شريفة خلفان اليحيائي
عمان

1- مقدمة تمهيدية

لا يخفى على القارئ العربي و المطّلع على الحركة الشعرية أو الكتابة الحداثية في الوطن العربي منذ فترة أواخر الأربعينات و الخمسينات و الستينات في كل من العراق ولبنان و سورية و مصر، أن هذه الحركة قد تمخضت عن سلسلة من الظروف السياسية والاجتماعية القاسية التي عاشها العالم العربي آنذاك، مما أدى إلى الرغبة في كسر حاجز الصمت و الجمود الناتج من الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي للطبقات العامة من الناس و بالتالي لرجال الأدب و الشعر على حد سواء. و قد تمثلت هذه الرغبة في الثورة العارمة على القديم في الشكل والمضمون و الرغبة في تجاوز هذا القديم البالي بشيء أكثر حداثة و مجاراة للعصر ومتطلباته، و كانت الثورة الشعرية هي الصوت الأقوى و القادر على التحول الثورة ضد القوانين المفروضة من قبل التقليديين و أصحاب المدرسة المحافظة منذ الخليل و أوزانه العروضية التي نقم عليها الحداثيون و حاولوا تحطيمها تدريجياً بدأً من مدرسة التفعيلة (مدرسة العراق) مروراً بمدرسة القصيدة الحرة أو كما يحلوا للبعض تسميتها بقصيدة النثر(المدرسة السورية/ اللبنانية) و الناتجة عن خطأ معرفي وإدراكي وقع فيه أولاً أصحاب مدرسة التفعيلة حين أطلقوا عليها قصيدة الشعر الحر اعتباطاً، ثم أدونيس و الحاج في إطلاقهم مصطلح قصيدة النثر، و في ذلك يشير فاضل العزاوي:
" من خطأ معرفي و ثقافي ارتكبته الشاعرة العراقية نازك الملائكة في العام 1947وخطأ أخر وقع فيه الشاعر السوري أدونيس في العام 1960 اقتبست حركة الحداثة الشعرية العربية معظم أفكارها و مفاهيمها المرتبكة عن نفسها، فاقدة القدرة حتى على تميز معنى المصطلح الذي يرتبط بها.فعندما نظمت نازك الملائكة قصائدها القائمة على تعدد التفعيلة بين بيت و أخر، اعتقدت أنها تعيد بذلك في اللغة العربية إنتاج قصيدة الشعر الحر المعروفة في اللغات الأوروبية، في حين أن ما فعلته و فعله آخرون قبلها و بعدها هو أنها انتقلت من شكل خاص للقصيدة العربية التقليدية (الشكل العمودي) إلى شكل شعري تقليدي في اللغات الأوروبية، وجد دائماً ضمن ارتباطه بالوزن و القافية. ..فما دام الشعر الحر يعني القصيدة الموزونة (ضمن نظام حر للتفعيلة) فلا بد أن تكون القصيدة المتحررة من الوزن والقافية هي "قصيدة النثر" التي نقل مصطلحها من اللغة الفرنسية، في حين أن قصيدة النثر تعني شيئاً آخر غير التحرر من الوزن و القافية و تكاد تكون غائبة كاتجاه ضمن الحركة الشعرية العربية الجديدة. 1

ما يتبين من ذلك أن مصطلح قصيدة النثر في الشعرية العربية يقصد به القصيدة الحرة أو الكتابة خارج الوزن في حين إن ما يسمى بقصيدة النثر في الحقيقة هو شكل مغاير تماماً لما في شكل الكتابة الشعرية الحديثة لولا أن أدونيس و أنسي الحاج نقلا المصطلح الفرنسي بترجمته الحرفية (Le Prose en Poem) إلى العربية (قصيدة نثر) نتيجة اطلاعهما على كتاب سوزان برنارد (1959) قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا الحاضر . 2
على كل حال، لا أحد ينكر دور المترجم في إصراره على تحرير اللغة الشعرية وإعطائها أكثر تنوعاً و سحراً و هذا ما فعله أدونيس و الحاج إذ ترجموا المصطلح Le Poem en Prose) إلى المصطلح العربي (قصيدة نثر) مع عدم مراعاة صلاحية المصطلح وملاءمته للكتابة الشعرية الأجد. و تدعيماً للدور الذي قام به أصحاب المدرستين الشعريتين، كانت مجلة الآداب و مجلة شعر هما خير من أسهم في توطيد تلك الحركتين الوليدتين بغض النظر عن الاستخدام الخاطئ للمصطلحات.
كانت هذه المقدمة التمهيدية هي خطوة أولى في هذا المقال في محاولة لتتبع المبررات التي تكمن وراء غياب النقد و التنظير للقصيدة الجديدة في منطقة الخليج مقارنة بالدراسات التاريخية و النظرية التي ترصد الحركة الشعرية الجديدة في الوطن العربي . إضافة إلى أن هذه الدراسة تهدف إلى رصد الإرهاصة الأولى للكتابة الشعرية و التي شكلت ظاهرة الكتابة الشعرية الأجد لدى شعراء الخليج في فترة زمنية محصورة بين منتصف السبعينات و أوائل الثمانينات. و هي المرحلة التي تعد بداية تكوين الحداثة الشعرية للنص الأجدّ في المنطقة. وبذلك تكون نقطة التركيز في هذا المقال على كشف جوانب الإرهاصات الأولى أو ما يعرف بجيل الريادة للقصيدة الحرة في منطقة الخليج في الإطار الزمني المحدد. و قد كان اختياري للبدايات الأولى للقصيدة الحرة في منطقة الخليج راجعاً للأسباب التالية:

أولاً: القلة أو الندرة في المواد العلمية و الدراسات التنظيرية و التاريخية التي تركز على دراسة التطورات الزمنية للكتابة الشعرية في منطقة الخليج، مقارنة بالدراسات التي تتناول ذات الموضوع في مشرق الوطن العربي و مغربه كالعراق ولبنان و سورية ومصر والمغرب، مع استثناء بعض الدراسات النقدية الحديثة و التي تركز على مناطق بعينها قد تكون هي منطقة الباحث و الناقد كالدراسات التالية: دراسات الدكتور علوي الهاشمي حول الحداثة الشعرية في البحرين و شعراء البحرين المعاصرون، دراسات الدكتور سعد البازعي (ثقافة الصحراء) و الدكتور شاكر النابلسي (نبت الصمت) حول التجربة الشعرية الأجد في السعودية، دراسات الدكتور محمد عبد الرحيم كافود حول الحركة الشعرية في قطر، و هي دراسات على سبيل المثال لا الحصر حتى لا يؤخذ عليّ تجاهل بعض المراجع و التحيز للأخرى و فوق ذلك لا يغيب عن الأذهان الدراسات و المقالات و المقابلات مع شعراء منطقة الخليج و تصريحاتهم حول تجاربهم في الكتابة الشعرية الحديثة التي ينتمون إليها، كالدراسة التي أعدها الشاعر البحريني قاسم حداد (ليس بهذا الشكل و لا بشكل آخر-1997) و التحقيق المنشور في مجلة فراديس عن قصيدة النثر العدد 6/7 (1993)،دراسة الشاعرة الإماراتية ظبية خميس حول الذات الأنثوية لدى شاعرات الخليج - 1997 ، دراسة الشاعرة السعودية فوزية أبو خالد في مقالها حول الحضور المدهش في التجربة الشعرية الحديثة في السعودية و المنشورة في مجلة الكاتبة العدد التاسع 1994، اللقاء الذي أجري مع الشاعر العماني سيف الرحبي في مجلة المدى حول التجربة الشعرية في عمان العدد الخامس عشر/ السنة الخامسة 1997، إضافة إلى سلسلة من المقالات و التحقيقات التي نشرت في الصحف الخليجية و العربية.

ثانياً: إضافة إلى الندرة و القلة في المراجع التي تتحدث عن التجربة الحداثة الشعرية في منطقة الخليج، لا يوجد بين جملة هذه المراجع دراسة شاملة تتبع أو تؤرخ لظاهرة الكتابة خارج الوزن لمناطق الخليج كافة خلال فترة زمنية بعينها و إنما جملة الدراسات السابقة كما أشرت هي اجتهادات شخصية في إطار البيئة المحلية للناقد أو الباحث و التي هي في حدود معرفته دون توسع إلى معرفة أكثر شمولية و عمق تاريخي.

ثالثاً: لم تحظ القصيدة الحرة أو الكتابة خارج الوزن على اعتبار أنها الكتابة الأحدث بالاهتمام الذي حظيت به الأنواع الأخرى من الكتابة الشعرية كالقصيدة العمودية القائمة على نظام الشطرين و الأوزان الخليلية و اللغة الكلاسيكية و كذلك قصيدة التفعيلة القائمة على وحدة التفعيلة عوضاً عن وحدة البيت أو الشطرين. لعل ذلك يرجع أن حداثة و جدة القصيدة الحرة من ناحية النشأة و التكوين و التي يصل مداها الزمني إلى العشرين سنة إذا ما أعتبر الظهور الحقيقي بدأ من أوائل الثمانينات و ذلك ما يفرق عن النوعين الآخرين.

رابعاً: إن التقارب الثقافي و الحضاري الذي شهدته بلاد الشام (سورية/ لبنان/ العراق/فلسطين) بصفة خاصة و مصر و بلاد المغرب العربي بصفة عامة من تداخل عميق مع الحضارات الغربية الأوروبية منذ القرن التاسع عشر الميلادي و نشوء المدارس التبشيرية والمطابع، أسهم في تكوين صورة واضحة في التداخل الثقافي و إبراز المؤثرات الأجنبية في تلك الثقافة ،على خلاف دول الخليج العربي التي بقيت في عزلة ثقافية و سياسية واجتماعية نتيجة الظروف الجغرافية و الاقتصادية الصعبة التي سبقت ظهور النفط في الثلاثينيات من القرن العشرين و بالتالي كسرت الحاجز القوي الذي أسهم في عزلها ، يضاف إلى العزلة الجغرافية والاقتصادية عزلة أخرى سياسية.

يتبين مما سبق أن الأهداف و الغايات التي تسعى إليها هذه الدراسة هي وضع تصور عام لمفهوم القصيدة الحرة و الذي ينبغي الأخذ به في مقابل مصطلح قصيدة النثر السائد في منطقة الخليج و في العالم العربي، هذا التصور يشمل التركيز على وجهات نظر شعراء منطقة الخليج أنفسهم و النقاد الذين يهتمون بهذا النوع من الكتابة الشعرية في الفترة الزمنية التي بدأت فيها إرهاصات القصيدة الحرة في الظهور في المنطقة و الشعراء الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية المبادرة و الريادة و تحمّل لعنات الجيل التقليدي الذي لا يزال يركن إلى القصيدة العمودية و لم يكد يتقبل بعد ظهور قصيدة التفعيلة حتى برزت له ما يعد أكثر تمرداً و رفضاً لكل من العمودية و التفعيلة على حد سواء إلا و هي القصيدة الحرة المتحررة كلية من الوزن و الإيقاع الشكلي فهي كثيراً ما تعرف ب (الكتابة خارج الوزن).

وعلى أية حال، فأن تحديد أهم النقاط التي سيتم التركيز عليها في هذه الدراسة يعد إيجازاً لخطوط المقال، و الذي يشمل وضع إطاراً تنظيرياً للقصيدة الحرة منطلقاً من تعريف مصطلح القصيدة الحرة و جوانب الرفض التي قوبل بها مصطلح قصيدة النثر باعتبارها الحركة الأجد التي وصلت إليها الشعرية العربية و خاتمة السلم اللغوي و الشعري لكونها حركة تجديدية في الشكل و المضمون و ليس لصالح المضمون على الشكل كما أدعى البعض على اعتبار أن قصيدة التفعيلة هي تجديد الشكل دون المضمون و بالتالي فإن القصيدة الحرة هي الجانب المقابل في تجديد المضمون الشعري دون الشكل. و يكاد ينحصر الإطار التنظيري في التركيز على فترتين زمنيتين فقط - كما سبق و أشرت- ألا و هما فترة منتصف السبعينات و أوائل الثمانينات من القرن العشرين لكونهما يشكلان الإرهاصة الأولى لنشوء القصيدة الحرة في المنطقة.

2- أسباب غياب الإطار النظري

تكاد منطقة الخليج العربي أن تكون المنطقة المعزولة عن الاهتمام البحثي والدراسي، إذ أنها لم تحظ من قبل النقاد و الشعراء بالدراسة النظرية و التاريخية التي تؤرخ لنشأة الكتابة الحديثة شأنها شأن بقية العالم العربي الذي حظي بالاهتمام الكبير في التنظير و التأريخ على حد سواء. و السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الأسباب و الظروف التي كانت وراء إهمال النقاد و الباحثين و الشعراء أنفسهم لقضية التنظير و التأريخ للشعرية الحديثة في منطقة الخليج والتي جعلتها معزولة عن بقية الدول العربية التي حظيت باهتمام النقاد و الباحثين العرب والمستشرقين على حد سواء؟
لعله من الإنصاف المقبول في الإجابة على السؤال محاولة إيجاد نوعاً من التبريرات التي قد تعين في معرفة الأسباب الكامنة وراء تجاهل النقاد و الباحثين في الأدب العربي لمنطقة الخليج. يمكن إيجاز جملة التبريرات في النقاط التالية:

أولاً: بالمقارنة مع الظروف التي صاحبت ظهور الحركة الشعرية الحديثة في كل من العراق، مصر، سورية و لبنان و الكامنة في (قصيدة التفعيلة/ القصيدة الحرة) في فترة زمنية حرجة هي فترة أواخر الأربعينات /الخمسينات/ الستينات من القرن العشرين و هي فترة تولدت جميعها نتيجة ظروف سياسية و اجتماعية تمثلت في الغزو و الاستعمار الأجنبي والذي أدى إلى التداخل الثقافي لكل من الثقافة العربية و الغربية و الاقتراب الشديد من الآداب الأوروبية سواء بالإطلاع على النص الأصلي في لغته لمن ملك اللغة أو بالترجمة إلى العربية. إضافة إلى ما أشرت إليه سابقاً من عمق الجذور التاريخية و الثقافية العميقة التي شهدتها بلاد الشام من القرن التاسع عشر و الذي تمثل في دخول النهضة الأدبية و الترجمة النشطة و نشوء المدارس و الإرساليات التبشيرية في لبنان و سورية- حتى أن بعض مؤرخي الأدب يثبتون أن بلاد الشام قد شهدت عصر النهضة و الإحياء في الفنون الأدبية قبل مصر و نشوء الترجمة و تأسيس المطابع بعد الحملة الفرنسية (1798-1801) في عهد محمد علي (1805-1849) .4

هذه المقارنة قد تقودنا إلى المغالاة إذا ما وضعنا منطقة الخليج في كفة الميزان الموازية لكفة بلاد الشام. إذ أنه من الصعب إجراء المقارنة في هذه الحالة وذلك راجعاً إلى منطقة الخليج العربي باستثناء العراق لم تمر نفس الظروف السياسية و الاجتماعية لا كمياً و لا نوعياً خاصة أن فترة الخمسينات و الستينات في بلدان الخليج عدت بمثابة فترة الطفرة الاقتصادية و التي بدأت بوادرها وإرهاصاتها في الثلاثينات من القرن العشرين نتيجة لاكتشاف الذهب الأسود (النفط) و التي كنتيجة طبيعية بعد مرحلة الفقر و شظف العيش أن تشغل الناس في المنطقة عن الرقي الثقافي و تلهيهم في البناء والتعمير و الغنى المفرط والتي شكلت بعد ذلك ما يعرف بالطفرة المادية و التغير الاجتماعي المفاجئ من الفقر إلى الغنى الفاحش. 5

ثانياً: التدرج الطبيعي الذي شهده الشعر العربي الحديث في الوطن العربي في مروره بالتصنيفات الشعرية: (أ)- القصيدة العمودية التقليدية في الاعتماد على العمود التقليدي في الوزن و القافية. (ب)- قصيدة التفعيلة و هي عبارة عن تغير شكلي في استخدام العروض الخليلي في استبدال وحدة التفعيلة مكان وحدة الشطرين. (ج)-القصيدة الحرة بمعنى التحرر الكامل والمطلق من النظام التقليدي للأوزان و القوافي و كذلك التحرر من وحدة التفعيلة.هذه التصنيفات الشعرية تولدت نتيجة التغير الحضاري والتدرج الثقافي الذي صاحبه تدرج فكري ووعي حضاري بضرورة تجاوز القديم لا لرتابة موسيقاه و جزالة لغته بل للرغبة في تشكيل موسيقى و لغة شعرية تلائم لغة العصر المعاش من حيث أن لكل عصر لغته وأدواته و أشكاله المعبرة عنه. و هي في المقابل ظاهرة صحية شهدتها الآداب العالمية كافة و ليس الأدب العربي فحسب. و الشعر العربي الحديث ليس الوحيد بين الآداب العالمية الذي يشهد طفرات و قفزات يستاء لها جيل المحافظين من الشعراء و النقاد و إنما هذه القفزات هي مطلب حياتي و ضروري في الحياة البشرية كافة.

وهنا قد يتساءل شاعر الكتابة الحرة أو ناقد حداثي من الذين جوبهوا باللعنات من قبل شعراء العمود القديم أو العمود الجديد: لماذا لم تقبل الأذن العربية الكلاسيكية القصيدة الحرة و اتهمت بالتمرد على العمود الشعري القديم الذي يشغل لديهم حيز القدسية في حين أنه لا يعد على كونه عمل قعّد لموسيقية القصيدة القديمة تقعيداً شكلياً و رسم حدوده الخارجية في تحديد البحور والتفاعيل العروضية، إضافة إلى اقتناعهم الحاسم بأن هذا النوع من الكتابة الشعرية لا يمت بصلة إلى التراث الشعري و النثري العربيين و إنما هو جنس غربي عن الثقافي العربية الأصيلة فهو دخيل عليهم. في المقابل تراهم يشيدون بأنواع أدبية ليست من التراث العربي في شئ كالمسرح و صالات الأوبرا و الأفلام السينمائية، فأين العدالة في ذلك؟؟

3- غياب حلقة الوصل في التجربة الشعرية الحديثة في الخليج

إن ظاهرة التدرج الطبيعي و الصحي للأصناف الشعرية في القصيدة العربية من العمودية إلى التفعيلة إلى القصيدة الحرة لم تحدث بالتساوي في منطقة الخليج. بمعنى أن الحداثة الشعرية في منطقة الخليج العربي لم تتدرج في نفس الإطار الطبيعي للتدرج المرحلي من العمودية /التفعيلة/ القصيدة الحرة، ذلك أن الشعرية العربية في الخليج ينظر إليها بوجود حلقة مفقودة أو بغياب الجسر الطبيعي الذي من المفترض أن يؤدي الدور أو الجسر الواصل بين العمودية والقصيدة الحرة. تكمن تلك الحلقة المفقودة في غياب ظاهرة قصيدة التفعيلة، وهو غياب قد حدث و تم تجاوزه إلى القصيدة الحرة و لا سبيل الآن لتفاديه. و بذلك فإن الشعرية الحديثة في المنطقة تعاني من القفزة المفاجئة و التحول الطارئ من العمودية المتطرفة في استخدام الأوزان و القوافي و اللغة المليئة بالصور و الأخيلة إلي القصيدة الحرة المتطرفة في التمرد و الرفض للأوزان و القوافي و الاعتماد الكلي على الصور الشعرية في بناء هيكل القصيدة الفني و الذي لولاه لاستفادت القصيدة الحرة من النضج الفني لقصيدة التفعيلة في توظيف اللغة و الصور و الأخيلة في مرحلة لاحقة لها. و لكن ذلك الغياب لقصيدة التفعيلة لا يعني أن القصيدة الحرة في منطقة الخليج تعاني من قصور فني في لغة و أخيلة التجربة الأجد بل أن لكل تجربة عوامل تسهم في اغنائها بعناصر النضج الذي يجعل منها تجربة ناضجة في ذاتها. فوق ذلك ليس من العدل أن يعمم غياب قصيدة التفعيلة باعتبارها الجسر الواصل أو المؤدي إلى القصيدة الحرة على مناطق الخليج كافة وإنما بنسب متفاوتة إذ أن المقصود بالغياب هو البروز المفاجئ و الانطفاء المفاجئ تبعاً لقانون الظهور السريع و الانطفاء السريع و عدم القدرة على البقاء و تشكيل ما يعرف بالظاهرة الشعرية الناضجة إذ أنها تنسحب قبل التشكل النهائي و بذلك تعلن موتها قبل اكتمال الخطوط النهائية للظاهرة.

إذ على سبيل المثال لا الحصر، شهدت الحركة الشعرية الجديدة في عمان غياب قصيدة التفعيلة كحلقة واصلة بين القصيدة العمودية و القصيدة الحرة و هذا ما شكّل نوعاً من الخلخلة في قاعدة القصيدة الحرة نظراً لغياب التسلسل و التدرج الطبيعي في الحركة الشعرية العربية. يؤكد الشاعر العماني محمد الحارثي (1962) على الغياب الحقيقي لقصيدة التفعيلة في عمان:

"المتتبع لمسار تطور تجربة الشعر العربي المعاصر لا بد و أن يلاحظ استمراراً لم ينقطع لأشكال الشعر الثلاثة، كما هو الحال في كثير من البلدان العربية، مع طغيان لشكل على آخر، أو اختفاء تدريجي لشكل محدد ( العمود في أغلب الأحيان) و استمرار الصراع على الساحة الشعرية بين الشكلين الآخرين (التفعيلة وقصيدة النثر). لكن المراقب و المتفحص لتجربة الشعر العماني بمراحله الثلاث لابد و أن يلاحظ اختلال تلك القاعدة العامة، و أن يصدم لوجود فجوة أو حلقة ناقصة في مسار التطور و التنامي المعهود و المألوف. فبين تجربة الشعر العمودي التي ما زالت محافظة على قوة حضورها لوجود جمهور كبير لا يعترف لسواها بسحر الشاعر، و لمحافظتها على تقاليد الشعر الكلاسيكي التي اندثرت في عدة بلدان معماراً و أسلوباً ممثلين في أبرز نماذجها: عبد الله بن علي الخليليّ، شاعر الشرق أبو سرور، هلال بن سالم السيابي … الخ، و بين تجربة قصيدة النثر التي حققت مكانة و أهمية بارزتين في وعي الكتابة الجديدة لخصوصيتها التي أكسبتها التفاتاً نقدياُ غير مسبوق بالنسبة لتجربة غضة، بمقياس الزمن في بيئة أبعد ما تكون عن الترحيب بمغامرتها.. بين التجربتين اللتين، و لا شك تمثلان نقيضاُ صارخاُ في الرؤية و الأسلوب و المرجعية نجد أن قصيدة التفعيلة المؤهلة لأخذ مكان الصدارة قد تراجعت عن الطموح الذي كان عليها بلوغ ذراه". 6

و يؤكد على غياب الوسط أو التدرج الشعري في غالبية بلدان الخليج مع المقارنة ببلدان عربية كالعراق و مصر و سورية بين الشعر الكلاسيكي و قصيدة النثر مما أدي إلى خلق حالة من الانفصال غير صحية في الشعر الجديد في المنطقة، كذلك الشاعر العماني سيف الرحبي (1956):

"هناك قفزة و تطور في سياق مغاير ليس كالسياق الموجود في العراق، إذ بعد ركود النمط الكلاسيكي ولدت قصيدة من نمط أخر رأيناها في قصيدة السياب والملائكة و البياتي و كل هذه الكوكبة التي أسست الحداثة العربية اللاحقة. كانت هناك محاولات في أكثر من مكان من بلدان الخليج لكتابة قصيدة التفعيلة على نمط الموجة الانتقالية، خاصة في البحرين و بعض مناطق عمان، لكن السمة الغالبة، الانتقال إلى قصيدة النثر وهذا في رأي إشكالية عملية إنجاز الأساليب الشعرية على صعيد الحداثة. لكن لو كان هناك إرث كتابي يتعلق بشعر التفعيلة أو هذا الجسر الذي يمتد من الكلاسيكي إلى النثر مثلاً ستكون المسألة أكثر ثراء." 7

ثالثاً: لعل من المبررات التي قد تفسر كذلك إغفال النقاد و الباحثين دراسة التجربة الشعرية الحديثة لمنطقة الخليج خاصة تجربة القصيدة الحرة أو على حسب ما يطلقون عليها تجربة قصيدة النثر، أن تجربة القصيدة الحرة في منطقة الخليج لم تصل بعد إلى ما يكمن الاعتراف به كتجربة شعرية ناضجة تستحق الدراسة و التنظير ، إضافة إلى قلة النصوص الشعرية التي يمكن الاستناد عليها في الدراسة، يقول الشاعر و الناقد البحريني علوي الهاشمي(1946) في سياق دراسته حول تجربة قصيدة النثر في البحرين إن جدة قصيدة النثر كنص إبداعي وحداثة عهدنا به باعتباره النص الأجد هي إحدى الصعوبات التي تواجه الباحث، إضافة إلى قوله:

"برزت أمامنا الصعوبة الأخرى الناشئة عن طبيعة الموضوع المدروس، نظراً لمساحته الضيقة و قلة النصوص التي تمثل مرحلة "النص الأجد" تمثيلاً متبلوراُ وناضجاُ من الناحيتين الفنية و الفكرية، مما يضيف إلى الصعوبة المنهجية الخاصة بمسار البحث صعوبة مضاعفة تجعل من دراسة الإيقاع التكويني (الداخلي) بصفة عامة، و قصيدة النثر بصفة خاصة، مرحلة شائكة في نطاق هذا البحث" 8
فالقصيدة الحرة في منطقة الخليج النثر- على حد قول النقاد- لم تعد في طور التكوّن و النشأة إذا جزمنا بأن عمرها الافتراضي خمس و عشرون سنة (73/1974- 1998) بدأً من أول مجموعة شعرية صدرت معلنة ميلاد القصيدة الحرة في منطقة الخليج و التي كانت للشاعرة السعودية فوزية أبو خالد (1956) و التي صدرت عام 1973/1974 بعنوان( إلى متى يختطفونك ليلة العرس) و حتى اليوم.

ولكن يمكن القول بأن هذا المبرر قد لا يكون كافياً كحجة على إغفال النقاد والباحثين لدراسة هذا النوع الجديد من الكتابة الشعرية في منطقة الخليج. و الرد على هذا التبرير قد يلغي الحجة، إذ أن هذه الفترة الزمنية كفيلة بتشكيل ظاهرة شعرية ناضجة، فقصيدة التفعيلة أول ما ظهرت كانت بنشر كل من قصيدتي نازك الملائكة (الكوليرا) و قصيدة بدر شاكر السياب (هل كان حباً) عام 1947 و بعد هذا التاريخ بخمسة عشر عاماً بالتحديد كان الكتاب التنظيري الذي ينظر و يؤرخ لقصيدة التفعيلة قد صدر لنازك الملائكة عام 1962 في بيروت.

فهل تفاوت الأسباب و الظروف السياسية و الاجتماعية التي ساهمت في إنتاج الحركة الشعرية الحديثة في العالم العربي بشكل متكامل هيأت النقاد والدارسين إلى الاهتمام بها وفي الجانب المقابل أدت إلى إغفال ما سواها في منطقة الخليج العربي. أو أن غياب الحلقة الواصلة أو ما يسمى بالجسر الطبيعي الممتد بين القصيدة العمودية و القصيدة الحرة كطرفي نقيض و عدم اعتبار قصيدة التفعيلة تجربة ناضجة فنياً أنسحب على القصيدة الحرة كذلك و أدي إلى التجاهل من قبل المنظرين؟؟. تساؤلات كثيرة ما تزال تبحث عن منفذ لها في هذه الدراسة.

4 -القصيدة الحرة في منطقة الخليج

عند الحديث عن القصيدة الحرة في منطقة الخليج، لابد من استحضار الفكرة القائلة بأن نشوء القصيدة الحرة أو ما يسمى بالكتابة خارج الوزن شكل قفزة أو طفرة ثقافية مغايرة لما حدث في بلدان العالم العربي في التسلسل الطبيعي من الكتابة العمودية إلى التفعيلة إلى القصيدة النثر، في حين أن منطقة الخليج تجاوزت ذلك التسلسل الطبيعي لطبيعة الأوضاع الاجتماعية و السياسية السائدة في فترة ما قبل وأثناء السبعينات و الثمانينات لتصل في النهاية من العمودية إلي القصيدة الحرة. أما ما يتعلق بقصيدة التفعيلة فتشكل في غالبية مناطق حلقة مفقودة باستثناء البحرين والسعودية للوضع الثقافي المتقدم فيهما.

من جانب آخر، يقصد برواد القصيدة الحرة أو جيل الريادة في منطقة الخليج هم الشعراء الذين مارسوا الكتابة الشعرية الجديدة في فترة منتصف السبعينات و أوائل الثمانينات من القرن العشرين بعد محاولة الخروج من رداء قصيدة العمود و التفعيلة -التي لم تشكل تجربة فنية ناضجة- بشكلها الفني و المضمون الشعري كالذي ساد في الوطن العربي.

وفي دراسة قامت بها الشاعرة السعودية فوزية أبو خالد حول تجربة الكتابة الشعرية الجديدة في السعودية (الحضور المدهش)، أشارت إلى إغفال النقاد والباحثين السعوديين إلى الدور الريادي للشاعرة في كتابة القصيدة الحرة منذ منتصف السبعينات، إذ تقول رداً على كتاب (ثقافة الصحراء) للناقد سعد البازعي:

"ويرى الناقد سعد البازعي في كتابه (ثقافة الصحراء)، أن القصيدة الحديثة أثبتت حضوراً مدهشاً استطاع أن يتجاوز- كما يقول- كل التحفظات و الهجمات التي واجهتها و لا تزال تواجهها حركة الشعر الحديث على الساحة المحلية.. و الناقد في هذا الكتاب لا يكتفي بتحليل علاقة القصيدة بوعائها الواقعي محلياً و عربياُ‎ً و لكنه يذهب إلى أبعد من ذلك في تقصي القصيدة الحديثة في جذرها التراثي و آفاقها الفنية الجديدة. كما يحاول أن يؤرخ لبداية حركة الشعر الحديث (محلياً) و في سبيل ذلك يتخذ انطلاقة إجرائية ذكية تربط بين بدء الحركة و بين ظهور أول مجموعات شعرية كتبت على نمط شعر التفعيلة. تلك المجموعة (رسوم على الحائط- 1977) للشاعر سعد الحميدين و مجموعة أحمد الصالح (مسافر) (عندما سقط العراف- 1978). و مع إننا نتفق مع الناقد أن يكون ذلك التأريخ ممكن، و قد يكون صحيحاً على مستوى التأريخ لقصيدة التفعيلة بالذات في الشعر الحديث على الساحة المحلية.. إلا أنه ربما يجدر بنا أن نلاحظ (المفارقة) و هي أن قصيدة النثر سبقت ذلك التاريخ على الأقل في تاريخ الإصدار كمجموعة أولى و كان ذلك عام (74/1975) بديوان (إلى متى يختطفونك ليلة العرس) لكاتبة هذه السطور. مع أننا هنا لا نلمح و لا نحمل عدم ملاحظة الناقد فوراق التوقيت الطفيفة بين أول إصدار لقصيدة النثر و بين أول إصدارات قصيدة التفعيلة بعدها بقليل، على أنها موقف يتبناه الناقد تجاه قصيدة النثر ما لم يعلن ذلك" 9

معنى ذلك أن الشاعرة فوزية أبو خالد كانت أول من أصدرت ديوان في القصيدة الحرة في منتصف السبعينات على مستوى السعودية و مناطق الخليج العربي على الرغم من تجاهل النقاد لها محلياً و عربياً، و في الوقت الذي يشير النقاد إليها و إلى المجموعات الشعرية، فإن تأريخ تلك المجموعات الخاصة بها لا يكاد يذكر، وذلك ما حدث من قبل الناقد السعودي شاكر النابلسي حين أشار إلى إصدارات شعراء الحداثة في السعودية إذ أغفل ذكر التواريخ في مقدمة حديثه عن أجيال الحداثة في السعودية و أشار إليها بعد ذلك في سياق حديثه عن ثلاثية الأسئلة والشمس و الغبار، إذ كتب في المقدمة:
"وقد كانت أهم إصدارات هذه الفترة في الشعر: سعد الحميدين (رسوم على الحائط - 1977)، صالح الصالح (عندما سقط العراف - 1978)، غازي القصيبي (أشعار من جزائر اللؤلؤ - 1960)، (قطرات من ظمأ - 1965)، (معركة بلا راية - 1971)، (أبيات غزل - 1976)، (أنت الرياض - 1977)، فوزية أبو خالد (إلى متى يختطفونك ليلة العرس)، (قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي)…" 10

في الجانب الأخر من تجربة ريادة القصيدة الحرة في البحرين ، أشار الهاشمي في الجانب التاريخي إلى من قاد مسيرة تجربة الكتابة خارج الوزن - أو حسبما أصطلح على تسميتها بقصيدة النثر- إذ:
" تمثل تجربة الشاعرة إيمان أسيري، من الناحية التاريخية، طليعة الالتفات نحو (قصيدة النثر) المستقلة و المتواترة في سياق تجربة الشعر المعاصر في البحرين، إذ ترجع أولى محاولات الشاعرة إلى أواخر الستينات و تطرد على مدى عشر سنوات حتى أواخر السبعينات، حين قامت بإصدارها في مجموعة شعرية عام 1982." 11

و بجانب ريادة إيمان أسيري (1952) للقصيدة الحرة يحظى قاسم حداد (1948) بالمنزلة ذاتها إن لم تكن أرفع من ناحية النضج الفني للتجربة و الخلفية الثقافية و الفكرية التي يتمتع بها لكونه مارس الكتابة الشعرية باختلاف مراحلها بدأ من العمودية و التفعيلة ثم القصيدة الحرة و ذلك بخلاف إيمان أسيري، يؤكد علوي الهاشمي على المكانة التي ارتقى إليها قاسم حداد في التجربة الشعرية في البحرين - على الرغم من زعم الناقد أن قاسم لم يكتب شعراً عمودياً و إنما بدأ بكتابة قصيدة التفعيلة-:

" و تعد تجربة قاسم الشعرية أكثر التجارب الفردية نضجاً و تطوراً و اتصالاً وغنى في إطار مرحلة الشعر الجديد في البحرين، على المستويين التاريخي والفني و على صعيد كل من الكم و الكيف… إن ارتباط قاسم بالحداثة ارتباط صميم ومبدئي منذ باكورة إنتاجه الشعري، فهو لم يكتب القصيدة العمودية قط .. بل كتب القصيدة التفعيلية مباشرة" 12

في حين أن قاسم حداد نفسه أكد بكتابته القصيدة العمودية قبل التفعيلة والقصيدة الحرة في سياق حديثه عن تجربته الإبداعية للقصيدة الحرة، إذ أشار في كتابه النقدي (ليس بهذا الشكل و لا بشكل آخر- 1997):
" قبل ذلك، كتبت شعراً موزوناً كثيراً، و ربما أكثر مما ينبغي. مبكراً كنت ممن يشعرون بميل شديد إلى الإيقاع. حتى أن كتابتي خارج الوزن لم تغادر الموسيقى بشكل ما، ولا أزال أشعر بلذة ذاتية غامضة، تكاد تكون روحية، في الكتابة وزناً، فليس لدي موقف مسبق في هذا المجال. .. و الكتابة خارج الوزن(بعد الخروج على التفعيلة و البحور الخليلية) ينبغي أن نرى إليها باعتبارها مسؤولية أخطر مما واجهه تجديد الخمسينات و الستينات. الشاعر هنا/ الآن، يأتي إلى الكتابة عارياً من جميع الأسلحة الجاهزة التي توافرت للشاعر العربي عندما طرح تجديداته الحديثة. و لا ينبغي الاستهانة بما بين أيدينا من ثروات جميلة، و خطرة في آن". 13

و تشير الشاعرة الإماراتية ظبية خميس (1958) إلى ظاهرة متفردة تسترعي الانتباه في تجربة القصيدة الحرة في الخليج و هي ظاهرة سبق و أشارت إليها الناقدة العربية سلمى خضراء الجيوسي في دراستها الببليوجرافيا عن الشعر الحديث في منطقة الخليج 14 ألا و هي الكثرة الملحوظة في عدد الشواعر الخليجيات مقارنة بعدد الشعراء الذكور. إذ تتحدث ظبية خميس في مقدمة دراستها عن هذه الظروف التي صنعت الشاعرة الخليجية بصفة خاصة و المرأة الخليجية بصفة عامة:

"الشاعرة الخليجية المعاصرة ابنة التحولات الكبرى في المنطقة تعيش بذاكرتين: زمن مضى حاملاً معه أنماطه الخاصة للحياة و لواقع المجتمع و المرأة فيه بتقاليده الصارمة و توزيع الأدوار المعتمدة على المرجعية الدينية الإسلامية والعادات العربية البدوية- زمن مغلق على ذاته حيث الصوت يتحول إلى عورة …حيث المرأة وعاء لحضارة ما، وعاء يمثل جسداً خفياُ بلا صوت يعبر به عن ذاته .. وهذا النمط لم ينقرض ووجد له طريقاً للاستمرار في الذاكرة الشعرية الخليجية، ولا يزال أما الزمن الأخر، فأنه الحاضر بامتداد جذور مرحلة الانقلاب التاريخي الاجتماعي الذي شهدته المجتمعات الخليجية مروراً ببداية الحقبة النفطية و عبوراً بأزمنة التحديث بمختلف أشكالها و انعكاسات هذه المرحلة الاجتماعية و الثقافية على المرأة عبر صناعة وعي جديد جاء بأصواته الخاصة و شهد تطوراتها المختلفة التي نقلت الذات الأنثوية إلى حيز التعبير الأدبي و الفني الثقافي بمختلف أشكاله". 15

خلاصة القول أن النسبة العددية لشعراء القصيدة الحرة أو الكتابة خارج الوزن قد لا يعد مقياساً مقبولا لتجربة القصيدة الحرة مقارنة بالنسبة النوعية في الخليج إذا ما وضعنا في الاعتبار قضية النضج الفني للظاهرة و العمق الثقافي و التاريخي للكتابة الشعرية عموماً. إلا أن ذلك لا يعني تقليلاً أو إغفالاً لدور الشاعرة الخليجية في التأسيس لتجربة الكتابة الشعرية الأجد إذ أن أول ديوان أصدر في هذه التجربة كان كما أشرت للشاعرة السعودية فوزية أبو خالد ثم بعد ذلك نجد في فترة لاحقة (محمد عبيد الحربي-1955/ غسان الخنيزي-1960 /أحمد الملا-1961) . و في هذا ينسحب القول على مناطق الخليج الأخرى، إذ نجد في البحرين (إيمان أسيري- 1952/ فوزية السندي- 1957) يتقاسمان الدور الريادي من الشاعر قاسم حداد، في الكويت نجد (نجمة إدريس- 1953/ جنة القريني- 1955) في قطر يتركز الدور الريادي عند الشاعرة (زكية مال الله- 1959 ) و في الإمارات يوجد كلاً من (ظبية خميس- 1958/ ميسون القاسمي-1959/ نجوم الغانم- 1962/ رؤى سالم/ سارة حارب) أما في عمان فلا تكاد التجربة الشعرية الجديدة تقرن بأي صوت أنثوي أسهم في التأسيس لهذه التجربة الشعرية إذ أن الصوت الذكوري طاغياً على مسرح الكتابة الشعرية في عمان كصوت( سيف الرحبي- 1956/ سماء عيسى الطائي-1954/ محمد الحارثي-1962/ ناصر العلوي- 1959/ زاهر الغافري-1956/ عبد الله حبيب/ عبد الله الريامي- 1956 و غيرهم).

  1. العزاوي، فاضل (1994) بعيداً داخل الغابة: البيان النقدي للحداثة العربية. بيروت:دار المدى. ص100
  2. العنوان الأصلي للكتاب (Le Poem en Prose de Baudelaire Jusqu'a nos Jours) الذي نشر لأول مرة في باريس في 1959 و ترجم الكتاب بكامله إلى العربية سنة 1993 على يد د. زهير مغامس عن دار المأمون للترجمة و النشر .
  3. من أبرز من تناول قضية المؤثرات الثقافية و الحضارية بي دول العالم العربي و الحضارات الأوروبية كلاً من: (1)- Philip. K. Hitti (*) History Of the Arabs. Pp. 745-757,(2)- Albert, Houran
  4. (1983) Arabic Thought in the liberal age (1798-1939). Pp.34-66
    الجيوسي، سلمى خضراء (1977) Trends and Movement in Modern Arabic Poetry.. . Leiden: Brill p.15. vol.1
  5. أكد على النقطة المتعلقة بتغير الظروف السياسية و الاجتماعية في كل من بلاد الشام ومنطقة الخليج و التي أدت في الأولى إلى نشوء الحركة الشعرية الحديثة (التفعيلة، القصيدة الحرة) نشوءاً ناضجاً يمكّن من الاعتراف به في حين أن طبيعة الحركة الشعرية الحديثة في منطقة الخليج لم تحظ بالاعتراف ذاته نتيجة مغايرة الظروف السياسية و الاجتماعية فيها. د. فاضل العزاوي (1998) ندوة أفاق التجربة الشعرية الحديثة في عمان. بتاريخ 10/ فبراير (فندق قصر البستان). و قد قمت بتسجيل نقاط المحاضرة بنفسي.
  6. الحارثي، محمد (1996) قصيدة التفعيلة: الحلقة المفقودة في التجربة الشعرية في عمان. ص.3 (الملحق الثقافي) في جريدة عمان الصادرة بتاريخ 18/ أبريل 1996.
  7. حوار مع سيف الرحبي (بعيداً عن الشللية) مجلة المدى. العدد 17/ 1997 .ص.57
  8. الهاشمي، علوي (1992) السكون المتحرك:دراسة في البنية و الأسلوب تجربة الشعر المعاصر في البحرين نموذجاُ. الجزء الأول (بنية الإيقاع) ص.255 منشورات اتحاد أدباء و كتاب الإمارات.
  9. أبو خالد، فوزية (1994) الحضور المدهش حول تجربة الكتابة الشعرية الجديدة في السعودية (مجلة الكاتبة) العدد 9/ السنة الأولى. ص. 53 لندن.
  10. النابلسي، شاكر (1992) نبت الصمت: دراسة في الشعر السعودي المعاصر. ص. 41 . بيروت: مطبعة العصر الحديث
  11. الهاشمي، علوي (1992) السكون المتحرك:دراسة في البنية و الأسلوب تجربة الشعر المعاصر في البحرين نموذجاُ. الجزء الأول (بنية الإيقاع) ص256
  12. الهاشمي، علوي (1988) شعراء البحرين المعاصرون: كشاف تحليلي 1925-1985 . ص. 129 البحرين: المطبعة الشرقية.
  13. حداد، قاسم (1997) ليس بهذا الشكل و لا بشكل آخر(سيرة النص: تسعة أصدقاء و حبيبة واحدة. بابان و بحر عابر) ص. 31 الكويت: دار قرطاس للنشر.
  14. الجيوسي، سلمى خضراء (1988) The Literature Of Modern Arabia. London: Kegan Paul International Ltd. 15- خميس، ظبية (1997) الذات الأنثوية من خلال شاعرات حداثيات من الخليج العربي. ص.41 بيروت: دار المدى.