ترجمة: خالدة حامد
(العراق)

(Donna L. Clovis) ينبغي للنظريات الأدبية كلها أن تحلل المعنى ، سواء المعنى الذي يتم إيصاله من المؤلف إلى القارئ مباشرة ( أ ، ي ، ريتشاردز ) ، أو المعنى الذي يكون ملازما لكلمات النص (النقاد الجدد ) أو المعنى المتولد من بنية النص ( البنيوية ) . تعنى المقاربات التي نقدمها هنا بالمشكلات التي تتولد حينما نستخلص المعنى من نص ما عبر سيرورة القراءة ، ونحاول تقويم المعنى ووصفه بأنه صحيح . إلا أن الحقيقة التي تتجلى الآن هي عدم إمكانية الوصول إلى المعنى كله بشكل فوري وبعيد عن الالتباس ، وقد بررّت هذه الحقيقة وجود المؤولين ونظريات التأويل Theories of interpretation . إلا إننا حتى إذا سلمنا بان التأويل يلعب دورا أساسياً في خلق الأعمال المكتوبة عموما ، والأعمال الأدبية خصوصا ، لا يتضح عندئذ البعد الذي ينبغي ان يصله التأويل : فهو ببساطة " فن تجنب سوء الفهم " ، حسبما يذكر فريدريك شليرماخر ـ أي ، الفن الذي يشترك به الناقد والقارئ على حد سواء . أو هل علينا أن ننظر إليه ، من منظار واعد ، على انه النشاط الذي يضطلع به النقاد بحيث يجعل الوصول إلى " النصوص المهمة ثقافيا " أمراً ممكناً ( Mazzeo ،1978 ص95) ؟
يوحي الوصف الأول أن التأويل يلعب دورا يتمثل بتصحيح القراءة او تبريرها ، بينما يوحي الثاني انه يؤسس المعنى والتماسك coherence ضمن سياق محدد تاريخياً وخالٍ من الضمانات المطلقة للقيمة والحقيقة . ولابد لأية نظرية تأويل ان تدرك تشعب هذا الرأي: أي ، التشعب الذي اقترن بالجدل الفلسفي العام بين الموضوعاتيةobjectivism والنسبية relativism ، أي بين الاقتناع بوجود قالب او إطار خارجي دائم يمكننا اللجوء إليه في النهاية لتحديد طبيعة العقلانية ، المعرفة ، الحقيقة ، الواقع ، الجودة أو الصواب ، والرأي المعارض القائل بعدم وجود مثل هذا القالب ، والقائل أيضاً اننا محتجزون ، بشكل متعذر تغييره ، في أدغال القيم الاستثنائية exclusive والخطاطات schemata المفهومية ، ولا يستطيع أي منها البرهنة على صحتها إزاء غيرها ( Bernstein ، 1984 ) .
ويتميز أي عرض للتأويل والقراءة بأنه يفترض سلفا عددا من الافتراضات التي تتعلق بطبيعة المعنى أو الفهم والاتصال التي ينتج عنها جملة من المشكلات . فمن الممكن تصور المعنى بأنه ما ينتج عن كلمات النص وقضاياه propositions بحيث يشكل " استقلاله الدلالي" semantic autonomy ، أو أنه ما يقصده المؤلف أو القارئ بوصفه ذاتا ، أي حقيقة النص "الموضوعية" مقابل فعل القصد ، أو إعطاء المعنى " المتسم بالذاتية " (Ricoeur ، 1976 ص 12 ـ 14 ، Ray 1984 ص 1ـ3 ) . ويمثل الجدل الموضوعي / الذاتي ، الشكل المحدد الذي يبرز فيه هذا الخيار في الدراسات الأدبية ، والذي ترتبط إليه النظريات التي سنتطرق إليها هنا إذ يؤكد الموقف السابق وجود معنى صحيح واحد فقط في أي نص ، في حين يؤكد الثاني وجود الكثير من المعاني بقدر كثرة القراء . ويقابل هذان الموقفان، إلى حد ما ، العرضين " المنطقي " و " التاريخاني " للمعنى ، حيث يؤكد العرض الأول أن المعنى موضوع مثالي يمكن لمختلف الأفراد في مختلف الأزمان التعرف عليه أو إعادة التعرف عليه ، في حين يحدد العرض الثاني ان المعنى حدث تاريخي يحدده السياق الذي حدث فيه ، ويحدده كذلك الموقف التاريخي لمؤوله . ويبرز تعارض الذات / الموضوع أيضاً في عملية الفهم ، حيث تتحدد المعرفة التي يمكن أن تستخلصها الذات من موضوع النص باهتمامه الخاص بالموضوع ومنظوره له . ولتحقيق الفهم ، تلجأ الذات إلى التفسير explanation ، وعندئذ تظهر صعوبة جديدة ، طالما أن التفسير يتم إيصاله بواسطة اللغة العامة public ، في حين يعد الفهم فعلاً تجريبياً أساسياً . وتتعقد مشكلة الذات/ الموضوع هنا بفعل مشكلة الوصف العام للمتفرد the unique والخاص the private . وأخيرا، تواجهنا ـ عند التعامل مع تجربتنا في النصوص الأدبية ـ قضية الإحالةreference المحيرة : إذ أن الطابع الخيالي الذي تتسم به النصوص الأدبية يدفعها إلى فقدان ضمان الواقع بوصفه محكا ، وإلى زيادة صعوبة عملية إضفاء المشروعية على التأويل .
وتقود مثل هذه المشكلات والافتراضات إلى أسئلة فلسفية ولسانية أوسع تتعلق بطابع المعنى، وعلاقته بالتاريخ ، وعلاقة علم الدلالة semantics بالتداولية pragmatics ( دراسة سمات اللغة التي يعتمد معناها على الزمن أو الشخص أو المكان ) ، أي علاقة الخبرة بالمعرفة ، علاقة الجزئيات بالكليات . لذا فان السؤال الذي يقول : ما المدى الذي يصله النص في تحديد معناه ، وما المدى الذي يصله القارئ في تحديد ذلك المعنى ؟ ليس سوى سؤال ساذج ، ولهذا السبب دخل مُنظِرو التأويل في جدالات منطقية ولسانية تدفعهم إلى دحض الجدالات التي يثيرها خصومهم دفاعا عن آرائهم . لذا من غير المدهش ان يحضى موضوع التأويل باهتمام النقاد المتمرسين أمثال آيزر وياوس وفش ، وفلاسفة أمثال إنغاردن وغادامير وريكور ، ومن غير المدهش ان يحتل حقلا مفهومياً واسعا جدا يصعب تعريفه .
سنتناول هنا ثلاث مقاربات تخص القراءة والتأويل ، الأولى أثارتها الظاهراتية phenomenology والثانية الهرمنيوطيقا hermeneutics والثالثة نظرية التلقي reception theory . ولتحاشي العرض الممل للمفاهيم والمصطلحات ، سنقدم عرضا موجزا للهرمنيوطيقا والظاهراتية أولاً ، ثم نعقبه بدراسة النظريات المختارة لغرض التعرف على مقدماتها المنطقية ومناهجها في البدء ، ثم نكشف مقاربتها لمختلف المشكلات التي تشترك فيها معاً فيما يتعلق بعلاقة الذات بالموضوع ، وطبيعة المعنى ودور القراء ، وعملية القراءة ، وطبيعة التأويل والنشاط النقدي ، وقضية " الخيالية " fictionality . وتدور هذه المشكلات حول ممارسة النقد ، في بعض أوجهها ، إلا أنها تدرس في بعض الأحيان ضمن علاقاتها بقضايا أوسع تخص طبيعة النصوص الأدبية وعملية القراءة والفهم . ولأسباب تعد جوهرية لطبيعة الظاهراتية والهرمنيوطيقا ، هناك ميل بين المنظرين الذين نتناولهم هنا إلى طرح مناقشاتهم على منصة الفلسفة ، ولهذا السبب تعد نماذج النقد أقل وضوحاً من النظريات الأخرى التي نتناولها هنا .
الهرمنيوطيقا والظاهراتية
من التقليدي ان نتقصى تاريخ النظرية الهرمنيوطيقية بدءا بكتابات رجال لاهوت القرن السابع عشر البروتستانت من الألمان الذين طوروا منهج فهم الكتاب المقدس لتدعيم أساس لاهوتهم . وينظر معظم مؤرخو الهرمنيوطيقا المحدثون إلى العمل الذي قدمه فريدريك شليرماخر (1768ـ 1834 ) على أنه يمثل المرحلة الثانية ، أي ما يسمى بـ "الهرمنيوطيقا الرومانسية" ، الذي جعلت مهمتها الأساسية تحقيق " التجانس congeniality " أي ان يخبر الناقد أو قارئه الحدث النفسي psychical للمعنى الذي خضع له المؤلف أولاً . ويصف شليرماخر هذه العملية بمصطلح " الحلقة الهرمنيوطيقية " * Hermeneutic Circle ، والتي بقيت منذ ذلك الحين السمة المركزية للكثير من النظريات . والحلقة هي الانتقال من التخمين عند المعنى "الكلي " للعمل إلى تحليل أجزائه عبر علاقتها بالكل ، يعقب ذلك العودة إلى تعديل فهم العمل "كله " . وتجسد الحلقة الاعتقاد بان الأجزاء والكل يعتمد أحدها الآخر وانهما يرتبطان بعلاقة عضوية ضرورية . ومن خلال تفسير التأويل بهذه الطريقة ، تصبح الفجوة التاريخية التي تفصل العمل الأدبي عن الناقد أو القارئ سمة سلبية ينبغي التغلب عليها من خلال الحركة المتذبذبة بين إعادة البناء التاريخي من جهة والأفعال acts التكهنية للتقمص *empathy من جانب الناقد او القارئ ، من جهة أخرى .
واكتشف المؤرخون بعد شليرماخر ، مشكلات الهرمنيوطيقا بنجاح : كان من أبرزهم فيلهلم دلتاي ( 1833 ـ 1911 ) الذي سعى إلى جعل الهرمنيوطيقا بالنسبة للعلوم الإنسانية Geistewissenschaften رديفا للمنهج العلمي بالنسبة للعلوم الطبيعية ، وهو يرى التفسير explanation النمط الملائم لفهم العلوم الطبيعية في حين ان الفهم understanding هو النمط الملائم للعلوم الإنسانية . ويرتبط الفهم بخبرة الذوات والعقول الأخرى اكثر من ارتباطه بخبراتنا وعقولنا ، فهو يعتمد على غزارة معنى أشكال التعبير كلها التي تكون فيها الخبرة ( ونعني هنا التعبير المكتوب ، على وجه الخصوص ) . ومن الجدير بالذكر أن التأويل هو الذي يهب غزارة المعنى للتعبير . ويرى دلتاي إمكانية وجود الحقيقة في مثل هذا التأويل بقدر وجودها في تفسير العلوم الطبيعية . وقد اصبح التاريخ حقله المعرفي المفضل لممارسة الهرمنيوطيقا لأنه فرض المشكلة الفلسفية المتمثلة بوضع الخبرة الفردية التاريخية في فهم عام واضح يفترض أن تكون الطبيعة الإنسانية فيه الوعي الشمولي التاريخي ، أي نمط المعرفة .
وقد بزغ فجر الظاهراتية مع العمل الذي قدمه إدموند هوسرل ( 1859ـ 1938) الذي عاصر المرحلة الأخيرة من عمل دلتاي . وقيل أن الظاهراتية تشكل " النقلة الكوبرنيكية " في الفلسفة ، لأنها قاربت مشكلة المعرفة والكينونة being بطريقة جديدة . واعتقد هوسرل ، مثل الكثير من الفلاسفة الذين سبقوه ، ان الفلسفة تبدأ من تفحص المرء الدقيق والحذر لعملياته العقلية .ويهدف هذا البحث القبلي apriori إلى التعرف على العناصر المنطقية الموضوعية في الفكر عبر دراسة فعل الوعي وبنيته . ويرى هوسرل أن الوعي يكون واعياً بشيء ما دائماً . ويستخدم هوسرل مصطلح " القصدية " intentionality لوصف فعل الوعي (noesis او الفعل القصدي ) والذي يكون واعياً بشي ما ( noema ، أو الموضوع القصدي) . واعتقد أن " الحدس المتجسد "concrete intuition بالفعل القصدي والموضوع القصدي يمكن تحليله وتقسيمه إلى طبقات بالاستناد إلى منطق شديد الدقة بعد ان يزيل المرء من عقله الافتراضات الشائعة كلها المتعلقة بالعمليات السايكولوجية : وتعرف هذه الخطوة بـ " التجرد " * epoche والتحول الظاهراتي التي يصبح فيها كل ما هو محتمل ، " محصورا " ، أي لا تتاح للتحليل سوى البنية المنطقية الضرورية . لذا فان الوعي الذي يخضع للبحث بهذه الطريقة يكون حاضراً أمام نفسه خارج سياق الزمن " الحقيقي " . وواصل هوسرل فحص أنماط الوعي ووظائفه ، وان أكثر ما يهم النظرية الأدبية هي الوظيفة التي يتمكن فعل الوعي ، من خلاها ، من "إكمال" مواضيع إدراكه الحسي perception عبر إدراك منظوراتها كلها التي لا تكون " مرئية " مطلقا ، من وجهة نظر أو " جانب " معين . ويتم هذه التجسيد concretiztion لكل من مواضيع الإدراك الحسي ، ومواضيع الفكر المجردة . ويؤدي التحليل الدقيق لأساس الوعي إلى اكتشاف العالم " البيذاتي " * intersubjective ، كما يتم اكتشاف سكان ذلك العالم الآخرين من خلال عملية التقمص . ونظرا لان هوسرل اختار أن يُعرِّف القصدية والفهم بوصفهما حدثين غير زمانيين ، فقد تمكن من تحويل الاتصال مع بقية البشر إلى مجموعة من الشروط المنطقية التي تتعلق بالمعنى والتعبير الخالية من أي احتمال ، وبذا يعد عرضه للمعنى منطقياً .
إن هذه المزاعم ، التي كانت لها مضامين قوية للهرمنيوطيقا ، تحداها مارتن هيدغر ، تلميذ هوسرل ، (1889ـ 1976) الذي عاد إدخال التاريخانية historicity إلى الظاهراتية وشرع بتقديم عرض مختلف تماما للعالم البيذاتي . وهو يرى أن القصدية قد أسيء تصويرها ، وان الفهم لا يعد نشاطاً إنسانياً لا تاريخياً ، مثلما زعم هوسرل ، بل وسيلة من خلالها يأتي العالَم إلى الإنسان ، وهي تصف كينونته إلى حد ما . ويصف في كتابه " الكينونة والزمان "Being and Time ( 1926 ) العالَم بأنه عالم مشترك ، يخلقه ويديمه الفهم المشترك الذي يكون على شكل لغة : وبذا يصبح الفهم لسانيا وتاريخيا وأونطولوجيا (أي انه مرتبط بقضية الكينونة) . ولم يعد التأول الآن محض كشف : " نحن عندما نؤول لا نسقط الدلالة على شيء عارٍ أمامنا ، أي أننا لا نلصق له قيمة ، بل حينما نواجه شيئاً داخل العالم ، يكون للشيء مشاركة تتكشف في فهمنا للعالم " ولا يكون التأويل " إدراكاً ، خالٍ من الافتراضات المسبقة ، لشيء حاضر أمامنا ، على الإطلاق " ، بل يرتكز على ما نعرفه نحن ( دائماً ) ـ أي انه فهمنا المسبق ( Vorverstandnis ) الذي لا يمكن أن ينفصل عن كينونتنا (الدازين) * . ولا مناص من موقعية situatedness الفهم التاريخية لأنها تمثل الأساس الأونطولوجي لكينونتنا في العالم ( هيدغر 1962 : ص 189 ـ 195 ) . ويمثل هيدغر ، ضمن سياق هذا العرض الموجز للهرمنيوطيقا والظاهراتية ، نوعاً من المزاوجة بين جوانب الهرمنيوطيقا التاريخانية والابستمولوجية واهتمامات الظاهراتية المنطقية والأونطولوجية ، التي لها أبعاد شاسعة للدراسة الأدبية . ويعد النقد ما بعد البنيوي post-structuralist للحاضر وإصراره على تاريخانية اللغة والمعنى مديناً بالشيء الكثير لكتابات هيدغر ، كما أن مدارس النظرية الأدبية والنقد الأدبي التي وصفناها هنا بصفة " الظاهراتية " قد استخدمت وجهات نظر ورؤى هوسرل الفلسفية اللاتاريخية واتخذتها نقطة انطلاق لها ، في حين ان المنظرين الهرمنيوطيقين المحدثين قد استغلوا هيدغر ، وقدموا في هذه العملية أوضح العروض لما يتوفر من فلسفته المذهلة .

ظاهراتية النص والمؤلف وسيرورة القراءة
(أ) رومان إنغاردن
يعد كتاب إنغاردن " العمل الفني الأدبي " The Literary Work of Art ( 1931 ، الطبعة الثالثة ، 1965 ) والمجلد المرافق له ، " إدراك العمل الفني الأدبي " The Cognition of the Literary Work of Art (1937 ، الطبعة الثانية ، 1968 ) شاهداً على التأثير الذي مارسه فيه أستاذه وصديقه ، هوسرل ، وشاهدا أيضاً الاهتمام الشديد بالمشكلات الفلسفية اكثر من الأدبية . وقد ذاعت شهرة الكتاب الأول بسبب وصفه للعمل الأدبي بأنه تشكل طبقي stratified formation ، وان الطبقات التي تشكل بنى هذا العمل تتميز بأنها ذات خصائص متغايرة، بمعنى أنها تضم مضامين مختلفة وتلعب أدواراً مختلفة في العمل ، إلا أنها تتميز أيضاً باعتمادها على بعضها وترابطها العضوي . وتمثل الطبقة الأولى طبقة أصوات الكلمة والتشكلات الصوتية [الفونطيقية] عالية المستوى ( مثل خصائص الوزن والإيقاع ) التي تنبني عليها . ويحدد هذا الوصف أهم الطبقات ، أي طبقة وحدات المعنى التي تمد العمل كله بالإطار التركيبي . أما الطبقتين الثالثة والرابعة ، أي طبقة الجوانب المخطط لها وطبقة الموضوعيات objectivites الممثَّلة ، فلا يمكن تمييزها بوضوح ، بل تشكل معاً " عالم النص " الذي يحتضن الأشياء والأشخاص والأحداث الممكنة كلها ، فضلا عن الحالات والأفعال التي يؤديها البشر… الخ ، أي كل شيء يتم تمثيله كما هو " ( انغاردن ، 1973 ، ص 219 ـ 220 ) ، وينتهي التحليل الظاهراتي لهذه المواضيع شبه الحقيقية بوصف ما يميزها ، راديكالياً ، عن المواضيع الحقيقية ، أي " مواضع عدم التحديد " [مواضع الإبهام] spots of indeterminacy . ويؤكد إنغاردن أن المواضيع الحقيقية كلها فردية بشكل مطلق وتتحدد في كل جانب من جوانبها ، وإن كانت الذوات تدركها بطريقة ناقصة ومختلفة . ولا تشترك المواضيع الخيالية fictional بهذه الصفات ، إذ تبقى عند مستوى الكلمات الوصفية والجمل فجوة ينبغي القارئ ردمها أو تجسيدها . أما " الجوانب المخطط لها " فهي سمات النص التي تتطلب نشاطا معينا من القارئ . ويتطرق انغاردن أيضاً إلى صفات النص " الميتافيزيقية " التي لا تقابل خواص المواضيع الممثلة أو الحالات النفسية عند القارئ ، بل هي المناخ الذي يكتنف العمل ، والذي يكون خارج نطاق التحديد العقلاني ، ويبدو أنها لا تمثل سوى سمات الفن الأفضل ؛ وبذا يكون حضورها أو غيابها مفتاح تقويم العمل الأدبي .
وبذا ، يوصلنا كتاب " العمل الفني الأدبي " إلى مفهوم تجسيد " الجوانب المخطط لها " والعمل الأدبي كله .. ذلك المفهوم الذي يتحول ، عبر سيرورة القراءة ، من إنتاج إنساني إلى موضوع جمالي ، أي تناغم بوليفوني له قيمة جمالية . وينتقل انغاردن بعد ذلك إلى ما وراء تصور النص الموضوعي غير المتغير الذي يستطيع جميع القراء الإحالة إليه ، إلا أنه يبقى على مفهوم " الهيكل " skeleton أو البنية الثابتة في النص التي يمكن الاستدلال عليها من عدد من سمات العمل . إلا أن هذا الأمر ينطوي على مفارقة ضمنية وقد حاول إنغاردن التعامل مع هذه المشكلة في " إدراك العمل الفني الأدبي " ، وقد دفعه ذلك إلى تجزئة استجابة القارئ أو الناقد إلى " إدراك انعكاسي للموضوع الجمالي " وإلى " إدراك قبجمالي pre - aesthetic للعمل الأدبي " ، إلا أن من غير الواضح ما إذا كان تمكن من حل المشكلة عبر طبقاته الابستمولوجية ( راي 1984 ، ص 41 ـ 50 ) .
ثمة حاجة إلى التعليق على عدة نقاط في نظرية انغاردن ، أولاً : أن مقاربته الظاهراتية المتساوقة تسمح له بالتعالي على مشكلة الذات / الموضوع وتحاشي " المغالطة القصدية " intentional fallacy من خلال التعرف على مشاركة المؤلف في النص بوصفه قبل جمالي ، ومن خلال جعل محور النص ـ القارئ هو المحور الأهم . إلا أن هذا لا يعني انه يقترح شكلا من أشكال النزعة الذاتية [الذاتانية] subjectivism فحتى إن كانت " مواضع اللاتحديد " تسمح للقارئ بإكمال أي نص بطريقة فردية ، إلا أنها تبقى " الهيكل " الذي قد يتمخض عن إعادة بناءه نوعا من الضمان حول ما يشكل القراءة الصالحة valid وغير الصالحة invalid . ثانياً : بسبب الحاجة إلى التشديد على الدور الذي يلعبه هذا الهيكل ، اضطر إنغاردن في نهاية الأمر إلى التعامل مع " مواضع اللاتحديد " التي يظهرها النص ، والتي يمكن لأي قارئ الوصول إليها من دون الرجوع إلى منهج ظاهراتي . فهو لا يميز بين الناقد والقارئ في نظريته وبالنتيجة فانه يهمل معالجة مشكلة خبرة الجمال (التي تكون صامتة ومتفردة وخاصة ) بوصفها مقابلاً لإدراكها ( الذي يتضح في اللغة الشمولية والعامة ) . ثالثاً : يرى انغاردن أن المعنى الأدبي ليس حدثاً سايكولوجياً ، ولا محض مضمون مثالي ، بل يرتبط بعلاقة بالإحالة ( وبذا فان المواضيع الأدبية ليست موجودة في الواقع الوجودي بل لا يمكن معرفتها إلا بوصفها مواضيع لأنها تبدو حقيقية ، إلا أنها ولا تكون كذلك حينما ترد بصفة خيالات ) ، أما ضمن العمل الأدبي يؤدي المعنى وظيفة ما ( أي انه يكون محددا بعلمية السرد ) ( انغاردن 1973 ، ص 59 ـ 60 ) لكن إنغاردن يرى أن هذا المعنى لا يمتلك بعدا تاريخياً ، لأنه عزف عن التعليق على حقيقة أنه لابد من أن يقوم القارئ ، المتوقع تاريخياً ، بعملية التجسيد . إن إهمال إنغاردن للأبعاد التاريخية للنصوص يجعل من كتابه أدق عرض ظاهراتي للفن الأدبي ، وتتجلى فائدة عمله ـ في إمكانية تصنيف الأعمال بأنها أدبية من خلال نموذج الطبقات ـ بوضوح أكبر من المساعدة التي يقدمها للقراء الذين يصارعون مشكلات تأويلية محددة تنطوي عليها نصوص معينة.

( ب ) مدرسة جنيف :
تعد هذه المدرسة ( التي فرض المؤرخون اسمها هذا ، اكثر من كونها تسمية تبناها النقاد أنفسهم ) " ظاهراتية " بشكل يختلف عن إنغاردن ، فهي غير معنية بالوصف الفلسفي للموضوع الجمالي ، بل باستعادة وعي المؤلف . وأن أعضاء هذه المدرسة ( وهم : مارسيل ريموند Mzrcel Raymond والبرت بيغون Albert Beguin وجورج بوليه George Poulet وجون بيير ريتشارد Jean-Paul Richard وجان روسو Jean Rousset وجان ستاروبنسكي Jean Starobinski .. وهم أبرز أعضائها فضلاً عن ج . هيلس ميلر J. Hillis Miller الذي هجرها من ذلك الحين وانضم إلى ما بعد البنيويين ) يرون أن الكتابة هي العملية التي تتوقف الخبرة من خلالها عن أن تكون بكماء وتتخذ مظهر الكلمات وبنيتها ، ولا تعبر هذه الكلمات عن لاوعي الكاتب أو عن مجموعة المعاني الموضوعية بل تعبر عن الوعي ذاته بوصفه حالة العقل أو صفته ، وقد يقصد بالعقل عقل المؤلف نفسه أو عقلية العصر ( كما في عرض روسيه للعصر الباروكي baroque في فرنسا 1954) . و لا تتمثل مهمة الناقد بالبقاء في الضوابط الموضوعية لهذا التعبير ـ أي ، محددات اللغة ، القواعد ، الجنس الأدبي ، التاريخ ـ بل باستعادة الخبرة التي يتم التعبير عنها ، والتي تصاغ برموز مشفرة في النص . ويرى بوليه أن على الناقد " أن ينطلق من الذات عبر المواضيع ويعود إلى الذات مجددا " ( بوليه 1971 ، ص 297 ) . لذا فان وعي الذات (المؤلف) الذي يستعاد بالطريقة هذه لا يعد وعيا بايوغرافياً أو حتى سايكولوجياً ، بل نمط متفرد يمكن خبره من خلال التقمص . أما اللغة والأسلوب فلهما أهمية خاصة لأنهما يكشفان عن " الكون العقلي " للمؤلف وعن تفرد وعيه . ونظراً لأن كل مؤلف يعد متفرداً ، لا يمكن عندئذ تحديد نهج تحليلي لكشف شكل وعيه ، ولكن من الناحية العملية يتم الاهتمام بتكرار الثيمات والأفكار المهيمنة المتميزة . فضلاً عن ذلك ، لا يوجد فرق بين الأعمال القديمة جدا والحديثة ، أو بين الأجناس الأدبية المختلفة ، أو حتى بين الكتابة الخيالية والكتابة غير الخيالية ، طالما أنها جميعاً تعبيرات عن وعي متفرد . ونظراً لأن هذا الوعي لا يمكن ان يكون غير ذاته ، تكون تجلياته كلها موثوقة . وللوصول إلى هذا الوعي المتفرد ، ينبغي للمرء ، أولاً ، أن يتعامل مع النص بوصفه وسيلة تعبيرية " تنكشف أمام " القارئ ، ثم ينبغي له أن " يقدم نفسه قربانا " كي ينفخ الحياة في فردية النص . ولا يمكن ضمان هذه العملية من خلال العودة إلى الوقائع والمعرفة الموضوعية ، بل ان الناقد تغزوه أفكار الآخر : وكتب بوله قائلا " بسبب الغزو الغريب الذي تشنه أفكار الآخر على شخصي ، صرتُ أنا ذاتاً مُنِحِت خبرة التفكير بأفكار غريبة منها ، فأنا ذات الأفكار ولست ذات نفسي " ( بوليه 1969 ، ص 56 ) . وقد أدى التركيز الشديد على الحضور والوعي وكبح مشكلات السلطة الزمنية والتاريخ إلى شن هجمات مكثفة على هذه المقاربة من قبل ما بعد البنيويين ( دريدا 1978 ، ص 3 ـ 30 ) .
ويتجسد الكون " العقلي " أو " الشعري " الذي يستعيده الناقد في اختيار المقتطفات المتميزة من النصوص التي تولد وعي المؤلف المتفرد ، أي يظهر نص جديد يتشكل من انتقاء الناقد من الأعمال الكاتبة كما انه يمثل مصدر تعرف الناقد على وعي المؤلف وهذا يعني ان وعي المؤلف ، الذي تتم استعادته ، يكون محدداً بقوة غريبة تماماً ( أي ، الناقد ) الذي يؤدي نشاطه إلى الشك بأي زعم يقول باستعادة وعي المؤلف المتفرد . وقد يتشكك المرء بإمكان " القراءة التي تحاول كشف النظام او الاضطراب الباطني الخاص بالنص والرموز والأفكار التي تنظم فكر الكاتب " ( Lawall 1968 ، ص 169 ، مقتبس عن ستاروبنسكي ) . ومن ناحية أخرى ، ان التشديد على التعبير فسح المجال أمام أعضاء مدرسة جنيف لتحاشي مشكلة " المغالطة العاطفية " affective fallacy ، فهم لم يميزوا بين القصد والفعل والإنتاج وطمسوا الفرق بين " ما النص ؟ " و " ما الذي يفعله النص ؟ " لأنهم يرون ان النص لا يكون الا بما يعبر عنه . الا انهم لا يؤمنوا بان التعبير كله يعد تعبيرا عن إدراك المرء لذاته . فالماركسيون ، مثلا ، لم يقبلوا بهذا الامر ورفضوا الزعم المصاحب له ومؤداه ان الأعمال الأدبية تفصح عن بنية عقلية متفردة . وفضلا عن ذلك ، ترى مدرسة جنيف ان العمل الفني ليس الدليل على خبرة حقيقية سابقة بل هو هيكل الخبرة التي يتم التعبير عنها بأنماط متميزة . وهذا يعني ان لا سبيل إلى معرفة ما إذا كان تشخيص الناقد لهذه الأنماط صحيح أم لا . وقد كانت إحدى آثار " تسوير " الحقيقي هي دفع نقاد مدرسة جنيف إلى التركيز على ثيمات عامة مثل الزمان ، المكان ، الإدراك الحسي والعناصر ، أو التركيز على كتّاب يكتبون سيرتهم الذاتية بأنفسهم أمثال روسو Rousseau ومونتان Montaigne . وتعد إنجازاتهم النقدية في هذا المجال انطباعية جداً ؛ فقد كان بوليه وستاروبنسكي وريتشارد وروسيه من بين أكثر النقاد حظوة بين القراء ، كما ان مقارباتهم ألهمت الكثير من النقاد اللاحقين بالشروع باستعادة " وعي المؤلف " . إلا أن الأساس الفلسفي النظري الذي وقف عليه مشروعهم كان واهياً ، وقد أدى ذلك إلى انحدار شعبيتهم في هذا العصر الذي يتميز بتنامي عقليته النظرية ، والذي يبحث عن أنواع مختلفة من النتائج التي يستقيها من البحث النقدي من الأعمال الأدبية.
( ج) وولفغانغ آيزر :
بينما يهتم انغاردن بالنص بوصفه موضوعاً جمالياً ، وبينما يهتم نقاد مدرسة جنيف بالوعي الذي يعبر عن نفسه عبر النص ، يشتهر آيزر باهتمامه بالقارئ وعملية القراءة ، فهو يطرح في " فعل القراءة : نظرية الاستجابة الجمالية "The Act of Reading : Theory of Aesthetic Response ( 1976 ) السؤال الآتي : كيف يكون للنص معنى للقارئ وتحت أي شروط ؟ وتتمثل مقدمته المنطقية الأولى في ان العمل الأدبي هو أثر ينبغي خبره ، وليس موضوعاً ينبغي تعريفه ؛ ولهذا السبب تهتم مقاربته كثيراً بمسألة ارتباطنا ، بوصفنا قراءً ، بالنصوص وبعناصر النص التي تحدد الطريقة التي نقرأ بها هذه النصوص . وان اكثر ما يلفت الانتباه إلى نظرية آيزر هو طابعها الانتقائي ، فهو يستعير مفاهيمه ومصطلحاته من الشكلانية وسايكولوجيا الجشتالت Gestalt ونظرية المعلومات واللسانيات والسميولوجيا semiology ونظرية أفعال الكلام والظاهراتية ، كما سعى جاهداً ، أحيان كثيرة ، من أجل التوفيق بين هذه العناصر المتباينة . ويعد آيزر مديناً لإنغاردن في اوجه عديدة ، إذ أنه يضع أساساً جديدا لمفهومه الديالكتيكي للموضوع الأدبي بوصفه تفاعلاً بين النص والقارئ . ويتم فحص هذا التفاعل من خلال المفاهيم الآتية : القارئ الضمني implied reader ، الذخيرة الأدبية literary repertoire ، الإستراتيجيات الأدبية literary strategies .
يصف آيزر القارئ الضمني بأنه " نموذج " و " دور " و " وجهة نظر " تسمح للقارئ الحقيقي أن يكون فعالاً active ومنفعلاًpassive ؛ فهو فعال في إنتاجه للمعنى ، ومنفعل في حقيقة أن البنى النصية هي التي تحدد موقعه ، وليس العكس . إذ يقال عنه انه يمثل منظورات الكلمات والشخوص والحبكة والراوي والمروي له . وهذا هو السبب وراء تحوله إلى " وجهة نظر جوّالة wandering " وبذا لابد له من تحقيق الاتساق ، أي عليه أن يقدم عرضاً للنص يمكن أن يتضمن تفسيراً يوافق المعلومات التي يقدمها النص عند أي نقطة من قراءته . علماً أن النص هو الذي يبرمج هذه المهمة ، وهو الذي يحبطها أيضاً . وان قيام القارئ بالتكيف مجدداً في إدراكه للنص حينما يتكشف له ، يكون مصحوبا بأفعاله التي تسد فراغات النص ( آيزر 1978 ، ص 198 ) .
أما الذخيرة فهي مجموعة المعايير الاجتماعية والثقافية التي يقدمها القارئ بوصفها المساعد الضروري لقراءته التي يستدعيها النص ويحتويها ، إلى حد ما . وينبغي إعادة تنظيم هذه المعايير أو المواضعات [الأعراف] من قبل القارئ لكي تصبح فعالة جمالياً ؛ وهذا هو عمل النص الذي يحاول صقل افتراضات القارئ المتعلقة بطبيعة الواقع ويجردها من صفة كونها مألوفة في الوقت الذي يقدم فيه إطارا عاما يتم تنظيم معنى النص من خلاله . ومن المكن ان تضم الذخيرة كل من عناصر الواقع وعناصر التراث الأدبي على شكل إلماحات allusions . وكما هو الحال مع القارئ الضمني فان الذخيرة تأتي إلى الوجود عبر تفاعل القارئ والنص ، وينظر إليها بوصفها " معانٍ مهيمنة ومتجسدة ومنكرة " ؛ فهي ترمي المشكلات بطريق القارئ وتحضه على الإدراك الانتقائي للنص ، وبذا فانه يعمل بطريقة تناصية intertextual .
وإذا كانت الذخيرة تمثل " مضمون " العمل الأدبي ، ان جاز لنا التعبير ، فعندئذ تمثل الإستراتيجيات الأدبية " شكلها " ، إلا أنها اكثر من محض سمات تركيبية طالما ان وظيفتها هي ترتيب المادة وتهيئة الشروط التي يتم على وفقها إيصال المادة . فهي لا تمثل تنظيماً إجمالياً (وإلا لما كان لنشاط القارئ أي دور ) ، كما أنها لا تشكل الظواهر السطحية للبنية ـ مثل الوسائل البلاغية والتقنيات السردية والتقسيمات النصية ، وما إلى ذلك . ويعد مفهوم الأمامية ـ الخلفية Foreground - Background ، ومفهوم " الثيمة ـ الأفق " theme-horizon من الأمثلة التي يقدمها آيزر للإستراتيجيات النصية ( آيزر 1978 ، ص 92 ـ 103 ) ، وان فائدتها ـ مثل فائدة الذخيرة ـ تتمثل بإبطال المألوف وإيصال النص إلى القارئ من دون تحديده . ويستعير آيزر من اللساني رولان بوسنه Roland Posner مفهوم الشفرة الأولية primary code ( وهي " الهيكل " عند إنغاردن ، تقريباً ) والشفرة الثانوية secondary code (الموضوع الجمالي) ، كما انه يجعل الإستراتيجيات الأدبية تؤدي وظيفة " حمل الشفرة الأولية غير المتغيرة ونقلها إلى القارئ الذي يفك مغاليقها بطريقته الخاصة مما يؤدي إلى توليد الشفرة الثانوية المتغيرة " ( آيزر 1978 ، ص 93 ) .
أما المخاطرة التي قام بها آيزر حينما تبنى هذه المقاربة الانتقائية فهي توليد التعارضات المنطقية العامة في عرضه لسيرورة القراءة ؛ فهو عندما يشخص علاقة النص بالقارئ بوصفها تفاعلية أو ديالكتيكية ، يبدو انه يعيد تحديد مشكلة الذات / الموضوع في منطقة تتوسط بين الاثنين ، إلا أنه يصف أيضاً العلاقة ـ بمصطلحات شبيهة مصطلحات إنغاردن ـ بأنها هيكل شبه موضوعي لقارئ شبه ذاتي يضفي عليها صفة التجسيد . وآيزر ، مثل انغاردن ، لا يميز بين الناقد والقارئ ، بل أن قارئه العام أشبه بناقد غربي مثقف يسعى إلى فهم النصوص الصعبة (ولا سيما الروايات ) بعقل مفتوح وبموقف لبرالي بحيث لا يكون مختلفاً عن قارئ النقد الجديد . وقدم آيزر المفهوم الشكلاني لإبطال صفة المألوف ليفيد ما وراء الوسائل الأدبية ، طالما أن الذخيرة الأدبية تحيل إلى المعايير الاجتماعية والتاريخية فضلاً عن القراءة الماضية ، ومادامت قيمة الخبرة الجمالية مرتكزة أساساً على حقيقة اعتمادها على افتراضات القارئ للواقع . وحينما يعطي آيزر مثل هذه المكانة المهمة للذخيرة ولخبرة القارئ الشخصية ، فانه يجازف بتسويغ قراءات النص التي تجاهلت المحددات التاريخية المعيارية المفروضة على معنى النص والتي تعترف بها النظريات الأخرى . إذ يقال عن القراءة أنها وسيلة يمكن للوعي من خلالها إدراك نفسه ، إلا أن هذا الزعم يعتمد على وضع المسافة بين ذات القارئ ووعيه لغرض معرفته ، وأعني بها المسافة التي لا تتوافق كثيراً مع قناعة آيزر بأن سيرورة القراءة ذات طابع تفاعلي . وتنشأ مثل هذه الصعوبات من محاولة آيزر الرامية إلى الإفادة من الرؤى المستقاة من انساق فلسفية ولسانية . ويبقى السؤال قائماً عما إذا كان بإمكان آيزر إخبارنا في النهاية بمعلومات تفوق ما يقدمه المراقب الامبريقي empirical المحنك لعملية القراءة ، وإن زعم آيزر تقديم مقاربة ظاهراتية ، يبقى الجدل قائماً بصدد ما إذا بقي آيزر مخلصاً للمقدمات المنطقية التي جاءت بها تلك الفلسفة ولمنهجها ، مثلما كان إنغاردن ومدرسة جنيف أم لا .
التأويل والحقيقة والتاريخ : مقاربات هرمنيوطيقية
هانز ـ جورج غادامير
بينما تتغاضى الظاهراتية عن التاريخ في مقاربتها لمشكلات المعنى النصي ، نجد أن الهرمنيوطيقا تجعله جزءاً لا يتجزأ من مشروعها إلى الحد الذي تبدأ فيه جميع الدراسات الهرمنيوطيقية ، تقريباً ، بتقديم تاريخ الهرمنيوطيقا ذاته . ويصح ذلك على كتاب غادامير " الحقيقة والمنهج " ( 1965 ) الذي يعد الإسهام الأكمل والأشد تأثيراً . ولا يمثل عنوان الكتاب توحيدا بين الحقيقة والمنهج ، بل الفصل بينهما ، إذ يهاجم غادامير المفهوم القائل أن المنهج شيء يمكن تطبيقه على موضوع معين للخروج بنتيجة ما . ويقدم " الهرمنيوطيقا الفلسفية " بوصفها وسيلة لتصحيح مسألة تعيين هوية الحقيقة والمنهج التي يرى أنها تميز العلوم . وهو حينما يخطو هذه الخطوة يتجاوز تصور شليرماخر للهرمنيوطيقا (بوصفها سايكولوجيا الفهم) ويرفض إقران دلتاي التأويل بالمنهج ، ويبدأ بدلاً من ذلك بزعم هيدغر القائل بضرورة أن تقف النزعة التاريخية historicism والسلطة الزمنية temporality في مركز أي مشروع فلسفي . ويرى غادامير أن المسافة الزمنية Zeitabstand التي تفصل المؤول عن الموضوع الذي يؤوله لا تعد حاجزا ينبغي إزالته ، بل هي سمة مفيدة من سمات العلاقة بين الاثنين يمكن من خلالها طرح سؤال الهرمنيوطيقا المركزي ومؤداه كيف يمكن حماية النص من سوء الفهم من البداية ؟ يوصي غادامير بضرورة اتباع الخطوات الآتية عند التعامل مع هذه المشكلة : أولاً ، ينبغي للمرء ان يحضر إلى وعيه أية أفكار مسبقة قد تؤثر في فعل التأويل . ثانياً ، ينبغي له ان يكون عارفاً بعادة حديثة تتمثل بمحاباة نمط معين من النزعة التاريخية ( أي ، النمط الذي يرى النسبية واللبرالية متضمنتان في المقاربات التاريخية بوصفها قيماً موضوعية ) . ثالثاً ، ينبغي إحياء مفهوم الانحياز [الحكم المسبق] prejudice وإعادة تقييمه لأنه اقترن منذ عصر الأنوار بالتسرع في التوصل إلى الأحكام والثقة بالمرجعية authority الإنسانية من دون استحقاق . وحينما يحاول المرء إصلاح الانحياز ، فانه يصلح قيمة التراث والمرجعية بنجاح .
تتولد عند هذا الموضوع مشكلة واضحة : كيف يتأتى للفرد التمييز بين الانحياز المشروع والانحياز السيئ ؟ يؤكد غادامير أن من الممكن تحقيق ذلك من خلال " استخدام العقل بشكل منضبط منهجيا " ، على أن يصاحب ذلك التقدير السليم لقيمة المرجعية والتراث . ويرى أن المرجعية تعد مصدر انحياز ومصدر حقيقة ، معاً ، بحيث أنها تشركنا في تقويم أحكام الآخرين ورؤاهم والاعتراف بتفوقها على أحكامنا ورؤانا ، حينما يستدعي الأمر ذلك . ومن ناحية أخرى يسمح لنا التراث بالمحافظة على ما جاءنا من الماضي من خلال فعل العقل . ولا شك في أن مفهوم التراث يعد نوعاً من الدليل الظاهراتي على وجود حس تاريخي محدود لدى الناس جميعاً . وقد كان غادامير أصيلاً في ما جاء به ، ويتجلى ذلك في استنتاجه عدم وجود موضوع يتجه صوبه البحث التاريخي كله ( او تأويل نص أدبي معين ) . وإذا سلمنا أن التأويل لا يعد ميلاً نحو استعادة المعنى كلياً وبشكل ممتاز ومستقبلي ، بل هو فعل المحافظة على الماضي والإبقاء عليه في وعينا الحاضر ، سنتمكن عندئذ من إصلاح المرجعية والعقل ونمنحهما دورا ليلعباه في الهرمنيوطيقا .
وبذا يرى غادامير ان الفهم " لا يمثل فعل ذاتية الفرد ، بل هو وضع المرء لنفسه داخل سيرورة التراث التي ينصهر بها الماضي والحاضر باستمرار " ( غادامير 1975 ، ص 258 ) . ولهذا السبب يعد فعل التأويل بيذاتياً ويحتوي العناصر التي تربطنا بالتراث الذي يحدث فيه التأويل ، وهذه العناصر هي : الفهم المسبق و " التصور المسبق للكمال " ( أي الاعتقاد بان ما يشكل المعنى هو الذي يحمل صفه المشروعية بالنسبة لنا ) و" العلاقة بالحقيقة " . وعند تحقيق هذه الشروط نكون في وضع يؤهلنا لفهم النص بوصفه معنى الآخر : ويقصد بالمعنى هنا المضمون ، لا قصد المؤلف ، أما الآخر فيمكن ان يكون الزمان او الآخر في الشخص او كليهما، لذا تسمح المسافة الزمانية للجيل بتعريف ذاته وماضيه : " ينبغي لكل عصر ان يفهم النص بطريقة النص الخاصة لأنه يعد جزءاً من التراث كله الذي يبدي العصر نحوه اهتماماً موضوعياً ، والذي يسعى فيه وراء فهم ذاته " ( غادامير 1975 ص 263) . وفي الوقت الذي يرى شليرماخر ودلتاي أن الزمن فجوة لابد من ردمها بالتأويل ، يرى غادامير أن المسافة الزمنية أساس لدعم العملية الهرمنيوطيقية ، أي الأساس الذي يستوعب التراث والمرجعية . ويقدم غادامير النزعة الكلاسيكية classicism بوصفها مثالاً يفسر حججه ، فهو يرى أن الأعمال " الكلاسيكية " في أية ثقافة ، تكون محددة تاريخياً ، كما تكون خالدة لأننا نعرف من خلال شموليتها أنها تنتمي لعالمنا (على نحو يبعث على المفارقة ) ، أيضاً . ولهذا السبب فأنها تمثل الانصهار التاريخي للماضي مع الحاضر الذي يصبح فيه خلودهما طابع الكينونة التاريخية .
تنطوي هذه النظرية على عدد من المشكلات الصعبة : كيف يمكن لغادامير تسويغ " استخدام العقل بشكل منضبط منهجياً " بعد أن نبذ المنهج منذ البداية ؟ وماذا بشان انتهاكاته للتراث ؟ وما الذي يشكل عصراً ما ؟ لا يقدم غادامير أي جواب لهذه المشكلات ، بل يتهرب منها بإصراره على أن أي موضوع ( ونفضل نحن هنا استخدام " أي نص " بدلاً من " أي موضوع " ) هو اتحاد بين النص والفكر التاريخي ـ ذلك الاتحاد الذي يكتنف واقع التاريخ وواقع الفهم التاريخي . ويوصف هذا الانصهار بمصطلح wirkungsgeschichte ، الذي يترجم إعادة إلى " التاريخ الفعال " . وقد صيغ لحل المشكلة التي مؤداها " أن ما يكون مفهوما لنا يمثل أمامنا في ضوء ذواتنا بحيث لا يعود لقضية الذات والآخر أي وجود " (غادامير 1975 ص 268) . وإن كنا محددين بالطريقة التي ننظر بها إلى العالم ، وبـ " أفقنا " أيضاً فبإمكاننا تقبل " أفق " الآخر ومنظوره من خلال إدراك تاريخية موقفنا . ويقدم غادامير رأيه القائل أننا " نصهر " أفقنا مع أفق الماضي : إذ يمثل الفهم انصهار دائم بين أفقي الماضي والحاضر (انصهار الآفاق) . لذا ، ما عاد هناك مؤول ذاتي ومعنى نصي موضوعي ، بل أصبحت هناك وحدة بيذاتية في الزمان ، وصار هناك تراثا ما وراء شخصي suprapersonal تعد آثاره التي تظهر على الفرد ـ الفهم المسبق والانحياز والتصور المسبق .. الخ ـ شروطا أساسية للفهم ذاته .
يعتقد غادامير انه تعالى على مشكلة الذات / الموضوع في التأويل وتحاشى في الوقت ذاته جدل النسبية / الموضوعاتية من خلال الإصرار على أن المعنى شأن زماني وما وراء شخصي . ولم يفصل غادامير بين القراءة والنقد طالما ان اهتمامه الرئيس ، ليس بتوسط التأويل ، بل بالتأويل ذاته . كما انه غير مهتم بطبيعة الخيال fiction أيضاً . ويتمثل إسهامه الكبير لنظريات المعنى والتأويل الحديثة بإدخاله التاريخ في عملية الفهم مجددا .
(ب) ي . د . هيرش :
بينما يعد كتاب هيرش " الصلاحية في التأويل " Validity in Interpretation ( 1967 ) في مجال التراث الهرمنيوطيقي ويحيل إليه ، الا اننا نهتم به هنا بشكل خاص لأنه يبدي إدراكاً مساويا للفلسفة التحليلية والمناهج النقدية الأنجلو ـ أمريكية التي يستخدمها هيرش بنجاح لمهاجمة المقاربات الأخرى . ويحدد هيرش دراسته من خلال عرض نظريات المعنى التي يراها غير مقبولة ، وهي : النزعة التاريخية الراديكالية (قناعة غادامير من أن المعنى محدد تاريخياً ) ، والنزعة النفسانية تاريخياً ) ، والنزعة السايكولوجية psychologism ( الزعم الظاهراتي بأن المعنى سيرورة ذهنية لا موضوع عملية عقلية ) والنزعة الاستقلالية autonomism (الرأي القائل أن المعنى مستقل عن إرادة المؤلف ، ويعهد به إلى عالَم أونطولوجي متميز يُعرف بـ " الأدب " أو " النص " ، ويعزو هيرش هذا الرأي إلى النقاد الأمريكيين الجدد ).

وتعد مقاربته متميزة بسبب إصلاحها لمعنى المؤلف التي يرتكز على التميز بين " المعنى " والدلالة significance . فالمعنى هو ما يحدده المؤلف ، وهو موضوع ، أي أنه ما تمثله العلامات اللفظية . أما الدلالة فهي العلاقة بين المعنى والشخص ، التصور ، الموقف. فالمعنى اللفظي شأن الوعي إلا أنه شأن عام أيضاً ، طالما انه يأتي عبر اللغة ويشترك به مستعملو اللغة الآخرون الذين يمكنهم عندئذ توليده مرة أخرى بأمانة . ويرى هيرش أن المرء لا يمكن زاخراً بالمعنى ما لم يكن لديه قصد الإحالة إلى شيء ما ؛ ولهذا فالمعنى كله يرتبط بالإحالة إلى الواقع . وتتضح الآن إمكانية أن يعني المرء ما هو واع لمعناه ، وإن كان من غير الممكن أن يعني مالا يعنيه . ويلجأ هيرش إلى الفرق الفلسفي بين الصفة والنوع ليتخلص من هذه الصعوبة . ويقصد بنوع المعنى كل ما يطوق المعاني الممكنة التي تندرج في خانة النوع ، أما الصفة فهي مثال على النوع . وهو يؤكد أن المعنى اللفظي هو " النوع المراد " ، إذ أن المؤلف لابد أن يريد النوع وإن كان احتوى النوع مجموعة معان فرعية قد لا يدركها المؤلف أو يريدها بشكل واع . ويعزز هيرش هذا الفرق بين النوع / الصفة من خلال تعارض المعنى / الذات ـ مادة الموضوع ؛ إذ تتضمن مادة " الذات " ( الشجرة ) كل ما يمكن أن تشير إليه كلمة شجرة " في حين ان معنى العلامة اللفظية " شجرة " هو ما يفهمه المؤلف من كلمة " شجرة " . وتوجد عند مستوى الكلمات والجمل معان تسمح للمعاني الأخرى ، بما فيها المعاني المستقبلية . لذا فان المعنى يكون محدداً، على العكس من الدلالة التي تكون لا متناهية ، طالما ان الدلالة تشير إلى العلاقة التي يثبت فيها قطب واحد ( أي ، المعنى ) . ويحدد المؤلف معنى النص وإن لم يكن واعياً بتبعات المعنى الذي يريده . إن هذا العرض يفسح المجال أمام هيرش للتمييز ، بشكل راديكالي بين التأويل ( تأويل المعنى ) والنقد ( نقد الدلالة ). فنحن عندما نؤول ، نشترك في نشاط يتحكم به الاحتمال لا اليقين . ولكي نحدد أي عدد من التأويلات هو الملائم ، يطبق هيرش قوانين الاحتمال على التأويل الأدبي ، حين يقدم عرضا لتوقع المعنى ( شبيه بـ " الفهم المسبق " ) ، وللحلقة الهرمنيوطيقية التي يرى أنها لا تتذبذب بين الكل والجزء، بل بين الجنس الأدبي والميزة trait . وعلى الرغم من أن عرضه للمعنى أثار جدلاً كثيراً ، لم ينبرِ أحد لتحدي هذا الجزء من كتابه الذي يعد أوضح عرض لقواعد الفصل بين التأويلات المصطرعة.
كما يقدم كتاب هيرش عرضاً مفيداً للفرق بين الفهم والتأويل ، وبين التأويل والنقد ؛ فنحن نفهم المعنى من خلال حدث خاص وصامت ، ونؤوله علنا من خلال استعمال العلامات اللفظية ، أي أننا نتوصل إلى أحكام مهمة تكون صامتة وخاصة تترجم ذاتها إلى أفعال نقد عامة . لذا يميز هيرش ، على العكس من غادامير ، بين القارئ والناقد ويقدم عرضاً لنشاط الأخير يفسح المجال أمام دور المؤسسة التي يعمل فيها الناقد ( هيرش 1976 ، ص 124 ـ 158 ). ومن خلال إصراره على ان التأويل لا يمكن إلا أن يكون صالحا ( وليس محقّقاً verified ) يضع نفسه بين المعسكرين النسبي والموضوعاتي . وقد فند ما بعد البنيويين زعمه القائل ان المعنى القابل للمشاركة لابد أن يكون محددا بطبيعته ، إلا أن برهنته على إمكانية ان يقال عن قراءة واحدة فقط صالحة اكثر من غيرها ، مثلت ضربة قاسية لمدرسة النقد الذاتانية .
(جـ) بول ريكور :
يعد ريكور ، مثل آيزر ، كاتباً انتقائياً إلى حد كبير ، يعتمد الفلسفة واللسانيات والسايكولوجيا في توجهاتها الأوربية والأنجلو ـ أمريكية . وان كتابه " نظرية التأويل " Interpretation Theory ( 1976 ) يستفيد بشكل مكثف من سوسير وياكوبسن ونظرية أفعال الكلام والظاهراتية والهرمنيوطيقا والتحليل النفسي ، ويجمع بينها باتساق مذهل . ويرسخ ريكور موقفه إزاء نظريتين دلاليتين كبيرتين ، الأولى تحذو حذو سوسير في اعتمادها العلامة ، والثانية معتمدة على الفرض proposition . وينطلق ريكور في إصلاح علم الدلالة المعتمد على الفرض الذي قد يكون صادقاً أو كاذباً ، إلا أنه لا يفعل ذلك بطريقة تحليلية بل بربطها بالديكالكتيك الهيغلي ونظرية الاتصال ( ولاسيما نموذج الوظائف الست عند ياكوبسن ) . وليجعل الديالكتيك يعمل مثلما يرغب هو ، أنتج ريكور حقل التناقضات القوي . وقد واجهنا الكثير منها هنا ، مثل : الموضوعاتية / النسبية ، النزعة المنطقية / النزعة التاريخية ، الاستقلال الدلالي / معنى المؤلف ، العام / الخاص، المعروف / المجهول ، وإن بعضاً منها متفرد في نظريته مثل : الكلام/ الكتابة ، الموقف / العالم .
إن التحليلات التي قام بها ريكور قادته إلى الرأي القائل أن فعل قراءة المؤلف القصدي يرتبط بالموقف ، أي أنه ملفوظ محكوم بالسياق تقوم فيه الوسائل الظاهرية للغة ( أسماء الإشارة ، الأزمنة ، الضمائر الشخصية ) بدعم وظائف اللفظ الإحالية ( أي أنها تربطه بالواقع وبالزمن ) ، في حين ان مغزى * sense النص يربطه بالعالم الذي يكون متحررا من الضوابط التداولية أو الإحالية ، إلا أنه يكون مرتبطا بكينونتنا في العالم ارتباطاً وثيقاً. وأولى هذه الفئات ( أي ، الموقف ) تقابل " المعنى " عند هيرش تماماً ، أما الثانية (العالم) فهي أضيق من تعريفه للدلالة إلا أنها أدق وصفاً للعملية التي من خلالها يتوصل القراء إلى مغزى الكتابة الخيالية . لذا فالنص الخيالي لا يحيل ـ بالطريقة التي تحدث بها الإحالة في الكلام أو في الوثائق التاريخية ـ بل يتضمن إحالات ظاهرية ( للزمن والشخص والأماكن الخاصة بالقصة الخيالية ) ، كذلك " القدرة على الإحالة إلى جوانب كينونتنا في العالم " ـ أي ، القدرة على الإحالة إلى الكيانات الماوراء لسانية مثل المواضيع والشوؤن والوقائع … الخ . وإذا نظرنا إلى هذه العناصر من منظور النص لا القارئ ، نجد أن هذا العنصر الثاني يقابل الذخيرة الأدبية عند آيزر، تماماً.
ويرى ريكور ان الحاجة إلى التأويل تنشأ من حقيقة ان المعاني ، في النصوص المكتوبة ، تحررت من مؤلفيها ومتلقيها . وهو لا يأخذ بنظر الاعتبار دور المؤولين التوسطي ، ولهذا السبب لا يميز بين النقاد والقراء ؛ ويرى أن النصوص كلها قابلة للكثير من التأويلات بقدر كثرة قرائها ، على الرغم من رفضه للزعم الذاتاني القائل ان القراءات كلها صالحة بالتساوي . وعلى العكس من قارئ آيزر الذي يتم تحليل نشاطه في سيرورة القراءة ، يضع ريكور فهم النص بعد استهلاكه consumption . كما أن تفسيره للحلقة الهرمنيوطيقية التي يسميها " قوساً " arc يبدأ بالفهم " الساذج " naïve للنص بكامله يعقبه تفسير تحليلي للنص . وفي هذه المرحلة يتم البحث عن معنى النص من خلال تقديم الفرضيات التي تخضع لمعيار الصلاحية من خلال الدليل الدلالي الذي يقدمه النص . وأخيراً ، يتحقق معنى النص بطريقة شبه إحالية يصبح فيها " عالم " النص مكشوفاً ، ويدرك القارئ معنى النص بوصفه طريقة للكينونة في العالم . وخلال المرحلتين الأخيرتين فقط يمكن بناء الأساس المتين اللازم لمعرفة الفرد ( أي الآخر ) : أي ان التحليل المحدود والمحدد لمحاور أو أطر الإحالة المعروفة أو التي يمكن معرفتها ، توصلنا إلى ما هو مغترب عنا . وفي النهاية ، لا يوحد ريكور ديالكتيك للعام والخاص ، المعرفة والخبرة ، الإحالة والمعنى، الواقع والخيال ، الآخر والذات : فالمعنى موضوع مثالي وواقع حقيقي تتم الإحالة إليه ، وان تحقيق المعنى هو القوة الماوراء لسانية extralinguistic الخاصة ، غير القابلة للتحليل ، المتجسدة في رغبة المؤول . كما أنها هي أيضاً المعنى العام اللساني القابل للتحليل الذي يقدمه المؤول في موقف ثقافي معين . وبعبارة أخرى يمكن القول ان ريكور قد عدل نظرية " التجانس " عند شليرماخر التي تهدف إلى إحياء خبرة الكاتب السايكولوجية لجعلها تحدث في فضاء دلالي لا سايكولوجي لغرض إخضاعها لمعيار الصلاحية . وتقتصر أبحاث ريكور على النصوص الخيالية التي لا يعد طابعها التاريخي إشكالياً ، ويبدو ان هذا الأمر يقربه من الظاهراتية اكثر من الهرمنيوطيقا ، إلا أن اهتمامه بالتأويل وبعملية الفهم يضعه في الخانة الثانية .ولا تكمن قيمة عمله للنظرية الأدبية في نموذج الممارسة النقدية بل بالغرض المقنع والماهر لحقل المعنى والتأويل المفهومي .

نظرية التلقي : مجتمعات القراء والقراءة
هانز ـ روبرت ياوس :
يمكن مقارنة افتقار ريكور إلى الاهتمام بطابع النصوص التاريخي بالتركيز التاريخي الشديد الذي اتسم به " التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية " Literary history as a challenge to the literary theory ( 1967 ) عند هانز ـ روبرت ياوس . ويبدأ ياوس مقالته بتقديم عرض واسع وموجز لعيوب التاريخ الأدبي الوضعي والماركسية والشكلانية ، فهو يرى ان المقاربتين الأخيرتين تمثلان رد فعل للمقاربة الأولى ، ونقداً لبعضهما . وهو يثني على الماركسية ( التي يمثلها لوكاش وغولدمن) لإصرارها على السياق الاجتماعي للأدب ، إلا أنه يتهمها بمغالاتها في الاعتماد على نظرية الانعكاس [ التأمل ] reflection الساذجة والخاطئة . ومن ناحية أخرى تحظى الشكلانية بقبوله مادامت تتقصى قضية الإدراك الجمالي ، إلا أنها تخفق في وضع الأعمال الأدبية في سياقها السوسيوتاريخي . لهذا فهو يقترح أن نأخذ من الماركسية إصرارها على التوسط التاريخي للأدب ، ونأخذ من الثانية تاريخ أشكالها الأدبية بغية تكوين " جمالية تلقي " جديدة . وقد تم تصميم ذلك لجعل التاريخ الأدبي يرتكز على عملية تلقي الأعمال الجديدة وإنتاجها ، والتي يمكن تقصيها في التتابع التاريخي لـ " آفاق التوقعات " horizon of expectations ، وهذا مصطلح يعني به ياوس مجموعة الافتراضات المشتركة التي يمكن عزوها لجيل معين من القراء . ويعد " أفق التوقعات " ما وراء ذاتيا transsubjective ويمكن تقصي أثره عبر الإستراتيجيات النصية ( الجنس الأدبي ، الوهم الأدبي ، طبيعة الخيال ، طبيعة اللغة الشعرية ) التي تؤكد توقعات القراء ، او تعدلها او تحولها أو تسخر منها . ومن خلال هذه المعايير ، يصبح بالإمكان قياس " المسافة الجمالية " للعمل الجديد ( أي ، الدرجة التي يترك بها العمل الجديد أفق توقعات أول قُرائه ) ، ولهذا تصبح " المسافة الجمالية " مقياساً مهماً للقيمة الأدبية مما يؤدي إلى توليد طيف تقع عند طرفه الأول القراءة القابلة للاستهلاك كلياً ،وعند الطرف الآخر الأعمال التي لها تأثير راديكالي على توقعات القراء .
ويتضح الآن ان مثل هذه الأعمال التدميرية subversive ذات نوعية استهلاكية بالنسبة لأجيال القراء اللاحقة . ولإنقاذ القراء من هذا الانحطاط يؤكد ياوس ضرورة قراءة هذه الأعمال " ضد مزاج المرء او ميله الفطري " وتهدف مثل هذه القراءة إلى كشف النقاب عن الأسئلة التي كان يُعتَقَد أن النص يمثل جواب لها ، وبذلك يتم الكشف عن الكيفية التي نظر بها أول متلقيّ النص إليه ، والكيفية التي فهموه بها . ومن خلال تصعيد الفرق بين القراءة الماضية والحالية ، فإن مثل هذه المفارقة تدحض الزعم القائل ان الأدب يكون " حاضرا بشكل سرمدي : " إمكانك الوصول إلى الأعمال الأدبية كلها عبر آفاق التوقعات المؤسسة ( او المعاد تأسيسها ) زمانياً ، كما انها تتحدد بها إلى حد ما . وقد لجأ ياوس إلى مفهوم " انصهار الآفاق " الغاداميري لدعم هذه المسألة ( إلا أنه في الوقت نفسه ، رفض عرض غادامير للنقد ). فالحوار بين الحاضر والماضي المتضمَّن في مفهوم انصهار الآفاق يسعى إلى تأرخة الأدب بطرق ثلاث . أولاً ، يضع العمل ضمن سلسلة أدبية ، أي التقدم الديالكتيكي لأحداث النص التي يتولى فيها العمل اللاحق مشكلات العمل السابق . وضمن هذه السلسلة ، لا يكون الإبداع هو المعيار الوحيد ( كما هو عند الشكلانيين) طالما كان بإمكان الأعمال توليد مشكلات مختلفة في أزمان مختلفة لمجموعات مختلفة من المتلقيين . ثانياً ، ينبغي تكميل دراسة هذه السلسلة بمقاربة أوسع تأخذ بنظر الاعتبار تعايش العناصر المعاصرة وغير المعاصرة في أية ثقافة وفي أي زمان . ثالثاً ، ينبغي ان ينظر إلى التاريخ الأدبي بوصفه تاريخاً خاصاً يرتبط بالتاريخ العام سلباً وإيجاباً ، أي انه لا يكون متحددا الا بموقفه السوسيوثقافي فقط ، بل انه يساعد على تحديده أيضاً .
تتميز هذه النظرية بميزتين مهمتين : 1ـ أنها عرض تطبيقي للكيفية التي يمكن ان يتواصل بها الناقد ، 2ـ انها متساوقة . وان الكثير من النقاد الذين استخدموا منهجية ياوس الضمنية ، استخداماً ناجحاً ، طوروا مفهومه لـ " جماعة المتلقين " ، كما سعوا إلى البحث عن تعبير عن آفاق التوقعات في أشكال أخرى عدا عبارات القراء المباشرة ( مثل دراسة مشتريّ كتاب او كتب معينة )، إلا أن النظرية لم تحظ بقبول شامل ، اذ تم توجيه النقد لياوس لأنه لم يميز بين النقاد وعامة القراء ولأنه لم يتحر عن دقة الميكانزمات mechanisms التي تربط المؤلف بالناس ، وكذلك بسبب التلقي السلبي للإنتاج الأدبي . وعلى الرغم من المشاركة الحقيقية بالمشكلة المعقدة المتعلقة بعلاقة الأدب بالواقع الاجتماعي ، سويت هذه المشكلة من خلال قبول ياوس غير النقدي للفرق الشكلاني بين اللغة التطبيقية واللغة الشعرية ،وكذلك من خلال حقيقة ان جمالية التلقي تؤدي من الناحية العملية إلى " تطويق " موقع الناقد التاريخي من خلال تبني موقف نسبي من الموضوعين التاريخيين ( أي ، أفق التوقعات ، والنص ) اللذين يتعامل معهما . إلا أن إصرار ياوس على عدم إمكانية تقسيم التراث إلى عناصر أساسية وغير أساسية ( وذلك لعدم وجود عمل يضمن بقاءه ومكانته المؤكدة في آثار المؤلف ، وكذلك بسبب ان الأعمال " الميتة " يمكن ان تجد لها متلقين لاحقاً ) . كما أنه مصيب في إصراره على وظيفة الفن الإبداعية من الناحية الاجتماعية. ومن خلال تصعيد مشكلة الاختلافات التاريخية بين القراءات ، يضم ياوس نفسه إلى صفوف الهرمنيوطيقا ، إلا أنه يذهب إلى ابعد مما وصل اليه المنظرون الذين يحملون هذه القناعة في إظهار الكيفية التي يمكن ان تولد بها هذه المشكلة نموذجا قويا وتطبيقياً للممارسة النقدية . وهذه الحقيقة هي التي تبرر زعمه بأنه شرع بـ " جمالية تلقي " جديدة ، وإن بدا المصطلح نفسه فلسفياً في مضامينه ، على نحو مضلل.
(ب) ستانلي فش :
لقد خضعت آراء ستانلي فش إلى تعديلات كثيرة خلال الخمس عشرة سنة الماضية ، وكان يجد متعة في تأرخة هذه التغيرات ، إذ يعيد في مجموعة مقالاته التي تحمل عنوان " هل ثمة نص في هذه الرتبة ؟ " Is there a Text in this Class ? توليد المقالات والمحاضرات التي كتبها في مدة طويلة ، وجميعها معنية بالموضوعات نفسها : مكانة النص ، مصدر المرجعية التأويلية . ويمثل السياق العام لهذه الموضوعات الجدل الدائر الآن بين الموضوعاتية والذاتانية أو النسبية ، وهو الاتهام الذي ينفيه فش بشدة . فهو يؤكد ان بإمكان المرء ان يكون نسبيا فقط إذا اعتقد ان " العقل يكون موجودا بشكل مستقل عن إنجازه ، أي عن مقولات الفهم التي تمده بالمعلومات " ( فش 1980 :ص 360 - 361 ) . وفي الوقت الذي يعتقد فيه فش عدم وجود معيار مقبول بشكل شمولي ، نجده يصر على وجود معيار ما دائماً . ويتطلب الاتصال بين الأفراد اعتقادات جماعية وعرفية [متواضع عليها] conventional إلا أن هذا الأمر لا يستلزم وجود نسق مستقل وخال من السياق للمعنى . وهو بإصراره على ان المعنى يكمن في الوحدة الماوراء شخصية ـ التي يطلق عليها تسمية " النسق " ، مجموعة المعايير ، الأعراف [المواضعات] والاعتقادات ، المؤسسة والمجتمع التأويلي ـ يأمل إظهار حقيقة اننا على الرغم من امتلاكنا للافتراضات ، نكون مملوكين من قبلها أيضاً :

يحدث الاتصال في المواقف .. وان وجودك في موقف ما يعني انك تملك ( او مملوك من ) بنية الافتراضات ، أي بنية الممارسات التي يُفهَم انها وثيقة الصلة بالأغراض والأهداف الموجودة أصلا : كما يتم سماع أي لفظ بشكل مباشر ، ضمن افتراض هذه الأغراض والأهداف. ( فش 1980 ص 818 ) .

إن لهذا الزعم نتائج مهمة للدراسة الأدبية ؛ إذ يرى فش ان حقائق الدراسة الأدبية ـ النصوص ، المؤلفون، الحقب ، الأجناس الأدبية ـ لا تصبح متوفرة الا ضمن مؤسسة معينة او مجتمع معين ، فقط ، وان النص الذي ندرسه هو نتيجة التأويل الذي يتضح لأجله : فالقراءة تنسج بنية النص بدلا من اكتشافها . وان " الشكل " كله يكونه القارئ الذي يكون محددا ، بالمقابل ، بمعايير مجتمع التأويل * . (وينبغي عدم التوسع في هذا الأمر : إذ يذكر فش ان محرري وقراء كتابيّ " العلامات الصوتية المميزة" Diacritics و " دراسات في الفيلولوجيا " Studies in Philology يشكلان مجتمعين من هذا النوع ) . كما يعد المؤلفون ومقاصدهم و " الحقائق " كلها المتعلقة بالنص نتاجات لا أدلة واضحة . وان هذه المزاعم الاستفزازية لا تشن هجومها على النقد الجديد حسب ، بل على الشكلانية أيضاً على نحو يصبح فيه الجتنب " الأدبي " ذاته أثراً للقرار الرامي إلى التفريق بين اللغة الشعرية واللغة التطبيقية . وفش على قناعة من أن المؤولين كلهم امتدادات لمجتمعات تسيطر على المعنى وإدراكه وتولد تصور راديكالي للناقد الذي " لا يتمثل عمله بتحديد طريقة القراءة الصحيحة بل بتحديد عدد المنظورات التي ستنبع من القراءة ، أي ان مهمته هي ترسيخ مجموعة الافتراضات التأويلية التي ستحدد فيها معالم الدليل (والحقائق والمقاصد وأي شيء آخر ) " ( فش 1980 ص16).
يؤكد فش أن من السخف التكلم عن النصوص بوصفها مواضيع ، وعن القراء بوصفهم ذوات طالما ان " مواضيع النص " هي نتاج الإستراتيجيات التأويلية الفردية ، وان " ذوات القراء " هي نتاج أنماط الفكر الاجتماعية والثقافية . ويعد القارئ والنص معقدين [ مركبين ] ؛ إذ لا يمكن ان يكون القارئ الفرد خارج نطاق المجتمع التأويلي ، ولا يمكن ان يكون النص موضوعا لانه يؤول دائما . ويشير نقاد فش إلى أنه قادر على التكلم على مختلف المجتمعات التأويلية من موقف موضوعي ، او في الأقل على موقف ما بعد نقدي ، إلا أن نظريته تبدو عاجزة عن الإجابة عن هذا النقد لا سيما بسبب زعمه بعدم وجود برهنة في النقد الأدبي وانما إقناع فقط ، وزعمه بان النصوص لا تتمتع بمزية جوهرية ، وان النقاد وحدهم المسؤولون عن " إظهار النصوص إلى حيز الوجود وجعلها متاحة للتحليل والتقويم " ( فش 1980 ،ص356 - 371) ويتميز هذا الرأي حول أونطولوجيا الأدب بأنه استفزازي في أقل الأحوال : فهو يمثل نوعا من التفسير المتطرف لنظرية التلقي التي يلعب فيها الناقد دورا مهيمنا في مجال تكوين آفاق التوقعات . ويبدو ان فش يعتقد ان التغيرات في معايير المجتمع التأويلي وأعرافه يمكن عزوها إلى نسق النقد ، فالناقد يكون " ملزما ، من خلال أعراف المؤسسة ، بإزاحة " أسلافه " عن طريقه" ( فش 1980،ص350). وهذا يفرض، ضمنا مشكلة التعددية pluralism . فهل يمكن للمرء الانتماء إلى مجتمعات تأويلية عدة في آن واحد ؟ وإذا كان الحال كذلك ، هل يستطيع الاختيار بين إستراتيجيتين تأويليتين . لاشك في أن الجواب متوقع من فش لهذه الأسئلة سيقوض أركان الافتراض الذي يمكن من خلاله قراءة كتاب بعنوان " النظرية الأدبية : مقدمة مقارنة " Literary Theory : a Comparative Introduction .
نظريات استجابة القارئ تعليق آخر :
لقد ركزنا هنا على إسهام الظاهراتية والهرمنيوطيقا للنظرية الأدبية التي يمكن وصفها بأنها تشديد قوي على علاقة القارئ ـ النص وعلى مشكلات التأويل بالنسبة للقارئ والناقد . ومثلما لاحظ ستانلي فش فان هذه المقاربات قد مالت ، منذ منتصف السبعينات ، إلى ان تكون مستهلكة من قبل " نقد استجابة القارئ " :

يعد " القارئ في الأدب " مادة المحافل والندوات الخاصة برابطة اللغة الحديثة ، وهناك حقيبة إخبارية تخص القارئ تتناول الجهود الكبيرة في مجال صناعة القارئ ،كما ان أي قائمة من مدارس النقد الفعالة حاليا تضم مدرسة " استجابة القارئ" كما أصدرت مطبعتين جامعيتين كبيرتين مجموعات من المقالات التي صممت لعرض مختلف آثار النقد المرتكز في القارئ ، ولتناول تاريخه بالتفصيل . ولا يعني ذلك كله ان النقد المرتكز على القارئ اصبح منيعا على التحديد او الهجوم ، بل كل ما في الأمر انه تم الاعتراف بالإستراتيجية الأدبية المنافسة التي لا يمكن إزاحتها من خلال تسميتها فقط . (فش 1980 ص 344)

تعكس هذه التعليقات نهضة النقد المتعلق باستجابة القارئ ، وانتقائية هذا النقد : إذ أن محرري كتاب " القارئ في النص " The Reader in the Text الذي نشرته مطبعة جامعة برنستن في 1980 يذكرون ، فضلاً عن المقاربات الظاهراتية والهرمنيوطيقية ، مختلف المقاربات البلاغية والسيميائية والبنيوية ، والمقاربات الذاتية والتحليلية النفسانية ، وأخيراً المقاربات السوسيولوجية والتاريخية . وينبغي ان لا تقف هذه القائمة عند هذا الحد : اذ ان هذا الحقل من النقد يهدد بابتلاع المقاربات التي وصفناها هنا . ويضم كتاب جامعة برنستن إسهامات من كولر Cullerوهولاند Holland وآيزر Iser وتودروف Todorove وغيرهم ، اما الكتاب الثاني الذي يحيل اليه فش ، " نقد استجابة القارئ " Reader-Response Criticism ( تومبكنز 1980 ) فقد جاءت إسهاماته من ثلاثة من هؤلاء الأربعة إضافة إلى بوليه وفش وديفيد بليتش David Bleich ، وان ما يجمع هؤلاء المسهمين المتعارضين في مواضع أخرى هو اهتمامهم بأسئلة معينة مثل : ما الذي يقوم به القارئ ؟ وما الذي ينجز له ؟ وما الغاية من ذلك ؟ هل الكتابة فعل يبنى على شاكلة الحوار الزائف مع النص ؟ هل يعد القارئ مجموعة شفرات ما وراء شخصية ؟ او هل هو مجموعة أعراض ؟ او هل هو موضع الكفاءة " الأدبية " ؟ ما هي أطر الإحالة التي يجلبها القارئ إلى النص ؟ وقد تم طرح بعض هذه الأسئلة من قبل منظرين تناولناهم هنا ضمن إطار ظاهراتي او هرمنيوطيقي : ويمكن تطبيق بعض منها على أية مقاربة. ومن غير المدهش رؤية ان هذا المدى الواسع من البحث المندرج تحت خيمة واحدة ، يبدو فاقدا لحدوده ، او حتى يمكن تأويله بأنه خطوة يائسة ترمي إلى إيجاد دور متساوق تؤديه النظرية الأدبية والنقدية ـ أي أشبه بمحاولة " استدرار"الحليب من الثور "، مثلما علق بذلك لي أحد نقاد " القارئ في النص " أنه طالما ان معظم النشاط المعاصر في المجال النقدي الأدبي هو ذا طابع تأويلي لا دراسي ، وطالما ان هناك الكثير والكثير من الكتب التي تكتب لتفسير النشاط النقدي ، ينبغي إيجاد منطق يتناول هذا النشاط .
إن هذه الخاتمة السلبية تخفي وراءها حقيقة ان الأمر كان مسوغا دائما للمؤول الممارس ( سواء أكان قارئاً أم ناقداً ) بالبحث في النشاط الذي يخوضه . وفي حالة الأدب ، أدى ذلك إلى دفع النقاد ، في أوقات معينة ،إلى التشديد على انفصالية النصوص الأدبية وطبيعتها الموضوعية ـ كما حصل مع الشكلانيين والنقاد الجدد ، أما في الأوقات الأخرى ( ولا سيما منذ نهضة ما بعد البنيوية ) ، فقد ثارت التساؤلات حول هذا الفصل بين الأدب وأشكال التعبير المكتوب الأخرى ، كما تم تصعيد الدور الذي يلعبه القارئ في موقعة التاريخي والثقافي في تشكيل معنى النصوص ، واصبح نقد استجابة القارئ نتيجة من نتائج الرغبة بـ " إعادة تسييس الأدب والنقد الأدبي " ( تومبكنز 1980 ،7×× ) ، أما في عملية تحقيق هذا الهدف ، تم دفع النقاش الظاهراتي المتعلق بالذات والموضوع ، والبحث الهرمنيوطيقي في علاقة التاريخ بالمعنى وفي صلاحية التأويل ، وصولا إلى الخانات الأدبية ، كما تم جليه إلى دائرة النظرية الأدبية ، أما ضمن حالة الفن الحالية ، تبدو الأسئلة التي تطرحها الظاهراتية والهرمنيوطيقا ونظرية التلقي ( إن لم تكن الإجابات موجودة ) ذات موقع ثابت في مداولات المنظرين والنقاد ، وإن كانت أولى اثنتين من هذه المقربات تفعل ما بوسعها لتبرير ووصف سيرورة القراءة والتأويل اكثر من اهتمامها بتقديم النماذج اللازمة للممارسة النقدية .

  • هذا الفصل من تأليف إيان ماكلين ، وهو مترجم عن كتاب النظرية الأدبية الحديثة ، تحرير آن جيفرسون و ديفيد روبي Modern Literary Theory /Ann Jefferson and David Robey . (المترجمة)
  • بالإمكان الرجوع إلى تعريف شامل لمفهوم " الحلقة الهرمنيوطيقية " في المادة التي تحمل عنوان " التأويل والقراءة "، تأليف : إيان ماكلين المنشورة في مجلة " الأديب المعاصر " العدد 49 ، خريف 1998 ، ترجمة خالدة حامد ، والتي أعيد طبعها في مجلة " الثقافة الأجنبية " ، العدد الأول ، سنة 1999 . (المترجمة)
  • التقمص : . (المترجمة)
  • التجرد epoche : يعني في النقد الظاهراتي " تعليق " أو تجميد جميع العقائد والمواقف السابقة باعتبار ذلك الخطوة الأساسية اللازمة لتحليل الوعي/ د. محمد عناني ـ المصطلحات الأدبية الحديثة . (المترجمة)
  • البيذاتي : . (المترجمة)
  • الدازين : مفهوم جاء به مارتن هيدغر في كتابه " الكينونة والزمان " (1972) يشير فيه إلى ان الوجود الإنساني يجسد في بنيته الوجودية فهما انطولوجيا مسبقا للذات وللعالم الذي تجد فيه الذات نفسها . ولهذا السبب يعمل الدازين إسقاط نفسه في فعل الفهم وصولا إلى إدراك الذات التي تمثل انجلاء او انكشاف هذا الفهم ، وبالتالي يكون التأويل المتجذر من الفهم مستمدا من هذا الدازين (المترجمة)
  • المغزى : . (المترجمة)

مجتمع التأويل :
جوشيا رويس ( 1855 ـ 1916 ) : فيلسوف مثالي أمريكي ولد في كاليفورنيا . ظل حتى وفاته أحد أعمدة الفلسفة في ما يسمى بعصرها الذهبي . وهو افضل من يمثل الفلسفة المثالية المطلقة في أمريكا على نحو يتميز فيه عن هيغل والمثاليين البريطانيين . أدخلت نظريته في الإرادة وتصوره لدورها في عملية المعرفة سمات جديدة في تراث المثالية العقلانية . وقد وصل في النهاية إلى مجتمع التأويل community of interpretation ، او نظرية الواقع الاجتماعية التي بناءً عليها تكون جميع الذوات ملتحمة في مجتمع شمولي universal يتمثل هدفه بامتلاك الحقيقة في كليتها . وتبرز أهمية هذا الفيلسوف في حقل تاريخ الهرمنيوطيقا المعاصرة بمفاهيمها ومصطلحاتها ، من انه ربما يكون من أوائل من طرحوا مفهوم " مجتمع التأويل " ، هذا المفهوم الذي وجد صدىً واسعا في تنظيرات التداوليين الجدد ، أمثال ريتشارد رورتي وستانلي فش . (المترجمة)