(2) ليس ثمة من ريبة في أن الانتظام في الإيقاع النثري قابل للتحقق دون موازين الخليل, وأكبر دليل على ذلك النص القرآني. ولنتأمل الآيات التالية: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد" (سورة الإخلاص) مثلا على ذلك. إن الانتظام هنا لا يتمثل في تكرار ظواهر صوتية معينة على مسافات معينة بقدر ما يتمثل في انتظام تزايد زخم الإيقاع النبري من نبرتين الى أربع نبرات الى خمس نبرات في الأخير، بعد أن كان استهل بنبرتين قويتين متتاليتين على الكلمتين " قل هو" ونبرتين بعدهما على "الله أحد". أي أن النص شكل قدرا من التوازن أولا ثم كسر هذا التوازن (أربع نبرات+ نبرتين+ أربع نبرات +خمس نبرات) خالقا بذلك نسقه الإيقاعي الحاد حدة باترة, من جهة والمتلطف قليلا، من جهة أخرى. وذلك, في تقديري جوهر موقف القرآن الكريم من المذاهب التي تنسب لله ولدا. غير أن هذا الانتظام ليس له صيغة محددة تشترك بها نصوص عديدة, بل ينشأ حين ينشأ بنهج خاص بالنص الذي يحدث فيه. وينجلي ذلك بمقارنة إيقاع هذه السورة مع سور قصيرة مماثلة لها مثل الناس, والفلق, والمسد وغيرها. بيد أن للنثر إيقاعه بمعنى آخر: هو أنه يقوم على ايقاع الفقرة أو السطر لأنه يستند بقوة الى الفصل والوصل. كانت مبادئ الفصل والوصل في الشعر الخليلي تقوم على طول التفعيلات وحدودها وعلى الشطر ثم على السطر، والشطر والسطر محددان بالقافية ونهاية البيت. أما ايقاع النثر فيقوم على فصل ووصل من نمط مختلف ينشئه البعد الدلالي المتعلق بامتداد النفس والضغط النابع من تموجات التجربة والقراءة والحركة الداخلية للهجة الشعرية. كل المحاولات التي تزعم أن لقصيدة النثر إيقاعها الخاص المكافئ للوزن تتشبث بأذيال الشعرية القديمة, وتحاول إكساب الشرعية لقصيدة النثر بموضعتها داخل التراث الشعري وتأصيلها فيه. لكن الحقيقة البسيطة هي أن قصيدة النثر لا أصول لها في الإيقاع التقليدي على مستوى تصوري _ أي مستوى التحديد الواعي للشعرية عند العرب. فرغم وجود من قالوا بأن الوزن ليس شرطا كافيا لإنتاج الشعر، لم يقل أحد بقدر ما نعرفه الآن من المنشور من التراث العربي - أن الشعر يكون بغير الوزن. أما على مستوى الإنتاج الإبداعي فإن تحديدنا الآن للشعرية بغير الوزن يلعب دوره في إعادة تصور المامي وتحديده, أي أنه يدفعنا الى اعتبار نتاجات أدبية ماضية شعرا مع أن الذين انتجوها وعاصروها لم يعتبروها كذلك. هكذا نكون أمام نهجين متعارضين من التفكير: الأول يسعى الى إكساب الشرعية لظاهرة ما بزعم أنها متأصلة في التراث, كأن كل ما لا يوجد في التراث لا شرعية له, أي أنه يمسه حداثية الحداثي ويلغي جدته وطارئيته, والثاني ينتج الحاضر بخصائصه الجديدة المائزة ويتركه يعيد صياغة الماضي وتحديده وتصنيفه أي أنه في الجوهر من عملية الإبداع الحقيقي. فكل إبداع جديد حقا يعيد صياغة الماضي. لقد بدا لي منذ زمن طويل أن إحدى أكثر الوسائل دقة وأعظمها وعدا بتحقيق عائد وفير هي استخدام المفاهيم المثيرة التي طورها النحاة العرب, وبشكل خاص عبدا لقاهر الجر جاني، في تحليل أساليب الفصل والوصل, لدراسة إيقاعات النثر، وخاصة كما تتبدى في وقصيدة النثر المعاصرة, ففي غياب مقومات للإيقاع ذات تكوين منتظم ونابهة من التركيب الوزني للغة, لا يبدو أن ثمة وسيلة أفضل لتحليل الإيقاع النثري الذي غدا واضحا تماما أنه لا ينبع من عناصر توليد الإيقاع في البنية الإيقاعية للشعر العربي. وكلما تعمقنا في دراسة قصيدة النثر أدركنا الحاجة للإفادة من الدراسات التي تناولت أسلوب القرآن الكريم وطرق تلا وته, وأقامت تمييزات مرهفة بين الآيات المكية والآيات المدنية. إن ايقاع النثر المتصل أقل الإيقاعات استثمارا للطا قات الإيقاعية للغة, وكلما استخدمنا أساليب التقطيع والتفقير وتغير اللهجة والالتفات والوقف والابتداء والاستئناف والفصل ازدادت المكونات الإيقاعية بروزا، واقترب ايقاع النثر من ايقاع الشعر المنتظم (دون أن يبلغ بالضرورة درجة الانتظام), لأن جميع هذه الأساليب تقتضي ورود فواصل من الصمت بين المكونات اللغوية, والعلاقة بين المنطق والصمت. أو الحركة والسكون هي جوهر التشكيل الإيقاعي ومولد ته الأساسية. هو ذا نموذج للنثر المطرد المتعانق الذي يطغى عليه أسلوب الوصل: "أمس ذهبت الى المدرسة أفكر طوال الطريق بالدروس العديدة التي لم أدرسها حاملا دفاتري وأقلامي الى أن وصلت باب المدرسة فحمل عني أحد رفاقي بعض الكتب مخففا عني الشعور بالتعب والإعياء والحاجة الى الراحة فشكرته شكرا جزيلا صادقا ودخلنا قاعة الدرس معا". أما النثر المفقر التوازن الملون الذي يقوم عر كثرة الفصل فبين نماذجه البارعة كتابة أدونيس كما تتجلى في المقطع التالي: "أنادي الفرغ أفرغ الممتلئ. حتى الصوان رخو، حتى الرمل يتأصل في الماء - لماذا الطرق، لماذا الوصول؟ ضال ضال ولن أعود. السقوط حالتي وشرطي الجنة نقيضي. إنني عرس وأعلن جاذبية الموت - أنا الغيم ولا يباس عندي. أنا القفر ولا غيم لي. (2) وفي المقطع التالية: "كان اسمها يسير صامتا في غابات الحروف، والحروف أقواس وحيوانات كالمخمل جيش يقاتل بالدموع والأجنحة, وكان الهواء راكعا والسماء ممدودة كالأيدي, فجأة أورق نبات غريب واقترب الغدير الواقف وراء الغابات رأيت ثمارا تتخاصر كحلقات السلسلة وبدأ الزهر يرقص ناسيا قدميه وأليافه متحصنا بالكفن ". "طامح جسدي كالأفق وأعضائي نخيل تثمرين في أقطف تحت صدرك،أيبس وأنت ريحاني والماء كل ثمرة جرح, وطريق إليك أعبرك وأنت سكناي أسكنك وأنت أمواجي جسدك بحر وكل موجة شراع جسدك ربيع وكل ثنية حمامة تهدل باسمي تحشرين إليه أعضائي أتجه في نزع وسكرات أستقر فيه مملوءا بشرقه وغربه أفرشه غبارا وقبرا مملكة أنهبها وأحميها أرتعب أتجاسر أستنجد يالغابات والبراري بالطينة الأولى بشهامة الفهد وعزلة النسر أتمزق أنفطر نازلا الى أغواره مليئا بخلائق تشتعل تنطفيء تشهق وتزفر تعلو هائمة الوجه وتسقط جاثية حوله" (3) لكن لدى أدونيس في هذه القصيدة وفي قصائد أخرى، بعض ما يندرج في إطار النثر المتعانق وتطفى عليه أساليب الوصل, إلا أن ذلك قليل في كتابته قلة مائزة. جلي تماما, فيما آمل, أن ايقاع هذا النص أكثر تعقيدا وتشابكا وتنوعا من ايقاع نص من المتدارك المنتظم, مثلا الذي يستخدمه أدونيس بغزارة في مهيار وكتاب التحولات (الذي يضم "تحولات العاشق "). ومنشأ التعقيد أن النص لا يشكل بنية منتظمة ذات بحر منتظم في تأليفه من وحدات إيقاعية متكررة. فنص "تحولات العاشق " نثري. أي أنه لا ينتظم في تكرارات وتوازنات منتظمة. والوحدة الإيقاعية المكونة للنص هي الجملة اللغوية من حيث هي تركيب دلالي لا وزني أو نظمي. ما أعنيه بهذا هو أن النص يتوزع الى أسطر لا تبعا لضوابط وزنية محددة بل تبعا لتموجات وتكوينات دلالية, أبرز مثل على ذلك أن "فجأة" تحتل سطرا بنفسها ولا تتراصف مع الكلمات السابقة لها أو التالية لها. وموقعها ليس محددا بوزنها العروضي أو وزنها الصرفي, بل بدورها الدلالي ضمن حركة المعنى، وهذا مصطلح جديد ابتكره لفرض هام هو تسهيل دراسة الإيقاع ووصفه, وما أعنيه بحركة المعنى هو الطريقة التي تتعالق بها المعاني والوحدات الدلالية في نص من النصوص وأنهاج انفصالها واتصالها بما يسبقها ويتلوها. حركة المعنى, إذن هي الفاعلية الأولى في تشكيل ايقاع النص, وهي العامل الذي يحدد توزيع الكلمات في وحدات إيقاعية كبيرة وهي أسطر إيقاعية والعامل الذي يحدد مكان وقوع الفاصل النغمي، وهو مصطلح ضروري جدا لأغراض هذه الدراسة أقترحه بالقياس مع الحاجز الموسيقي والفاصل ليس عبثا بل إن مكان وقوعه ذو دور أساسي في تحديد الإيقاع لأنه يلعب دور الصمت في الموسيقى، من جهة ويحدد موقع بداية الحركة الإيقاعية الجزئية وقرارها. ومن جهة أخرى. ومن هذه التصورات واستنادا إليها نستطيع أن نقول إن السطر الأول في نص أدونيس يشكل وحدة إيقاعية مستقلة نسبيا تصل الى قرار مع نهاية السطر وورود الفاصل ثم تتلوها حركة إيقاعية ثانية في السطر الثاني، والعلاقة بينهما هي علاقة وصل - بلغة الجر جاني - لكن السطر الثالث يمثل حركة إيقاعية ثالثة علاقتها بسابقتها علاقة فصل. ويصدق هذا على السطر الرابع. ويصل الفصل ذروته في السطر الخامس مع ورود "فجأة ". ومن الجلي هنا أن توزيع الوحدات الدلالية النابع من حركة المعنى يؤدي الى تفاوت في زمن الأسطر (وطولها) وأنه ليس هناك عامل خارجي مسبق يحكم هذا التوزيع وذلك التفاوت. يمكن الآن وصف الفواعل الإيقاعية بطريقتين: وصف التفعيلات التي يشكلها كل سطر، ووصف النبر الذي يقع على الكلمات والأنساق النبرية التي تتشكل نتيجة لذلك. وزنيا, يشكل المقطع الأول التفعيلات التالية (المألوفة في نظام الخليل العروضي -ويمكن تشكيل تفعيلاته بطرق أخرى). "مستفعلن متفعلن مفاعيلن مستفعلان فاعلن مفاعيلن فعلتن فعلن مفعولن مستفعلن متفاعلن فعولن فعل فعولن فعول فاعلن فاعلن فعولن فعولن فعلن فاعلن " وليس في هذا التركيب, أو غيره من الممكنات, انتظام يكفي لنسبته الى بحر حتى لو لم يكن من بحور الخليل. أما الأنساق النبرية فهي التالية (ترمز 8 الى النبر الثقيل على الموضع المحدد من الكلمة, وترمز 8 الى النبر الخفيف)، وترمز _ للمتحرك, و5 للساكن و55 لساكنين متواليين). (نستطيع أن نقرأ أواخر الكلمات ساكنة في كل سطر، فتتغير المكونات الإيقاعية في بعض الكلمات الأخيرة مثل "السلسلة " و" الكفن " (ويشار الى ذلك بالبديل الممكن بعد العارضتين / /)، كما نستطيع أن نسكن أواخر بعض الكلمات داخل السطر, محققين الشرط الذي وصفته في الفقرات الأولى المقتبسة من كتابي في البنية الإيقاعية وذلك من ميزات قصيدة النثر). كما أن من الجلي أن الشاعر يوزع النص تبعا لمنطلقات محددة رغم أنه لا يفصح عنها، فحين يطول السطر الشعري يستخدم طريقتين مختلفتين في طباعته وطباعة ما يتلوه, أحداهما تقوم على بدء سطر جديد، والأخرى تقوم على وضع الكلمات الزائدة لا في بداية سطر جديد بل تحت آخر كلمة ترد في السطر الأول, ومثال ذلك "مرض ومات "." يجيرك أسرع "، مما يشعر بأن الشعر يعتبر الكلمات الزائدة على طول السطر المطبوع استمرارا إيقاعيا ودلاليا للكلمات السابقة, في حين أنه في مواقع كثيرة يبدأ السطر من جديد مشعرا بأنه يريد تشكيل وحدة إيقاعية ودلالية وإضافة الى هاتين الطريقتين ثمة طريقة ثالثة يستمر فيها السطر الشعري في بداية سطر جديد تركيبيا وإيقاعيا ليشكلا معا (أو مع غيرهما أحيانا) وحدة كلية واحدة. ومثال ذلك ما يحدث في "فهرولت صائحا" وفي "وكررت صائحا", فهذه الأسطر في الواقع الفعلي سطر طويل واحد إيقاعيا ودلاليا لا تتسع له الصفحة عرضيا فيوزع على أكثر من سطر عليها. سأحاول الآن تركيز التحليل على عاملين: أولا التركيب النووي للأسطر الأربعة الأولى: ثانيا مواقع النبر القوي في هذه الأسطر: وينجلي من هذا التحليل أن المقطع يتشكل من أربعة أسطر لها صيغة الرباعي المتناظر داخليا أو المتمرئي، كما يمكن أن نسميه, أي أن السطرين الأول والرابع منه متناظران نبريا والسطرين الثاني والثالث منه متناظران نبريا. ثم إن هناك توازنا بليغا يتمثل في أن عدد النبرات في السطرين الأول والرابع هو ست نبرات وفي السطرين الثاني والثالث أربع نبرات. ومن الجدير بالملاحظة أن هذا النمط من التشكيل شديد الانتشار في شعر أدونيس الموزون خليليا، كما ينجلي في المقطع التالي على صعيد تنظيم القوافي: "ذاهب أتفيأ بين البراعم والعشب أبني جريرة أصل الغصن بالشطوط واذا ضاعت الموانئ واسودت الخطوط ألبس الدهشة الأسيرة " (4) والتالي على صعيد التركيب الوزني وتنظيم القوافي: "صرت أنا والماء عاشقين أولد باسم الماء يولد في الماء صرت أنا والماء توأمين "(5) وأدونيس مولع بهندسة التناظر والترجيع, إيقاعيا وتقفويا خاصة, التي تتخذ في شعره أشكالا باهرة التنوع تكاد تستنفد أنساق الترجيع والتناظر الممكنة نظريا ضمن البنى التي يبتكرها وبشكل خاص على المستوى التقفوي, وبين أشكالها البارزة الأنساق التالية: aabcac abbacdcd abbacc abbaccb abacdbdccd وليس في أي من هذه التكوينات مبدأ ناظم يؤدي الى تشكيلات إيقاعية منتظمة بالطريقة التي نألقها في الشعر الموزون, غير أن ثمة درجة من التنظيم الداخلي الخاص بهذا النص نفسه لافتة للنظر بحق. أما إذا لجأنا الى عدد المقاطع, كما يفعل الشعر الفرنسي, فإن النتائج تكون كما يلي (حيث ط = مقطع طويل, ق = مقطع قصير، طه = مقطع زائد الطول -55): وهي نتيجة على قدر كبير من الأهمية إذ أنها تكشف غلبة المقاطع الطويلة, من جهة, والتناسب العددي بين الأسطر الأربعة من حيث ورود المقاطع الطويلة والقصيرة فيها، من جهة أخرى وتفصيل ذلك أن: السطر الأول:11ط /5ق=6 السطر الثاني:11ط/5ق=6 السطر الثالث:8ط/6ق=14 السطر الرابع:13ط/7ق=20 أي أن الفرق بين نوعي المقاطع في الأسطر (1,2,4) هو (6) وفي السطر الثالث (2). وتلك درجة من الانتظام لافتة بحق (على مستوى معين يتعلق بحركية التركيب الصوتي وتموجه وتدفقه وتقطعه, كما تتجسد هذه الخصائص في العلاقة بين المقاطع الطويلة والقصيرة على مستوى ترحب الزمن الموسيقي خاصة ومن حيث وقوع النبر عليها الى حد ما كنتيجة لعلاقاتها التراصفية). وفي اعتقادي أن هذه النتيجة مدهشة وتصلح حافزا لدراسة ايقاع قصيدة النثر من منظور جديد تماما. وآمل أن يتاح لي القيام بجزء من هذه المهمة في المستقبل لكنني في الوقت نفسه أدعو الباحثين الآخرين الى تولي أعبائها فهي أعظم بكثير من طاقة باحث واحد. تمثل قصيدة النثر كما كتبها أنسي الحاج إحدى الصور الأكثر صفاء لهذا النمط الفني في تبلوره الأساسي _الذي تم في مناخ فكري كان أحد مكوناته معرفة نظرية بعمل سوزان بر نار والذي طغى حتى زمن ما من السبعينات, والسمة الأولى لنثر أنسي الحاج هي الإيقاع النابع من التفقير، والفصل بين الجمل القصيرة, والتوازي في بناء الجمل الشعرية وزنيا مع التغاير غالبا في بنيتها النظمية التركيبية: أي أن نص الحاج يتشكل جوهريا من آليتين متعارضتين: تناغم وزني وتعارض تركيبي. أما السمة الثانية فهي قيام العديد من النصوص على العبارة القصيرة التي تشكل سطرا شعريا مستقلا إيقاعيا, وعلى تقارب عدد النبرات والمقاطع في الأسطر التي يتألف منها النص. ويصدق ذلك حتى في حالات كثيرة من عدم الاستقلال دلاليا. هوذا نموذج جديد: "البيت والدخان يتعانقان والظل غائب, أبسط قامتي على الشمس فأصبح من أشعتها. لا حاجة للزرع والنجدة، لا حاجة لعرق الهارب, لا حاجة للقرع للقرع للقرع, البيت العميق خال ومتلألئ. وأبديا يزلج على اللحم ! ندفن أللحم ولا نثأر له. الموج ضعيف والريح. الموج لا يغرق البحر والريح فجوة. ندفن اللحم ولا نبكيه. ندفن اللحم ولا نعرفه. ندفن اللحم ولا نقلع البيت العميق, الروح العميق, الله العميق. ندفن اللحم ونأكله نأكله ونبصقه. نبصقه ونزرعه. نزرعه لنخنقه اللحم ! البيت والدخان يتعانقان البيت والله البيت والروح البيت والكلمة البيت والنقص والشمس. اللحم الملء خطف الظل واختنق. " (7) أما السمة الثالثة التي تبدأ بالبزوغ هنا، ثم يكون لها أن تلعب دورا كبيرا في شعر السنوات اللاحقة, فهي اعتماد الإيقاع على الحوار الخفي بين النطق والصمت, أو ما أسميته سابقا الحركة والسكون, وإدخال الفراغ مكونا أساسيا من مكونات الإيقاع ويتمثل ذلك في البياض وتوزيعه بين الأسطر والمقاطع. والصمت, كما هو معروف في جوهر تكوين الإيقاع موسيقيا، ولا ايقاع دون صمت. في هذا النص, يحدث الفصل بين الجمل الثلاث الأولى, وهو فصل تام, دلال وتركيبي. ويحدث التوازن بين الجمل الثلاث التالية, وهو تركيبي ووزني. ويحدث التوازن والتعارض التركيبي في الجملتين الأخيرتين من المقطع الأول. ثم تتكرر هذه المقومات في الجمل التالية, بصور مختلفة. وتسود النص بأكمله إيقاعات العبارة القصيرة, والتعارض بين بنية الجملة الاسمية والجملة الفعلية. بيد أن ايقاع هذا النص يتسم بسمة أخرى تثير إشكالية عميقة وتفتح مجالات خصبة لطرح أسئلة جديدة حول الإيقاع تلك السمة هي أن بعض أسطره وعباراته تشكل فعلا تفعيلات مألوفة وتنتمي الى بعض بحور الخليل الشائعة في الشعر قديمه وحديثه. لنتأمل الأسطر (التي يمكن أن نسميها الآن أبيات). ندفن اللحم ولا نثأر له الموج ضعيف, والريح ندفن اللحم ولا نبكيه ندفن اللحم ولا نعرفه ندفن اللحم ولا نقلع البيت العميق ندفن اللحم ونأكله نأكله ونبصقه نبصقه ونزرعه نزرعه لنخنقه. تنتمي هذه الأبيات باستثناء الثاني منها، بجلاء الى البحر المشهور "الرجز" (مع نقص متحرك واحد قبل "ندفن ") وبعضها ينتمي الى الرجز دون خروج على الإطلاق على صيغته الخليلية (7، 8، 9، مستفعلن متفعلن, مفتعلن متفعلن, مفتعلن متفعلن). وأما الثاني فهو من الخبب: فعلن فعلن فعلن فعلن, كذلك ينتمي البيتان الأول والرابع الى بحر الرمل دون خلل أو علل فيه. كما أن كثيرا من العبارات الجزئية موزونة بالمعنى الخليلي. وما تثيره هذه الظاهرة من أسئلة يتعلق بجوهر الإيقاع وطريقة تكوينه ومسألة الوعي أو عدم الوعي به, كما تثير من جديد مسألة الكم والنبر في الشعر العربي. لا شك لدي في أن إلقاء هذا النص كقصيدة نثر ينتج لدينا قراءة مختلفة إيقاعيا عن قراءته بوعي لكون الأبيات التي ناقشتها منه موزونة خليليا. فمن أين ينتج الفرق ؟ وكيف: وإجابتي, كما كنت قد قدمتها في حالات تتعلق بالشعر القديم الموزون خليليا, هي أن الفرق ينبع من الدور الذي يلعبه النبر الذي نضعه على الكلمات, وعلى أوزان التفعيلات المجردة, في قراءة دون أخرى. لكن نص الحاج أيضا يكتف الى أي مدى كانت قصيدة النثر لدى منتجيها المبكرين (حتى أمين الريحاني وجبران وفؤاد سليمان وادوار الخراط) مموسقة, موهبة ترحبا يبرز فيه الإيقاع ويلعب دورا أساسيا، وقد يكون لذلك علاقة بمقولات نظرية انطلق منها الشعراء، لكنه قد يكون تعبيرا عن الالتصاق الرحمي لتكوينات إيقاعية كثرة بلا وعي المبدع العربي بسبب ألفته الطويلة للشعر العربي الموروث وقد يساعد ذلك على تفسير ضمور التكوين الإيقاعي ودوره لدى الكثيرين من شعراء الموجة الواهنة لقصيدة النثر الذين لم ينشأوا في سياق الشعر العربي الموروث ولم يألفوه بسبب ضعف تكوينهم المعرفي ورداءة الأنظمة التعليمية العربية في العقود الأخيرة, خصوصا في الدراسات الأدبية. غير أن أنسي الحاج يكتب في هذه المرحلة نفسها نمطا مضادا من النصوص, هو النص السردي الذي لا يختلف كثيرا عن النثر القصصي المكثف الذي يكتبه, مثلا، زكريا تامر،. والمثل الأكمل على ذلك هو "فقاعة الأصل أو القصيدة المارقة " (8) وإنني لاستغرب تماما _من منظور تقليدي يتوقع الانسجام في عمل الكاتب _أن أنسي الحاج كتب لحلا هذين النصين في الزمن الذي كتب فيه مقدمته المشهورة لمجموعته لن: ذلك أن لحل ما في هذا النص نقض لسابقه ونقض للمفاهيم النظرية التي طرحها الحاج في مقدمته. أما من منظوري الطارئ الذي يقر أن التناقض هو المبدأ الناظم للوجود الإنساني وللإبداع فلا غرابة في تناقضات الحاج إطلاقا، غير أن الشيق بحق هو أن أسلوب "القصيدة المارقة "هو الذي كان له أن يطغى على قصيدة النثر في شعر جيل لاحق هو الأكثر تأثرا بالحاج, وكان له أن يسهم في إنتاج قصيدة نثر عربية تخرج كلية على الصورة المتأثرة بتنظيرات برنار. وأبرز سمات "القصيدة المارقة " هي أنها تقوم على الوصل بصورة شبه كلية فيكون لها إيقاع النثر المتعانق السردي ولا شي ء آخر. فاطمة قنديل: "أستطيع أن أكتب لي اسما آخر على زجاجة يتغبش الآن بأنفاسي... " (9) "من أين تأتي هذه الأشجار؟! كبركان تطبق على النافذة ويكون علي أن أزيح ستائرها المغبرة كل صباح. أراها تلقي أغصانها الثقيلات على رئة الفراغ تبعثرها أوراقا صفراء كيف يتسنى لها أن توقع الريح في شباكها وأن تنكأ العصافير كيف يتسنى لي أن أغلق النافذة على الضوء ألمختطف قبل أن ينزلق على عرقها أو أن يدخلني الهواء دون أن تحزه سكاكينها في كل يوم تخرج أحشاءها الملونة قربانا للخريف وتظل عارية في الشتاء تحدق في ظلها... " (10) | جلي تماما أن هذا النص نثر متصل مطرد وأنه لا يختلف إيقاعيا عن أي مقطع نثري عادي في مقالة متفننة - مع أنه يختلف على مستويات أخرى، فهو يعبق بلغة شعرية جميلة تنبع من فيض المخيلة المنتهكة والصور المتألقة والحساسية المرهفة بإزاء العالم, الخارجي والداخلي معا، لكن مما يدعم التحليل الذي قدمته أعلاه أن النص موزع بصرامة على أسطر تخلق صموتات وانقطاعات وبدايات إيقاعية ولهجوية, كما تخلق توازنات وتوازيات وتعادلات سطرية تنبع من النبر بالدرجة الأولى - رغم الاتصال والاطراد التركيبي والدلالي. لكن ما هو أكثر إشاقة أن التوزيع على أسطر يتم بناء على أسس تركيبية دلاليا، خالقا ما أسميته "ايقاع المعنى" في مقابل ايقاع الصورة الوزنية، فكل جملة أو عبارة متكاملة المعنى تحتل سطرا مستقلا وتخلق انقطاعا ظاهريا, كما أن إلتوزيع يستند أيضا الى لهجة معينة يريد النص أن يخلقها. ومن الدال جدا في ذلك أن النص محرك تحريكا كاملا حتى على أواخر كلمات نهايات الأسطر إلا في مواضع قليلة، مما يكشف درجة عالية من التنظيم الإيقاعي و للهجوي. أما التعادلات النبرية فإنها واضحة تماما في النص ولا حاجة لتفصيلها. أ-
نبرتين
3 نبرا ت
3 نبرا ت
نبرتان
ب-
3 نبرا ت
3 نبرات
نبرتان
3نبرا ت
نبرتان
نبرة
4 نبرا ت
نبرتان
4 نبرا ت
3
3
3
3
4
3
3
4
2
3
2
3
2
أخيرا, من المثير أننا إذا أحصينا عدد النوى المكونة لأسطر النص وأحصينا عدد المقاطع فيها اكتشفنا درجة شبه تامة من التوازن التطابق في إيقاع النص. وقد يشي ذلك بأن ثمة سبلا جديدة لتنظيم النص إيقاعيا تتحقق بصورة عفوية حدسية، كما كان الوزن المنتظم يتحقق للشاعر الجاهلي - فيما يبدو - دون معرفة نظرية بأمور الوزن والإيقاع, وكما ما يزال يتحقق الوزن لدى الشاعر المعاصر الأمي الذي لا يعرف قواعد اللعبة العروضية، واذا صح ما اقترحه - وما أظنه صحيحا - فإننا نكون أمام كشوف باهرة بحق. ومن الشيق بحق أن النص يتشكل بالدرجة الأولى من النواتين (- ه) (-- ه) وترد فيه أحيانا النواة (--- 5) (التي يمكن أن تقسمها إيقاعيا الى نواتين). ومن الشيق أيضا أن التتابع الحركي الذي يزيد على خمسة متحركات دون ساكن, وهو ما لا يسمح بوروده النظام العروضي الخليلي, يرد في النص. لكن ورد هذا التتابع نادر جدا ولا يكاد يتكرر ضمن السطر الواحد، مما يشعر بأن مكونات حدسية أو غريزية مازال تتحكم بلغة الصياغة الإيقاعية في الشعر، حتى النثري منه ومما يظل يشكل وشيجة قوية مع الإيقاع ألعربي الموروث. وهذه نتيجة على قدر بالغ من الأهمية. أما آخر الملاحظات التي تستحق الإبراز فهي أن بنية الجملة وتركيب النص يختلفان عما هما عليه في شعر أنسي الحاج, مثلا وينتميان بعراقة الى بنية التعبير المألوف في العربية, وأن النص على قدر كبير من البساطة والوضوح بالقياس الى شعر الحداثة عامة، وتبرز هذه السمات في كثير من نصوص قصيدة النثر التي يكتبها شعراء الموجة الراهنة، مما يزيد في تسويغ الرأي الذي طرحته في بحث آخر عن تخلي قصيدة النثر الآن عن تصورات مثل تفجير اللغة، والغموض, والكثافة والتوتر والاستعارة الصادمة وتعقيد التجربة, وتشابك الرؤيا, وعن عودتها للانسياق في مسار مألوف تماما في التعبير الشعري العربي. (3) تفصح النماذج التي قمت بتحليلها هنا، ونماذج عديدة أخرى، عن أن ثمة نمطين إيقاعيين طاغيين في نصوص قصيدة النثر: الأول إيقاع المتعانق والمطرد والمتصل, والثاني إيقاع المتفاصم والمنقطع والمفقر. وضمن هذا الإطار الواسع يبرز نوعان من التكوينات الإيقاعية. الأول تطغى عليه إيقاعات نابعة جوهريا من بنى لغوية طارئة والثاني تطغى عليه إيقاعات نابعة من بنى لغوية تليدة، تعود الى البروز مشكلة استمرارا تاريخيا للبنى اللغوية السائدة في الكتابة العربية. وبوسعي القول, دون أن يتضمن ذلك أي مفاضلة، أو ميل الى تأكيد المكونات المذهبية في عمل مبدع ما، أن البنية الأولى تتسم بلهجة إنجيلية وتوراتية، أما الثانية فهي نتاج التطور المستمر في أساليب التعبير العربية بعد زمن التصنيع المغرق. ولعل أبرز تجليات الأولى تتمثل في شعر أدونيس المبكر وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وادوار الخراط وقاسم حداد ومحمد عمران, أما أبرز تجليات الثانية فإنها ترد في شعر أدونيس المتأخر ومحمد الماغوط وسنية صالح ونزيه أبوعفش وسيف الرحبي وعبده وازن وفاطمة قنديل ومعظم كتابا قصيدة النثر الصاعدين الآن لكأنما تشكل مسارا تاريخيا انبثق فيه عند نقطة معينة التركيب التوراتي الإنجيلي, ممسوسا أحيانا بصيغ تركيبية فرنسية وإنجليزية, ثم انحسر أثره لتتجه قصيدة النثر نحو أساليب الصياغة العربية السائدة وتحدث بذلك - مع فاعليات أخرى - نقلة تؤدي الى تكريس قصيدة النثر تماما أو كتابة قصيدة نثر عربية تنفصل عن المدار التأسيسي وتخلق مدارا أشد التصاقا بالشعريات العربية الراسخة على هذا الصعيد المحدد - أي بنية التركيب اللغوي وللإيقاع الذي يتولد منها. وسأمثل على النوع الأول بنموذجين من شعر أنسي الحاج وأدونيس, وعلى الثاني بنموذج من شعر محمد الماغوط, مؤكدا أن غرضي التمثيل فقط لا تقديم دراسة مستوفية لما أسميته البنى الطارئة والبنى التليدة. انسي الحاج: "يا مملوءة مطرا وشمسا، تعالي نتفق, اعقدي خنصرك في خنصري كعداوة، لا تريني ! اغرزي ابتعادك في كبدي, فوق الخطر، إنني آكل لحمه وملكي وعبدي رؤيا لهابة؟ فلتحشش الرؤى! يقظان كسمكة، أعلق فخذي على لافتة, أنطفئ وأضئ: "لا تخلعيني "، كنت انظر بابا وماء، كنت انظر فأراني, صرت أراك. "(11) أدونيس: "أخلق للريح صدرا وخاصرة وأسند قامتي عليها. أخلق وجها للرفض وأقارن بينه وبين وجهي. أتخذ من الغيوم دفاتري وحبري, وأغسل الضوء. للشقائق زينة أتزيا بها, للصنوبرة خصر يضحك لي, ولا أجد من أحبه - هل كثير إذن أيها الموت, أن أحب نفسي؟ أبتكر ماء لا يرويني. كالهواء أنا ولا شرائع لي - أخلق مناخا يتقاطع فيه الجحيم والجنة. أخترع شياطين أخرى وادخل معها في سباق وفي رهان. أكنس العيون في غباري أتسلل في ألياف الماضي فاتحا ذاكرة الأولين. أنسج ألوانها وألون الإبر. أتعب وأرتاح في الزرقة - يشمس تعبي ويقمر في لحظة واحدة. أطلق سراح الأرض وأسجن السماء ثم أسقط كي أظل أمينا للضوء, كي أجعل العالم غامضا ساحرا, متغيرا, خطرا كي أعلن التخطي. دم الآلهة طري على ثيابي. صرخة نورس تصعد بين أوراقي - فلأحمل كلماتي؟لأمض.. ".(12) لن أقدم هنا تحليلا مفصلا لهذه اللغة الموقعة الثرية، لكنني ألفت النظر الى الولع بالتفقير، واستخدام الفاصلة والفاصلة المنقوطة والنقطة والنقاط المتتالية. ثم ندرة أدوات العطف بين فقرات المقطع الواحد وانعدامها تماما بين المقاطع, ثم التركيب النظمي الطارئ لجمل مثل "كالهواء أنا ولا شرائع لي "، " للصنوبرة خصر يضحك لي, ولا أجد من أحبه "، ثم الاختزال الصارم الذي يعادل عملية نحت بأزميل حاد، والبعد عن الربط والتفصيل والإسهاب. وسألفت النظر بشكل خاص أخيرا الى تشكل الأنساق التركيبية (الثلاثية خاصة) وانتظام حدوثها وأجلاها الفعل المضارع وفاعله ضمير المتكلم + المفعول به + متتمات شبه جملية, ثم انكسار النسق في مفاصل تركيبية بارزة بطريقة تؤدي الى منع الرتابة وقلب التشكيل الايقاعي في آن واحد. وكل ذلك من السمات الأساسية للغة شعرية ذات ايقاع بارز. محمد الماغوط: " أظنها من الوطن هذه السحابة المقبلة كعينين مسيحيتين أظنها من دمشق هذه الطفلة المقرونة الحواجب هذه العيون الأكثر صفاء من نيران زرقاء بين السفن أيها الحزن.. يا سيفي الطويل المجعد الرصيف الحامل طفله الأشقر يسأل عن وردة أو أسير عن سفينة وغيمة من الوطن.. والكلمات الحرة تكتسحني كالطاعون. " (13) الإيقاع الابتهالي: ثمة نمط إيقاعي آخر يختلف عن الأنماط التي أدرجتها حتى الآن اختلافا بينا، ان كان له رنين خفي يذكر بنثر أدونيس المبكر, هو النمط الذي أسميه " الإيقاع الابتهالي أو التسبيحي ". هنا يتواشج النص ويتلاحم في تكوينات لغوية تمزج بين الوصل أو الفصل والتفقير والتوازن, من جهة والتدفق الإيقاعي, من جهة أخرى، مرجعة صدى أساليب الإنشاء الترنيمية, ومستغلة الطاقات الصوتية للغة الى درجة أشد بروزا مما هي عليه في النماذج التي أقتبستها سابقا، وبشكل خاص حرف المد، والنداء, والندبة والاستغاثة، والمناجاة المباشرة, بأنماطها المختلفة. ويستحق هذا النمط دراسة مسهبة لذاته, لكن المجال الراهن ليس أفضل الأمكنة لتأدية هذا الغرض.. لذلك أكتفي بالتمثيل على هذا النمط بنصين, أحدهما لكمال أبوديب والآخر لقاسم حداد وأمين صالح. كمال أبوديب من "بحثا عن وجه أمية في التكوين الثاني " I أبدأ الآن فصل عينيك والدمع. فاستسلمي لريشة الكلمات النافرة كا لأيائل المضرجة في صحاري تجري من تحتها الأنهار دما، واهدئي على أنامل الرعشة/ بين الأنملة والرعشة أنت, بين الدمعة والجفن, بين الهواء والنفس الموجع, فاستسلمي / سأنسج من شعرك إلمرقرق ضوءا يتلاشى في مساء شتائي سماء تظلني نداوة أبعادها وآتي إليك حين تجيء الطيور من حافة الأفق أجنحة تقطر دمعا ودما/ سآتي إليك حين ينهمر الثلج وتلتم الأشياء تهجع في فيئك الوريف / سآتي. آه, لكن لا تشيحي, إن في وجهك الصغير قناديلي وضوئي فاهدئي. إنني أبدأ الآن فصل عينيك والموت... (كان لصوتك صفاء أجراس تأتي من الشمال في نسيم ربيعي / رسيس أجنحة بيضاء تنأى في سماء فسيحة تنتشر فوق البحيرة الهاجعة بين المرج والمرج بين الغابة والدمع, كانت عيناك تأتلقان في ضوء يترقرق من حوافي الغيوم تزداد في دعة فوق الباحة والأراجيح ترج الضوء المسائي / ها أنت تجرين من أرجوحة الى أرجوحة من الأخضر الأحمر الأخضر الأصفر/ وها أنت جميلة مثل رشأ يتقافز في الكثبان يكتشف لون الهواء والفضاء والعشب / ها أنت. آه يتها الخفية كالعبور بين ألق الرعد وألق البراعم / يتها المضيئة كالقناديل تساقط فوق جدول يرهج كالريش في جناح آت من البحر. من؟ قلت من؟ II يتها ألظافرة كأيائل الجبال يتها العصية كالدمع يتها الثرية كالينابيع في الأحراش الوريفة الظل بين السفح والحقول. قمحا كنت في جفاف عيني أن أضرمت النار/ وأبروخا وأسا أن أضرم التل ورمد الزعتر الغض أجسادا تلوت قبل أن تخرسن الصرخة الأخيرة سوقا وأذرعا تكلس فوق الأرض كالأرض / قمحا / وكنت وهج رعب من زمن يأتي كأنه كان ثم أقفل الزمن الآتي وزج في نفق يرشح موتا وقهقهات وينبع موتا وقهقهات وكنت... يتها الجرح في الدم / الفورة الحبيسة في حلم تأطر كالقوس وجاءت لحظة النزع فارتمى نتفا بين وجهي وبين الأفق. )كانت أجنحة بلون الغمام تساقط فوقي / وكنت قمحا وهشيما نثار حلم تضرج في فورة الدم المؤجج بين البحر والتل بين النبع والزعتر المرمد/ كنت... آه كنت III ها أنت تطلعين من جسدي الصب تدخلين في جسدي الصب / ها أنت تنئين تدخلين تلا تقصفه النار عويل رؤوس مقطوعة وأجساد سليخة وها أنت مسكونة بشبح الوحش في اليد التي تجزر الرأس ها أنت / تغورين. أين تنئين أين؟ ما أنت والتل والرأس واليد والأجساد ما أنت؟ (صبية تنشر شعرها الأشقر الطويل لريح تعدو في بورت مدو تطارد المهار الشقر والفراشات) ما أنت؟ تمضين تغلق أبوابها النار عليك مديرة ظهرك الصبي / لا يدي تشد لا رعبي ولا صراخي / أنت تمضين لن يعود بك الفجر لن تعود بك الأرض فالنار التي اجتاحت التل والأجساد تجتاحك الآن فتهوين يستبيك الكابوس والرعب وموت الأطفال في التل والجنوب. لكن سلاما لوجهك الغض تجتاحه النار اذ تهوين لكن سلاما وسلا ما. " (14) قاسم حداد وأمين صالح من الجواشن "من أعطاك طبيعة النصل وجرأة انتخاب الأسماء؟ وحدك وحيدة في النوم ووحدي لكن, قلت لك: افتحي النافذة كي أعرف أن لك دارا تشرف على المساءات كلها، فبدون هذه العلامة الرشيقة لن يتسنى للهزيع الأخير أن يتثاءب ويدفق الأحلام في روحي. قلت لك, لكنك أوصدت النافذة ومحوت الدار، فهربت المساءات وظل الليل يلملم أطرافه في عربة لا تقود إلا الى الفناء. يا لك من وحيدة... وحيدة مثل نجمة في سديم آن أن تخلعي هذا المطر الوارف وتسعفي التوابيت المحدقة بك أشبه بجوقة جاءت لتبطش بالحلم. النوم ملجأك الأخير. تنزلقين من مأتم الى وليمة عامرة بالقتلى، فيأخذك اليأس الى ملجأ أشد فتكا. وأنت وحدك. آن أن تكتملي مثل فراشة المحنة وتكترثي بطريد الكوابيس المبجلة، يا الغائبة مثل قناع ينبش في الوجه يا الغارقة في عسل الغدر، ارفعي خمارك المطرز باليقين وانظري... أطل عليك أيتها الفاضحة، مذعورا من هذا الشهيق السحيق كما الهاوية. لم أعرف سريرا بهذا البياض والشسع أتشبث بذيل المعجزة: فلربما، حين يخذلني الحديد، يسعفني البياض الرحيم. أطل عليك مغمورا بالمستحيل كافرا بالنعم: فلربما، في سرير رشيق كهذا، أخرج من جاذبية الموت وتدلني اليوم الى الجذوة. آه, أنت هناك, في طيات نجمة داجنة تغوين أصابعي لتسوق - في رواق الغيم - بغلات حنونات تحمل شفاعة البحر. تراودينني كي أقفز في البياض اللامتناهي. بلا طمأنينة، أذعن لمهرجان الوسائد. آه, هناك أنت.. عارية منى وأنا هنا.. عاريا منك لا بياضك الوسيع يهب جحيم المغفرة ولا بياضي المتجزئ يدفق الدم في الثلجة المقدسة" (15) نماذج من قصيدة النثر وتنوح التشكيلات الإيقاعية فيها:
أما النصوص التي تلي فإن بعضها يولد إيقاعا نابعا من الفصل, والتفقير، والتوازن بين الجمل القصيرة، وبعضها يولد الإيقاع الابتهالي التسبيحي, فيما يولد بعضها ايقاع الوصل والترابط والتعانق. وما اختياري لهذه النماذج بأمر صدفة واعتباط, بل هو مدروس بعناية، ذلك أنتي أود أن أقترح من خلالها أن التعارض بين نمطي قصيدة النثر يعود أصلا الى نقاطها التأسيسية في المرحلة الحاسمة من نشأتها المعاصرة، فلقد تمثل في هذه النقطة التأسيسية تياران إبداعيان مختلفان تماما على رأسهما محمد الماغوط في طرف, وأدونيس وأنسي الحاج, في طرف آخر. ففيما جسد الماغوط المنطلق العربي النابع من التكوين التاريخي للغة الإبداع العربية وللحساسية العربية بصورة طاغية، مثل أنسي الحاج الوجه المتفاعل مع الإبداع الفرنسي بقوة. وكان أدونيس توسطا بينهما على المدى الطويل, لكنه في المرحلة الأولى كان أقرب الى أنسي الحاج فيما أضحى في مرحلة لاحقة أقرب الى محمد الماغوط. وما أطرحه في هذا البحث يتضمن بوضوح أن قصيدة النثر التي ابتكرها الماغوط هي التي شكلت المناخ السائد في الثمانينات والتسعينات خاصة لقصيدة نثر عربية لم تعد تطغى عليها حساسية وإيقاع موشوجان بالمكون الفرنسي, لكن هذا لا يعني أننا أمام نمط واحد الآن, فالأنماط ما تزال متعددة، وفي نثر بول شاؤول وسليم بركات وعباس بيضون ومحمد آدم وقاسم حداد خاصة سمات مائزة للغة شعرية وإيقاع مغايرين للنمط السائد ويبقى نثر أدونيس يشكل مداره الخاص المتميز تماما. سيف الرحبي "بين ليلة وضحاها اكتشفت أنني مازلت أمشي ألهث على رجلين غارقتين في النوم لا بريق مدينة يلوح ولا سراب استراحة. على رجلين ثاويتين في النوم أنا الذي ظن بأنه وصل وعند أول مدخل تنفست رائحة قهوة ونباح كلاب فكومت جسدي كحشد من المتعبين والجرحى لكني عرفت أن الضوء الشاحب يتسلل من رسغي خيط دم يصل الشعاب بوديانها الأولى.. " (16) رقصة لم يشعر بها أحد " المرأة تحمل الحسون. حين يمر الجندي تغطيه. الطفل يلعب بقطعة نقد. حين يمر قرب الجندي يرميها. الجندي لا ينتبه. حين يبتعدان, تنظر المرأة الى الحسون, ويلتفت الطفل الى القطعة التي خلفها. شياطين كثيرة تحركت في الهاوية. لكن الرقصة لم يشعر بها أحد. مع ذلك بضع دقائق من التأخير عن الموعد الجهنمي ". (17) أحبك "أحبك اليقظة تنتصر باكرا وتجدنا معلقين أحبك أنها أخيرا تحف الوحدة أحبك أنهم أولادنا من الريح لن يجد النهار قمة تستفهمه أحبك الجميع في لوحة الجفاف إنها أيضا زفاف الرطوبة أحبك من اللسعة ذاتها يتمسلوان أحبك الكلام الحافي "(18) " كنت أنتظر الى أن يخرج مني ذلك السلك. لكننا هذه المرة سنبصق ألما خالصا وقسوة خالصة. تلك هي الريح التي تشحذ نفسها على حافة الجرف. والهواء الذي يحز نفسه على الشق الطويل. وليس غناء ما يوشك أن يصفر في القصب. لكن الريح التي تنقسم بخبطة بين نصفي الجبل. ليس غناء ما يشهق في قطعة حبل, لكن الى أن ألد ذلك المسمار من نهاية روحي أترنم "كان لي فم كبير أحمق. " (19) يحيى حسن جابر "كل مساء (20) ة تنقط كل مساء طفل الجيران يصرخ كل مساء تمر سيارة الإسعاف كل مساء يفكر بالسفر وكل صباح ينهض ليفتش عن عمل إضافي ويقول لصورتك على الحائط صباح الخير".(20) سليم بركات " للندى شفرات, للحقول طباع السراقين, فلأعد المديح نادبا، فليعد الضلال الأمين مدائح الغيب في رقة. يا الضلال, الذي يتمم للحقيقة ما تتلعثم الحقيقة في إطرائه, يا لك ضلالا يستنفد العريق في وصفك, يالك, أخني أأتمنك على هداية الأكيد الفاجر. إيه, لأنت الضلال الفران تنضج في قبضتك أرغفة الله وكستناؤه. وأنا؟ فلأنحت الشفافة بأزميل الكلي تصاوير دروع, واستغاثات كركض الأوز، فلاكمم الكثيف على عتبة النعمى فلأنجز هكذا، على عاهن الشكل خالصا، للضرورة في أنحائي دبيب اليربوع, وللأمل جلال التيه. حنيفا يولي التيه على الموازين ويقلد خلاص الباطل: أيا الباطل, يا ثناء الكلي على مصكوكات النور، أيها الوفاء الذي ينكل بالعدم كي يعترف, لأنك تزن بمثالك النجاة ذهبها. ولأنك جريح بما خصصت به من يقين. تطن من حول جرحك ذبابة الفردوس, ونحل الجماد الذي يسيل شهده على رخام الفردوس: "يا الفردوس الذي يتعثر الوجود بالعظام على عتباته ، هاتك هات صمغك القوي نلحم به شروخ الموحى. وانتهر المواثيق, أضربها بسوط الندم, فأنت شفقة النهاية على النبوءات ". ضلاااال., أرفع السماء على فخذيك القويتين, رجها باللهاث حتى تتفق مشيمة البرزخ, وينحل، المكان شهوة. أهزؤ يدمع إشفاقا على الأسى في يدي, أم مطلق يسيل من إجاصات الحمى؟ ضلاااال, أرفع الريح الى ثدييك, واطر الجمال الممتعض من آيته تقرأ بلسان العديد الواحد يا لك, وعد بي إليك, مجرجرا خلفي حفيدي الوقت, أوبخه إن تلكأ، أوبخ النشأة إن تلكأت. عد بي أيها الضلال سأذيق الفراغ جماناته الذائبة، والفجر فستق المغيب. المتاه للمتاه ميثاق النسيان, للمتاه بذل النهاية نشوى تقسم الإرث على الهلعين. ياللمتاه الفتكة، خمالة العذب: المتاه الرجاء، منصف الخسارات, الذي يتكسب الغمام به في خيام السهول, العذرة الفحيح, كوفئت, يفرم المساء الغض ككرفس على عتبتك النحاس, ولك أعيان الموج وعقول الريح, أتؤتي يا المتاه الشغف؟ مرحى، مؤنة العبور الأقسى على جسور الفجر، لأنت, المتاه الدسيسة يا دهاء النرجس وفسق الورد. وريثا يبايعك الأمل في كنوزه, ويوليك النور خزاناته المتاه الحتم في المعارج الى القيامة، الصولة الظل, النقاء، نيئا كخصية نيئة في صفن الأزل, القرفة, الزعفران, العصفر، قشر الأترج, السماق, النارجيل, إلزعتر. المتاه الوقب في جمجمة الملاك المغدور. المتاه الخلية، الدورة النفاس, الأسى يصعد بجراده من الأحشاء الى الرئات المتاه الحضور الحضور الحضور". (21) (4) الآن, وقد قدمت هذه التأملات المكثفة للأبعاد التقنية لإيقاع قصيدة النثر ولعلاقته بالإيقاع السائد تاريخيا في الإبداع الشعري العربي, أود أن أصل الى بيت القصيد - كما تقول العرب - وليكن بيت قصيدة النثر مجاملة، وهو أن الصراع الذي يدور في الفضاء الإبداعي العربي ليس صراعا بين إيقاعات, بل صراع بين أنماط من البنى الفكرية الذهنية والتصورية، صراع عقائدي, مثل كل صراع تأويلي يحدث في الثقافات, إنه صراع بين الوحدانية والواحدية والتجانس والانسياق الإذعاني المطلق للسائد والجماعي, من جهة, وبين التعددية والحرية والتنوع والتفاوت واللاتجانس والفردانية من جهة أخرى. الطرف الأول يقول: لا يكون شعر إلا بالوزن, ولا يكون شعر إلا إذا كان على صورة التراث المقبول السائد: والطرف الثاني يقول: يكون ما لم يكن, نبدع منطلقات جديدة وأسسا جديدة ونبحر في مجاهل بكر. الطرف الأول يقول: ثمة بين واحد وحقيقة واحدة وأمة واحدة وزعيم واحد وثقافة واحدة وصوت واحد ونموذج واحد وإيقاع واحد، والطرف الثاني يقول: ثمة أصوات ولغات وأمم وزعماء وثقافات وديانات وحقائق وإيقاعات متعددة كلها. الطرف الأول يتصور الثقافة والمجتمع كتلة واحدة متراصة يسودها تجانس كلي في كل شيء ويشعر برهبة صارخة أمام احتمال اكتشاف اللاتجانس, والطرف الثاني يرى الثقافات لا متجانسة متعارضة متناقضة متفاوتة متصارعة. والفاجع في ذلك كله أن كل طرف يؤمن بأن منطلقاته تنفي الآخر ومنطلقاته وأنه لا حقيقة إلا ما يراه هو حقيقة. بكلمات بسيطة، المعضلة هي وحدانية الفكر العربي السائد وإيمانه بالنموذج الواحد المقصي المستثنى لكل ما عداه. ويتمثل هذا الفكر قي موقف الذين ينفون مشروعية قصيدة النثر لأنها لا تقوم على أوزان منتظمة تراثية، والذين يقولون إن قصيدة النثر تنفي ما سبقها من إيقاعات وأشكال- ويجب أن أعترف بأن هؤلاء أقل عددا، مع أشهم أكثر جلبة أحيانا، من سابقيهم. لكن ثمة تيارا ثالثا يجهر جهرا بضرورة التعدد والاختلاف والتناقض والتفاوت والفرق وبجماليات التجاور بدلا من جماليات الوحدة الانصهارية. هذا التيار يرى الثقافات لا متجانسة، ويؤمن نتيجة لذلك بأن الشرط الطبيعي هو أن تنبثق في الثقافات نماذج متعددة وأشكال وإيقاعات متباينة، وأن هذه النماذج جميعا توجد وجودا تجاوريا لا انصهاريا فيه، وأنها جميعا مشروعة، وأنها تجسد حيوية الثقافات وثراءها وخصبها وأن الموقف الفكري الذي ينبغي أن يسود هو موقف القبول والاغناء لهذا التنوع والتعدد والفرق والاختلاف. أي أن ثمة تيارا يؤمن فعلا بديمقراطية الثقافات وبتعددها وبالحرية في الإبداع والقول والتفكير وهذا التيار هو الأكثر ضمورا في فضاءاتنا الرإهنة وهو ما ينبغي أن نعمل على تنميته واثرائه. والوجه الآخر لما أصفه هو الإيمان بأن للثقافة إيقاعا يجسد روح عصر ما أو مرحلة تاريخية ما، ولقد كتبت كتبا في موضوع "الشعر العربي وروح العصر". في هذا السياق يؤمن الطرف الأول الذي أشرت إليه سابقا، أي الذين ينكرون شرعية قصيدة النثر، أن البنية الإيقاعية السائدة تاريخيا هي المجسد الفعلي لإيقاع الثقافة العربية وحركة المجتمع العربي. وهم في ذلك طرفان في الواقع أولئك الذين ما يزالون يرفضون ما أسميناه الشعر الحر، وأولئك الذين تقبلوا الشعر الحر ومارسوه. غير أن تأمل علاقة الإيقاع بالثقافة يكشف أن التعارض كان دائما قائما فيها خلال هذا القرن على الأقل. لقد طغى الشعر الحر بين بدايات الخمسينات والثمانينات، ولقد ساد ايقاع متفجر صاعد هذه المرحلة الى جانب ايقاع تأملي هاديء. ومثل هذين البعدين خليل حاوي وأدونيس. لكن من منظور استرجاعي الآن ينكشف لنا أن الإيقاع التقليدي ظل قائما جنبا الى جنب مع الشعر الحر، وأنه لم يندثر كما خيل لكثيرين منا. ثم جاء مفصل الانكسار الكبير فانبثق الإيقاع التقليدي هادرا. ومن اللاذع أنه عاد بقوة في إنتاج شعراء مثل نازك الملائكة كانوا في طليعة الذين كتبوا الشعر الحر. ولم يتنبه الكثيرون منا لدلالة هذا الانبثاق الى أن بدا واضحا أن التيارات الاسترجاعية- التي نسميها خطأ الأصولية- أخذت تهدر في حياتنا المعاصرة. لقد كان الانبثاق الإيقاعي إرهاصا بليغا- كما يحدث في الإبداع الشعري كثيرا وبما يكاد يشبه المعجزة- بعودة البنى الفكرية التقليدية الى البروز والطغيان. والدال أن ذلك كله حدث في الزمن نفسه الذي شهد طغيان قصيدة النثر في فضاءات متميزة. وما يعنيه هذا الأمر- لي شخصيا على الأقل- هو تجاوز المتناقضات، وتعدد خطوط الانشراخ والصراع في المجتمعات والثقافات التي نسميها عربية، وانقسام أجيال شابة على نفسها انقساما باهرا، كأن كل ما يفترض أنه مشترك، أو ما كان مشتركا، لم يعد قليلا قابلا لأن يكون مشتركا، أو كأن كل أحد صار يصر على الاندفاع في مداره الخاص، في حيز مجاور لحيزات سواه لا متداغم متواشج بها. هل يمثل هذا الفضاء- بل ينبغي أن أقول الفضاءات- ازدهارا للتعددية والحرية وقبول الآخر والاختلاف الاخصابي؟ أم يمثل وصول التشظي والتفتت وانقطاع الوشائج والأواصر الى ذراها؟ هوذا السؤال الأكثر صعوبة في حيواتنا الراهنات، السؤال الذي لا أملك جوابا عليه الآن، وكل جواب عليه هو بدوره جزء من إشكالية التأويل والعقائديات ودورها في التأويل. كل جواب ينبع من منظور عقائدي وتتحكم به انتماءات عقائدية بسوى ذلك لا أود أن أجازف بقول وأنا انتظر غودو الذي قد يأتي وقد لا يأتي لأقدم جوابا، مع أنني أرهص وأحدس بأن الجواب قد يجمع النقيضين ويقر كليهما فيصوغ بذلك منظورا جديدا متناقضا وثريا للتأويل البحتي لظواهر الثقافات ولاشكالياتها المرهقات. | | | |