"طائر يحط على قبّعة تمثال
يطلق صفيراً متوتراً وحاداً
كمراثي أمّةٍ
على حافّة الانقراض."
سيف الرحبي
" أذهبي أيتها الأسئلة العميقة إلى دموع
الأجوبة فنحن نفضح أنفسنا بأنفسنا "
شوبنهور
ذاكرة الموهبة أتت من أبدية بعيدة وظلت معاصرة لكل حدث إنساني منذ زمن حجر الصوان وحتى مايكروسوفت. انه بهجة تعوض فيه العصور والحضارات ما يتعرض له الكائن البشري من استلاب تأتي به الحروب والولاة القساة وتباعد الخل عن خله، الفقر الذي وصفه مالك بن الريب بأنه ُمجملُ الصعلكة وصانع ظرورتها في القول والممارسة ليوزع جسمه بين جسوم كثيرة فكان الشعر نديم وحدة الصحراء وروحها التي تسيطر على غضب العاصفة وأحزان البعير ومساء المضارب . كان الشعر يوقع خليقته بأضواء الزمان والمكان ويسقط حسن انفعاله في لحظة لهو وشغل يخرج عن واقعه ليطير كما ريشة العصفور في فضاءات الصنع وارتقاء شدو الذهن والمنادمة وصياغة المفردة كجيد عاطفة الحلم في مدى أزمنة خلق وحي أن نشدوا بإيقاع القلب . لحظة . ويصير قصيدة على لوح . هذا الأديم القرمزي سبحت فيه أهواء الكلام وصنعت القدرية رؤى القول بوعي القائل لماهية القول . لقد كانوا يقولون : انه يرى ما لا ُيرى . وهو الساعي إلى ما لا يستطيع أن يفعله المخترع والصائغ وقارئة الفنجان. فالشاعر ماهر في صياغة ما لم تنطق به الروح، تلك الصياغة التي ترسم وعي الشكل وبلاغة الجملة وتفاصيل المشاهدة الكونية لما يحدث وقد يحدث لهذا يقول بيرس : جالس في ألفة مع ركبتي . وهو حتما يقصد قصيدته. على رؤى ما ذكر تأتي رؤيتنا بطيف قراءتها الجمالية وكشوفات وعي ما نعتقده ونراه في الكامن بقاع ذاكرة الشعر لدى سيف الرحبي وهو شاعر ُعماني يتكئ برؤى الكتابة الشعرية إلى لغة ترمز وعيها باشتغال الصورة والفكرة في ذات الحدس أي أن الرحبي ذكي في مجامعة ومضة المشهد بحراجة اللغة، فهو (أي الرحبي) قادر على التحكم بوعي القصيدة وإشهار حلمها بطريقة تقترب من سريالية زرقاء تذكرنا برغبة الشعر لامساك حداثته فخرج يطفو على ذاكرة البعض من شعراء الحداثة العربية ومنهم الشاعر العماني سيف الرحبي الذي انتقينا لفصل كتابنا شعراء الجزيرة العربية هذه القصيدة التي أرتنا في قراءات متعددة لها بعض ملامح التفكير(الرحبي) ومستوى نضوج المفردة والهاجس الشعري لدى هذا الشاعر الذي يعد من المثابرين خليجيا وهم يؤسسون برؤى النص مكانة لوجودهم الثقافي بعيدا عن نيونات العصرنة ومتاهات الزي والمال والفيديو كليب .
عالم سيف الرحبي الشعري يؤدي إلى كشف ما ينطوي عليه الكشف (الرغبة في جعل الغامض واضحا من خلال فك الشفرات والاندراج وراء معلومة الكلمة التي يحرص الشاعر أن يركن عريها فضيحة للجملة والمعنى) ولهذا كان الرحبي في كل نتاجه يأمل في التعريف ببيانه بسريالية البوح وثراء اللغة ونبال الرموز العاطلة عن مناوشة الميتافيزيقيا ولكنها قادرة على مناوشة أرواحنا وبذلك تكون أشعاره قد خلقت لها ميتافيزيقيا خاصة تذهب بنا إلى ممكنات أن نحصل على قصيدة جيدة في عالم كثر فيه اللغو والحشو فتاتي قصائده بتعبير كبير وغامض ولكنه لدى القارئ الواعي يكون عالم الرحبي العالم المضئ باحتواء الكلمة على (دسومة المعنى وموسيقى الداخل ومتخيلات الرؤية وحاجة القلب إلى نبض هادئ من خلال جملة براقة وفهم روحي لجوهر الكشف الذي نريده كما يتخيله أفلاطون يقودنا إلى أنواء العلا السابحة في الرأس كأثواب الآلهة البيضاء) .
على مثل هذه المعايير نقرأ قصيدة سيف المقطعة حسب عناوين الهاجس بعدة رؤى وهواجس وأمكنة وشخوص وأزمنة وكشوفات . نصوص تفتح بوابات التعبير على عالم معاصر ومشاغل كثر غير أن الشاعر (خلق للكشف أولاً ومن ثم إهداء العالم مزيدا من الموسيقى) وهو ما ذهبت إليه تفاصيل النص الطويل الموسوم (كمن فقد ضالته التي ضاعت منذ الأزل) وهو نص رؤيوي أي انه يعتمد على تفسير مشاهدة ما في داخل النص وهذا ليس باليسير ولكن متعة مافي الداخل يغرينا لمعرفة كوامن النص وروحه في بدءه الميثولوجي :
((تلزمنا طيورٌ كثيرةٌ
طيور أسطوريةٌ
تعمل كجرّافاتٍ
كي تكنسَ السماءَ من روث الطائرات الحربيّة ))
هذا بدء لإعلان مقاومة، ولكنها مقاومة (سقراطية) نعي من خلالها فهم ما يريده الشعر (لا الشاعر) ولأن الشعر مقترن في كل الأحوال بشاعر فإننا نفهم أن الذاكرة الشعرية لسيف الرحبي بدء بإعلان جمالي اتجاه تلك الميتافيزيقيا التي يراد قتلها بالأساطيل والعولمة والمتغير الذي أبعدنا عن رائحة العشب وملئ سماواتنا بالحزن والطائرات .
رؤى هذا المقطع ميثولوجيا تقوم على صناعة متخيل نحتاجه كي نقضي على يأس المشاهدة لما يحدث ولهذا يلزمنا حرية اكبر (طيور كثيرة) . والطيور واحدة من صناعة الأساطير بدءً بطائر الحمام والفينيق والسنونو والقبرة وغيرها .
يرى سيف الرحبي في هذا المقطع تداولات الحل بشكل (طائر) والطائر هو الرمز الأول للحرية .
في ما بعده يكون نص سائرا في ذات المتشكل لكنه هنا يغير الحركة التي في الطائر إلى ثبات كالذي في القمة :
((القممُ المنتشرةُ في أرجاء الأرض
القممُ التي لا تفتأ تتبادل رسائلَ حبٍ وسخريةٍ
لا يستطيع البشرُ فك شفرتها الغامضة. ))
قدرة الشعر تأتي من طاقته على صنع الفكرة المتخيلة، إنهم يرون الشروق حين تحضرهم اللحظة فما بالك وهذه اللحظة تعتلي القمة في أرجاء ما نتخيله . فالشاعر هنا بسجل إعجاب هذا الصعود، تواريخ العلو والمناصب والشهرة . فالقمم أمكنة للموهيين والمقدر لهم هذا المكان، مبدعين فقراء وولاة يمتلئون بمجد الكراسي والصعود في سلالم القياصرة إلى قمة يموتون فوقها أو يهبطون المهم إنها تسجل تواريخ الأرض ومدارجات العصور بالحدث والرسائل والنطق . ووحدها من تحتفظ بأسرار ذلك البلوغ والوصول مستذكرين مع هذا المقطع صدى كلمات ويتمان (النسر وحده يعرف كيف تشعر القمة بألم صفعات الغيم لها)..
أن رؤية بهكذا وعي يحددها الشعر في تدارك ما بفكر به الشاعر فهو وحده قادر على خلق التصور لما يؤثر ويتأثر من خلال نمط الإحساس ورسم فيض المشاعر وسيف الرحبي يدرك هذه الرؤية بمشفرة المشاهدة والكتابة ونقل حواس هذه المرئيات إلى الورق قصائد تعي قيمة الموجود الكوني طائرا كان أم قمة أو صديق :
((يستحمّ النورسُ في النهر وينتفضُ
كقريةٍ تصحو بتضرّعاتها المتصاعدةِ
نحو الله. ))
هذا المقطع به من حسن العاطفة ما يسميه باشلار (روح الصورة) . نورس يستحم في النهر (يعني أن روحا لحرية التخيل ببراءة الفضاء تفيض بقدرة الشاعرية على الوصف . وقد يبدو طبيعا كلوحة رسم لكن الرحبي يرتقي به إلى مستوى تحريك المكان حين يدخلها (أي روح الصورة) في ذاكرة المكان ويحول النورس المتصافي مع بهجة الماء إلى قرية توقظها أحلام سكانها للتضرع إلى رزقها الجديد صوب الله وبذلك يكون الشعر والشاعر قد حول الطائر إلى حياة كاملة تذهب إلى نهارها الجديد مع الشعر وتلك كما يقول ميشيل ديغي :(بهجة النوارس المضافة لبياض ما نتمناه لحياتنا) .
رؤية جديدة في وعي ما يتحدث به الشعر للتمجيد الكوني والموجود بالقدر المهيب التي تصنعه الكلمات بحكمة خيال الشاعر هذا التمجيد الذي طالما جعله الشاعر طقسا لديانة يضيف إليها إيمانه الأزلي المتوارث من الأنبياء، تمجيد الأمكنة وكبريائها وحمد ما تتركه على الروح من أثر يجعلنا منشدين إلى هيبتها وسلطتها وجمالها وسحريتها التي تجعلنا مأخوذين بقدرتها على صنع الهيمنة والأثر في قلم الشاعر كما يفعله الرحبي هنا :
((بحنانٍ أكبرَ
أيها الخطّاف تحمل الماء بمنقاركَ
إلى تلك المحلّقة في الأثير.
وأنتِ أيتها الغيوم، لنباركْ زحفكِ المقدّس،
من أعالي النهر..
وبالحنان نفسه كنا نحدّق فيك من شرُفات
الأودية، تتشكّلين في خيال الطفل، قبل أن تكوني
مشروعَ ديمةٍ ونماء، قادمةً كلآلئ
السراب من البعيد، البعيد حيث تسكن الملائكة الخضْر ))
فهنا نرى ذاته الطائر يأسطر رغبة الشاعر في جعل الكشف مباحا ويردد ذات كلمات الحمد والثناء إلى الشيء المنبهر به، يراه بجناحيه، بمنقاره، بعينيه الصغيرتين ليمزج معها تفاسير ما يمكن أن تحققه القمم لنا في صورة نجمة أو غيمة أو ملائكة خضر، هم وحدهم القادرين على إشاعة قيم التبجيل لهذا لموجود الذي يصغي له الشاعر ويعبر عنه بتلاوات أسطورية تهمس بها الأشياء التي ظلت تؤطر فينا رغبة الحلم والذهاب بعيدا كما (الغيوم وهي تبارك زحفنا المقدس) .
انه بعث للجديد المتخيل والقابع في ثنايا مايكن أن نبجله ونتوسل إليه بصيغة نداءات يشكلها المنظر والمتحسس والإيحاء لتصل بروح الشعر والشاعر إلى تكوين المراد واكتمال المشروع العاطفي المصنوع من بهجة ما نتخيل ونصنع ثم الوثوب بخلسة كما يتمنى الشاعر إلى المكان الحلم : الفردوس .
(( امرأة تتنزّه مع كلبها
على حافّة النهر
وجهها الناضح بالطمأنينة والسلام
أحمله كزادٍ لهذا اليوم الغائِم،
مندفعاً نحو المجهول.))
في كل مقطع جديد من نص الشاعر هناك حياة جديدة . أني أفترضها (بل هي كذلك) بعض سياحة التفكير بحس العالم وما يحدث فيه وعليه.
إن يونغ يقول : لا تفترض في النزهة ذيل الكلب الذي معك بل أفترض حلم المساء القادم مع الخطوات .
الشاعر ينظر إلى الأمر من هذه الزاوية . يصنع المشهد ويخيط له ثوب الحياة ثم ينفخ فيه الشعر ونراه . وهذا يولد النضج في التعبير أنه مشاعر بطمأنينة الكتابة لديه لهذا فهو يتصور ماهو قريب إلى قلبه وهذا شيء يحسب لجمال ما يكتب . أي إن حياة الشعر لديه تقوم على هذه المستويات ((وجهها الناضح بالطمأنينة والسلام...
أحمله كزادٍ لهذا اليوم الغائِم))
ورغم أن الشاعر يترك الأمر خاضعا لغياهب القادم في تصور ما لقرارة نفسه وما يمنحه خلق المشهد (المرأة وكلبها) إلا انه في النهاية أكمل عملية خلق النص بشكل جميل وهادف .
أذن الشاعر يرى ما لايراه غيره . وخواطره ملك له قبل أن تكون ملك لغيره وهو يدرك في تأمله الكوني حاجة مايرده من الباطن وذلك لايأتي إلا بهلوسة لأوقت مؤقت لديها لكي تأتي، إنها تأتي متى شاءت وشاء لها الهوى كما يصف ذلك أبو فراس الحمداني وعليه فان الأتي من النصوص يخضع لقراءات أخرى في كشف فقد الضالة :
((نائمة تحتَ الرذاذ المشمسِ
النجوم الحنونة تداعب أناملكِ
والشجرةُ تسّاقط ثمارُها في الأحلام الورديّةِ
لأول فجرِ يبزغ في سماء الجنّة..
سحرُ امرأة نائمة
سحرُ آلهة عاشقة ))
يظل النظر والمديح مسيطرا على مناخ الكتابة لدى الشاعر، إنه يسعى لخلق منظور لعينيه من خلال الشعر. وتظل الميتافيزيقيا هي ما يريد أن يجعله الشاعر واقعا مصنوعا بنعومة اصابعة بهجة الكتابة التي يعتقد انه يتقنها بشكل يغري بهجة النص البرق الذي يومض بالحكاية والمعنى في نفس اللحظة . هو يتخيل . يفترض . يذهب بعيدا، لكنه في النهاية يقف عن رؤية واحدة لمتخيله الكوني (مشاهدة ذلك الميتافيزيق من خلال امرأة ساكنة في الجنة).
((تتأوهين
كأنّ بكِ مساً من برْقٍ وجنون
حين لامسكِ الهُدْهد،
وقبل أن يتيه في غوْركِ العميق
أشرقتِ بالبكاء
كما الأرض العطشى
الموغلة في الجدْبِ
حين يراودها المطرُ
ينشق من رَحمِها خيطُ بركان ))
إنه باق على شاكلة الصنع يتخيل بموهبة الكتابة ذات العالم ولكن بافتراضات ووجوه متعددة. المرأة في النصوص هي ذاتها الطائر الذي شغل مبتدأ الشعر في المقاطع أعلاه (الجمع بين الطائر والمرأة) جمع بين قطرة الدمع بحالتين (حزن وسعادة) المرأة هنا (حالة لإستشراق ما نتمناه من هذا العالم) رؤية لسياحة الذاكرة والشعر والروح، بل هي بدء ما نريد أن نصل إليه .
سيف الرحبي يقترب هنا من هاجسي سليمان وبلقيس ويضع الحوار في فم اللغة على انه أمنية لروح تتمنى الخير لما موجود رغم الجدب والحرب والإستلاب الأممي لولاة قساة أراد من خلال المرأة أن يضع شكل الرغبة (ليس بالتأوه) فقط بل بنشيد للحرية المفترضة . حرية تخرج بنا بعيدا عن النمط والمألوف ويكون الحب بنقائه الأبيض بعض شجنها وتكون المرأة بسحرها وقودا له .
((حين يصحو من نومه
وحين يغفو
في الصباح القاتم والمساء البهيج،
يردّد، يهذي:
لا، لم يبق وقتْ
ليس ثمّة وقت
الموت يشمشم الأثرَ على العتَبَة
كما يشمشم الذئبُ بولَه لحظةَ هياجٍ
في الدائرة التي رسَمَها للرحيل.
ليس ثمة وقتٌ
ترتجف العبارةُ من جرف كيانه
تتساقط من شجر اللاوعي العميق
تسدّ عليه الأفق والطُرقات
وأحياناً تهمي مطراً
على جسدِ امرأةٍ تضيء طرفَ الأنفاقِ
المظلمة. ))
تقرأ هذه القصيدة سيرة ذاتية ما . أنها تدوين لما كان يعاش ويعيش الآن. روح مسيرة بالتذكر وهاجس محطات عمر، وحدة. وشعور لا يكتمل بسطوة الأنا إلا مع الأخر . هجرة ومنافي وأزمنة خربت روزنامتها رغبات وعي لشباب أو طفولة، أستذكار للحظة عظيمة يدرك فيها الشاعر مصائر من كانوا معه في ذاته أو وجدانه أو من يكتب ويناضل من اجلهم ودائما يكون جمع الشاعر هو واحد يترصدون لحظة الحياة من خلال ألمه أو سعادته أو موته أو منفاه لهذا كان النص يقول على ذكريات هذا الواحد وتخيله لما كان ويكون وهو يسير في اللاوعي رغبة بادراك المسافة المتبقية من طريق فيه الكثير من المحطات والتجارب وفي النهاية يضع الشاعر المصائر نفسها (وأحيانا تهمي مطرا ..على جسد امرأة تضئ في طرف النفاق المظلمة) .
أشتغل النص أعلاه في مقطعه (المتشمشم) على إحساس وجودي يلونه قلق عميق هو في محمله يعبر عن إحساس الشاعر بما يؤثر به ويؤثر فيه ولكن نقاوة التعامل مع الوجود بفكرته السارترية هيمن على حتمية ما تنتهي له الأشياء . أنه يصنع موتا لصاحبة موتا محسوبا ومقدر له وعليه لهذا فأن الذي مشى على عقل القصيدة هو الموت بالذات البشرية وهي ترتطم برغبة أن يتسامى هذا الرحيل مع فكرة الشعر ويكون جميلا .
في رؤية أخرى بمقطوعة شعرية من النص نفسه تبقى ذاكرة الشاعر تتشغل بالومضة المتعاقبة والصورة التي تحمل همها ورؤاها بشكل يجعل الشعر صورة للمشاعر أي كان طولها أو زمنها :
((هكذا عانق الشبحُ توأمَه
وسط الظِلال المحتدمةِ لصليل المجزرة.))
ففي النص تذكير لمجانية الفقدان والتعسف والقتل. والنص يصور انعكاس ما يشعر به ذلك الذي يشعر بمهانة الموت بسبب الجمال ليتخيل ظلا آخر يكون بديلا عن فزع المشهد كما في لوحات غويا. إن التوأمة لكل ما يحدث لنا نحن المستضعفين هو هذا (الشبح)..
يقول الفارابي في حكمة الكلام والموسيقى : أن الفهم نغم . وان النغم كلام . والكلام مصنوع من إشارة .
أفهم سيف الرحبي بهكذا تأويل وأستطيع إن إقراءه في رؤاه الجديدة القائلة:
((في النهر المتلوّي أمامه
حيث المتنزّهون بكلابهم الكثيرة
والعجائز يجرجرون السنوات؛
يحدّق في المياه
يستنطق مخلوقاتها الدفينة
كمن يبحث عن ضالته التي ضاعتْ
منذ الأزل. ))
أقراهُ بروح (هيرقليطس) القائلة (انك عندما تنزل الماء لمرتين فلم تكون الموجة الأولى هي من تجدها معك كما في المرة الأولى.) ..هذا يعني إن ديالكتيك الأشياء قائم بلحظته وكذلك الذين يقفون على حافة النهر مع كلابهم يتأملون هذا المتغير في كل لحظه وكذلك أيامهم . هو معهم . الذات التي سكنت مقاطع النصوص . وهي ذات الشاعر التي تقرأ ما في النهر من دلالة التكوين للوجود بعدمه وحركته ونماءه واضمحلال ساعته فيما النهر باق يجري إلى ما لانهاية. انه باحث أزلي عن أشياء يحسها إجابة لذات القلق الذي أصاب آدم لحظة شعوره بفداحة الخطأ البشري الأول ويوم هزه قتل الأخ لأخيه لذلك فان الرغبة في رؤية الدفين يظل أزل يلازمنا.
((الكلبُ يقعي على برازِه
الغمام يَحوم
والسنونو يتماوج في الفضاء الجَهْمِ
حاملاً في مناقيره ربيعَ القارّات. ))
هذا مشهد آخر وودت أن لا أقف معه طويلا فذات الرؤية (السارترية) قائمة ولكن الشاعر يتعامل مع الجمل الأولى بعجل لينتقل إلى فضاء ابعد من (قعدة كلب) فهو يضع الأمر في تصوير آخر . الذهاب بعيدا حيث ما أمكننا أن نكون . (جالسين على أجنحة السنونو) ..
((في الحديقة العامة
التي تشبه غابة،
تتشكّل السُحُب في هيئة كثبانٍ، على صفحتها
توشك القطعانُ أن تغرق في مغيبِ
البحيرةِ التي يطير البط فوقها بأجنحةٍ من ذَهَبْ.
نخلةٌ غريبةٌ
على ذوائبها فراشاتٌ وعصافير.
الحارس يطلق صفّارة الإغلاق
البشر يخرجون، أفراداً وجماعات
تاركين شعوبَ الحديقة تنعم بالأحلام،
عدا السيد(شوبنهور)
الذي بادره الحارس:
من أنت أيها السيّد؟
أجاب الفيلسوف المُثْقل بالوجود الجريح والأسئلة
"ليتك تجيبني على السؤال كي أكون مديناً لك طوال العمر"))
هنا يبدأ قصد الشعر في قراءته الفلسفية لمفهوم الضالة ومعنى الفقدان، فلقد دخل الشاعر هنا إلى تشكيل الجمالي بفلسفة وعصرنة الاثنين وفق حكمة الثقافة وموهبة الشعر . في النص تحسس لما يحدث للموجود، للمؤثر الذي صنع كيان الرائي والروائي لما يحدث في سكون الحديقة. المتغيرات. المشهد الطبيعي أرهصات الحضارة الشعور بقدر من الخيبة شكر ما ينبغي شكره اتجاه ما نتعلمه من ذاك العالم الذي بدا للتو مغادرة الحديقة أفرادا وجماعات: ((أنا أرى إن النص يتشكل حضاريا داخل محاكاة الثقافة الأخرى)) الوافدة + التي ُنعجب بها، وسنرى في حكمة النص مايتلركه الجواب الذي طرحه الفيلسوف بعمق وتورية (وكآبة)
(ليتك تجيب على السؤال كي أكون مدينا لك طوال العمر)
مدين لمن ؟
لدواخلنا وقلق الوصول إلى الحقيقة والشعور بالفارق بين زائر وزائر لهذه الحديقة الحلم . التي ربما تكون يوتيبيانا، أو رغبتنا، أو جهة لسياحة الذاكرة والضمير . غير أن مجئ شوبنهور عدل من توقع ما تنتهي إليه القصيدة كتأمل الدخول والخروج للبشر والعوم الفطري بمياهها الدافئة غير أن حشرجة الفيلسوف وضعت في رؤية الشاعر قصدا ابعد من مكان نقصده لنريح أجسادنا وحواسنا . كان هناك شيئا من تصوف الإجابة ولأنة فهم لمعنى ما يحدث وهو تذكير بقول هيرمان هيسا معقبا على شخصية سادهارتا : كنت اسأل نفسي وقلما أصل إلى الإجابة الصحيحة . وكذا سيف الرحبي وشوبنهور .
أدرك في هذا الكلام تنوع الشاعرية وتلاوين أفكارها ولهذا تتعدد القراءات المفترضة التي قد لا تلتقي مع ما يقصده الشاعر ويريده لكن القارئ والناقد لا يهمه من قصد الشاعر شيء لأن القصيدة تطرح همها وسعادتها بطريقة ترتبط تماما مع لحظة القبول لدى ذاكرة القراءة عند المتلقي وهذا ما يطلق عليه بافلوف : قيمة الاشتراط والتحليل لما نراه ونقراه ونفسره :
- ((هذا الصمتُ
الذي يلف الغابةَ
كما تلف الأمُ رضيعَها
هذا الحنانُ الكاسرُ للصحراء المتدفّقة خضرةً
سر الكينونة الغضّ
لهذا الفراغ الناطق.
* * *
- الأنثى فرجُ الغابة
مركزها الحسي الأكثرَ رهافةً وأنيناً.
والغابة
سُرّة كوكبٍ يبحثُ
عن مستَقرّه وسط دروب المجرّات.
* * *
- طائر يحط على قبّعة تمثال
يطلق صفيراً متوتراً وحاداً
كمراثي أمّةٍ
على حافّة الانقراض.
* * *
- مرّتْ أيام وشهور
والمطر لا يغشى هذه الضِفاف
الغابة تحصي عصافيرَها
في الظل
خوفاً من صاعق الجفاف.
* * *
- يكتب الغريبُ اسمه
على جذع شجرة سامقة
لا يأبه به أحدٌ،
وقبل أن يأتي المطرُ
ليمحو المدادَ من جذورِه،
وحدَها الغابةُ
تحفظه في ذاكرتها السرمديّة
* * *
- ـ يستجدي ذاكرته المدرّبة على الحفظ
والأوراد
ذاكرته المثقَلة بالأماكن والوجوه
بالنساء والصداقات
والكتب.
الأسيرُ المغدورُ يمتحن ذاكرتَه
ليلوذ بها من فظاعة المشهد
لكنّه يسقط المرّة تلوَ الأخرى
في بركة الدم التي يرفس فيها
طائرٌ جريح
* * *
أخذنا من النص ست مقاطع. ليس استعجالا للانتهاء من سياحتنا بهذا نص عميق بل لأداركهما بشراكة النصوص في قدرين . المنبع والمصب، أي أنهما قائمان على أسطرة واحدة وميتافيزيقيا متشابهة وأدوات تكاد تكون من فصائل واحدة وذاتها العين الكاشفة والمفسرة موجودة والتي تنقاد بفعل نبض القلب الواحد (نصوص تذهب إلى حانة واحدة وموت واحد ومشاهدة واحدة) غير أنها تختلف في منتصف الطريق وكلا يذهب إلى غايته في تفاصيل تغيير المشاعر والنظرة والصيغة الحسية للحظة خلق النص حيث يشكل التخيل ذاته قلق الشاعر لما يحصل في تكوين الحدس البنائي للحظة التأليف . رؤى يذهب إليها، يدرك معها شجون الآخرين ويبني عليها فقه تفسير ما يعتقد انه صاحب رسالة وعليه أن يفسر للآخرين طبيعة ما يحدث (أمامنا أو خلف الكواليس) لهذا فالنصوص كلها تدعم غاية الحرية في قلب الشاعر وهي تذهب إلى هذه الكشوفات والمراثي والتمجيد والخلق وهو ما يطلق عليه رامبو تطابقا (ذات مساء أجلست الجمال على ركبتي ...فوجدته مرا ..فجدفت إليه) .
انه يفسر كينونة موجداته التي تصادفه في السفر، في الحلم، في العمل، لحظة الشروع في الكتابة، السجود، مائدة العائلة، لحظة التفكير بمصير العالم..هواجس يعتقد الرحبي إنها همنا المشترك ولكن طريقة قطف التفاحة تختلف ..
النصوص احتفت بوحدانية تنتمي للطبيعة بهاجسها التفشيء،وهي تعكس تأثيراتها على الذات البشرية (ذات الشاعر، أم ذات أخرى يكتب لها الشاعر) كما في النص رقم 5 (نحن وضعنا أرقاما للنصوص كي لا نعيد تدوينها في رؤانا مرة أخرى) ..فهذا النص يشيع في القراءة جوا ملبدا بالحاجة إلى شيء، بالرغبة في استعادة ما ضاع منا من خلال خلق اللوحة المفترضة لحلم بناء القصيدة .. الحلم الذي ينقر على جذع الشجرة مجفرات الرغبة وذكريات ما يذهب من أزمنتنا التي نتساءل إننا كنا قد حققنا فيها ما نريد أو لم نحقق . هنا يحاول سيف الرحبي (كما أرى) أن يحول التفكير بالآخر الذهني إلى حلم محقق لصورة إنسان ينبغي أن نرتقي به قبل أن نرتقي بأنفسنا وتلك بعضا من هواجس اليوناني (ريتسوس) فصناعة المشهد هي صناعة مؤثرة قبل أن تكون صناعة الكتابية وهو (أي الرحبي) صاغ القلق وحواس القلق وأزمنة وأمكنة القلق في الترقيمات كلها ( هذا الحنانُ الكاسرُ للصحراء المتدفّقة خضرةً
سر الكينونة الغض .. لهذا الفراغ الناطق ) من نص رقم 1 ..
( والغابة
سُرّة كوكبٍ يبحثُ
عن مستَقرّه وسط دروب المجرّات. ) نص رقم 2
( كمراثي أمّةٍ
على حافّة الانقراض.) نص رقم 3
(الغابة تحصي عصافيرَها
في الظل
خوفاً من صاعق الجفاف.) نص رقم 4
(وحدَها الغابةُ
تحفظه في ذاكرتها السرمديّة) نص رقم 5
(في بركة الدم التي يرفس فيها
طائرٌ جريح) نص 6
أذن عندما ننتبه إلى نهايات النصوص. سنراها مشدودة إلى مكان واحد وبخيط واحد وكارثة واحدة لكن المتغير يكمن في تغير الإيحاء والصورة وطلقة الاستغاثة التي يطلقها الشعر والشاعر معا وبهكذا يجد من فقد ضالته ثوابت لرؤى الشعر والقائلة : انه (أي الشعر) يتوافق في الإدراك يتعاكس في القصد ولكن طعم دمعة حالتين واحدة ..إنها مالحة دائما ولكنها في بئر ذاكرة القارئ تتحول إلى أكثر عذوبة من سعادة موسيقى .
العالم الشعري لسيف الرحبي كانت بدءه (دادائيات كثيرة) فلقد ظلت روح النثر وما تملك الكلمة في لبها تسيطر على فتنة الشعر لديه وبقيت لغته تمسك قوة الرمز لذكاء روح التواصل مع حس حداثة ما يفترضه هو منجزا . ولقد تطورت هذه التجربة كثيرا .وعدلت من ثقافتها بفعل تطور المرحلة التاريخية ونضج الحواس وتجاربها . ومنها هذا النص الذي تتنوع فيه خيال الرؤى بتنوع التجربة وعدسة الذاكرة الشعرية لدى الرحبي وهو يوقت لأشيائها بإحساس عال لتوسيع رقة الفيوض المبهجة في فضاء تصوفه وإدراكه إن الرموز وثراء معناها فقها وموسيقيا يمكنها أن تؤدي بنا إلى نصوص جديدة في متغيرات وضع الشعر في عولمة الاتصالات وحدة الضوء الذاهب مع برنامج حرب النجوم :
((الأفق مدلهمٌ
واللغةُ سوداء
لكن وجودَكِ في ثناياها
بوجهكِ البليغِ
غداةَ الظَعنِ
أعطاها كل هذا المدى والإشراق))
هذه مشاهدة صوفية . علتها إنها تدرك في الشعر معناها (هو ذاته إدراك الشاعر) يقف في أفق البهاء يتطلع إلى المنظور والمختفي ليصنع ذات (ذات) السهرودي القائلة : الإشراق في ما نتلقاه من نور .
الشاعر هنا يوقد ذات الشعلة ولكن بعود كبريت مغاير . ففي اليأس والإحباط واللغة السوداء هناك رغبة الذهاب إلى ما يجعلنا قادرين لتكوين لحظة بدء جديدة (الإشراق) المولود أصلا ما يملكه الوجه من بلاغة وتقاسيم تنبئ بحدث المتخيل والمراد الوصول إليه . وتلك مهمة الشعر قبل أن تكون مهمة الشاعر . لقد أضاء شكل القصيدة شكل من يفكر في داخلها فكان المدى ( المكان يتسع لإحساسنا ونحن نتهيأ لنكتب مشاعرنا بطريقة خارج حدود متن المتعارف عليه .
في ليل المدينة الخانق ـــ A ـــ
يقفز من السرير
ليمسكَ بالعبارة التي تخبط أجنحتَها
في رأسه
كي لا تطير بعيداً عن مدار يده المرتجفة
بالأرق.
* * *
أمام التمثال الذي ينضح وجهه ـــ B ـــ
بالشر
أحسّ أن لسانهَ يمتدّ نحوي
بسخريّة
تتجاوز الموتَ والزمان.
في ليل المدينة الخانق
يقفز من السرير
ليمسكَ بالعبارة التي تخبط أجنحتَها
في رأسه
كي لا تطير بعيداً عن مدار يده المرتجفة
بالأرق.
* * *
أمام التمثال الذي ينضح وجهه
بالشر
أحسّ أن لسانهَ يمتدّ نحوي
بسخريّة
تتجاوز الموتَ والزمان.
تجتاحني موجةُ الغضب
فألوي عنقَه في الوهم
شاقاً بحرَ التماثيل
بعصا الجد الناعقِ في البريّة
في النصين المرمزين من قبلنا ب ( A و B ) قراءة هي امتداد لمعاني التوصيل التي يريد الرحبي أن يدرك من خلالها ما يبتغيه، قراءة لغياب قديم وابدي تشعر به الرغبة الكيان المصنوع داخل النص (الإنسان الذي يبحث عن قدره وخلاصة) وهو يحاول أن يشرح لظله تلك المعاناة البحثية عن ذلك السرمد في غياهب المدن والمحطات والكتب وكأنه يجد في العبارة ما يجده الحلاج فكلانا الهاجسين يمتلكان تيه واحد في مدينة واحدة وإذا كان سرير الحلاج تكية في جامع . فمكان من يتحدث عنه الشاعر هو الأرض بكل مدنها الحديثة وأمكنة القلق التي تضج بها حتى لو (صحراء ظفار) فلا بد من قفزة سرير تجعلنا نعيد حساباتنا جيدا.
هذا ما في (A ).. مافي ( B ) لا يختلف في الشعور بالمستلب لكن التعبير يأخذ مدى أكثر بعدا في فقه (الهاجس والعبارة) وهذا ما يعتقده ابن العربي بأنه ( وضع الموضوع في شروط الوضع ) . جملة صعبة لكنها تقود إلى تفسير هذه الدادائية التي لبست وجه التمثال فأحكمت بغيبها نمط الشعور بين التمثال ومن يتأمل وهما في الأصل واحد .
قراءة النص ( B ) تعتمد على الرؤية المتوازنة في جعل شعور المشاهدة والتأثير من صلب المعاش وهذا يعتمد على نص لتفسير بيانات السريالية عندما قالت: إن المتغير الحضاري يسكب لبنه على الشعر قبل أن يسكبه على بنادق جنود الحرب الأولى..
((تجتاحني موجةُ الغضب
فألوي عنقَه في الوهم
شاقاً بحرَ التماثيل
بعصا الجد الناعقِ في البريّة ))
أعتقد أن النهاية لتصرف الشعر في هذا النص تحدد قيمة ما نشعره ونحن نعيش العالم بكل موجوداته وحركته الروحية والاجتماعية .
ما يأتي هو هاجس جديد يتعلق ببندول المثاقفة بين الشاعر وبين من يتأثر بهم وهم حتما أصحاب مساحة إبداعية تذهب في عالميتها إلى منجز كبير ليخلق نص في تطابقات وعي الشاعر ومن يهدي إليهم نصوصه كما يفعل الرحبي في إهداءه هاذين النصين إلى فرجينا وولف و برنو باتلهايم وبينهما يقع نص قصير بالمرآة وانعاكسات المشاعر لهاجسي الكتابة إلى رمزين مثل وولف وباتلهايم فهما في مقدرهما يبعثان على شكل الإبداع بصورتين مختلفتين وأهمها صورة وولف المقترنة بفجعية اليأس من العالم وتغيراته ليقودها هذا إلى الانتحار :
((إلى ف. وولف
على المنحنى الجارف للنهرِ الكبير
تلك البقعة الأثيرة على قلب الرب
الواحةُ المقطوعة من الروح،
حدّقتْ للمرة الأخيرةِ
في المنحنى الناصع بالبياض مثل قلب السيدة
حدّقت في الحمائم والسُحب والأفكار
في طفولة العالم المغْتَصَبَة
أزاحت القبّعة الفكتوريّة جانباً
أوثقت الحصى كزرَدَ المحارب
كي لا يطفو الجسدُ فوق المياه
وسافرتْ
في ظلام موجها الأخير ))
هذا النص الذي يروي بالشعر لحظة قرار كاتبة لتخلص من كآبته ذكرني بنص قديم كنت قد كتبته عن الكاتبة الإنكليزية (رجينيا وولف) وأهديته حينها إلى السيدة (الدكتورة هاجس بن إدريس) أستاذة الأدب الإنكليزي في جامعة القيروان، نتاج مذكرات عن وعي الأدب النسوي ومكانته الأممية وتأثير الهاجس الحضاري والاجتماعي على الأديب ومقدار تحمله للضغوط الحضارية التي لا تتفق مع شفافية ما وهبه الله من حس وبارومتر للتأثر كما حدث لفرجينا وولف عندما أعلنت : )إن الحياة لايمكن أن تعاش من دون رومانس مناسب وما يجري الآن كمن يلوث مياه البحيرة الصافية).. وأتذكر بدء المقالة كان كذا ((سأبدأ منذ اللحظة التي أغمضت فيها فرجينيا وولف مودعة العالم بانتحار لبس رداء اليأس جراء التغير الروحي الذي لم يعد يلائم العصب الحسي الذي أرادت فيه وولف أن تجد فردوساً حالماً في اشتغالها القصصي عبر تجارب بدت بائسة في كل صورها لهذا ومنذ اللحظة التي أغلقت فيها وولف عينيها تغير كامل المشهد الإنكليزي، وبدأت إنكلترا تفقد مستعمراتها واحدةً تلو الأخرى، وكأن شبح الحرب قد أغاظ الرومانسية السكسونية كثيراً، وجاءت رغبة العرافة {سيبيلا} في بدء قصيدة أليوت الأرض اليباب لتعبر تماماً عن ذهنية الموت الذي سكنت أليه فرجينيا وولف))
نص الشاعر سيف الرحبي ينقاد إلى ذات الجادة التي سرت عليها وأنا اكتب عن الكبيرة (فرجينيا وولف)..
ما فعله النص انه أعاد المأساة بما تتصوره (إنسانية الشاعر) لكنه نجح هنا في خلق طقوس عالية الناقة للحظة الرحيل وحسب ما تتخيله طاقته الشعرية. وبذكاء أدرك مشاعر خفيه في بدايات القرن العشرين هذا الذي رأته وولف ابتعادا عن قيم عظيمة كانت تسكننا من أيام فرجيل وأبو قراط وشكسبير لكن المر لم يعد هكذا زكما يصفه الشاعر في طقسه (الجنائزي) : (بقعة أثيرة على قلب الرب .. وواحة مقطوعة الروح) وهذا وصف بالغ الحدة والدقة لما وصلت إليه مشاعر فرجينا لتجعل الشاعر يوغل في تفاصيل أخرى حتى لحظة الذروة واغماضة الأبد .
اعتقد إنني كنت متأثرا في هذا النص كثيرا لأنني سبق لي أن ذهبت إلى ما ذهب إليه وان كان سيف الرحبي ذهب إليه بقصيدة فانا ذهبت إليه بمقالة وكلا الهاجسين(إنا وهو) كنا نبحث عن اغماضة حزينة واحدة وتفكير مشترك بتهيئة نعش يليق بروائية عظيمة كفرجينا وولف :
((أوثقت الحصى كزرَدَ المحارب
كي لا يطفو الجسدُ فوق المياه
وسافرتْ
في ظلام موجها الأخير ))..
النص الذين توسط وولف وباتلهايم لايمت للمشاعر الجرمانية للشخصيتين بصلة إنما أتى في سياق إلهام النص الكبير المجزئ إلى نصوص اصغر ولكنه نص بفطنة وحذلقة ورؤية جمالية لمشاعر الشاعر ذاته ولكنه في كل مرة يتحاشى السقوط في الجملة المكررة إننا نلاقي هاجسا جديدا في كل مرة ينبئنا عن قراءة الشاعر لما يحدث من حوله من خلال يومه في وطنه أو في خارجه :
((كان ينظر في المرآة
يحدّق في وجهه بعيداً، بعيداً،
في كهوف المرآةِ
حتى رأى طيوراً مذعورةً
تقطع ممرّات مائيّة عاصفة،
باحثةً عن ملاذ. ))..
إن النص لا يعدو إلى كونه مراجعة لما رأيناه ونراه من خلال مرآة بل هو تفسير لعالم يتحرك أمامنا ليس من خلال منظر الشارع بل من خلال المرآة التي فينا وفي عيون خرائط الوجود لهذا فالبحث عن الملاذ هو بحث عن خلاص وتلك واحدة من أبديات هموم الشعر وشاعر في شتى المذاهب والفلسفات .
المرثية الأخرى لمنتحر أخر حرص الشاعر أن لا يضعها مباشرة بعد مرثيته لأجل وولف تلك التي أستعاد بها (رغبة شيخوخة برنو باتلهايم الطفولية) ليعدوا معها إلى لحظات السعادة التي أحس بها عالم النفس الشهير والمتخصص في علم نفس الطفل والتي رآها قد حان أوان قطافها ولتأتي بالموت المقدر بإرادة العقل لا بقدرية حادث أو فايروس يصيب الجسد أو عطب في القلب مستذكرا ضرورة باتلهايم لهذا (الانتحار المقنع) بقوله : (أنه سوف يضع حداً لحياته لأن الزمن الشخصي قد طال وتراكمات الذكريات لم تعد تحتمل)..
لم تشغل ذاكرة الرحبي على هذا الهاجس لدى باتلهايم ليبني سور مرثيته حول حديقة الشعر الذي هو خاصته . لقد ذهب إلى مكونات عالم الفيلسوف المنتحر . إلى عمله وتخصصه وطقسه الذي أقام له عشق 87 عاما من حياته ولتنتهي بصمت عام 1991 . وعبر هذه الأشواط الطويلة شغلت الطفولة ذهنية الكشف والتحليل والاستنتاج عالمه لتردد صدى كلمات اليكس سان ليجيه الأثيرة والتي كان غاتيان بيكون يهيم بها والقائلة:
(إن لم تكن الطفولة..فماذا كان هناك قديما ولم يعد له وجود)..
يشتغل النص المهدى إلى رقدة عالم النفس الأبدية على تفكير أطفال الطفولة الأممية .( طفولة الفكر والفقر والفضيحة والفضاء والفن والفنتازيا) .
صاغها الشاعر بقدر عال من الحسية ونضج التعابير لخلق مبررات الإهداء ولإكساب المر الشأن الشخصي لبرر تذكر هذا المدفوع دائما برغبة ملامسة النبوغ الأبدي لدى الطفولة ويمارس معه طقس استعادة الحاجة لكمال المهمة .
يقول باتلهايم : كنت اختبر في كل مرة سرعة النطق في طفولتي فأتخيل إنني حفظت الإلياذة على ظهر قلب) لهذا العظيم يتحدث النص بهدوء وعمق وتأمل وتفسير الدافع لإنهاء الفيلسوف حياته بشرب العقار الكيمائي المميت :
((إلى برونو باتلهايم
على شاطئ البحر
وحواف الأنهار السعيدة
يبني الأطفالُ الأبراجَ والقلاعَ،
موحشةً تضطرب في جنباتها الريح
لا أثرَ لأقدامٍ مرّت
لا أثرً لإنسانٍ أو حيوان
حتى الحارس المعهود يختفي ويذوب...
هكذا يختار الأطفال قلاعَ أحلامهم
التي يمتد خواؤُها، مساحةَ العمر بكامله
قاذفاً خميرة العدَم الأولى
إلى أصقاعٍ لا سقفَ لها ولا قرار))
الشاعر هنا يقف على ما تركه أثر انتحار العالم النفسي على عالم برمته سكانه من الأطفال فقط. الأطفال لازالوا يحبُون على ركبهم والذين كبروا والذين في انتظار أن يكبروا. إن الرحبي يتحدث عن عالم فقد خيال سرمديتهم واختار موتا ضاحكا كما فعل باتلهايم حين اختار لسفره السرمدي عقار الباربيتوريك كما في الوصف الرائع للكاتب المصري احمد الشريف :
((وان هذه المادة قوية المفعول وتمنح الموت بسرعة خاطفة، ونصحه الطبيب بأنه عندما يبتلع هذه المادة عليه أن يضع رأسه داخل كيس بلاستيك لأنه عندما يتنفس بعد تعاطيه لهذه المادة بلحظات فإن عملية التنفس سوف تمنح داخل هذا الكيس غازا عذباً عندما يتم استنشاقه مرة أخرى فسوف يمنح رغبة في الضحك وحالة من الاسترخاء الذهني، أي إن الشخص الذي يريد الانتحار بهذه المادة سوف يموت وهو يضحك، موت بشوش، وفى 31 مارس 0991 قام باتلهايم بتناول هذه المادة الكيميائية ووضع رأسه داخل كيس بلاستيك، وعبر بوابة وردية عذبة غادر العالم وهو يبتسم.))..
هذا النص بتعدادات نصوصه الكثيرة . ظل ينتقل إلى محطات رؤى مخيلة الشاعر بذهنية تؤرخ لحواس الرغبة بشيء من الحنكة . عوالم ترتبط ثقافاتها بنقطة مركز واحدة يريد بها الشاعر أن يقول: (عن الشعر يفسر كل مافي الموجود الذي نراه ونعيشه بل ويذهب إلى ابعد من ذلك) لهذا ترى رؤى الميثولوجيا قائمة وتأخذ حصة من مشاهدة الشعر والشاعر كما في هذه المقاطع وهي تملي على الذهن رؤية أخرى لما يريد أن يوصله إلينا الشاعر العُماني سيف الرحبي :
((الآلهة X1
التي تعبدها الأقوام القديمة
حين يشتد غَضبُها
وتأتي بالزلازل والطوفانات
لتهلك الأرض والبشر،
لا يهدأ أوارُ عنفها
إلا حين تشتمّ رائحة القرابين
رائحة الدم.
* * *
ارتاحت الآلهة للذبيحة XX11
تنسّمت هبوبَ الدم المراق
حتى (إنليل) 1 الأكثر عصبيّة واندفاعاً بين
الآلهة
هدأ رَوْعه، وأدرك خطيئة الإفناء
الكامل الذي بموجبه سيعيش
بعيداً عن مخلوقاتِه وضحاياه..
ماذا سيعمل برهةً احتدام الضجر والوَجْد العدائي؟
بمن سيفكر مبتكراً - باستمرار- طُرقاً جديدةً
للخلْق والتدمير، تلك الصفات، أو للُعب المسلّية،
ربما حدّس الإله الأسطوريّ أن في ضحاياه بعض
شَبَه منها، وأنها ستكبر مع الزمان..
كان ذلك مبكراً في عمر الآلهة والبشر.
* * *
هناك في (هرمجدون) 2 قريباً من XXX111
بيت لحم،
قَدِم الملوكُ والقادة والرموز، الأسلحةُ
والجيوش.. من كل الأقاصي والأصقاع احتشدوا
لخوض المعركة القياميّة الأخيرة، التي سيختفي
على أثرها العالم من سطح البسيطة ويسود الهدوء...
لكنّهم خلال ذلك المدّ الهائل للأقوام وهم
ينصبون المنصّات العملاقة للمذبحة، وجدوا
أن العالم قد انتهى قبل وصولهم بزمن طويل، افترسَ نفْسَه
عبر تاريخه المسترسل في الهدْر والنزيف.
فكان ذلك الارتطام المدوّي عجزاً ويأساً لشهواتِ
الدم الأكثرَ أصالةً وميتافيزيقيّة في الخَلْق.
أخذوا يشربون النبيذَ المعتّق لمدينة المهد بوجوهٍ يملؤها
الدمعُ والمخاط لهذه الخاتمة اللاملحميّة البائسة.
* * *
يحفر النيزك في الأعماق
المتصدّعة مجراه
ناثراً بذرةَ الحياة
* * *
لستَ وحدَك من أتى إلى هذا
العالم
ولا من يذهبْ
الأمم جميعُها عبرتْ هذا الصراطَ
الفاصلَ بين الرمضاء والجحيم..
* * *
تتوالى الأيام واللحظات
كما الكلمات والأحرف في صفحات كتاب
ألّفه الأقدمون
قبل آلاف الأعوام. ))
هنا يكشف الشعر معاصرة الميثولوجيا لما نعيشه اليوم (الجدلية القائمة): علاقة الآلهة بالبشر . رؤية أزلية شغلت الفكر الإنساني على مختلف الأشكال ودونها على اللوح كواحدة من أزليات القلق القديم .
رؤى تتشكل بهموم ((العبادة، التوسل، التحدي، التضرع، القربان، الاستشهاد لأجل ما توده الآلهة ليكون قدر المحارب أن يموت دون أن يصل إلى المعنى مادام العظيم جلجامش نفسه لم يصل إليه وحتى الشجاع آدابا وقع ضحية النصيحة (الخطأ))).
علاقة تحكمها هواجس سريالية ووجودية وعلمانية وميتافيزيقية تحمل طيات ثوب التفكير الأول ويضع خطوط المساءلة بين طغيان الرب وخضوع العبد وهو ما يهدف إليه الرُحبي في نصوصه المقتربة من قصد التفكير الأول عندما كانت الآلهة هي القدر المقدر على جميع البشر . أنه يتحدث عن عنف متوارث، عن هاجس الذات التي تخيل الآلهة وصنعتها من صوان الحجر ليأتي كلام ديورانت صاحب الكتاب الهائل (قصة الحضارة) لقد صدق الإنسان كذبته حين أطاع بجدية تماثيل الحجر وعليها بنى فكرة التسلط والعنف ودم القرابين وهو ذاته تفكير نص الشاعر ومطابقته مع الشعور الإنساني بتلك السلطة وهيمنتها كما في X1 :
((لا يهدأ أوارُ عنفها
إلا حين تشتمّ رائحة القرابين
رائحة الدم. ))
إنها ملازمة القوة لهاجسنا المصطنع، هاجس ظل يلازم حتى رؤى الكتب المقدسة الحقيقة تلك التي أتت من الذات الصحوة التي لم نصنعها نحن من صوان الحجر بل هي التي صنعتنا من نار وصلصال ونفخت فينا الروح .
في النص XX11 الحس ذاته ولكنه محدد بمكان وزمان معلوم. تلك الأرض التي صنعت الحرف برغبة الموسيقى . وصنعت الموسيقى برغبة الحرب (ارض شنعار كما في التوراة) وأرض سومر كما في الألواح الثرية والمسلات وأختام اللازورد . هناك وفي ذلك المكان كانت السرمدية تقف عند أخيلة الآلهة الحجرية وكان انو وانليل وعشتار وانكي يمارسون سطوة المجامعة والحكمة حتى مع ذرة الرمل وسعف النخلة وموجة الماء والعذراء التي لم تحس باكتمال بكارتها بعد . آلهة تفكر بمدرك ويدونه تدخل وعي الشاعر في المقاربة الأسطورية لشغله الحديث فيأخذ اشد الآلهة حكمة وسطوة بعد انو (إنليل) ليعزز فيه كشوفات البحث عن مؤثر ومعنى قصيدته وهو بذلك يعيد الثر الروحي إلى أرضه (إلى أور) حيث يتداخل المرئي بالغيب وتبتهج حاجاتنا إلى جعل الشهوة مكاشفة الكلمات للورق ومن ثم المشي إلى نقطة الضوء حيث يجلس انليل على كرسيه الأبنوسي وبصولجانه المجوهر بالطقوس والطلاسم يؤشر على بدء يوم جديد لهذا العالم (يوم بموت وبمصائر وبحروب وبكرنفالات وبغوايات عشتار التي تموت في الجسد المشعر حتى لو كان فلاح حقل) .. وفي رؤى النص XX11 حداثة ماكان تفكيرا حقيقيا عن نتاج ما يحصل بين البشر والآلهة وهو إحساس إنساني بحث إذا افترضنا إن إنليل نفسه صناعة مخيلة إنسان أراد أن يسيطر على القرية وجميلاتها ..
جدلية الامتزاج (البشري ـــ الإنساني) خلقت هاجسا لقصيدة سيف، هو يبرره دائما برغبة ما يريد أن يصل إليه وان ميله الدائم إلى اسطره ماهو له آت من اعتقاده إن الشعر قادم من تلك الجهات لهذا فأن النص XX11 كان نصا يكمل قلق الشعر إزاء ماكان يحدث ويحدث الآن وأن ألم الذبيحة العولمي لازال يفسر قربانا مثلما كان أمس وهذا ما تعتقده القصيدة وهما سقط فيه إنليل وسقطنا فيه نحن .
في النص الموشوم ب XXX111 صياغة أخرى لدراما وتراجيديا الصورة الأخيرة . النص يحاكي لقاءا حضاريا وميتافيزيقيا بين الخيال واللحظة التأريخية (يشتغل توراتيا) على ماكان في قراءة هي أقرب للاستشراق من أن تكون كشفا شعريا لحدث اللحظة التي تمزق بها جسد يسوع ع بمسامير الخشب (نص) يتفرد بخياله وقراءته المتأخرة لمجريات ما يحدث لنا اليوم على خلفية ما حدث لنا غدا .
(مثلجة) المشهد وقراءته (باستحداث) يقودنا إلى التفكير بأن الشعر بعيدا عن موسيقاه وسجعه هو (فكرة) تسجل اللحظة العميقة بدقائقها التفصيلية وهي تتفرد بالقول وتتجه إلى مدارك أحلامنا وتصوفها وجديدها وعلمانيتها لتكون شاهدا على ما حدث ويحدث من خلال القراءة أو المعايشة وما حدث هناك يعيد من خلال الشعر عهود تلك المذبحة الروحية ويؤصلها بما نعانيه اليوم من اضطهاد في الخواطر والأحلام والوجود :
((فكان ذلك الارتطام المدوّي عجزاً ويأساً لشهواتِ
الدم الأكثرَ أصالةً وميتافيزيقيّة في الخَلْق.))
النصوص الثلاثة أعلاه التي تلت النصوص (المؤثلجة) ورموز لها بعلامات (أكسية) هو نصوص تؤثر في ما تلي وتحاول أن تكون إستنباطا للمشاعر أعلاه وهي أيضا تذهب إلى جديدة القراءة لما حولنا وبذات (عيون الصقر) إنها مفتوحة لكشف المزيد من المعاني للقول وللقفز على سياج الذاكرة وإدراك ما يعتقده الشعر والشاعر إنها (قيماً عظيمة) تصل بنا إلى حدود المرئي جراء الارتطام العظيم بين النيزك والأرض وأكاد أحس إن هذا النيزك هو ذاكرة الأرض ..
أن سيف الرحبي لاينفك من تصور هذه اللحظة (لحظة المسائلة) والتساؤل عن قيمة أن نولد ونعيش ونشعر هكذا . وقد وظف لذلك سياحة تاريخية وروحية أراد فيها أن يحل بعضا من معضلة الجدل الأبدي (لماذا ..وكيف) ولكنه كما قبل كان يذهب إلى القصيدة التي تترك تفاسيرها إلى من يأتي: لست وحدك من أتى إلى هذا العالم.
إنها قناعة تشفع للشعر أن يبعد السكين عن رقبته جراء يأسه وإحباطه لهذا فالشعر هو أمم تذهب وإمبراطوريات تزول ولن يتبقى سوى (شاهدة العيان) التي هي (هو)..
بقيت القصائد المتشكلة في (كمن فقد ضالته) تتحدث باستشراق عن (تنويع القصد) وما سيأتي سيؤكد ذلك . أنه ينتقل بين (أرواح حدائق النظر والمعالجة والتأثر والكلام) بشيء من (وثاقة النفس)، يعتقد أن ثقافته تسمح له بأن يمضي إلى ما يريد مثل (واثق الخطوة يمشي ملكا) وتمشي معه رؤاه (وتفكيراته) الذهنية والتحليلية لكل ما يمكن أن يكون موجودا أو كان موجودا . يعيد ترديد (الحكاية) بما يحتفي به هو.(يعصرن) الماضي . (ويمضي العصرنة) أي يعيدها إلى الخلف بعيدا . وحصيلة ذلك إننا نقرأ شعرا (يقام على رغبة التفكير والتفسير لكل ما جرى ويجري):
((البارحة رأيتُ فيما يرى النائم ABC
أنني مريض
وحلقي ملتهب
باحثا عن طبيب في بلادٍ بعيدةٍ
أجدّف في الموج العارم للذكرى:
فتاة السطوح أضحتْ عجوزاً
عصْبة اليمنيّين الذين يشكّلون كلّ يوم
مسودّة حزب في (زهرة الدفلى)
لم يعودوا
والبَسْطاتُ الصاخبة للشارع
حيث زوجات الباعة يتبادلن الخيانات تحت المصاطب
توارت إلى الأبد..
من ركام هذا المشهد السديميّ
ينبثق جمال عبدالناصر راكباً على حنطور
متحدّثاً إلى كائناتٍ لا مرئية عن التاريخ:
ما هو التاريخ؟
هل هو مضادات حيويّة
أم سوائل مثلّجة يشربها سواح بلهاء
أمام متحف التحرير؟
* * *
لا تستطيع المرأةُ DEF
أن ترتق هذا الثوبَ،
لقد كبر الخرقُ
حتى وسع العالمَ
أحياء وأمواتا.
* * *
المملكة السبئية المزهرة IGK
وقبلها إمبراطورية سليمان الحكيم
الذي نفى الهُدهد إلى قوم من غير جنسه
كأقصى حالةٍ للعِقاب..
ثمة ستة قرون تفصل بينهما،
لكن اللقاء السحريّ بين الملك
وبلقيس
فتح لنا خزائنَ الجمال والسر التي
ينوءُ بها فقر الواقع والتاريخ ))
أعتقد أنني لن أستطيع أن أقاوم فتنة النص الموسوم بإشارة حرفية هي ABC. فهو نصع متعدد القراءات . وما في داخله ضجيج من انفعالات تأمل ومساحات من مزحة أحداث علينا أن نعيد ترتيب افتراضاها لأنها مثلت بالنسبة لنا عهدا (مهيبا) لكن النص بروحه (الماركيزية) يحتفي بخصوصية ما كان يمتعنا من رموز وأحداث ومحطات سفر . سيف الرحبي يقرأ تجربته ويخيط (لها ثوبا بفصال انتماءه وتمرده على حال يعتقد ان هكذا مشاعر هي أصلح لتكون بيان ثورة أكثر مما هي بيان شعر ) القصيدة وإن أتى بها (عبد الناصر) إلا إنها ليست هاجسا قوميا . إنها فتنة الكلمات والحس والصياغة والموسيقى. إن الحنطور الذي تحدث عنه الشاعر (هو فطرتنا وأصولها) يركبه الخالد (عبد الناصر) ليتأمل ما فينا من تداخلات عصر (حروب، نكسة، أم كلثوم، عهد فاروق، الصعود إلى القمر، عودة القدس ومخيمات اللاجئين، دهاليز أبو زعبل، إذاعة صوت العرب من القاهرة ....................) أشجان ووقفات لا تنتهي (كلها يمر عليها حنطور عبد الناصر ) وتمر عليها القصيدة في قراءة مؤثرة ذات شغل (جمالي) تسكنه عاطفة العولمة والتسييس والقراءة الحاذقة لمجريات عصر الآن (وعصر القرن العشرين) وهو ما يوصفه كازانتزاكي : بعصر المعاول والمدافع وباقات الزهور ويبقى تساؤلنا وتساءل القصيدة هو من يهيمن اليوم على كامل لحظة وضع رؤوسنا على الوسادة :
((ما هو التاريخ؟
هل هو مضادات حيويّة
أم سوائل مثلّجة يشربها سواح بلهاء
أمام متحف التحرير؟ ))
فيما يجلس النص المؤشر ب DEF على دكته الكونية يخوض الشاعر مغامرة (الأنثى) كواحدة من مسببات القراءة الإنسانية (الموهبة) فامرأة في كل تراث سيف الرحبي هي القرب إلى قراءة ( ما فينا ) وتكاد تكون المخلص لكل مطيبات خيباتنا الإنسانية (إنها تأتي دائما ومعها سفينة نوح ) وهي تفعل ذلك في DEF ولكنها تصاب بخيبة لا تستطيع فيها أن ترتق الثوب وهذا انكسار أول في قدرة من كانت هي أول شكل لآلهة عبدها الإنسان ( الدمية بنهديها الناصجين) ..
(لقد كبر الخرق ..حتى وسع العالم أحياءً وأمواتا)..
هذه هي رؤية المدرك لا تصنع إلا من خلال حسية الشعر وقدرته العقلية على قراءة ما حدث بشكل حقيقي ومؤثر. والنص هو (مرئية) نخزن فيها ضوء حسراتنا ورغباتنا ونحن نسعى أن نصنع عالما جديدا بامرأة رائية أو بغيرها. المهم إن القصيدة تطرح معاناة ما في رؤوسنا ..
أسطرة أخرى تفوح منها فنتازيا التاريخ الخفي لأقدم علاقتين ملوكيتين (سليمان فلسطين وبلقيس اليمن) وفي هاجس الملكين توارد خواطر عصر من الرسائل والتخابر والولع المسحور بطيران الجن وجنح الهدهد الناقل الأمين لشهوة المحبين لكنه رغم انه جاء من سبأ بنبأ يقين إلا أن الدول الجاحدة لتعب هذا الطائر جعلته رمزا وتعويذة لمؤسساتها المخابراتية وهذه مفارقة تحسب في بعض جنبات النص الذي كتبه سيف الرحبي إدراكاً منه لقراءة أخرى لتاريخ منطقة الشعر التي يعيش عليها ..هذه القراءة المتأنية (الناضجة) تعبر عن حال ما يمكن أن نمتلكه في لحظة جبروتنا من إدامة وصل مع آخر بجبروت.
أن الأخذ والرد في حياة أباطرة الأمم يشكل رؤى لثقافتها كما عند يوليوس قيصر وأسرحدون وانشروان وعلي والرشيد وبونابرت وفكتوريا وهتلر وبيونشت والسادات ...إلى نهاية قوائم الحكام من الولاية حتى السلطنة ورئاسة الجمهورية ..هؤلاء كانوا يسيرون أقدار أيامهم بمستوى وعي إحساسهم بما يملكون لابما يملك الآخر الذي يحكموه . لهذا كانت بلقيس مصداً لهذا الجبروت الذي ملك سليمان ولازال يملك الكثير . ولأن سليمان نبي منزل وحكيم يدرك في حس الأنس ما يضجر الجان كان أكثر مجارات لغطرسة الجمال وفي النهاية تركنا التأريخ في غموض لحظة الوصل فيما الذي حدث لاولياء الأمر بعده كان واضحا .
هكذا أرى هاجس الرحبي في هذا النص وان كان هناك مخالفة في الرؤى فمرده أني أقرا النص من خلالي (لامن خلاله هو) والرحبي في كل مرة يطرح نصوصا بتأويلات كثيرة ولني اعتني بالذي يوحى إلي نتاج القراءة فأنا أصل إلى حدود تصوري بحريتي وقراءتي لهاجس العلاقة بين سليمان وبلقيس كانت هكذا :
(( لكن اللقاء السحريّ بين الملك
وبلقيس
فتح لنا خزائنَ الجمال والسر التي
ينوءُ بها فقر الواقع والتاريخ ))
قراءاتي لهذا النص لا تمل وهي تحتوي وعي ما يصل إلي من مشفرات الشعر وما أراه وأفسره بصيغته الجمالية.
أرى سيف الرحبي شاعرا يتمكن من نسيج فكرته الشعرية بدراية وان النصوص هنا تنتقل بذكاء بين ميثولوجيا الزمن وسياحة المكان وما ينطبق على السياحة المكانية تأتي هذه النصوص القادمة مشعة ومدركة ما تريد أن تصفه وتتحدث إليه :
((في ذلك الصّقْع البعيد { أبجد }
الحياة مؤجلة والموت كذلك
وبين فراغين هائلين
ثمة ثقبٌ لا تاريخَ له
دأبتْ فيه المجرّاتُ على التناسل
والكلابُ على النباح.
ويمكنك أن ترى الأفق من ذلك الثقبِ
لكنك تسقط ثانيةً
في أتونه الملتهبة.
* * *
الموجة ترتطم بالشاطئ { هوز }
يقفز منها سِرب أسماك مضيئة
الموجة الأكثر جدارةً بالحياة
تعبر منذ ملايين السنين الضوئيّة
لتضمحل لحظةَ الوصول ))
النصان المرمزان ب (أبجد وهوز) من قبلنا يمثلان رؤى تخيل ما يوحي المكان . وهما يلتقيان في رؤية الجمالية اليونانية القائلة : المكنة تفتح تحت أجفاننا ثقوب لتذكر اللحظات السعيدة أما الحزينة فثقوبها في قفا الشوك) ..
هنا أجد الشاعر يقف على أسوار مخيلة ما يعتقده هذا القول اليوناني ..انه يقيم في كتابته الكونية بدايات قراءة باطنية لمكنة يعتقد انه يجد الحل فيها..أمكنة مترعة بالضوء وبالعشب وبالصقيع الذي من خلاله تزاول الحياة دورتها الفصلية في تواريخ منتظمة تبدأ من اللحظة وتنتهي بعام من الزمان. حسابات يعتقدها الشاعر إنها لن تكتمل إلا من خلال الشعر وان التدوينات ترسم فيضا من خلال الوعي وقراءة الأمكنة حتى عندما نكون غرباء عنها . أمكنة لتواريخ نحسها قريبة منا . تفتح في أفق التخيل ثقوبا عميقا تذهب بنا إلى البدء الأول والسعي الأول لمعرفة الحقيقة، مناخات ملونة لكنها تتحد في قراءة ما يمكن أن نعتقده إن هذه الأماكن هي الأماكن التي تليق بمولد القصيدة وتفسير ما كان يمكن ويكون :
((في ذلك الصّقْع البعيد
الحياة مؤجلة والموت كذلك
وبين فراغين هائلين
ثمة ثقبٌ لا تاريخَ له ))
انه (أي الشاعر) يسعى ليدرك ما هو فاعله. يقرأ في غيبيات روحه أكثر مما يقرأ في غيبيات المكان . يسعى لإيجاد اللحظة بأصابع الشعر ويقيم على تخوم الكلمة نتاج وعي الحلم الذي فيه ففي النص المؤشر ب (هوز) قراءة لمكان آخر يرتدي معطف الرومانسية الطاغية برغبة حشد الموسيقى في دقيقة تأمل واحدة ومنها أتت هذه القصيدة وهي تحمل صفاء المشاهدة التي سكنت وعي الشاعر وموهبته . فقراءته قدر ما هي رؤية ناضجة لمكان ما إلا أن تحسس مجوداتها تم التعبير عنه بجمال طاغ يفسره المتصوفة على انه رؤية مالا نراه ورغم هذا فهو يبهجنا :
((الموجة الأكثر جدارةً بالحياة
تعبر منذ ملايين السنين الضوئيّة
لتضمحل لحظةَ الوصول ))
هذه الموجة المقدر لها أن تجرفنا معها إلى حيث ما نتمنى ونريد تبقى هي في كل الأحوال، المركب الذي ركبه نوح وجلجامش ويولسيس والسندباد البصري وماجلان وكابرليلو بطل فيلم تايتانك، وتبقى لحظة الوصول هي كما يرى الشاعر الاضمحلال الذي نولد بعد وقيعته مرة أخرى ...
وهكذا يسير الشاعر وحقائب أحلامه وآلامه وسعاداته المتفرقة تذهب معه . ذهاب يُدول فكرته بنقطة صغيرة يمدها في أرجاء شتى ويهديها إلى أصدقاء طيبين دون مفارقة أو لغز. فالوضوح يشرق رغم فخامة الجملة وتورياتها لتقول ما تعتقده انه تواصلا ما يمكن أن نوصل به أشواقنا إلى الآخرين . يفعل الرحبي هذا بمشيئة ما يعتقده إنه اتصالا مع الآخر الذي يريده ويوده لكنه يظل يشيد هذه المشاهد ويؤسطرها بانفعال وترقب . هذا الحدوث الأزلي الممكن في تنادمات نصوص الرحبي ليرسم رؤانا وافتراضنا وقدراتنا للمرئي الكوني الذي أمامنا كما في هذا النص :
((من قلب المذبحة
من معتركِ المحنة
من الأيام التي أضحتْ بلا أصدقاء ولا دليل
يهربَ الطائرُ
حاملاً في منقاره خرائبَ ومفازات
بحثاً عن واحة ظل منسيّة ))
في نص أهداه الشاعر إلى (صبحي الحديدي) وفاء لمشاركة روحية بين الاثنين نقرأ في النص ما نعتقده (إنه نص يعزف مواويله الوطنية بحس عال من الصداقة وألفة الكلمات وتفكير المهجر والمنفي حيث يعيش صبحي الحديدي حاملا بيادره القامشلية في شراويل السماء وهو في كل مرة يصنع ألفة كلماته بحرارة واسى والاستشراق) :
((إلى صبحي حديدي
القهوةُ
رائحة القهوةِ من جديد
على إيقاع فجر العاطفة
مع الرشفة الأولى:
ثمة صيّادون في عَرْض المحيط
يسحبون شباكاً مليئةً بالصباحات والمدُن
بالورود والملائكة والشياطين
بانبلاج الحرف الأول
من غَبَش الجملة العصيّة،
في ليل دمشق العريق.
بالدخول الأوّل في حفرة الأنثى
وهمهمة الرعد.
مع الرشفة الأولى
ثمة فلاّحون مع نسائهم
يمرحون في الحقول النائية
للقامشلي))..
النص يحفز على الاستذكار، يطوي لقاءات عابرة وأخرى متفق عليها أزمنتها، أزمنة يذكرها النص بتفاصيلها القلبية ويحدد شكل وقيعتها بمرارة ما يشعر به من اهدي إليه النص (صبحي الحديدي) المتفرس بالألم والمجبول بذات الطين الذي بنيته منه أكواخ الكرد المهمومين بصداع الهوية والرصاصة التي ترمى من غير هدف فتصل إلى ناي الراعي وتكسره، إن الرحبي يعيد في نصه ترديد (مراثي الغياب) لشعب فيه توق كبير لحرية البيدر وسرب الطيور وأغان الوهاد والمرتفعات المظللة بشذى منافي أوربا لهذا يأتي النص استذكارا لما يفكر به الحديدي في أدبه ووفاء لمشقة الصداقة والمشاركة في بناء كوخ حلم الولادة الأولى وغيبيات الشباب الدمشقي .:
((مع الرشفة الأولى:
ثمة صيّادون في عَرْض المحيط
يسحبون شباكاً مليئةً بالصباحات والمدُن
بالورود والملائكة والشياطين
بانبلاج الحرف الأول
من غَبَش الجملة العصيّة،
في ليل دمشق العريق.))
أنه الشعر يتكون بإرادة ما يريد من في داخلنا (الملاك أو الإله أو السلطان) تلك الإرادة التي يعيها معنا الشاعر وتقام على ضفافها أعراس الأنهار لتتفق الكلمة وتمارس طقوس ما تريد من إيصال واتصال في طقوس ومناخات تتعدد فيها الغايات والأشكال لكن روح المعنى هي واحدة .تلك التي نصل بها إلى القصد (المراد) وعنها تخضعنا ثقافة القراءة إلى فهم ما تريده القصيدة ويريده الشاعر :
((آهٍ... هذا الذي يفصل بيننا
ليس المسافة المقدور عليها بالتأكيد
وليس...
هذا الساقط من الأعلى
أو من الأعماق السُفليّة
آهٍ...
أرخبيل الموتى منذ الطوفان الأول
يلتفّ علينا، تنانينَ هائجة في ظهيرة الربع الخالي
أم نزيف الأبديّة في الجبال؟
اليد لا تستطيع التلويح
والقُبلة لا تقوى على الظهور
القُبلة المتجمّدة في الهواء
كدمعة في محجر تمثال محطّم.
ما هذه الحفرةُ الهائلةُ من الفراغ والظلام؟
* * *
بين جبل وآخر
بين وادٍ وواحة نخل ناعسة،
تتناسل هاوياتٌ وأشباح
كأنها المخطط الأول للخليقة.))
يقول التوحيدي : مافي رأس عاقل إلا نطفة من ضوء . أفكر بكلام أبي حيان وأقارنه بهذا النص الذي يبدأ ب (آه .. الذي يفصل بيننا) ..أجد إن ( نطفة الضوء ) واضحة في متن الكلام .بل هي في حجمها جمع من افتراضات قصد وفلسفة وخلق لصفة ُيراد بها أن تصف دهشتنا أمام الكبير الذي نراه بأشكال لا تحصى .
إن مهمة الشعر هو أن يقف عن حدود ما نعتقده ونحلم بالوصول إليه . الشاعر الرحبي يفعل هذا بل يريد أن يتجاوزه في محاورة القلب والكلام . يتجازوه فيزيائيا من خلال الاستعانة بحركة ديالكتيك العالم واتصاله بما يمكن أن يكون صانعا لقدر التغير فجاء هذا النص عميقا ويقرا الأمر بأوجه متعددة وعديدة . نص بميتافيزيقيا مشعة مدركة لحركة المادة ودوران الجرم حول النقطة الثابتة (نقطة الدلالة لمصائرنا) ونحن نبحث عن اليقين في داخل اليقين نفسه فلا نجدد سوى بندول يهتز وسقوط حر من أعلى الذاكرة ارتطامه يذكرنا بنيازك البدء الهائلة التي غيرت الحياة فوق هذه الأرض ودفنت (الديناصورات والتنانين والسلاحف التي كانت بحجم قبة)
انه يكتب عن مشتاق وهو يرتدي حزنه ويأسه لعدم قدرته على الوصول إلى غاية الكلام لذلك ينادي عليه ويسترجية ويتأوه أمامه عسى لحظة التماهي تتجسد هيكلا مقدسا يمنحنا كل ما نتمناه ويبعد عنا يباب (أرباعنا الخالية) لقد كان النص يتحدث عن رموز فينا تخجل أن تشهر هلعها وخوفها وأمانيها في الفضاء الفسيح فصارت :
((اليد لا تستطيع التلويح
والقُبلة لا تقوى على الظهور
القُبلة المتجمّدة في الهواء
كدمعة في محجر تمثال محطّم.
ما هذه الحفرةُ الهائلةُ من الفراغ والظلام؟))
ذاته الهاجس بقي في فما تلاه . غير أن سيف الرحبي فيما تلي (السقوط الحر) تحدث عن خليقة الأشياء من ضمن مرئيات سياحة اباعره وقطاراته وحافلات الضوء. انه يتحدث عن تجديد للمشاعر بشتى هواجسها ببعث أرواح من جديد وباستنساخ ظلا لمماشينا التي لا نرى خطواته غلا عندما تتحول القصائد إلى أرصفة. والنص هنا يقول إن خليقة الشاعر هي خليقة الكلمة الهادفة، الكلمة الحق، الكلمة المعنى :
(( تتناسل هاوياتٌ وأشباح
كأنها المخطط الأول للخليقة.))
آخر مطاف هذا النص المتشظي هي مقطوعة غاية في الجمال . نص يستذكر ويتهادى بمتعة النأي مجروح بتذكر الطفولة رغم أن موزارت كان يحرك بعود كمانه الحواس النشطة (جنس وقراءة واماسي ندامة وحدائق هولندية بعطر الكاردينا . فيما يصبح الشعر وسيلة لإيقاظ الزمن والمسافة كي يرتبط المكان البعيد بهذا السحر المغترب .
انه نص لمديح آخر.ولغصة أخرى في الحلق والذاكرة . نص يبتكر الشوق بصناعة متن موسيقي هادئ (النوتة) مستمتع بظل المكان (الإيطالي) حيث يامكان (كالفينو) انه يهبه مدنا أحبها ( قبلاي خان) لكنه غير قادر أن يصنع له رغبة مدن الطفولة ..مدن الشمس والحجر والقلاع البرتغالية .
النص :
((على آخر نفحة في الموسيقى
تلك القادمة من إيطاليا
على أجنحة الأثير المضطرب
أو من أرض (موتسارت)
حيث الأبقار ترعى هانئةً
في الحقول
والنسوةُ يتدثّرن بمعاطفَ ثقيلة،
يستيقظ من نومه
يستقبل هديّة اليوم الأوّل للحب
متنزهاً على أرض طفولته القصيّة،
زنبقة يفيض أريجُها
على صباحٍ يدلف الأعماق ))
وهكذا يقف الشعر عند بوابات الضوء كاشفا عن ماهية ما يريد أن يحققه ويصل إليه عبر ربط الخليقة بعجلة اليوم ومن ثم تصبح على الشاعر مهمة تحريك العربة ودفعها إلى الأمام وأي كان قدرها فأنها في نهاية الأمر ستسكن ذاكرة قارئ أو سامع يستطيع من خلاله أن يبجل الشاعر ويثني عليه .
إن الشاعر العُمانيُ سيف الرحبي وهو ينجز نصه هذا (كمن فقَد ضالّتهْ
التي ضاعتْ منذ الأزل) إنما ينجز أطروحة إنسانية تعددت مشاهدها ومقاصدها وكان هذا النص نتاج تجربة كتب عديدة ظلت فيها حكاية الشعر توقظ في لحظة الشروع بمعرفة النص توقظ هاجسا طيبا ندرك من خلاله إن شاعر الضالة المفقودة أراد أن يوصل حلمه بطريقة مبهجة ومفكرة ومستشرقة واعتقد انه ربما نجح في ذلك .
-----------------------------
* فصل جديد من كتابنا عن شعراء الجزيرة العربية نشرنا فصوله في جهة الشعر وصحيفة الزمان الدولية ومنها ما قرأناه في الرؤى الجمالية للشاعر عبد العزيز المقالح وقاسم حداد وكمال سبتي وسعاد الصباح وخزعل الماجدي وبدر شاكر السياب وعلي الحازمي ومنى كريم وبثينه العيسى وهيلدا إسماعيل.. وستأتي لنا في المستقبل قراءات أخرى لعلي حسن الفواز وزعيم النصار وسعدية المفرح وآخرين
أور السومرية 24 تشرين أول 2005