محمد أحمد البنكي
(البحرين)

محمد أحمد البنكي "سبق لي القول، في سياق محدد جداً، إنني أكتب للبحث عن هوية. والحال إنني كنت مهتما بالأحرى بما يجعل الهوية مستحيلة، كنت مهتما بضياع الهوية. وقد تحدثت في كتابيّ: الاعتراف المبتور" و "واحدية لغة الآخر" عن استحالة السيرة الذاتية، بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح، لأن السيرة الذاتية بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح، إنما تنطوي على الأقل على أن الأنا تعرف ماهيتها، وتتعرف على ذاتها قبل فعل الكتابة، أو تفترض هوية محددة. فالواقع إن إمكانية قول كلمة أنا في لغةٍ ما، إنما ترتبط بإمكانية الكتابة عموما"
جاك دريدا

حين تتراءى لنا تجربة قاسم حداد في مجلى من مجالي الكشف اليقظ، المنصت للأغوار، ستسفر المعاينة عن كثافة الأنساغ الماتحة، وعن منابت رؤيوية ومهادات حاضنة موصولة طوال الوقت بمسارات الشعرية العربية الجديدة في تحولاتها ومعارجها. تنجدل معها، وتتلابس بها. وتقترح وتتشكل. وترتشف وتكتشف. وتأتلف وتختلف. وتتفرع. بدءاً من الفتنة بقصيدة الرواد الحرة، مروراً بقصيدة النثر، وليس انتهاءً بالكتابة الجديدة وما تمضي إليه.

تنهض كتابة قاسم على هذا كله ، تندس في مساحاته، وتؤسس اندفاعاتها للأوج من خلاله. ثمة توظيف، وأساليب قطع ووصل، واكتشافات، وعذابات في الأسئلة. لاشك في ذلك. ويمكن أن نتبين بعض فرادة البنينة التي تَهْدُرُ بها التجربة من خلال حضور هذا الإصرار على التمثل والمغايرة في آن واحد. شكيمة عتيّة على الحلول الناجزة تظل تمتد وتتجاوز مستندة إلى الأمل... وإلى "الكتابة كأنها المرّة الأولى".
"الكتابة كأنها المرّة الأولى" تمنح نص قاسم قدرة مضاعفة على الهدم والبناء واختبار الخيارات والممكنات التقنية في طرائق التشكل واشتغالات التوليد... وربما أذنت لي المعايشة الطويلة أن أقول بأن خيار السرد، وأعني بذلك استدعاء السرد كتقنية مستثمرة في إنتاج شاعرية النص، هذا الخيار ظل يزهزه لقاسم منذ مخاتلات باكرة تتزيّا بأكثر من قناع، وتموِّه تلاوينها بغير شكل من الأشكال. إلا أن سجلات الذاكرة الخاصة بالتجربة فضّاحة مع ذلك، فقد تجلت صبوة أولى إلى مراودة السرد في مسرحية بعنوان "دم أوديب" لم يكتب لها أن تنشر، ثم حضرت سطوة السرد في "الجواشن" فـ "نقد الأمل"، فـ "أخبار المجنون"، فـ "ليس بهذا الشكل، ولا بشكل آخر"، ثم في "له حصة في الولع"، ثم "ورشة الأمل".
وعلى خلفية الإعتمال بهاجس السرد، في مفاصله الكبرى خلال كل تلك المراحل، كانت النصوص الشعرية تفتح على حوارية الأصوات، ولعب الضمائر، وإغناء المستويات الإيقاعية، ومراكبة عناصر المعمار، وتنويع حركة الدلالة وفضاءات تحققها في أشواط التجربة ونصوصها.

لقد جاءت العوالم السردية، في مستوى من مستوياتها على الأقل، كأحد رهانات التجربة من أجل انجاز بحثها الخاص عن فرادة الصوت الشعري. رهاناتٌ أخرى انبجست من خلال الإنفتاح على فنون الموسيقى والتشكيل والتصوير الفوتوغرافي، وأخرى اختبرت مدّ آفاقها عبر ما يتيحه تقاطع الشعر بالتشبيك العنكبوتي الإفتراضي. وسوف يكون لذلك كله ترسيباته المولِّدة في رحاب النصوص.

على إن ما يعنينا هنا هو السيرة السردية بوصفها مقترحاً من مقترحات ارتياد مساحات جديدة في الشعرية الخبيئة الكامنة في الخفاء. وهي التي ستجعل النص، حين تَمْثُلُ فيه، منفتحاً على اكتشاف جمالي مكثف ظلت التجربة متلجلجة في اقتحامه شأوا طويلاً من الزمن.

عند هذه النقطة سنلتفت إلى المسارب التي تَمَرْحَلَ بها الحضور الشاخص للسيرة في كتابة قاسم. وسنشير إلى أن إغراء السيرة مارس فتنته على هذه الكتابة في تَنَزْلٍ زمني مديد انداح حتى ناهز العقدين من السنوات، كان قاسم في مطالعها يخفي نصوص تداعياته "بشكل غامض من الاطمئنان بأن النص الشعري أكثر أهمية من الكلام النظري عليه" مع ملاحظة أن هذا الحضور السيري الشاخص قد تماهى مع: النص، والغير، والمدينة، ولم يسفر عن قوام "سيرة ذاتية" متمايزة، ومتوافقة مع النحو المتداول فيما استقرت عليه الأعراف الأجناسية لهذا النوع الأدبي. فقد كنا دائما أمام: "سيرة النص"، "مكابدات الشخص"، "شخص لا يعرف أنني هو" ، "شخص يقع في الحب باستمرار"، "يريد أن يتذكر فينسى"، ".. شخصية النص"، "محاولة لتقدير المسافة بين النص والشخص". وكلها عتبات دالة على الارتباك، والمراوحة الوجلة، والتوق إلى تفادي الإخفاق في استجواب تجربة الحياة بحساسية تليق بالأسئلة الكبرى التي تهيمن بظلالها.

يقف بنا هذا على ملمحين مهمين أولهما إن امتداد فسحة التدوين ومعاودات استعادة الذاكرة خلال عقدين من السنوات يومئ لتكرار وانبثاث اللحظات التي تدفع الأنا إلى التأمل في ذاكرتها وممارستها الإبداعية والحياتية على حد سواء، باعتبار أن انجاز الكتابة السيرية يستفرض حدوث تقاطع بين مكونات الذاكرة المستعادة من جهة ولحظة متوترة حدّية من حياة صاحب السيرة تضع مخزون الوعي والتجارب في مواجهة تأملية معرفية مع النفس من جهة أخرى. هذا يعني أن الكاتب الذي كان معنياً بمحاولة ترجمة ذاته مرة بعد مرة كان يعيش هاجسا فعلياً مخيماً يطرح الأسئلة، والتأملات، والقضايا الكبرى حول الكائن والمعنى والقيمة، في آماد متسعة من مسار الحياة، دون أن ينجز الإجابات دفعة واحدة. وكأني بتجربة قاسم تنبني، من هذه الناحية، على مشاغل جذرية ساطية تؤسس للوجود عبر الكتابة التي من خلالها ينكشف جوهر الأشياء. ولا مجال للمجانية أو الاستخفاف في هذا البعد الرؤيوي المؤسس بحال من الأحوال.

أما الملمح الآخر فقد أشرت إليه لِماماً عابراً حين أومأت إلى التباس السيرة/السير التي كتبها قاسم حداد أمام مقترحات التصنيف الأجناسي للنوع كما استقرت عليه تنظيرات الكتابة الأوتوبيوغرافية في الدرس النقدي. فقاسم يكتب سيرة للنص وسيرة للمحرق تاركاً لنا حرية ذرع المسافة بينهما من أجل توليد سيرة للشخص رديفة ومتمفصلة. لقد "بقيت هذه السيرة في شتات من هواء الكتابة، متخفية، متماهية في رغبة النص الفاتنة في الذهاب إلى القارئ...... وعندما يجري التعامل مع هذه السيرة بوصفها مكتوبة على هامش النص، فإن نشرها، مرصوفة بليلٍ كثيف يشغل الهامش بهواجس رافقت حياة الشخص وتجربة النص، هو ضربٌ من أشكال الرغبة......... في تحقيق تجربة قراءة الكتاب بوصفه قطعة من حياة الكاتب". هذا هو ما يكتبه قاسم حداد ذات محاولة سيرية في العام 1997م. وهو يكتب، في ذهاب سيري لاحق: "إن تأمل التجربة الذاتية في ضوء التجربة الأغنى، لمدينة المحرق، هو سياق يضعني في مهبٍ كنت قد تولعت به وأنجزت له نصوصاً متفاوتة الشكل والسياق، الأمر الذي منحني حرية الزعم بأنني لا أكتب سيرة الشخص بقدر ما أحاول كتابة النص الذي سألتني عنه مدينة المحرق ذات درس: كيف ستكتب النص؟".

"النص" و" الشخص" و "المدينة- ورشة الأمل". مفاهيم مركزية ثلاثة يمكن رصدها بوصفها مجازات كبرى تنهض على طاقتها الغزيرة كل خبايا وعود وعذابات تجربة قاسم حداد الإبداعية. تقتضي المقاربة هنا أن لا نحيل إلى ازدواج ثنائي تنسرب فيه علاقة "ذات" بـ "كتابة" ، أو "نص" بـ "واقع"، أو "داخل" بـ "خارج" فقط. ففي مثل هذا الإفقار ما يسعف نوايا تحليلية تستبق تفسير التجربة بإقامة جدل قابل للتنظيم والإدراك، بل والتنبؤ بالمسارات مسبقا. لكن سيرة/ سير قاسم تؤسس وفرة ليست قابلة للإرتسام في النظام الإزدواجي. وهي تدين بقدرتها على اجتذابنا في طياتها المتراكبة إلى قدرتها على افتتاح حقل تمفصل لا ينضب في الخانة الفارغة التي ينقلب فيها المفهومان المتعارضان : نص وذات، كلٌ إلى الآخر. لقد جرى تفنيد فكرة الهوية الصافية. صارت الذات تولِّد اختلافها من صميمها وكذلك النص يفترع فوارقه من داخله. هنا لم تنكتب السيرة إلا متمفصلة بعد أن ارتبكت المسافة بين النص والشخص، وانخرطت في ورشة الممارسة كل المكونات، فصار للنص شخصية، وللمدينة نص، وللنصوص سيرة وهي كلها متماهية في مشروع "أمل" دينامي، تتفلت عناصره وتندفع ولا تكف عن الحركة. لقد ذابت الإزدواجية المتعارضة في نسيج ثلاثي متداخل حتى جاء عنوان السيرة التي نحن بصددها هكذا: ورشة الأمل. سيرة شخصية لمدينة المحرق. أي أن "النص" و"الشخص" و"المدينة-ورشة الأمل" قد إلتأموا في مشروع سيري واحد ما فتئ يتكشف، ويعالج المسافات، ويقاوم كل إغلاق. هنا تتلابس البؤر التوليدية المجازية الثلاث في مجاز أكبر هو السيرة مستدامة الانكتاب (تماما مثل ورشة، مثل مشروع لا يكتمل) والتي تتمثل في: "نص" "شخصي" للـ "مدينة".

ترى ما الذي سيعنيه إذن نص المجاز الأكبر: نص المدينة- ورشة الأمل: السيرة دائمة الإنكتاب. المشروع الذي لا يكتمل. ولماذا تغدو المحرق ورشة الأمل؟ إنها -كما يقول حداد- "ورشة أمل، لأنني أرى في المحرق مشروعاً لا يكتمل إلا إذا اتصل بحيوية الأمل الإنساني، ويمكن لملاحظ التاريخ الإجتماعي لهذه المدينة، أن يكتشف كيف أن ثمة مشاريع عديدة ارتبطت بأشخاص، في حقول مختلفة، وقد نهضت بهم هذه المشاريع كلما شعروا بالطاقة الصادرة عن الجمرة الخفية في شهوة الحياة والتغيير المتأججة في حركة لا تكف عن الإنتاج. كل ذلك صادر من كون هذه المدينة، طوال تاريخها المعروف، مصدر بناء وحيوية وبوتقة أفكار نابضة بالعمل" .

لقد وضعنا قاسم حداد أمام المحرق-ورشة الأمل، الممعنة في الإنتاجية كونها تتوهج من أقاصي الرغبة في الحياة. إن هذا المشروع غير المكتمل هو الخانة الفارغة التي تؤجج التناقض بين أمل النص ويأس الشخص وتتصعد به إلى أفق جديد. خانةٌ تَمْثُلُ، تماما، في المكان الذي يتقرى معنىً مفقوداً وغير قابل للإنغلاق. وعن طريق الإضطلاع بهذه الخانة الخاوية وإدارة الرؤى من خلالها أفلتت التجربة من تأله النصي الجامح، وإمبريالية الشخصي النسقي، فيما تعثرت تجارب إبداعية عديدة وراوحت دون تحدي المجاوزة والتخطي.

دعونا، إذن، نقرأ ورشة قاسم حداد من بدايتها لنَرَ كيف وضعنا هكذا منذ المنطلق أمام خرائطية شبكية فريدة للمحرق. المحرق بما هي لحظتين باهرتين: أبواب مفتوحة وورشة أمل.

إن مخطط "الورشة" شبكي، بطبيعته. ودينامي أيضا. الأجزاء فيه تتصل وتتعاشق. والفاعلية تتولد من الجوف، بحركته التي لا تكف، واشتغاله الذي لا يهدأ. وبمناولاته وإنتاجيته وبنشاطه وكثافة التجدد في داخله. الترحلات في مجال الورشة قصيرة المدى سريعة الدوران. من الواحد ينبثق المتعدد، ومن النويات الصغرى تنتشر الهيتروجينية. ليس في الورشة تراتب أو بداية أو نهاية. كل شيء يتكون طبقاً لشبكة الاتصال والتعدد، والملابسة والتماسات المحمومة. و "ورشة الأمل" تشغيل للمخيلة على هذا الأساس من إزاحة منطق البداية والنهاية، والتنضيد المتراتب الكرونولوجي المتصل بينهما. ضداً لمنطق السلسلة، ضداً للإنتظام المطرد، والحدود القاطعة؛ ورَش يرِش ورْشاً : تناول. وورَش فلان بفلان: أغراه، وورَّش بينهم توريشا أي بَثَّ التحرشات بينهم فكان وَرِشا أي نَشِطاً خفيفاً، وكانت وَرْشة أي جماعة معلمين وفَعَلَةٌ يشتغلون. إن الورشة كلمة مفتاحية تقذف بالمحرق، والشخص، والسيرة، في أتون التحول والصهر والتشكلات متعددة الأبعاد منذ البداية. وحين يختلج قاسم حداد في سؤال الزاوية التي يمكن انتخابها للحديث عن المحرق، في الصفحات الأولى من الكتاب، يعثر على بؤرتين توليديتين تسعفانه كدلالتين نموذجيتين: الأبواب المفتوحة والمشروع المستأنف الذي لا يكتمل (تماما مثل ورشة لا تكف عن الإنتاج).

لا تقترح الأبواب المفتوحة البدء والانتهاء. معها يحسن فقط الخروج والدخول. الباب المفتوح تحرير من الحدّ. مضاعفة للحدس الجوّاب. أن نجعل الفضاء مناخا مشتركاً تلك هي المهمة الأكثر جوهرية. بل هي المهمة الضرورية من أجل حرية الاتصال ومكايدة الحواجز والفواصل. والمسار الذي يذرع أبوابا مفتوحة ليس خطاً يبدأ بنقطة ويتوقف عند نقطة أخرى. ليست البداية ولا النهاية أبداً هما الأمران المهمان المهم هو الـ "ما بين" المتوسط بينهما، شريطة أن لا نفهم الوسط كنقطة تنصف المسافة بين طرفين. فالوسط انخراط، وحركة اختراقية: ممعنة وتأخذ الأطراف كلها في غمارها -كما يمكن أن نتذكر دولوز-. إن ذلك على وجه التحديد ما يحدث في المحرق التي هي ورشة الأمل. رحابة البيوت مفتوحة الأبواب تمتص المتظاهرين من الخارج إلى حنانها الآسر ومبيتاتها الآمنة. ومجرد كلمة "هُوودْ" تمنح قائلها إذنا بدخول البيوت والاندماج في مألوف حياة أفرادها المضيافين الوادعين. وما أن تضع يدك على أحجار مدرسة الهداية العتيقة حتى يتحدر شيء من رمل قديم في أصابعك وحضنك كمن يبدأ الاتصال بالتاريخ أما مع ارتفاع المد فتجيء (الماية) ويقتحم البحر البيوت وقتما يحلو له دون موانع أو استئذان. بل إلى الحد الذي يتفنن الأهالي في صناعة حيطان البيوت بشاكلة تؤمن استضافة البحر وإفساح المكان أمامه.

مثل هذا الانفتاح، والفضاءات التي تتداخل، والنَوْل الكوني الساهم في الدوران والإنتاج ستدلف إلى نصوص "ورشة الأمل" مرسخة أليغوريا "الباب المفتوح" و "الورشة" في كل الجنبات وشتى الصور. وسيتحول الأمر إلى تراسل نشط مع استعارات هلوسية ألقت بروعها في قيعان تجربة الشاعر منذ قديم. سيكون للورشة رزحتها المجازية في مدينة الطفولة: فالمحرق هي مشروع بناء وحيوية وتغيير يتأجج ويهدر في كل حين. والبنية المورفولوجية للمدينة مشاكلة لأيقونتها المعنوية: فأحياء البنائيين لصق أحياء الصاغة، وهذه متجاورة مع أحياء الحياك، والأخيرة بمحاذاة مساكن القلاليف.. وهكذا. وبيت الكاتب جرم صغير ينظوي فيه عالم الورشة الأكبر، فهو حسينية لا تهدأ طوال العام، وخلية نحل يومية ينهمك جميع أفرادها في عمل متنوع ومتواصل منذ الفجر حتى المساء. تربي الجدة البقر، وتشتغل إحدى العمات بتطريز القصب المُذّهّب على الملابس النسائية، فيما العمة الكبرى تشتغل بأجر شحيح في مهن مختلفة، والأم تخيط ملابس أهل الحي بمساعدة الشقيقة الكبرى نظير بعض الدراهم النادرة. بل إن مجاز الورشة سيتعمم ويستحوذ على صورة كل شيء، وفضلا عن الكلام على "ورشة الحدادة" و "ورشة القلافة" ، سيجري الحديث عن "ورشة الرسم" المسؤول عنها الأستاذ زنتوت في المدرسة، والدراسة التي "تأخذ طابع الورشة النشطة المتنوعة التي يتسابق إليها الطلبة" ، ونزهة العبور البحري بين المحرق وعراد التي تتطلب من الركاب العابرين مساعدة صاحب القارب في تفريغ ما يرشح من ماء البحر إلى قاع القارب طوال مدة الإبحار، وبالتناوب من الجميع، رغم أنهم دفعوا ثمن هذه "العبرة" سلفا. والورشة التي ينخرط فيها كل من يصادف عبوره لجسر المحرق-المنامة وقت فتح الجسر الأسفلتي ليتاح للسفن أن تعبر إلى الجانب الآخر من الخليج. وهو عمل جماعي يتنادى إليه كل من يشهد الموقف حتى ليترك سائقو العربات مقاعدهم نازلين للمشاركة على وقع الأهازيج من أجل إدارة مفتاح إزاحة كل طرف من طرفي الشارع الضخم، كأنهم يعرفون ما يفعلون. والاستعارات الهَلْوَسِية، ذات التعاودات الملحاحة على عالم الورشة هي التي ستقود الكاتب إلى التأمل في المعنى الغامض الذي يجعله يعيش تجربة فريدة في العلاقة بالمكان داخل مبنى المكتبة العامة الذي اشتغل فيه أوائل السبعينات، فيرى في باطن هذا المبنى المكون من طابقين ذلك الموقع القديم لورشة صناعة السفن، غير المرئي الآن، والمطابق للمكان الذي يمتهن الاختلاف إليه اليوم. وأكثر من ذلك سيتذكر عبر رائحة المجلدات القديمة التي يقوم بتصنيفها روائح الخشب المنقوع في البحر لتلك الورشة العالقة بالذاكرة. وحتى حياة الكاتب ستتحول إلى ورشة متنوعة الإمعان في العمل، فقد اشتغل منذ بكورته عاملا مع النجارين، وصبياً في أحد الدكاكين، ومنادياً على باصات النقل الخشبية، وملاحظا لماكينة الحفر، وصباغا وعاملا في الحفريات، وبنّاء، وبائعا، وحداداً، وأمينا لمكتبة.

إن عالم الورشة متكاتف. دينامي. يتناغم، وتفيض دوائره عن بعضها بعضا. الحركة فيه تراسلية، تروح وتجيء، تجعل الداخل والخارج متضاعفان متلابسان، وفي أهبة تبادل المواقع دائما. الورشة تجربة في العالم. في الصيرورة والتحول. معايشة، ودرس يعبر الفضاءات. رفع للخطوط الفاصلة، وأبوابُ مشرعة على تكامل الإمكانيات. الورشة باب مفتوح. كما الأمل. والعمل، والمحرق.
أليغوريا المحرق هي الباب المفتوح. وتاريخها هو تاريخ الحركة بين الأبواب، هكذا تؤشر معاينة قاسم في "ورشة الأمل". فالمناخ الاجتماعي كان يقترح صيغة ودودة تفتح الأبواب للمعاطاة السمحة بين الدور والعائلات والفئات والمذاهب والأحياء والزائرين من أصدقاء البيوت. وأبواب المحرق مفتوحة أمام الطفولة، إلى حدٍ شَعَرَ معه طفل الورشة أن كل دار هي بيته الإفتراضي بعد تجربة تيه عن الدار في اليوم الأول لدخول المدرسة. والأبواب مفتوحة في الممارسة اليومية لسكان المدينة عبر صور التواصل المحموم حين انتقال أطباق الطعام، لحظة الوجبة، بين البيوت حتى "إنك سوف تعرف، بعد جولة صغيرة في أحد أحياء المدينة، ماذا ستأكل كل عائلة على الغداء في ذلك اليوم". والأبواب مفتوحة، كذلك في المناسبات العامة حيث الجولات الجماعية أيام الأعياد، والناس يجوبون المدينة خروجاً من باب ودخولا في باب لتبادل التهاني على موائد مفتوحة "اتصالا بالأبواب المشرعة" طوال النهار. ثم إن الأبواب مفتوحة، للطرافة عميقة المعنى، أمام زيارات ألـ(ازكرت) من أصدقاء العائلة، الذين لا يرون في تخوم التقاليد حاجباً يحول دون الاستئذان العَجِلِ بكلمة يطلقونها بصوت مسموع: "هُوودْ"، من أجل إعلام نساء البيت وتَنبيههن إلى إن أحد أصدقاء العائلة على وشك تَغَشِي المنزل.

وأبواب المحرق -ورشة الأمل- مفتوحة، مرة أخرى، من أجل دعم النضال الوطني في انتفاضة عام 65 من القرن الماضي، وما بعدها، حيث يقف الأهالي على أبواب بيوتهم المشرعة حاملين قطع القماش المبللة بالماء وحبات البصل لمساعدة المتظاهرين في مقاومة قنابل شرطة الشغب المسيلة للدموع. بل أكثر من ذلك، تنفتح هذه الأبواب طوال الليل والنهار من أجل إيواء المناضلين وتهيئة المبيت والطعام لهم كما لو أنهم من أبناء الدار، حماية من ملاحقات رجال المخابرات.

ستهاجر صور كل هذا الانفتاح، والانهماك في العمل، والإنتاج، وستترحل ضمن النسيج الشبكي لسيرة مدينة المحرق الشخصية، وأكاد أقول لامتداد تجربة حداد في الكتابة، وعلى هذا النحو يمكن لنا أن نفسر انفتاح النصوص وتواشجها وتداخلاتها، ووفق هذه الشاكلة يمكن اقتراح تأويل أكثر استيعابا للهاجس الرؤيوي الساري في التعددية التي تنمو وتتفرع، وفي تكرارات نصوص كانت قد تضمنتها إصدارات سابقة، وإعادة لحمها بورشة الأمل. بل وأيضا تكرار بعض المجازات، وأهمها مجاز عنوان الكتاب نفسه.

عند هذا المفرق الحاسم سنفترض أن الفضاء الأوتوبيوغرافي الذي تنضحه الدوافق الجوفية لنصوص "ورشة الأمل" لا ينضوي، بإرتياح، تحت معطيات الميثاق السردي التعاقدي الذي تذهب إليه التنظيرات الأجناسية الشائعة. فالفضاء السيري الذي تشيّده تجربة حداد هو فضاء تمفصلي، مرة بعد مرة، والكاتب يبدو حريصا على بث تشذرات السيرة في مستويات وطبقات وطيات عديدة، تحتفظ بمكرها ومراوغتها، واندساسها في "النص" و "المكان" والحضورات الخلاسية "للشخص" لا "للذات" ، أو " للفرد". ومن هنا يقترح الكاتب تلقي كتابه "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر" بوصفه سيرة للنص والأصدقاء والحبيبة. وهو يعزز هذا المنظور، الذي يتفادى الأوتوبيوغرافية، في "ورشة الأمل"، من جديد، حين ينص على كون الكتاب سيرة شخصية لمدينة، هي مدينة المحرق.. أي أننا أمام تحوط مسبق مما يمكن أن تؤول إليه التنظيرات الأجناسية المعيارية في سياق تداول الكتاب، وسيفصح عن ذلك قاسم حداد مبينا الأسباب التي حدت به إلى الانهماك كثيراً في "كتابة سيرة النص متفاديا الكلام عن سيرة الشخص" يقول: "لست ممن يحسن كتابة السيرة بالشكل المتعارف عليه في هذا الحقل، ليس فقط بسبب ما ينتابني من القلق والارتباك عندما يتطلب الموقف كلاما عن الشخص، ولكن لأنني، خصوصا، لا أشعر بقدرتي على كتابة ما ينتمي إلى السرد التاريخي المتسلسل والمقيد بتسجيل الأحداث متتالية".

من الواضح أننا هنا أمام ذريعة متصلة بالمنظور المعرفي للتاريخ بما هو زمنية خارجة عن نطاق الكرونولوجية، والخطّية مطردة الإنتظام. وسنرى أننا أمام تصور للذات، وكتابة كتاب السيرة، ومفهوم "الكتاب" نفسه تدور كلها في مدار هذه الرؤية المعرفية بالأساس.

إن السيرة، كما يكتب حداد، في نص كاشف بعنوان "عن السيرة"، قد بقيت عنده، يوم أن كتب "ليس بهذا الشكل"، "في شتات من هواء الكتابة"، وقد كانت استجابة لسياقات متنوعة تفرض نفسها: أجوبة على أسئلة في حوار، تعليق، مقال، مداخلة في ندوة، ذهاب ذاتي للبوح في صورة تأمل.. وهكذا "إذا كانت هذه السيرة، بادية التفاوت، في درجة الانفعال والسبر والشعرية، فربما لأن الحياة هي أيضا عرضة لمثل هذه الحالات المختلفة المتفاوتة".

لقد غدت الكتابة السيرية عند قاسم حداد، منذ ذلك الحين، وطوال الوقت، رغبة عارمة في تحقيق تجربة جديدة لقراءة الكتاب بوصفة جامعا للحظات عديدة غاية في التنوع، مثل الحياة، "وبهذا نكون قد أتحنا لأنفسنا -الكاتب والقارئ في آن- محاولة إعادة النظر في مفهوم "الكتاب" في الأساس. بمعنى أن تجاوز حدود النوع الأدبي، يمكن أن يقترح علينا، في الوقت نفسه، العمل على تجاوز مفهوم الكتاب وصورته المحددة -تقنينا- والمقتصرة على "شكل" واحد، ثابت، لمادته".

هاكم، إذن، ما سيكونه "ورش الأمل": كتاب ملحوم، يتجاوز حدود النوع ومفهوم "الكتاب" الهيكلي، المحدد والثابت. وإذا كنا نحس بأن بعض الفصول تسير متصاعدة بنوع من الترتيب، فإننا لن نجد روحاً تسجيلية، أو تقيداً بحرفية الأحداث وتسلسلها ولا بواقعية الإحالات المرجعية وتوثيقيتها. ولنا أن نتعامل مع النزر اليسير من التداعيات التي قد تُوهِمُ بانتظامات من نوع ما على أنه الحد الأدنى من استصحاب حال بعض من المواضعات، فحسب، التي يحتشد بها الدرس النقدي. ذلك لأن سيرة المدينة هنا ليست محاكاة ولا مطابقة. إنها انزياح واختلاف. واستراتيجيات الكتابة السيرية، في الورشة، تأتي متواشجة مع تصورات الذات لهويتها. ذات ممحونة في ليل المعنى. تنقد الأمل وتتشبث به. مساراتها في السديم، وسيرتها في الكتابة. المتاه. الفوات. والمشي خارج التقويم: ستنزع "ورشة الأمل" لمضاهاة هذا كله، وسينقش قاسم حداد اختلافية المدينة من هذا السبيل.

يكتب البعض وفي قرارة نفسه أنه قد وجد مدينته. وأنه قدم للقارئ الصورة الأكثر أمانة وترجمة للمدينة. وأدعي أن قاسم حداد لم يتلبس بهذا الزعم أبداً، بل إنه يقبل على المحرق من منطلق حالة ذهنية مختلفة. حالة تنبثق معها المدينة من منظور جديد نكتشف فيما ندلف إلى الدواخل معه أننا ننحّي الصورة التسجيلة الواقعية بيد، ونزيح، بالأخرى، عن مدينة خبيئة، وأندلس أعماق محجوبة، متعددة المداخل، يثقب الكاتب الضوء من أجل قصّ آثارها وإنارة جنتها البعيدة.