رزاق إبراهيم حسن
خصص الناقد الراحل عبد الجبار البصري كتابين عن الشاعر بدر شاكر السياب، الأول بعنوان "بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر" وصدر بعد وفاة السياب، والثاني بعنوان "الطريق إلى جيكور" وصدر بعد وفاة البصري، وهو آخر كتاب صدر له. ولم يكن عنوان الكتاب الأول متطابقاً كل التطابق مع متنه، فالكتاب يتناول سيرة السياب وبناء القصيدة لديه وأسلوبه ومحتواه الشعري ونثره وترجمته، ولا يركز على ريادته للشعر الحر، ولا يخصص لها أي مبحث أو مقال في الكتاب. ويوحي عنوان "الطريق إلى جيكور" بعنوان رواية أو رحلة أو مجموعة شعرية، ولكنه يتصدر كتاباً نقدياً عن السياب، وهو لا يتناول جيكور في شعر السياب فقط، وإنما يضم دراسات موسعة عن مختلف الموضوعات في شعره، وعن حياته، ومراحله، وعن مجموعاته الشعرية. ولا يوضح في مقدمتي الكتابين أسباب اختياره عنوانيهما، إذ تناول في مقدمة الكتاب الأول تشييع السياب بعد وفاته في جنازة ضئيلة جداً، وفي موكب متواضع جداً، ولكن "ما أن أذيع نبأ الوفاة وتناقلته أفواه القوم حتى تغير الموقف من تلك الجنازة الضئيلة الحجم وإذا هو حديث كل صحيفة ومجلة وحفل أدبي، وإذا بالضجة الأدبية تتعالى رويداً رويداً، تبدأ حيية متواضعة ثم تتحول الى تظاهرة أدبية كبيرة وكبيرة جداً، وإذا بالأقلام تطنب في تحليل شاعرية الفقيد تحليلاً فيه العمق أحيانا، وفيه التسرع أحيانا أخرى.. ويكتب البعض كتاباً عنه، ويختاره ثان موضوعاً لأطروحة علمية ينال بها درجة الدكتوراه في الأدب ويشيع ثالث بأنه يعكف علي جمع آثار بدر في محاولة جادة لإنصافه، ويوماً بعد يوم يتقهقر تاريخ الوفاة وينحدر في كبد الماضي ومازالت الضجة في ازدياد، والكتابة عنه في فيض ونمو.ومنذ أن عرفت بوفاته تحسست أني مدين إليه، وان الواجب الخلقي يدعوني للكتابة عنه، وان ما كتبته عنه خلال حياته غير كاف فقررت أن اجمع مقالاتي عنه، وأضيف إليها فصولاً جديدة لتكون كتاباً وفعلاً ولد هذا الأثر مع النماذج المختارة من محاضرات السياب وقصصه واستجواباته وترجماته حجماً ضخماً فتقدمت به إلي وزارة الثقافة والإرشاد العراقية اطلب العون في طبعه، وسار الطلب في طريقه الرسمي، وأسفرت النتيجة عن رغبة الوزارة المذكورة في طبع كتاب عن السياب بوصفه شاعراً عراقياً يستحق الإكبار والتقدير ولكنها ترتأي أن يكون هذا الكتاب أصغر حجماً من كتابي ومجرداً من المختارات النثرية والترجمات.. واقترحت عليّ أن أعيد النظر في فصولي فأتخلى عن بعض وابقي بعضها الآخر واسلكها في نهج جديد.. فلم أشأ أن أرفض وكانت وجهة نظرها مقنعة. ص 5،6". ويتضح من خلال المقدمة إن كتاب "بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر" لم يصدر بمبادرة ذاتية خالصة من المؤلف، وإنما بتأثير وفاة بدر شاكر السياب، وما أثير حوله من اهتمام، وانه أراد أن يكون للسياب وعنه، ولذلك احتوى على دراسات عن السياب، وعلى نصوص من نثره وترجماته، وعلى بعض آراء ومواقف الكتاب والأدباء عنه، وبعض ما قيل في رثائه من شعر ولم يكن هذا الكتاب بعيداً عن كتب المناسبات، ولكن كتاب "الطريق إلي جيكور" احتوي علي مقدمة عن المنهج المعتمد في محتوياته، على انه المنهج الموضوعاتي، وهو "الاتجاه النقدي الذي ينطلق من الموضوع في دراسة الأدب وتذوقه كما تنطلق الأسلوبية من الأسلوب والبنيوية من البنية والأسطورية والواقعية من الواقع ولكن الموضوعية في التداول تعني غير هذا المعنى، فالموضوعية في التداول تعني الحياد العلمي وعدم الانحياز، فعندما تصف باحثاً بأنه موضوعي فإنما تصفه بالدقة والحرص الشديد على إحقاق الحق وعدم إصدار أحكام عاطفية منفعلة، ومن هنا نجد الضرورة ماسة للتمييز بين دلالتها التداولية والدلالة التي نقصدها، واقترح حلاً لهذا الإشكال استعماله الموضوعاتية للدراسة على القصد الجديد بدلاً من الموضوعية، والذي يحدد الموضوع من وجهة النظر الموضوعاتية البعدان: الأفقي العمودي. فالبعد الأفقي يهتم بالتفاصيل" الراهنة والخارجية للموضوع، والبعد العمودي يتناول خلفية الموضوع.
"والموضوع قد يكون بنية صغرى حين ننظر إليه عبر نص واحد، وإما حين ننظر إليه في مجموع عطاء الشاعر أو نتاج جيل من الأجيال أو عصر من العصور يغدو بنية كبرى عناصرها مجموع البني الصغرى، فام البروم بنية صغرى ولكن أم البروم ومنزل الاقنان ودار جدي وشناشيل ابنة الجلبي وجيكور تمثل عناصر بنية مكانية كبرى.وموضوعات الشاعر الواحد يمكن تقسيمها إلي موضوعات رئيسة وموضوعات ثانوية فرعية، والموضوعات الرئيسة يمكن عدها قيمة مهيمنة وعند ذلك يمكن أن نلاحظ انزلاقها من حقل إلي حقل آخر، فالمرأة في شعر الغزل والحب موضوع رئيس يمكن أن تتحول في شعر السياسة والنضال إلي رمز من رموز الأرض والوطن أو تكون نمطاً من أنماط "يونج" العليا والموضوع قد يكون مضموناً وشكلاً في نص واحد" أو يكون بمثابة مبدأ تنظيمي أو ديناميكية داخلية يسمح لما حوله بالتشكيل والامتداد، وهو احدى مقولات المعني.ولم يوضح البصري تاريخ هذه الموضوعاتية، وأسباب تفضيله لها على الموضوع، واختلافه عن الذين اعتمدوا الموضوع أو المضمون أو الموضوعاتية في دراسة النصوص الأدبية، كما انه لم يتطرق إلي كتابه السابق "بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر" واختلافه عن كتابه الجديد، والمنهج المتبع فيه. وكيف يجمع بين البعد الأفقي والبعد العمودي، والبنية الصغرى والبنية الكبرى، والموضوع الرئيس والموضوع الثانوي الفرعي البنية الداخلية وامتداداتها في منهج واحد.ويعكس كتاب "الطريق إلي جيكور" الاهتمام بالمنهج في النقد الأدبي العراقي في أواخر القرن العشرين، وتأثر البصري بالمناهج البنيوية السائدة في هذه المرحلة، كما يعكس محاولته للجمع بين المناهج الجديدة وتوجهاته المنهجية السابقة، فقد عرف عن البصري محاولته في النقد التكاملي الذي يراد به الاستفادة من مختلف المناهج في دراسة النصوص الأدبية، والنقد الموضوعاتي يقدم محاولة أخرى في الاستفادة من عدة مناهج في دراسة النصوص.ومع أن البصري في كتابه "الطريق إلي جيكور" قد خصص دراسة بعنوان "تطور المنهج اللغوي في نقد السياب" لتحديد موقفه إزاء هذا المنهج، إلا أن مؤاخذاته على بعض الدراسات ذات المنهج اللغوي كانت واضحة وملموسة في كتابه "بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر".
فقد أخذ علي الدكتور إبراهيم السامرائي والناقد طراد الكبيسي أنهما اهتما بوصف لغة السياب، لم يتجاوز الوصف إلى البنى الداخلية والتجربة الشعرية العميقة، ولكنه اهتم بوصف لغة السياب في كتابه "بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر".فالسامرائي والكبيسي يؤكدان اهتمام السياب بالمفردات القاموسية والفولكلورية والمحلية، وذلك ما يؤكده البصري نفسه. ويأخذ على نقاد آخرين الميل إلي التجزيئية، وهو في كتابه "بدر شاكر السياب" يتناول السيرة الذاتية بمعزل عن بناء القصيدة، والأسلوب بمعزل عن المحتوي، وهذا الفعل لا يقتصر على العناوين فقط، وإنما يمتد إلى المتون أيضاً.ولكنه في الدراسة التي يتناول فيها السيرة الذاتية، يحاول أن يربط بين قصائد السياب وتجاربه الذاتية، ففي رأيه أن "كل قصيدة من قصائد السياب تعبر عن تجربة، وحياته غنية جداً بالتجارب" حيث ترتبط قصائده الأولي بالحب ثم تتجه إلي السياسة والمدنية والحنين إلي الماضي ومعاناة المرض والإحساس بالموت.وتحت عنوان "بناء القصيدة" يتطرق إلي التطور في بناء القصيدة العربية مستنتجاً "أن السياب في بناء قصيدته ينحو منحي الشعر الجاهلي في وجود رابطة منطقية داخلية توحد وتماسك أجزاء قصيدته" وان قصائد السياب في أزهار ذابلة وأساطير تتداعى فيها المعاني، ولكنها في أنشودة المطر تميل إلي الصيغ المنطقية، وتتدرج في التعبير عن أبعادها، كما أن السياب كتب القصيدة المقفاة، وفي الموشح والقصة والشعر الحر والمزدوجة والملحمة. وفي "الأسلوب" يلاحظ أن للسياب أسلوبه في نسيج الشعر يتميز بألفاظه وطريقة تكوين الجمل، وفي تضمين المرويات الشعبية واستعمال الوزن الحر ثم محاولة إيجاد المعادل الموضوعي" وانه له جملة أساسية هي جملة المشبه والمشبه به، وانه يهتم بالأساطير وتضمين المفردات والأغنيات الشعبية، ويدرس القوافي والشعر الحر عند السياب بشكل أوسع من دراسته لهذا الموضوع في بناء القصيدة. كما يدرس اتسام أسلوب السياب بالتعبير بالصور والجمع بين المتناقضات والمجاز والموسيقي.ويتناول في "المحتوى" الشخصيات الواردة في شعر السياب واهتمامه بالطبيعة والحياة الاجتماعية. وبالأفكار والتأملات والمفاهيم، كما يتطرق إلي تأثر السياب ببعض الشعراء الأجانب.والبصري في كل ذلك يحاول أن يقدم عموميات معينة من خلال حضورها في قصيدة واحدة، أو أكثر من قصيدة، دون الربط بين هذه العموميات ومراحل السياب الشعرية.وكان باستطاعة البصري أن يجمع بين دراسة المحتوى ودراسة السيرة الذاتية للسياب، وبين الأسلوب وبناء القصيدة لتلافي التشابه في الموضوع، ولأن العلاقة قوية وواضحة بين المحتوى والسيرة الذاتية، والأسلوب وبناء القصيدة.ومع أن البصري لم يكن الأول في دراسة السياب، وفي تشخيص بعض الظواهر في شعره، إلا انه لم يشر إلى أي مصدر استفاد منه في هذه الدراسة. وهذا ما يفعله في كتابه الثاني "الطريق إلي جيكور" الذي يعتمد فيه المنهج الموضوعاتي كما أوضح في المقدمة. وكما هو الحال في كتابه الأول، فان كتابه الثاني عن السياب لا يتوزع إلي فصول أو أقسام أو أبواب ومباحث، وإنما يتوزع على عناوين، وإذا كان الكتاب الأول قد تجمع في عناوين قليلة، فان الكتاب الثاني يتوزع على الكثير من العناوين هي: بواكير السياب، أزهار السياب الذابلة، أساطير السياب وبداية الشعر الحر، وقصائد السياب الطويلة، تموزيات السياب، أغاني الموت في شعر السياب، قوميات السياب، قراءة في جيكوريات السياب، قراءة في قصائد السياب السريرية، إشكالية قصائد السياب السريرية، الجيكوريات، تطور المنهج اللغوي في نقد السياب، حداثة النص الشعري عند السياب.
جريدة (الزمان) --- العدد 2065 --- التاريخ 22 / 3 /2005