فوزي كريم
(العراق/لندن)

(1)

فوزي كريمهذه محاولة لدراسة قصيدة لي تتخذ زاوية نظر تخضع للاعتبارات التالية: إنني شاعر القصيدة الذي يعرف، أو مازال يتذكر، شيئا من أسرارها. ويقدر أن يستعيد عبر ضباب تجربتها القديمة، دوافعها ومآلات هذه الدوافع في النص. وإنني كتبتها تحت تأثير وأسر محبتي للموسيقى، و" الرباعية الوترية " خاصة. والأخيرة هي مصدر عنوان القصيدة. وإنني أبدا، أسير المراقبة النقدية للنص الذي أقرأ، أي نص. وهي فضيلة قادتني إلى سبل الخلاص من الموروث الشكلي الذي يثقل الشعر العربي، والشعر العربي الحديث خاصة. وجعلتني أتفحص العمق والجمال في المعنى أولا، باعتبار أن الشكل أحد تطلعات المعنى، أو تطلعه الحسي الفريد. ان جمال المعنى هو الذي يهيئ الفرصة للشكل الجميل، وعمق المعنى للشكل العميق. فلا يوجد جمال مجرد عن جوهره الخبيء في المعني.
هذه الاعتبارات سوف تعطي لمقالتي صبغة نقدية غير مألوفة. فهي مقالة في "المخيلة " غير مجردة عن "الذاكرة"، بفعل طابعها الشخصي، الاستعادي وهي مقالة في الموسيقى. حتى لتبدو أنها تود لو تنصرف للموسيقى أكثر من انصرافها للشعر. ولكن طابعها النقدي لن يغادر السطور بفعل المقاربة الدائبة بين بناء القصيدة الفني والعناصر الأساسية في هذا البناء وبين "الرباعية الوترية".
والمقالة في النهاية، متابعة غنائية لنشأة نص شعري استكمل قوامه على الورق قبل عشر سنوات.

(2)

بعد سبع سنوات من الإقامة في لندن، سبع سنوات من الوحدة التي لا تنطوي على سعادات أرضية، أصبحت «الذاكرة» أشبه بكائن يستقل بنفسه مع الأيام. ولكن استقلالها المجازي لا يمنعها من أن تشكل الينبوع الفياض لكتابة قصيدة. إلا ان هذا الاستقلال، حتى في مجازيته، هو ضرب من التعبير عن منتهى الانقطاع، لا عن النفس، بل عن الجذور.
في أواخر عام 1991 كتبت قصيدة بعنوان "الوحش“. ولم يكن هذا الوحش"، "الذاكرة" التي تركتها ذات يوم "فوق مشجب“، حين غادرت البيت إلى المنفى. حتى استحالت بفعل الانتظار إلى ما استحالت إليه:
"لو عدت يوما،
سأحذر من صرخة بانتظاري
وراء الجدار!
فذاكرة المرء تصبح وحشا
إذا لفها عفن الانتظار! "
أصبحت هذه الذاكرة - الوحش - ينبوعا لقصائد عديدة. ولن أتجاوز الحد إذا ما قلت: لقصائدي جميعا. ويفعل التماهي أو الاندماج بين الذاكرة والوحش فان الينبوع الذي تولد منها لن يكون إلا ينبوع ماء داكن بالضرورة. وليكن داكنا بفعل العمق، ويفعل المرارة أيضا.
إذن، القصيدة التي أنوي دراستها هي قصيدة "ذاكرة"، تحرك مياه ينبوعها العواطف. وما "المخيلة" التي فيها إلا وليدة هذه العواطف التالجملة.مياه ينبوع "الذاكرة" إلى مجرى الأسرار لتحيلها إلى أسطورة. إلى مخيلة لا تقاس بحجم الكلمة التي وراءها أو بحجم الجملة. بل بحجم العواطف وحدها. ولذلك فهي تأبى أن تتجرد.
كنت في عام 1985، سنة كتابة القصيدة حيث لم أعد أذكر منها الشهر واليوم، أسكن بيتا من طابق أرضي واحد. تحيط به حديقة من جانبيه ويشكل حلقة من بيوت متشابهة في شارع تضفي عليا الخضرة وانخفاضة البيوت ذات الطابق الأرضي الواحد مسحة ريفية. كان اسم الشارع Low field Road. تتوزع رصيفيا أشجار صفصاف ودردار متفرقة. وتتواصل حدائق البيوت الأمامية وراءها على امتداده. حتى ليبدو شارع "لوفيلد" متوافقا تماما، بفعل لمسته الريفية،مع تنهدات صغيرة لا تخلو من سخام احتراق، تنهدات تشكل الدليل الوحيد والأكيد على وجودي المتواضع بين الأحياء من ساكنيه.
البيت، الذي أسكنا مع زوجة وطفل، تتوسطه غرفة جلوس مستطيلة تطل واجهتها على حديقة البيت الأمامية، بينما تنتهي، من الخلف بغرفة المطبخ الذي يطل بدوره على الحديقة الخلفية. وعلى جانبي غرفة الجلوس غرفتان أحداهما للنوم والثانية مكتب حشدت فيه ما أملك من كتب واسطوانات وأوراق. وكانت الثالثة من نصيب الصغير الذي بدأ يكبر مع الأيام.
من شباك غرفة النوم كنت أطل كل صباح، ولعلي كنت أصفي، إلى الأسرار الصغيرة الصامتة في حديقة البيت الأمامية، والى الشارع الذي ينبئ، بفعل صمته المدهش، عن مفاجأة. وورائي تستقر زوجتي على السرير نصف نائمة.
سيرد هذا المشهد في القصيدة. ولكن الصغير "سامر" سيفلت من قبضة الزمن اليومي إلى زمن القصيدة "اللازمني". سيفلت من البيت ليكون أشبه بحيوان بري عار داخل دغل الحديقة. ولعلنا جميعا سنفلت من قبضة الزمن، بصورة من الصور. سنفعل ذلك ما أن ندخل النص.
ولكنني وحدي، وعلي هنا أن أستدرك محترسا كشاعر مورط بمهمة نقدية، ولا يملك القدرة على الإفلات من قبضة زمنه التاريخي كم فعلت الزوجة والطفل. وسبب عجزي يكمن في أنني أسير "الذاكرة". أسير الحلقة غير المنسية، بل الماضية، من الزمن القاهر.
معظم سكان شارعي شبه الريفي من المسنين. فطبقة الأعمار هذه تفضل عادة السكن في بيوت الطابق الأرضي الواحد. وشارع "لوفيلد" نموذجي في هذه الخصيصة. وهذا يعني أن سكانه يضفون على حضرته وسمائه المفتوحة الواسعة، بعدا إضافيا من الهدأة والصمت.
ولذلك لن يكون اعتباطا ان تخرج، في المشهد الأخير من قصيدتي، الجارة العجوز "تجمع في قبعة القش ندى الأعشاب ". الفنريب إنني قلت في قصيدتي "الجارة" ولم أقل "الجارة العجوز". وكأن المشهد -الذي تولده المخيلة المجردة بل العواطف - يفترض مسبقا أن تكون الجارة عجوزا بالضرورة.!
قلت إن الذاكرة هي الينبوع، والذي منح هذه القصيدة، وجودا هو الإيقاع. إيقاع المياه المتدفقة في الأعماق، مياه الذاكرة.
هذا الإيقاع تشكل بهيئة مكانية. وكثيرا ما يحدث هذا لدى الشاعر. لدى الموسيقي يكون الإيقاع مجردا، خالصا وأكثر صفاء. لدى الشاعر لا تتوسط غير الكلمات. والغريب أنها لا تملك ان تقلد الموسيقى بتجردها فتتجرد. فالكلمات "المجردة " في المعنى ذهنية وليست شعرية. وإنما الكلمات الشعرية التي تتجسد الكلمات البصرية. ولذلك كان لجملة "في ساحة الأندلس" بالقصيدة وقع خاص.
"ساحة الأندلس " استدارة واسعة ينتهي إليها باص رقم (21)الذي يبدأ رحلته من "الحارثية ". كما ينتهي إليها باص ( 4) الذي يبدأ رحلته من "ساحة الميدان ". وكلا الخطين امتداد تجوالي اليومي في بغداد. تجوال المشرد الذي لم ينتزع الزمن منه هويته هذه حتى لحظة كتابة هذه المقالة.
ولكن القصيدة لم تبدأ مع نهاية باص ( 21) أو باص ( 4). بل هي اتخذت من "ساحة الأندلس" ونهاية الباصين ( 21) و( 4)، منطلقا للرحيل إلى المنفى. لأن "ساحة الأندلس"، هي أول ما يواجه المخمور الذي يغادر نادي "اتحاد الأدباء في العراق" ليلا. ولذلك فهي تقرن بالليل عادة. وبمنتصف الليل أن أردت الدقة فأنا، ومعظم ندمائي الذين ودعتهم يوما كأشجار خريف، لا أخلف ورائي بوابة" الاتحاد" إلا لأواجه ليل الوحشة في هيئة "ساحة الأندلس ".
"متى? ترى،يطفئ ضوء الفجر هذا أضوء،
أو ينتشر العصفور؟ "
لأن "ساحة الأندلس" مزحومة بأضواء النيون. الأضواء الكاشفة. لأن على اليمين منها، وعلى مبعدة دقائق، يقبع شبح "مديرية الأمن العامة". وعلى امتداد جدران البنايات في جهة اليسار تخفق اللافتات وقد تزينت بشعارات حول المستقبل الذي يفتديه الماضي والحاضر وأبناؤهما. وبينها ثقوب مكبرات الصوت السوداء مباركة ذات المستقبل بالهتاف والأغاني والضجيج. وهي تكاد، لارتفاعها واتساعها، تطل على "الاتحاد" ذاته.
وفي "الاتحاد" حفلة راقصين، يذكرونني، دائما، بحفلة الراقصين على شاطئ البحر، في المشهد الأخير من فيلم "حين يطفو السمك في الماء".
مشهد الحفلة هذا، مأسورا باللافتات ومكبرات الصوت، هو آخر عهدي ببغداد، قبل أن أغادر إلى المنفى،
"لا باحثا،سدى،عن المعنى
ولكن هربا من المعاني السود"
سأواصل في حقل الذاكرة، قبل أن انصرف إلى دراستي الموعودة حول مقاربة النص بالموسيقى. فالذاكرة شجي أطمئن إليه. وأنا شاعر لا احترس من التراجيديا. بل أجد فيها طمأنينة. لا لأنها تطهير للنفس. بل لأنها البلوى التي توقظ الحواس وتفتح للوعي سبله السرية. ولذلك لا تكتفي القصيدة بمفتتح "ساحة الأندلس". حيث لا ضوء للفجر، ولا ينتشر العصفور، بل تقتحم حفلة "الاتحاد" حيث "الرافضون كالرحى" ولكن "على مدار خوفهم من لحظة الصحو" المشهد جحيمي، لا شك في ذلك. "تدور الكأس والرأس" والنادل "حسين" لا يهملني وكأنه يخشى من صحوتي. فهو يسألني كلما عرض لي أو عرضت له: "ربعا آخر من العرق؟". وهو يقصد: هل تريد؟ وأنا لا أكاد أتبين سبيلي وامرأة قبالتي على المائدة تبتسم بمكر. ومن تحت المائدة، في الظلمة التي تؤالف بين جنادب العشب وبين الأقدام، "تدس بين قدمي قدما ثالثة " وهي تهمس "أترقص؟". وأنا استجيب نصف واع. "ثم أستحيل في يديها كرة من الشبق، تطرحها أرضا فلا تبلغ مستقرها"!
أنا الذي أصبح كرة مطاطية من الشبق. تمسك بها المرأة العابرة عابثة، ثم تلقي بها على أرض المرقص الكونكريتية. كرة المطاط تنط وتقفز، وتنط وتقفز دون مستقر على الدائرة المبلطة. ولعلها تنط وتقفز خارجها، عابرة الفجوات والفراغات التي تتركها سيقان الراقصين إلى الحديقة الواسعة، حديقة "الاتحاد".
لشد ما يؤلمني أن استعيد صورة "كرة الشبق" هذهالرعب، “كرة الشبق" المطاطية عادة ما تكون وليدة الرعب، لا وليدة الحرمان.
كانت الأغنيات الراقصة التي تشد السيقان إلى الحلبة ضربا
من الهستيريا لأنها، وهي تخرج من فم مفنيها، عصفور ذليل تحت أجنحة كواسر من الطير، بادية الشراسة. تحت أصوات الأناشيد والأهازيج العقائدية التي تطلقها مكبرات الصوت في كل ركن، خارج “الاتحاد". وما على الراقص العقائدي، بدوره، إلا أن يزاوج بين مباهجه الفردية التي تحاول أن تجد لها ملاذا في جسده، وبين المباهج الجماعية، مباهج القطيع التي هي ضرب من الفرار من الجسد والروح أو من انتهاكهما. وأنا المخمور لا أملك أن أجردهم من إنسانيتهم. فهم، تحت مكبرات الصوت وتحت خفق اللافتات التي "كتبت الأقدار وعيدها فيها"، لا ملجأ لهم "إلا في مدار خوفهم من لحظة الصحو".
وأنا تأخذني الخمرة إلى فقدان يشبه الغيبوبة. هذا يحدث لكثيرين ممن ينتسبون إلى فصيل الكتاب. رعاة المسؤولية والمثل الخالدالأكذوبة،أحد يكشف عن الفقدان، الأكذوبة، ويرى في "الكلمات " التي استكملت قداستها حيوانات مفترسة لا تتوقف عن هرس لحمنا الني، بين أنيابها. كنت في طريقي إلى الفقدان، منحنيا على الطاولة. أحدق، وعلى فمي ابتسامة اليائس، بالكلمات تتساقط أشبه بحبات الثلج التي نعبئ بها كؤوس "العرق ". كلمات الثورة، الحرية، القومية، الوطن، اليسار، الشهادة، الشرف، المسؤولية، التقدم، المستقبل، البعث، الشعب، الطليعة، البعد القومي، الوحدة، الكفاح، النضال، المسيرة، العروبة، الأممية، الجبهة، الفداء، الأعداء، الخائن، المشبوه، العميل، الأجنبي، الأصابع الخفية... تتكاثف وتتحول إلى حيوانات مفترسة لا أستطيع أن أغمض عيني عن الدم البشري الذي يتقاطر من بين أنيابها.
ويخيل إلي أن الفقدان الذي يشبه الغيبوبة يتحول، هو الأخر، إلى غصون أشجار تنحني حولي، وكأنها تكشف فيما بيننا "سر سقوط الورق الذابل ". أشجار تشبا ستارا يرتمي فوقي "يحجبني عن الوطن ".
هل تكفي إشارة كهذه، في قصيدة، عن أول المنفى.

(3)

ليست الذاكرة أدنى مقاما من الموسيقى. ولقد شغلتني في الفقرتين السابقتين عن مقاربة النص الشعري بالموسيقى. لأنها "سيدة الهات الإلهام " كما يقول اليونانيون. ولأنها بالنسبة لي شخصيا، الخبرة الشعرية التي تصل الكلمة بالحياة.
يقال إن استكشاف الدور الذي لعبه "الزمن " و" الذاكرة " في حياتنا هو واحد من ثلاث مساهمات كبرى أسست معارفنا حول الكائن الإنساني وحول المجتمع الإنساني في العصر الحديث. المساهمتان الأخريان هما "الماركسية " في البحث عن طبيعة التغير الاجتماعي، و" الفرويدية " في تحليل النفس البشرية.
ويقال أننا في قرننا العشرين بدأنا نتعرف على أن "اللغة المجازية " وتوليد الصور، إلى جانب "الإيقاع“، إنما يتشكلان بفعل الذاكرة والخبرة. وان المخيلة الشعرية ما هي إلا فعل تمرن الذاكرة، والقدرة على استعادة الأحداث الماضية وعلى تتبع نمط الجمال ومحاولة فرضه على تدفق الحياة. ان هذه المعرفة الحميمية لأنفسنا تمكننا من الدخول لقلوب وعقول الآخرين.ذلك ان الشاعر بذاكر ته المدهشة، ملائم تماما، وبصورة استثنائية، للقيام بهذا الفعل من التعاطف الخيالي.
رواية بروسة "البحث عن الزمن الضائع " أعظم شهادة في النشر. تقابلها شهادة وردزوورث في قصيدته الكبرى The Prelude" "الشعر. وهما شهادتان تجسدان فعل الذاكرة. ولكن فعل الذاكرة، كما توحيان، موزع على كل نص شعري يستحق هذه التسمية.
أرجو إلا يخلط فعل الذاكرة بالحنين. لأن الحنين إلغاء للحاضر في حين فعل الذاكرة تعزيز له.
الشعر العربي القديم، والحديث منه، مفعم بحاسة إلغاء الحاضر بفعل افتتانه بالحنين، والحنين اذا لم يكشف عن وجهه مباشرة، يتخذ ما لا يحصى من الأقنعة. احدها، والأكثر شيوعا، هجو الحاضر ممثلا بواقع الحال. أو المكابرة بالذات المختارة متعالية عن واقع الحال ممثلا بالقطيع. وأنت تجد لهذين النمطين شواهد لا تحصى من الماضي والحاضر.
ان شدة شيوع هذه الحالة جعلت الشاعر وناقد الشاعر وقارئ الشعر باسم الحداثة، يفوسعون إلى إنكارها جملة. أعني إنكار حالة الحنين، وإنكار الذاكرة معا. وكأن فعل الذاكرة يتضمن حنينا بالضرورة.
اذكر، أيام النشرات الفارغة للستينيين، ان أحد أبناء جيلي كان مأخوذا بنظرية استحدثها حول الشعر تعني بـ"إلغاء الذاكرة "، وبناء النص الجديد "بكوريا" و"من الفراغ ". وكنت أعرف أن "مخيلته " الطليقة، التي ولدت لديه فكرة "النص بلا ذاكرة "، مخيلة محرومة من دفء الذاكرة. وكنت أعرف أيضا أن صبوات الشاب فيه أسرته داخل مفردات لا معنى لها. وأن مخيلته، غير المقززة بمعرفة عذابات وأسى وطموحات الكائن الإنساني، لم تستطع أن تملأ هذه الكلمات بالمعنى بل بدوامات الفراغ المصوتة. وأعرف أن نظريته موزعة أشلاء في قناعات شعراء للحداثة المصوتة كثيرين.
ان فكرة "الجديد" والشاعر "الذي جاء بجديد"، فيما وراء النهر، ليست بعيدة عن مسعى نظرية "إلغاء الذاكرة ". ولك أن تنظر من ذات الزاوية، إلى كل مظاهر المطحنة اللغوية، وتراكم الصور، والتشظيات والتعميات والتشكيلات التي توهم بالتركيب، على أنها وليدة "إلغاء الذاكرة " أو وليدة إغفالها.
الكثير يغفل أن مسعى القصيدة "الجديدة " مسعى وهمي ومضحك. إذ ما من قصيدة "جديدة “. هناك "إعادة كتابة " للقصيدة. أية قصيدة تحت خفقه جناح الذاكرة المهيب. "إعادة كتابة " متواصلة ولا نهائية. والذي يفترض أنه يكتب "جديدا" "بكوريا" "مدهش في بكوريته "، بالمعنى الحرفي للكلمة، إنما يفترض، بالضرورة، انه يكتب خارج ذاكر ته. أي خارج جذوة الإنسان الذي فيه. ورغم أن الأمر يبدو مستحيلا. إلا أنه ممكن في ظرف متداع كهذا الظرف. وفي مرحلة لا هوية لها كهذه المرحلة. حيث لا يستعص على الكائن البشري أن يعيش في أرقي لحظاته إبداعا، أكثر لحظاته وهما وخديعة.

(4)

عرف "بودلير" بنباهة الشاعر المكترث. أن أشكال الموسيقى الجديدة، خاصة موسيقى "فاغنر"، قادرة على أن تمس القلب البشري بصورة أكثر غرابة وعمقا مما فعل الكثير من الشعر الفرنسي الكلاسيكي. وعرف أيضا أن إدراكا أعمق للموسيقى قد يمكن الشاعر من تنمية موارد نافعة للغة، ويحرك استجابة كلية من أعماق روحه.
على أثره جاء "مالارميه " و "فاليري" والرمزيون جميعا. ثم مست لمسات بودلير شغاف الشعراء الانجليز، والألمان، الايطاليين. وتهشمت القشرة الخطابية والوعظية، وأصبح الشعر يتشرف بالانتساب إلى التأليف الموسيقي، ويتشرف بقرابة الشكل والجوهر: في تنوع طبقات الصوت، واللين والشدة، والنظام الإيقاعي، والنمو الهارموني. حتى أصبح "ولت ويتمان " البعيد، في القارة الأمريكية، يجد أن شعره لم يولد إلا من رحم "الأوبرا الايطالية ". والنقاد يعززون ذلك بالشواهد في "بنية قصياته ".
ثم تجيء، في القرن العشرين، الشاعرة "أديث سيتويل " فتكتب قصائد تحت تأثير أعمال موسيقية بعينها،أو موسيقيين بعينهم. مجموعتيها Facade" وليدة Transcendental Excercise للموسيقى "ليست " وبيت شعرها The Brown: Bear Rarnbles in his chain.
جاء من وحي أغنية للموسيقي "سترافنسكي"، سيد الإيقاع في الموسيقى الكلاسيكية الحديثة. ثم تلوح "القصائد الأخيرة " للشاعر "ييتس "، وكأنها معادل لغوي لرباعيات "بيتهوفن " الأخيرة. وكذلك اجتهادات "اليوت " النقدية، وخاصة في مقالته الشهيرة "موسيقى الشعر"، حول "الثيمات المستعادة " التي يفترضها طبيعية في كلا الشعر والموسيقى.
"شيللر"، من قرن سابق يصرح :"ان مدركاتي بلا موضوع أول الأمر"،وهو يتحدث عن تجربة كتابة القصيدة،"الموضوع يتشكل لاحقا. ثمة مزاج موسيقي لدي يسبقه، وبعد هذا المزاج تتبدى الفكرة الشعرية ". وكأن الفكرة الشعرية، أو القصيدة بجملتها، تنمو من بذرة "إيقاع ". "إيقاع " وليس "وزنا". هذا الإيقاع قد يكون متلبسا بكلمة واحدة، أو بجملة واحدة. أو قد يكون إيقاعا مجردا لا تبين فيه كلمات أو جمل.
كثيرا ما يرى "الإيقاع " مقرونا بالجانب الخفي الليلي من العقل. بالنوم والظلمة والأحلام، والذكريات العميقة والبعيدة. يوضح تي. أس. اليوت ذلك بقوله "إن الفنان أكثر بدائية، وأكثر تحضرا في أن، من معا هويه ". ويقترح مصطلح "الخيال السمعي" ليصف الدور الذي يلعبه النبض الإيقاعي الغامض في الشعر. الذي يبعث الحياة فيه، معتقدا بأن هذه الفاعلية تمكن الشاعر من ارتياد المشاعر والأفكار البدائية الكامنة في أعماق طبيعتنا.
هذا المسار من التبصر بالموسيقى، من زاوية نظر الشاعر، لم يمس شفاف أحد من شعرائنا، إلا القلة القليلة، لأن هذا الشفاف اذا ما افترضنا أنه موطن العواطف، وضع إرادة اختياره بين أمرين، وفق ثنائية الأسود والأبيض : بين أن يرتمي في أحضان الإيقاع على أنه "وزن " مكتمل النظام وذو قداسة. ويميت فيه، في إحالته إلى نظام رتيب وعددي، كل روح الموسيقى. وبين أن يرفض "الوزن " بوهم أن الإيقاع هو موسيقى "داخلية " لا صلة لها بالأذن. وبذا يميت الإيقاع والوزن والأذن معا.
الأول يعمق، بفعل انصرافه المجرد إلى موسيقى الكلمة والجملة، الهوة بين الكلمة والجملة وبين معانيها. فيقدم لنا على طبق حلوى ملونة ولكن من زجاج أو شمع.
والثاني يحثنا على الإصغاء، عبر نصه النثري إلى موسيقى الكواكب الخفية. وهو لا يفرق بين "الرباعية الوترية " و" التنويع ". أو بين "اللحن " و"الهارموني" أو بأقل تقدير بين "المتدارك " و"الطويل ".
كلاهما أجهز على أذنه فأحالها صماء. تماما كما أجهز القدر على أذن "بيتهوفن " وهو بعد في مقتبل العمر. ولكن إرادة الفنان لدى بيتهوفن استثمرت كل عذابا ته لصالح أذن داخلية، شأن البصيرة، منحت لأذاننا جميعا، ولأرواحنا، هذه النعم التي لا تبلى مع الأيام.
في "رباعياته الأربع " حاول "اليوت " أن يقارب بين النص الشعري، من حيث البنية، وبين العمل السيمفوني، أو الرباعية أو السوناتة،، من حيث اعتماد هذه الأشكال الثلاثة على ما يسمى _"شكل السوناتا" أو قالبها. هذا الشكل الذي يمثل أكمل الصيغ للتعبير عن الأفكار الموسيقية. وهو يعتمد على التعارض بين الأفكار المتباينة التي تثير التشويق. ويتألف قالب السوناتا من ثلاث مراحل أو أقسام. القسم الأول يسمى "العرض "
Exposition ?الثاني "التفاعل " أو التطوير بين ألحان القسم الأول والانتقال بها لمقامات أخرى Development. والقسم الثالث يسمى "التلخيص" أو إعادة العرض Recapitulation. وهو إعادة ألحان قسم "العرض " حرفيا من المقام الأساس للمقطوعة. وهذا القالب يحتكم إليه، عادة في الحركة الأولى وحدها.
والشاعر، كما ينصح "اليوت "، ينتفع من هذه "البنية " ولا يحتكم إليها. ينتفع منها لأن الشاعر يرغب، عميقا، بالخضوع لقوانين شعرية صارمة. ولا يحتكم إليها، لأن الشاعر يرغب، عميقا، بالحرية في نمو وتطور النص الشعري بين يديه. هذه الحرية التي تفتح لدينا كل إمكانات "التنويع " الحر.Variation
هذا جانب من بنية "شكل السوناتا". ولكن هناك جانبا آخر، أو جوانب أخرى من بنية العمل الموسيقي تعتمد "القيمة المستعادة " وهي الفكرة أو اللحن الذي يتكرر على امتداد العمل. شأن"الموتيف " الفاغنري. أو "الفكرة " التي تنمو على تناوب عدة ذلات. أو تعتمد البيان والبيان المضاد" Statement and countér-statement أو الفكرة وما تقابلها، متعارضة أو متوافقة معها. كفكرتي "النهر والبحر" في The Dry Salvages وما يرمزان إليه من ضربين من الزمانالمؤرخ، "اليوت ": الزمان الذي نشعر به عبر نبض جسدنا، في حياتنا الشخصية. والزمان الذي نتعرف عليه عبر مخيلتنا ممتدا إلى ما ورائنا، إلى ما وراء حسابات المؤرخ، ومتواصلا بلا نهاية بعد موتنا.
"اليوت " ذهب بعيدا مع البنية الموسيقية. ولم أرد بهذا الشاهد، إلا الإشارة الوجيزة. أما الشاعر، شاعر درية الأذن فيكفيه، ان شاء، الجوهري المتعين في الإحساس بالإيقاع والإحساس بالبنية. لأن القصيدة إنما تبدأ من مشاعر موقعة، أو فكرة موقعة، أو كلمة موقعة، أو ربما تبدأ من إيقاع خفي المصدر، مجرد.

(5)

في قصيدة "رباعية لوفيلد رود" لم أعتقد "شكل السوناتا" عن حرفية وقصد. فأنا لست موسيقيا معنيا بالتقنية. ولم أعتمد وسائل البناء الأخرى، شأن الموسيقى. بل حاولت بناء أيسر وأكثر طواعية. ولعل الأبنية الأخرى، أو العناصر الأخرى "لشكل السوناتا" جاءت عفو قدراتي الماسورة بـ "الإحساس بالإيقاع والإحساس بالبنية ".
علمة "رباعية " في العنوان لا تعني _ كما قد يتوهم البعض _ ان القصيدة في أربعة مقاطع. أو أنها موزعة على مقاطع بأربعة أشطار، كرباعيات الخيام. ولكنها تشير باختصار إلى عناصر أربعة يتشكل منها النص الشعري تماما مثل الأصوات الأربعة التي تتشكل منها "الرباعية الوترية " في "موسيقى الغرفة "
hamber Music ?تمثلة في الآلات الموسيقية الأربع : "التافايرلين - فيولا – جلو".
الأصوات الأربعة (أو الآلات الأربع إن صحت المقاربة الموسيقية ) تتمثل داخل القصيدة أولا بشخص (سامر) - طفل الشاعر الذي لم يكن يبلغ من العمر آنذاك العام الواحد - ثم بشخص "الزوجة “. ثم بصوت الرائي أو الشاعر الذي يغادر الوطن على اثر آخر مشهد لحفلة راقصة في الاتحاد. وأخيرا بشخص" الجارة العجوز". هذه الأصوات أو الأشخاص تواجهها، توازيها أو تقاطعها عناصر أربعة أخرى تأخذ ذات التدرج في التقابل هي: "الربيع (الطفل سامر ) - الصيف (الزوجة ) - الخريف ( الشاعر) -الشتاء (الجارة) العجوز.
هذه العناصر الأربعة تترادف وتتعارض. ثم تلتحق بها أصداء أخرى ذات دلالات إضافية : مثل الطبيعة البكر التي تحيط بجسد الطفل المتسخ العاري (الربيع). ثم الدعوة الجسدية التي تقترن بصوت الزوجة (الصيف). ثم صورة طيور (خريف) العمر المهاجرة إلى المجهول وارتباطها بحضور الشاعر أو الرائي مع مسحة الخريف التي تغلف صوته. ثم أخيرا، الثلج الذي يتردد كصدى (للشتاء) وللجارة.
هل أضع مقاربة موسيقية. فأجعل الطفل آلة "الفايولين الأول "، والزوجة "الفايولين الثاني"، والشاعر آلة "الجلو" (وهي أقرب إلى نفسي، والى الخريف من كل الآلات !)، والجارة آلة "الفيولا"؟ ولك أن تجعل آلة "الفيولا"، الجارة قبل آلة "الجلو"? الشاعر، لكي يبدو تسلسل طبقات الصوت أكثر منطقية. من الأرفع إلى الأكثر انخفاضا.
بهذا يكتمل نصاب الآلات للرباعية الوترية. فهل نبدأ تتبع اللحن عبر العزف ؟!
لكل رباعية وترية مقدمة قصيرة تمهد للحن الأول. وليكن هذا البيت الأول بمثابة هذا التمهيد:
"في ساحة الأندلس"
ثم يبدأ اللحن الأول:
"متى ترى يطفئ ضوء الفجر هذا الضوء"
أو ينتشر العصفور؟ "
حسرة منتصف الليل، حيث تضج ساحة الأندلس بأضواء النيون الاحتفالية معبأة بطاقة رمزية قاهرة وساحقة. تعلن عنها، مباشرة مكبرات الصوت واللافتات التي تخفق كالرايات:
الثورة، الحزب، الوطن، الأعداء، القائد... حسرة منتصف الليل الثورة لا أمل لها بضوء الفجر الذي يطفئ ضوء النيون هذا، ولا بأصوات العصافير التي تخمد صوت "مكبرات
الصوت " ?ذا.
ثم يدخل اللحن الثاني فجأة على ميثة متسارعة ,Allegro ?هيئة مشهد بصري لا ينطوي على ذات الأسى المتهادي في اللحن Andante :
"والراقصون، كالرحى
على مدار خوفهم من لحظة الصحو
تدور الكأس، والرأس، ولا يهملني النادل:
ربعا أخر من العرق؟
وامرأة تدس بين قدمي قدما ثالثة: " ترقص ؟ "
تم أستحيل في يديها كرة من الشبق
تطرحها أرضا فلا تبلغ مستقرها "
الآلات الأربع، بطبقاتها الأربع، تشترك بأداء اللحنين الأول والثاني (العرض ). ثم بمحاولة تطويرها (التفاعل لم. ونموهما من أجل إيصالهما الذروة ثم الخاتمة.
في محاولة (التفاعل ) والنمو يدخل المشهد مرحلة أكثر تعقيدا. هنا يستعين - "الثيمات المستعادة " : "لا ملجأ للراقص إلا في مدار خوفه من لحظة الصحو " و" تدور الكأس، والرأس ". وتنفرد آلة الجلو قليلا (الشاعر) بصوت متسائل تجيبها آلة الفايولين الثانية (الزوجة ) بصوت نبوي
متماسك:
"مكبرات الصوت في الجدار
واللافتات كتبت وعيدها الأقدار
فيها. فلا ملجأ للراقص إلا في مدار خوفه
من لحظة الصحو. تدور الكأس والرأس،
وفوقي تنحني الأشجار.
تودعني سر سقوط الورق الذابل
وسر هذا الوتر المشدود.
"متى تعودين إلي؟"
"إنني في أول المنفى الذي تختاره انتظرك "
تقول لي.
وسوف أغويك،
وقد تؤنسك الوحدة،
أو يصيبك الذعر إلى حين، فلا تيأس...
..............
".........
الحركة الأولى تصل مرحلتها الثالثة. إذن، مرحلة "التلخيص أو إعادة العرض ". ولابد من "خاتمة " ,Coda توقف الحركة المتسارعة إلى
الذروة.
الأشجار التي تنحني فوق الشاعر لتسره حول "سقوط الورق الذابل "، سرعان ما تتحول إلى ستار، والستار بدوره
يتحول إلى تلك الخاتمة التي تعلن "الكودا" الأخيرة :
".... ....
...... فوقي يرتمي الستار
يحجبني عن الوطن ".

(6)

"الرباعية الوترية " التي نشأت على يد "هايدن " كانت في أربع حركات عادة، تماما شأن "السيمفونية، والسوناتا" وغيرها من الفنون الموسيقية التي تأخذ "شكل السوناتا". ولكن الموسيقيين لم يلتزموا بذلك دائما. فهناك من وضعها في ثلاث أو خمس حركات أو أكثر.
القصيدة التي انتهينا من حركتها الأولى، وقد كانت متسارعة باعتدال بنيت في ثلاث حركات. والآن إلى الحركة الثانية. التي تبدو، وقد اعتمدت بحر (البسيط ) المتباطئ: (ستفعلن فاعلن ستفعلن فعلن ) أولا، والشكل الشعري التقليدي، ثانيا، أشبه بحركة Adagio. بطيئة واداجيو عادة ما تكون الحركة الثانية في "الرباعية الوترية ".
ولأن المقطع الثاني هذا وليد صوت الشاعر وحده، فلك أن تتخيل آلة "الجلو" تقود اللحن من أول الحركة إلى نهايتها، دون أن تتعطل المساهمة الفعالة للآلات الثلاث الأخرى في إغناء اللحن. خاصة في الأبيات(12) و
(13) وفي الأبيات الثلاثة الأخيرة، حيث يسهم صوت الطفل "سامر" بصورة واضحة. هنا يطو صوت "الفايولين" الأول داعيا، ملحا في الدعوة : "تعر أبي/تعر وادخل معي التيار". ولكن "الجلو" يجيبه باقتضاب اليائس :" قلت سدي".
وهذه الإجابة القاطعة هي "الخاتمة " Coda التي ينهي بها الجلو الحركة الثانية فلنبدأ مع الحركة من أولها:
"هذي المرايا تعيد الخيل ثانية
بيضاء للشمس".
مرايا المنفى هذه تعبير سلبي. لأنها لا تعكس صورة المنفى كعالم بكر مهيأ للاكتشاف والأوتاد. بل كملاذ وملجأ أو مهرب من كماشة الوطن الطاحنة النواجذ. أنها تعيد الروح على صورة خيول أعتقت بفعل القمع، بيضاء ثانية إلى الشمس. هنا تعطي آلة "الجلو" عصارة الأسى والبشرى حين يجتمعان معا ويتوحدان. ووحدة النقيض تعجز عنها الكلمات، ولا تمسك بها إلا الموسيقى:
... فيما ينحني أفق/ كالقوس عبر شبابيكي،
أري مدنا غربية لم أزرها جنة عرضت،
فيما يوسوس بين الشيطان، قافلة
تجوب فوق صحاري الملح.
أي دم على أعنتها !
والصمت !ماذا أرى ؟!
ريحا بغير صدى أوصوت!!
أي مدى لخفة الريح لم أرفع إليه يدا
كي استعيد ردائي
ان المقطع تزدحم به الجمل الاعتراضية، والتساؤلات التي تتضمن معنى استنكار يا حينا، أو اندهاشيا أحيانا أخرى. وهي جميعا محاولة لحرف اللحن عن سياقه. وتشويق استمع يدخل شبكة هذه التعاوضات اللحنية، للعودة إلى سياق اللحن الأول. يضاف إلى التداخل في طبقات الأصوات، وكأن آلات " الفايولين " و"الفيولا" هنا أكثر حيوية في المشاركة، نجد تلاحق الصور الحسية مع الصور التي تقارب التجريد: جنة مجهولة الهوية. قافلة عي قاعدة بيضاء من صحراء أهله. أعنتها ملحة بالدهاء. الصمت، في هيئة ريح لا صوت لها أو صدى، وكأنها في فيلم صامت. ولكنها من العنف بحيث يعجز الشاعر عن رفع يده لاسترداد ردائه. ثم فجأة تدخل آلة "الفايولين الأولى " (سامر)، لتعي اللحن قوة الفعل هذه المرة لا قوة الوصف. انه الربيع _ في أكثر نداءاته حرارة من أجل التحامنا بالطبيعة. وهنا يقضه العنصر الأول من عناصر "الرباعية " بصورة فعلية. عنصر الطفل _ الربيع _ الطبيعة:
" أنت خذ بيدي "، يقول سامر،
"أسرع ". لم أجد أحد
وراء كفيه غير الفجر، غير ندى.
غير اضطراب غصون الياسمين، ومن
خلالها سامر يومي : "تعرأبي،
تعر ودخل معي التيار "
قلت: "سيدي"

(7)

لو كنت أفكر، وأنا أكتب القصيدة، بفن الرباعية الوترية، محاولا أن أنسج على بنيتها، في حركاتها الأربع التقليدية، إذن لاعتبرت الآن إنني جزت واحدة من حركاتها عن قصد. وهي حركة "مينويت " أو "مينويتو" Minuetto حركة أصولها راقصة باعتدال وذات مسحة نبيلة. تجيء ثالثة عادة، لا في الرباعية الوترية وحدها، بل في الثنائية والثلاثية، وفي السوناتة والسيمفونية أيضا وهي، شأن صرامة "شكل السوناتا"، صارمة في صيغتها الثلاثية الأجزاء، والتي يرمز إليها - ( 1،ب، 1). الجزء الأول "المينويتو"، حيث يبدأ لحن يكرر، ثم ثان يكرر، ثم يتكرر بصورة تشف عن هيئة راقصين نبلاء رفيعي الرشاقة والحركة. الجزء الثاني "تريو"، حيث يباشر لحن جديد ذو قرابة بمقام اللحن السابق ويكرر،ولحن ثان ويكرر، ثم يعاد الأول. والجزء الثالث "الختام "، وهو مجرد تكرر للحن الأول.
ولقد استبدل "بيتهوفن" نظام هذه الحركة الشكلي بنظام آخر يتصف بالخفة والرشاقة والحيوية. وسماه "سكيرتسو".Scherzo ويعني الدعابة والمزاح. وكأنه استثقل التزمت في رشاقة الحركة. واحسب ان هذا السياق الرياضي هي هو الذي جنبني الخوض في الرقصة الرشيقة. والشعر لا يستقيم مع شكل رفيع النظام، خاصة اذا ما كان ظاهرا ومباشرا. بل هو يميل إلى رفعة نظام داخلي لا تألفه إلا الأحلام، أو تيارات اللاوعي أو الهارموني الذي تسهم فيه عشرات الأصوات.
وأحزان قصيدتي أكثر حياء من أن تكشف ملامحها الكابية لأضواء قاعات الرقص النبيلة. فلها حفلتها الراقصة التي فزعت إليها الآلات الوترية الأربع في الحركة الأولى. وهي حفلة، على ما تذكر، جحيمية الملامح، لا تليق إلا بعراقيتي.
والآن لنغفل "المينويتو" المنسية عن قصد، ونستمع إلى الحركة الثالثة والأخيرة.
هنا يظل صوت الشاعر "أو صوت الجلو" مهيمنا، بصورة ما. يبدأ لحنا لا هوية له. متسارعا بعض الشيء. وصفيا. ولا يبوح بذلك الشجن المألوف، لأنه لا يبوح عن نفسه بل يتحدث أو يروي عارضا انبساط الأفق البلبل :
يمتد بساط الأفق نديا مبتل الأطراف
و"سامر" وقد اتسخ الجسد العاري، طير مائي...
مع الطفل يدخل ددالفايولين الأول ويتهيأ "الفايولين الثاني" و "الفيولا" للمساهمة على هيئة دندنات حيية أول الأمر. إذ سيكون لهما دور أساسي بعد هذه التهيئة. في حين يغلظ صوت "الجلو" بشجي من جديد، حين يرجع صوت الشاعر إلى نفسه:
وأنا في الشرفة أرقب كالملسوع
الفيض الطائر من سمك الأنهار.
و"سامر " مكترثا بي " أدخل، أدخل"
ثم يعود إلى ما يدهشه في الدغل العائم…
دعوة الربيع والطبيعة على آلة "الفايولين الأولى " لا تبدو مجدية. وهي تؤلب الشاعر للدخول في طقسها وشعيرتها. فالشاعر، عميقا قد انحدر في "ذاكرته " حتى كأن طرق العود قد أغلقت عليه. عميقا، قد انحدر في بئر ذاته. حتى بدا صوت الزوجة في "الفايولين الثاني"، داعيا، غاريا، مشفقا، ومحذرا في آن :
والزوجة تهمس :"دع أحلامك وادخل دفء سريري.
ولأنك لم تغمض جفنا عما يتراءى لك
أخشى أن تختلط فراشة حبي بفراشة ذاكرتك!
و"الجلو " ما زال يهوم بين الآلات. ويتضح أكثر حين تصمت الزوجة، ويبدأ لكنه كمن يتحدث لنفسا لا لأحد. فصوت الشاعر هنا يستغرق كليا في العودة إلى الماضي. كفراشة يأسرها
النور، عابرا قارات وبحارا، ومخترقا عصورا وأزمنة :
لكن فراشة ذاكرتي يأسرها النور,
تستيقظ بين ركام الأيام الأولى،
وتعود إلى الماخور
لترى عشتار على الجداران تعريها
مروحة السقف، وتلقيها
فوق الجمهور
عصفور ميتا...
وهنا يخترق صوته، أو يتداخل معه، صوت الفايولين الثانية، حيث تهمس الزوجة من جديد:
-"دع أحلامك وادخل دفء سريري "
لكنه يواصل، كمن لا يصغي مهوما وسط تهويم الآلات الثلاث الأخرى.
في هذه الحركة الثالثة تشحب الأصوات، منفردة،بفعل تداخلها ببعضها بالرغم من أن صوت الشاعر الخريفي، صوت "الجلو" المحزون، هو الذي يقود، في تهياهه، اللحن إلى آخر المقطع إلا أن الأصوات الثلاثة، صوت الربيع والصيف والشتاء (صوت سامر والزوجة والجارة) تتزاحم ولكن على حساب صوت الشاعر، فهي تتجاذبه. كل يريد أن يجذبه لصالحه. الطفل إلى الطبيعة، والزوجة إلى صيف الجسد والرغائب، والجارة، التي تبدو أكثر الأصوات يقينية، إلى شتاء النهايات والثلج. ولكن صوت الشاعر يفرق مزيدا من الفرق بسحر الذاكرة. ولعلي أذكر أني توهمت المشهد في غرفة النوم. وقد أطل رأس الشاعر على حديقة البيت الأمامية، منحنيا، أسند كوعيه على قاعدة الشباك. متأملا بسماء الأفق المبتل الأطراف. وسامر الصغير أشبه بطير مائي حنته الطبيعة بأطيانها. إنه شاعر العزلة الذي يراقب، ولا يدخل يشارن، كالخائف. لأن صوت الطفل والزوجة، صوت الربيع والخصب، صوت آلتي "الفايولين"، ينتميان لحاضر هو حاضرهما، ولمستقبل هو مستقبلهما. وكلاهمسحوب،متان إليه بشيء. لأنه مسحوب، كليا، إلى ماضيه، هاهي اللعنة. والى ذاكر ته االزوجة،صدر رؤاه. ولذلك لا يجيب الزوجة، التي تخشي على فراشة حبها من فراشة ذاكر ته، إلا بهذا البيان البارد _ الحار في آن. بأن فراشة ذاكرته أسيرة إلى الأبد. أسيرة ماضيه الذي لا يرده إلا نورا. فهي تعود مندفعة إليه اندفاعه الكائن إلى عالمه السفلي. اندفاعة من "يستيقظ بين ركام الأيام الأولى "ليرى"عشتار" آلهة الخصب، ملصقة على جدار، تعريها مروحة سقنية وتلقيها في أحضان الجمهور العابث عصفورا لا حياة فيه.
ما أوحش الصورة التي تشكل رؤيا، لا استعادة. وما أشد مفارقة صوت الزوجة الذي يضفي على المشهد، بفعل اقتحامه الثقيل، مزيدا من
الايحاش!
ولكن صوت الشاعر، وقد استغرقه الماضي كليا، يواصل وصف مشهده الذي ينتمي لحاضر لا علاقة له بحاضر أحد سواه. حاضر ذاكرته الحية الكابية. حاضر موسم واحد هو الخريف. خريف عمره الذي بلغه بعد تجوال عابث. ما الصق حاسته هذه بمشهد الطيور المهاجرة التي كان يرده في طفولته في ساعات العصر المتأخرة. ولكنها، داخل حاسته، تطوي الأيام إلى ما تجهل. لأنها "طيور خريف عمره " وما الصق حاسته بمشهد أشجار شارعه الصغير، وهي تلقي أوراقها الذابلة، بفعل الريح. ولكنها، داخل حامته، "أوراق خريف العمر". ولأن حاسته يقينية، باردة لا يملك أن يقرن انتزاع الريح للأوراق إلا بالبهلول الذي ينتزع الشك ثيابه ويدفعه عاريا وسط تيار الأسرار.
ان رؤيته تصبح أكثر تعقيدا، ومعها لحن الآلات الذي يتكاثف. إذ فجأة يأخذ البرد بتلابيب المشهد، ويصفو صفو حقول الثلج الصامتة. حتى يبدو المشهد ميتافيزيقيا. لا طعم للحياة الدافئة فيه. تبدو "الجارة" فجأة، داخل الكادر الصامت، وهي تجمع ندى الأعشاب في قبعتها القش. ثم تقف مستقيمة، تثبت أقدامها لكي لا تسقط، وهي تلوح بيديها علها تمسك، أو تلمس أثرا لرفيف جناح خلفه طائر في الأفق، وغاب. ثم يسمع صوته هو، يشبه الهمس، يخاطب الجارة _ الشبح. بان الثلج لابد مقبل. وهو وحده يكفل حفظ آثار أقدامها، التي سيتبعها يوم يردها. وسرعان ما يتداخل التوقع بالفعل. إذ يحل الثلج ويتبين مواقع الأقدام.
لا شك أن الآلات الأربع قادرة على إيصال هذه الشحنات التي يعجز عنها الكلام. فالجارة قرينة الموت. لأنها قرينة الشتاء والثلج. والطائر قرين الغياب والتقاط ندى الأعشاب في قبعة قش قرين الظمأ الذي يستعصي على الإرواء. وهذه الصور البصرية لها بعدها غير البصري. على أنها، في تطور اللحن، ذررته التي تولدت عبر نسيج الرموز والأصوات والمشاهد. والذروة لابد أن تجد لها خاتمتها في Coda نهائية. في ضربة تعلنها الأوتار جميعا لكي تتوقف. وتجيء الكودا على هيئة مشهد بصري نهائي، حاسم، صامت لا مخرج منه: "ورأيت الثلج يواري بيت الجارة"...والآن لنتابع الحركة الثالثة كاملة، عبر لحن تقوده آلة الجلو حتى نهايته. على إلا نغفل المتداخلات التي تسهم فيها الآلات الثلاث الأخرى:

..وأنا،، بثياب البهلول
وقناع النتامل
أرخيت فمي المترهل
فوق ذراعي واستسلمت
لطيور خريف العمر إلى ما تجهل تطوي الأيام.
وكما ينتزع الشك ثياب البهلول ويلقيه إلى الأسرار
عريانا
تنتزع الريح من الصفصاف الباكي والدردار
في لوفيلد رود
أوراق خريف العمر.
ورأيت الجارة تجمح في قبعة القش ندى الأعشاب.
وتثبت موقع قدميها
لتلامس بيديها
أثرا لجناح رف وغاب.
-"الثلج سيأتي وأرى فوق الثلج مواقع قدميك بحديقة بيتي،
وسأتبعها. "
ورأيت مواقع قام في الظل.
وثيابا، وردا بلاستيكيا، خرزا وشرائط في الوحل.
ورأيت الثلج يواري بيت الجارة.......

***

رباعية لوفيلد رود

(1)

في ساحة الأندلس.
متى ترى يطفئ ضوء الفجر هذا الضوء،
أو ينتشر العصفور؟
والراقصون كالرحى
على مدار خوفهم من لحظة الصحو.
تدور الكأس والرأس. ولا يهملني النادل :
"أربعا أخر من العرق ؟"
وامرأة تدس بين قدمي قدما ثالثة: "ترقص ؟"
ثم أستحيل في يديها كرة من الشبق.
تطرحها أرضا فلا تبلغ مستقرها.
مكبرات الصوت في الجدار.
واللافتات كتبت وعيدها الأقدار
فيها. فلا ملجأ للراقص إلا في مدار خوفه
من لحظة الصحو. تدور الكأس والرأس،

وفوقي تنحني الأشجار
تودعني سر سقوط الورق الذابل.
وسر هذا الوتر المشدود.
-"متى تعودين إلي ؟"
- "إنني في أول المنفى الذي تختاره أنتظرك".
تقول لي
" وسوف أغويك،
وقد تؤنسك الوحدة،
أو يصيبك الذعر إلى حين فلا تيأس..."
........
...... فوقي يرتمي الستار
يحجبني عن الوطن.

(2)

هذي المرايا تعيد الخيل ثانية
بيضاء للشمس. فيما ينحني أفق
كالقوس عبر شبابيكي، أرى مدنا
غريبة لم أزرها. جنة عرضت
فيما يوسوس بي الشيطان. قافلة
تجوب فوق صحارى الملح. أي دم
على أعنتها !! والصمت.
ماذا أرى؟
ريحا بغير صدى أو صوت !! أي مدى
لخفة الريح لم أرفع إليه يدا
كي أستعيد ردائي !
-" أنت خذ بيدي". يقول سامر
"أسرع". لم أجد أحدا
وراء كفيه غير الفجر، غير ندى
غير اضطراب غصون الياسمين ومن
خلالها سامر يومي: "تعر أبي.
تعر وأدخل معي التيار".
قلت سدى.

(3)

يمتد بساط الأفق نديا مبتل الأطراف.
وسامر، وقد اتسخ الجسد العاري، طير مائي.
وأنا في العثرة أرقب كالملسوع
الفيض الطائر من سمك الأنهار.
وفراشا مثل شرائط أعياد النوروز.
وسامر، مكترثا بي، " أدخل. أدخل ".
ثم يعود إلى ما يدهشه في الدغل العائم.
والزوجة تهمس : "دع أحلامك وادخل دفء سريري.
ولأنك لم تغمض جفنا عما يتراءى لك
أخشى أن تختلط فراشة حبي بفراشة ذاكرتك."
لكن فراشة ذاكرتي يأسرها النور.
تستيقظ بين ركام الأيام الأولى.
وتعود إلى الماخور
لترى عشتار على الجدران تعريها
مروحة السقف وتلقيها
فوق الجمهور
عصفورا ميتا.
-"دع أحلامك وادخل دفء سريري."
وأنا بثياب البهلول،
وقناع المتأمل،
أرخيت فمي المترهل
فوق ذراعي واستسلمت :
لطيور خريف العمر إلى ما تجهل تطوي الأيام.
وكما ينتزع الشك ثياب البهلول ويلقيه إلى الأسرار
عريانا،
تنتزع الريح من الصفصاف الباكي والدردار
في لوفيلد رود
أوراق خريف العمر.
ورأيت الجارة تجمع في قبعة القش ندى الأعشاب.
وتثبت موقع قدميها
لتلامس بيديها
أثرا لجناح رف وغاب.
- " الثلج سيأتي وأرى فوق الثلج مواقع قدميك
بحديقة بيتي،
وسأتبعها."
ورأيت مواقع قدم في الظل.
وثيابا، وردا بلاستيكيا، خرزا وشرائط في الوحل.
ورأيت الثلج يواري بيت الجارة.........

عن مجلة (نزوى)

أقرأ أيضاً: