب كثيرة (...) في الماضي القريب كنت أنشغل بتفاصيل الآخر ـ الخارج.. الآن أجدني أتجه إلي الداخل ـ الذات أكثر وأكثر.. ربما لأنني لست واثقة من أنّ الشاعر يستطيع تغيير مسار الكرة الأرضية ــ علي الأقل ــ في النصّ الشعري). (6)

واللغة، أخيراً، وسيلة الشاعرة في تحويل انفتاحها علي ذاتها إلي صوت جماعي بمعني ما، ينطق بما هو أوسع من مجرّد الهواجس الشخصية الذاتية، ولعلّه سوف يفلح في مصالحة الذات مع العالم الخارجي، بحيث تصبح الذات ــ أو تسعي إلي أن تكون ــ صوتاً للآخرين. هذا، علي الأقلّ، طموح الشاعرة السعودية ثريا العريّض، في قصيدة بعنوان (كلهنّ.. أنا):

نا كلّ مؤودة لم تكن
كلّ ذات تطال ألا تموت
وتنضو الكفن
مَن يطلب مَن؟
كلهنّ أنا..
.. وأنا كلهنّ
فهل ستولّد أحزانهنّ
بضعفي أنا صرح قوّة؟
وهل بأظافر آمالهنّ
أنحت في صخرة الموت كوّة؟
بأحلامهنّ المضيئة
أشعل في ظلمة اليأس جذوة؟
أفجّر في قنوات الجفاف بأعينهنّ
ينابيع نشوة؟ (7)

وليس في وسع الجسد، في ذاته أو متحوّلاً إلي لغة، إلا أن يكون في مكان، وجزءاً من مكان. وهذا المفهوم الثالث في موضوعات قصيدة المرأة الخليجية يرتدي أهمية خاصة بالمعنَيين الجمالي والفكري. ذلك لأنّ انقياد المرء إلي أطروحة (ثقافة الصحراء) يمكن أن يقود إلي افتراض لاحق مفاده أنّ جغرافية المكان في قصائد شاعرات الخليج هي جغرافية صحراوية بالضرورة. وإنني شخصياً أختلف تماماً مع أصحاب هذه الأطروحة، وسبق لي أن أعربت عن هذا الاختلاف في دراستي لاثنتين من أهمّ التجارب الشعرية في الخليج العربي: الشاعر العماني سيف الرحبي والشاعر البحريني قاسم حدّاد.

وليس المقام مناسباً هنا للدخول في تفاصيل هذا الاختلاف، غير أنني أشير سريعاً إلي أنّ أطروحة (ثقافة الصحراء)، التي بدأها الناقد السعودي عبد الله نور وطوّرها بعدئذ الناقد السعودي عبد الله البازعي، تحتاج إلي كثير من التدقيق في ما يخصّ النصوص الشعرية المعاصرة علي الأقل. إنها، من جانب آخر، يمكن أن تنتهي إلي ذلك النوع من التعميمات الإستشراقية التي تسبغ علي البيئة الجغرافية سمات مطلقة، وتلتمس فيها القدرة علي تكييف الميول الإبداعية والأسلوبية. ومن جانبي، وبعد تأمّل طويل في قصائد الشاعرات الخليجيات، لا أجد نفسي منضوياً في صفّ الفريق الذي يري أنّ الصحراء هي المكان الأثير في تلك القصائد.

في المقابل، أري أنّ مكان قصائد الغالبية الساحقة من الشاعرات الخليجيات هو مكان مجازي ومتَخيّل، وهو موقع افتراضي يشهد جدل الشدّ والجذب بين الموضوعيَن السابقيَن (الجسد واللغة)، وهو بدوره مادّة ثالثة لفعل الكتابة، وفعل الإنعتاق. إنّه ليس المشهد الأرضي أو التضاريس الطبيعية أو البيئة، بل هو مزيج معقّد من تفاعلات الذات والتاريخ واللغة، وهو أشبه بفردوس مفقود يُري كحاضنة لأحاسيس الغربة أو القهر أو الضياع، وهو بالتالي جزء لا يتجزأ من الأسباب العميقة الدافعة إلي التحرّر. ها هي فوزية أبو خالد، ورغم أنها تشير صراحة إلي الصحراء، تنطلق من مكان مجازي لا تؤدّي عناصره الطبيعية أيّة وظيفة جغرافية أو بيئية، بقدر ما ترسم مشهداً حيوياً حاشداً لعلاقة المرأة بالأرض، خصوصاً وأنّ عنوان القصيدة هو (قصيدة النساء):

يُّ فردوس انسلّ منه النساء
وسكبنَ السراب
علي...
سُبات السابلة
نهرّب ماء السماء في سواد المساء
نقطّر شمساً نحاسية علي شحوب الصحراء
نشكّ الأصابع بماس العسيل
أيّ نعاس يغالب صحو الصبايا
نستمطر القلب أشواقاً حييّةً ورحيقاً يفور
نستمطر الوقت عمراً وصبراً جميلْ
نستمطر الطرقات
وطناً...
يبدّد الوحشة المشتركة
أيّ رياح تخاطف الأشرعة
نمازج الطوفان بأطياف تطير
ونؤلّف من كلّ زوجين اثنين
مهراً للمهرة الهاربة
أيّ قمر علّقته شهرزاد علي ليل اللقاء. (8)

والشاعرة الخليجية برهنت علي نضج رفيع في التعامل مع المكان في سياق هذا المفهوم التحرّري، فلا هي وقعت في إغراء تأثيمه أو النظر إليه كسجن ومفازة ومتاهة، ولا هي انساقت وراء التنميطات الإستشراقية التي صوّرته إمّا في هيئة الحجاب الذي يخفي المرأة أو الخباء الذي يخفي مطارحات الغرام.

وفي ختام هذا الجزء من الورقة، يتوجّب أن أشير سريعاً إلي عدد من الخصائص الأخرى التي تغيب عن موضوعات قصيدة المرأة في الخليج العربي، وتشكّل بالتالي سمات إيجابية:

  1. إنها قصيدة لا تضطرّ إلي استخدام الأقنعة، والشاعرة إجمالاً هي الصوت الناطق في القصيدة، وهي الظاهرة فيها سافرة من غير قناع.
  2. وهي قصيدة يندر أن تلجأ إلي الأساطير والرموز، وكأنّ الشاعرة الخليجية تقول إنّ الموضوع رامز بذاته، أو هو غير مضطرّ إلي الترميز في الأساس.
  3. الشاعرة لا تلعب دور الضحيّة المجّانية، كما أنها لا تتكلّف العصيان لمجرّد العصيان، ويندر أن تقف موقفاً عدمياً من الحياة والوجود.
  4. ـ والمرأة في القصيدة ليست موضوعاً للتفجّع الوجداني أو الوعظ الأخلاقي، وهي في الآن ذاته ليست مادّة للغزل ـــ عذرياً كان أم حسّياً ــ لأنّ موضوعة الحبّ تميل عموماً إلي ترجيح التوازن العاطفي بين الرجل والمرأة.
  5. يحدث، غالباً، أن تلجأ الشاعرة الخليجية إلي تغييب الصوت الشخصي عن طريق استخدام ضمير المخاطب في صيغة المفرد المذكّر، وذلك لتحقيق غرضَين في آن معاً:
    إقامة حوار مع الرجل بوصفه (الآخر) المخاطَب، وإقامة حوار مع الذات المؤنّثة بوصفها طرف الخطاب الأوّل، أو (آخَر الآخَر) إذا صحّ القول. وفي هذا تقول فوزية السندي في مقطع من قصيدتها (ثكنة للحرائق):

هكذا تنتحب علي رئة المجرّة
كلما ضاقت بك السُبل
وحدّقتَ في غرغرة الذبيحة
لتعرف أنها أنت
لتري بحراً يحتمي بك
جفناها يهبطان كأساور برق
يسترقّ جنون النبض إليك
فتشعل ساعديك
ذات جرح كالذهب
وتمضي إلي ثكنة الجسد
تمضي متقداً بحرائق الروح
محتضناً وطناً مثل مهرة الدم
وكأساً يتشظّى
كلَّ مساء لا يأتي وحده. (9)

II ـ الأشكال

في شهادة شخصية بعنوان (بسيط من الحرية خطير ومحرّم)، تقول فوزية أبو خالد:

(اقترفت قصيدة النثر.
لم أكن أقصد بكتابة قصيدة النثر أيّ تحدّ لأيّ كائن. ولم أكن أعرف أنّ قصيدة النثر ستكون كالخطيئة لآخرين، يلاحقني العقاب عليها طوال عمري. لم أكن أعرف أو أتصوّر أنّ في الكتابة ما يمكن أن يُعدّ كبائر أو معاصي. كلّ ما كنت أفعله بكتابة قصيدة النثر أني سمحت لنفسي بممارسة حرّية إنسانية بسيطة في التجريب والإبداع، ولم أع أنّ هذا النوع البسيط من الحرية خطير ومحرّم.
وإذا كانت تجربة قصيدة النثر بدت وقتها مستنكراً يستفزّ معهود الشعر وعادة التوارث على المستوي المحلي، فإني سحبت أحلامي وتحاشيت طرح التجربة في الداخل، خصوصاً بعد أن فشلت، حينها، في أن أجد من يتجرأ علي نشرها علي أنها شعر في أيّ من الصحف والمجلات المحلية. بل وصرت في ذلك الوقت المبكّر من عمري وعمر التجربة أتحرج، إن لم أكن أتردد وأخجل من مصارحة الآخرين بسرّي في القصيدة... لما رحت ألاقيه من استهجان وتحذير).

والحال أنّ هذا النصّ يعبّر عن زمن مضي وانقضي كما للمرء أن يأمل.
ذلك لأنّ شكل قصيدة النثر يبدو اليوم هو الشكل الأكثر شيوعاً لدي شاعرات مثل ظبية خميس، وميسون صقر، وفوزية السندي، وحمدة خميس، ونجوم الغانم، والهنوف محمد، وموزة حميد، وهدي دغفق، وسواهنّ كثيرات. في المقابل ما تزال الشاعرات زكية مال الله، وسعدية مفرّح، وثريا العريض، وأشجان الهندي صامدات في شكل قصيدة التفعيلة. وفي حدود ما أعلم، تراجع عمود الخليل كثيراً، إذا لم يكن قد انقرض تماماً. وهكذا فإنّ مشهد الأشكال الشعرية هذا يبدو وفيّاً للمشهد الشعري العربيّ إجمالاً، حيث تهيمن قصيدة النثر، ويشكّل شعراء التفعيلة صفّ الأقلية، ويقف شعراء العمود في خنادق الدفاع الأخيرة.
غير أنّ المقطع السابق من شهادة فوزية أبو خالد يشير إلى حقيقة أخرى، وهي أنّ استقرار شكل قصيدة النثر لم يكن سهلاً على الدوام، وأنّ الشاعرات اللاتي اخترنه مباشرة كنّ ــ هنا أيضاً ــ يمارسن فعل الإنعتاق على مستوى الشكل أيضاً، بل وعلى نحو أكثر راديكالية من انعتاقهنّ على مستوى المحتوى والموضوعات. صحيح أنّ بعضهنّ بدأن بقصيدة التفعيلة قبل الانتقال إلى قصيدة النثر (كما هي حال فوزية أبو خالد وفوزية السندي) إلا أنّ ذلك الطور الأوّل كان قصيراً وابتدائياً فقط، حتى أنه لا يكاد يُحتسب في المسار الذي قاد إلى نضج تجاربهنّ على النحو الذي نعرفه اليوم.

إلا أنّ شاعرة مثل فوزية أبو خالد ما تزال تكتب قصيدة التفعيلة في مستوى رفيع لا يقلّ عن مستواها فى شكل قصيدة النثر، وهي لم تجد حرجاً في إدراج قصيدة تفعيلة ــ واحدة، علي الأقلّ ــ إلي جانب قصائد النثر التي تشكّل الكتلة الأساسية في مجموعتها الثالثة (ماء السراب). ويلفت الانتباه أنّ هذه القصيدة، التي تحمل اسم (لغز)، تقوم على سطور قصيرة، واقتصاد بالغ في التركيب والمفردات، وتكثيف شديد لعلاقات التصوير (وهي بعض خصائص قصيدة النثر)، ولكنها في الآن ذاته تقوم على عمارة إيقاعية متينة ومتراصّة، وتعتمد قافية متلاحقة ذات وَقْع موسيقي متماثل (الأمر الذي يبعدها عن قصيدة النثر ويقرّبها من أفضل تقاليد التفعيلة)، وكأنّ الشاعرة تحاول المصالحة بين الشكلين.
شاعرة أخري تكتب قصيدة تفعيلة متينة، هي الشاعرة السعودية أشجان الهندي. وإذْ أعترف بأنني لم أقرأ لها سوي قصيدة واحدة هي (للحلم رائحة المطر)، فإنني لا أجد حرجاً في القول إنّ قصيدتها هذه تدلّ على شاعرية رهيفة، وغنائية شفيفة، وطرائق بارعة في صياغة الجملة الشعرية، ليس على صعيد الشعر الخليجي وحده، بل على صعيد المشهد الشعري العربي العريض. تقول الهندي:

كنت قد قطّعت غابات الحصار، وما انتهي حلمي القديم،
ولا صحت عيناي إلا كي تضمّ الغيم، تفرشه على شرفاتها،
وتروح تمطره على جدب النيام.
(يا جارة الوادي طربتُ)
وعادني في الليل سيل من حمام
متظاهراً بالصمت عاد، فهل أطارحه الكلام؟
يا جارة الأحلام تمطر في يدي لغةٌ من الأغلال،
والمطر استباح غلالتي،
والريح، كلّ الريح تنفث وقتها في معصمٍ خاوٍ
على كفّ يعفّره الجليد. (11)

الشاعرة الإماراتية هالة حميد معتوق تكتب طرازاً خاصاً من قصيدة التفعيلة، لأنها لا تقطّع النصّ إلي سطور بل ترسله على هيئة متّصلة تشبه المقطع النثري، وتضحي أحياناً بضرورات علامات الوقف، وأحياناً أخرى بالتدفّق المتلاحق للجملة الواحدة الطويلة ذات الأفكار المتباعدة. غير أنها تنجز، في المحصّلة الأخيرة، قصيدة متوازنة إجمالاً، خصوصاً حين يأخذ المرء بعين الاعتبار صعوبة تركيب مقطع موزون من عشرة سطور متّصلة. تقول معتوق في قصيدة بعنوان نقوش على رمل المراثي):

(أبوح لكِ الآن والبوح مكتمل بهديل شفيف علي شفة الارتباك الحقيقي يا خنسُ للعشق دمع خفيّ كنوز مخبأة في مرايا النساء وأعناقهنّ تعالي إذا الدمع أسبل أجفانه نطوف بادية الشام، نحن سبايا القطيعة نفرش رملاً لغفوة عشاقنا ونقلّب رجة هودجنا فوقه، راجلات سنرحل صوب الشمال إلي سفح نجم هوي ونعلّقه في لهاث الثريا سنرحل في الشوك والقلق الأنثوي إلي ما تبارك من دمنا الطفل، فوق السيوف سنرحل صوب الشمال ونحفر ساقية الارتعاش لنبني لأسرارنا القدسية هيكل قافية أُترعت بالبروق وبالقصب الغضّ، نكتبها في حواشي المواثيق والاندهاش وماذا سنملك غير حواشي الرمال لنكتب لون المساء وعادات هذي البيوت، فيا امرأة الحزن هذا الذبيح سأضجعه في خبائي وأحنو عليه كأمّ مبجلة، سأدفئه بلهاث الطقوس وفتنتها الطاغية). (12)

هذا النمط من كتابة (النصّ المدوّر) يتوفّر أيضاً في العديد من مجموعات ميسون صقر، وبصفة خاصة في مجموعتَيها (البيت) (1992) و(الآخر في عتمته) (1995)، وكانت فوزية السندي قد لجأت إليه أيضاً في مجموعتها (هل أري ما حولي، هل أصف ما حدث) (1986).
الشاعرة الإماراتية نجوم الغانم، في مجموعتها (الجرائر)، استخدمت سلسلة من الألعاب الطباعية داخل النصّ: تبديل أحجام الحروف الطباعية، استخدام المساحات السوداء، والمساحات البيضاء، والصورة الفوتوغرافية. وفي قصيدتها (مملكة الظنون) قسمت النصّ إلي جزء أيمن يشغل ثلث الصفحة، مطبوع بحروف صغيرة ويتابع حكاية ذات خطّ سردي؛ وجزء أيسر يشغل الثلثَين الباقيين، مطبوع بحروف كبيرة ومحصور داخل شكل هندسي مغلق. (12)
وتبقى إشارة أخيرة إلي ولع بعض الشاعرات بالمفارقة التي تأخذ هيئة الطباق من حيث اللفظ، والتنافر الدلالي من حيث المعنى، كما حين تقول فوزية أبو خالد في قصيدة (مُلك): (يملكُ كلّ ما يُملك/ ولكنْ / لا مُلكَ يمكن أن يَمْلكَ به/ مَلِكةً لا تُملك بالمُلك). (13)
وبصفة عامّة يمكن القول إنّ الشكل مستقرّ نسبياً عند الشاعرات الخليجيات، ومن النادر أن نشهد نقلات أسلوبية وتجريبية مفاجئة. غير أنّ هذا الاستقرار يخفي، من جانب آخر، حالة من الركود التعبيري يمكن أن تنقلب سريعاً إلي جمود ومراوحة في المكان، خصوصاً إذا سلّم المرء بالحقيقة الفنّية التي تقول إنّ شكل قصيدة النثر العربية أخذ يعاني من التماثل والتشابه، وأخذت أسراره تنكشف بالتدريج، وتحوّلت بعض تقاليده الكتابية إلي تمارين لغوية صرفة يستسهل القيام بها أيّ مبتدئ أو مبتدئة. الأمر، بالتالي، يفرض علي الشاعرات إبداء المزيد من الحرص علي تطوير أشكال وأدوات وطرائق التعبير، وإلا فإنّ الهوّة ستزداد عمقاً ــ وخطورة ــ بين المحتوي والشكل، وبين المعني والمبني.

III ـ المؤثّرات

إذا صحّ أنّ مسارات التطوّر التي خاضتها الشاعرات الخليجيات كانت جزءاً من مسارات تطوّر حركات التجديد الشعري العربية، فإنّ من الصحيح أيضاً أنّ خطوط التأثّر تتبع المنطق ذاته. الفارق الكبير هو أنّ تجارب الشعر النسائي في الخليج العربي لم تكن مضطرة إلي اقتفاء الدروب المتدرّجة إياها، وأنها حقّقت سلسلة من القفزات التي سبق أن أطلقنا عليها عبارة (حرق المراحل).
وفي شهادة شخصية بعنوان (الخروج من البؤرة)، تصف ميسون صقر جانباً من هذه السيرورة، فتقول:
(هكذا أستفيد من كلّ الرؤى والتيمات والأساطير والفنون، ومن الموسيقي والسينما والصور الفوتوغرافية، إلي الأحلام والتقاط اليومية والفردي والجزئي والعارض، لمحاولة خلق ألفة بيني وبينها، بنفس انشغالي بالبنية الخاصة والداخلية والملامس والمساحات والظلال. هكذا أصبح مفتونة باللغة والمادّة لا بشكل صوفي ولكن بشكل أكثر جسارة عليها. اللغة ـ المادة والتماسها من المعتاد والبسيط. اللغة وحدها هي التي تأسرني وتخطط لي وتجذبني وتدهشني، اللغة في الكتابة والتشكيل لأطرح نفسي بكاملها شعرياً وفنّياً، فهي تشدّني إلى تفاصيل الحياة ويومياتها وهي تعاود تهجئة هذا الواقع على الورق في النصّ وفي اللوحة، ويصبح مشروع الإبداع بالأساس همّي).
خصوصية تجربة ميسون صقر أنها فنانة تشكيلية إلى جانب كونها شاعرة، ولهذا فإنّ المؤثّرات عندها يمكن أن تتنوّع وتمرّ بالفنون السمعية والبصرية مثل الفنون الكتابية. ولكن لأنّ الشاعرة الخليجية تمارس فعل انعتاق حين تكتب، كما سبقت الإشارة، فإنّ أنماط التأثّر الأدبي يمكن أن ترتدي طابعاً فلسفياً أو تأخذ صيغة الموقف من الوجود إجمالاً، ومن علاقة الذات بالآخر خصوصاً. وهكذا تتابع صقر قائلة:
(لا نبحث عن قصيدة أو نصّ بل عن كيان وجود. عن علاقات وعن مفهوم آخر لنا، ومفهوم عن الآخر، عن مكان ما وعن صياغة أخرى للعالم. عن الآخر بشكل متسع (...) نحن إذن ننتمي إلي الشاعر الناقص والفنان الناقص والحياة الناقصة ــ الناقص غير المكتمل بمعني أنّ هناك مساحة كبيرة للتجريب، ومساحة للمعرفة به، بمجتمعه، ومن خلاله، وهي التي تجعل نصّي مثلاً مفتوحاً علي الآخر وليس مغلقاً على ذاته، ومفتوحاً على وليس مغلقاً على الآخرين، وغير مكتمل كدائرة محكمة الغلق، بل تجعل هناك مساحات للإبداع من الفنّ والشعر والرسم والسينما واللقطات، واللحظات الحياتية أيضاً جزء من هذا الإبداع. (14)

ذلك لا يعني أنّ التأثيرات الأدبية لا تحضر علي نحو مباشر في عدد من التجارب، وفوزية أبو خالد ــ في قصيدة بعنوان (جلوة) ــ تقول بضمير الغائب إنها (قرأت كتباً لا تُحصي)، وقرأت ريلكه وكزانتزاكي وأراغون وطاغور وابن الريب وبوشكين وكافكا وفولتير وسيلفيا بلاث وأدونيس، وقرأت نشيد الإنشاد وملحمة جلجامش والسير الشعبية وألف ليلة وليلة. فما الذي حدث؟

قرأتْ
وقرأتْ
وقرأتْ
قرأتْ
حتى ضاقَ جسدُها علي حواسّها كما
ينشقّ قميص صبيّة صغيرة
فجأة نهدت...
فانهدّت الدنيا عليها
تهدّدها... (15)

هنا أيضاً يبدو فعل التأثّر بمثابة تمرين تربوي ونفسي واجتماعي في الإنعتاق والتحرّر، بدليل ما تقوله خاتمة القصيدة من تحوّل القراءة إلي سبب يستدعي سخط المجتمع علي الشاعرة. والحال إنّ نتيجة كهذه تبدو منطقية تماماً بالقياس إلى طبيعة المؤثّرات التي تلمح إليها فوزية أبو خالد، خصوصاً إذا كانت هذه المؤثّرات من نوع كفيل بجعل الجسد يضيق علي الحواسّ، الأمر الذي يعيدنا من جديد إلي ما سبقت الإشارة إليه من علاقات بين الجسد واللغة والمكان.
وليس من الصعب على دارس قصيدة المرأة في الخليج العربي أن يلاحظ تأثير عدد من الشعراء (نزار قباني، أدونيس، محمود درويش، سعدي يوسف، قاسم حدّاد، سليم بركات، عباس بيضون، وسواهم)، في المناخات العامّة التي تهيمن علي قصائد شاعرات الخليج. وعلي سبيل المثال تسمح الشاعرة القطرية زكية مال الله لقصيدتها ببعض التدفّق الرومانسي والتخاطب الغنائي مع الحبيب، على نحو يذكّر بأسلوبية نزار قباني، كما تفعل في مقطع من قصيدتها (من أجلك أغنّي):

أحبّه
ضفيرةً غزلتُها علي جدائل القمرْ
ودائعاً من الزهرْ
ولست أدري إنما
حبّي له.. لا يُغتفر
خطيئة لا تغتفر
وكلّ ما رسمته
في داخلي من الصورْ
وكلّ ما نسجته
في أسطري فليستترْ
هذا الهوى...
فليستتر. (16)

غير أنّ هذا النوع من التأثّر لا يبدو صريحاً وبيّناً تماماً في الواقع، أو هو ليس شبيهاً أبداً بالتأثير الصريح الذي مارسه روّاد التجديد علي الجيل الثاني من شعراء الحداثة العربية، أو التأثير الذي يمارسه اليوم أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف علي عدد من الشعراء العرب، الذين خاضوا تجارب شعرية أطول بكثير من تلك التي خاضتها شاعرات الخليج.
هذه حقيقة تسجّل لصالح قصيدة المرأة في الخليج العربي، وتبرهن من جديد علي أنّ خيار الكتابة الشعرية لا يبدأ عندهنّ من الاعتبارات الجمالية وحدها، بل من تلك الدوافع العميقة التي تحثّ علي الإنعتاق الشامل في الحياة والمجتمع كما في الفنّ والقصيدة. ثمة (نكهة) خاصة فريدة تطبع الشعر النسائي الخليجي، وتعطي مصداقية كبيرة للمقارنة البارعة التي عقدتها حمدة خميس بين الكتابة وطلق الولادة، وكيف يكون الفعل الأوّل أصعب من الفعل الثاني، لأنه إنما يضع الأصابع المنذورة للحنّاء في أسيد الكتابة الحارق.