بنعيسى بوحمالة
(المغرب)

(1)

سيرغي يسنينليست الخربشة Graffiti ضربا من ممارسة مزاجية، لا طائل من ورائها، أو محض نزوة عارضة، أو مجرد تزجية لجهد و وقت ذاتيين. إنها، على العكس من هذا، فعل كتابي، تعبيري، و إيصالي دالّ أشد الدلالة و أبلغها، و بما أنها، أي الخربشة، كذلك، فهي تدخل، إذن، في عداد الأفعال الأونطولوجية الجسيمة المفعول، و الخليقة، من هذا الضوء، بأوفى ما يمكن من الانتباه و الاعتناء و التأمل و التقرّي و الاستخلاص.
فمنذ كان الإنسان، أي منذ فجر التاريخ، انبثقت، تلقائية و عارمة، تلك الرغبة الصميمة في إنشاء أثر تدويني و تخليفه، في تثبيت لحظات ذهنية و انفعالية: أفكار، رؤى، خواطر، اختلاجات، أحلام، هلوسات.. من خلال وسيط حاسم هو الكتابة، في بعدها العلامي المتراحب، و ذلك إدراكا من الإنسان أن إنشاء هذا الأثر و تخليفه، بمعنى اصطناعه و ضمان ديمومته في آن معا، يرتهنان، لا محالة، بمدى اقتداره العقلي و الشعوري على تحويل جانب من تمثلاته لذاته و لما يحيط به إلى هيئة المكتوب، نقصد إلى فاعلية علامية مجسدنة و ملموسة.
لسنا بحاجة في هذه التوطئة، طبعا، إلى الإسهاب في المنحى الخطير و الهائل الذي اتخذته سيرورة الإنسان الحضارية حالما اهتدى إلى وسيلة الكتابة، أو الإفاضة في ما اجترحه، هذا الاهتداء من ثريّ الآفاق و الممكنات، على صعيد المعيش أو التفكير أو التخييل، بل حسبنا أن نلمع إلى ما كان من تأصّل الحاجة الكتابية لدى الإنسان، إلى سطوتها و ملحاحيتها و فيضها، الشيء الذي عبّر، و ما انفك، عن نفسه بواسطة ذلك المسلك الالتفافي و المراوغ، ظاهرا، الرأسي و الواضح، عمقيا، الذي تلجأ إليه الذوات، في مختلف الأزمنة و الأمكنة، تلبية منها لهذه الحاجة المكينة، خارج المتواطأ عليه من سنن و مساطر و أوفاق و كيفيات، أي بالضد من كل أشكال التقنين و التحريم و المصادرة التي رافقت جلّ أطوار الحضارة الإنسانية.
فسيان في أضأل و أشقّ بقعة صخرية، في مغارة بدائية، أو في مرونة الأحياز الجدرانية الوسيعة التي يتيحها العمران الحديث، مرورا بالرّقم الطينية في سومر و بابل و آشور، و المسلات المشرئبة قاماتها في مصر القديمة، و سواء كانت الأداة إزميلا صوانيا، أو معدنيا، أو دبوسا خشبيا، فحما أو جيرا، صباغة أو طبشورة، انتهاء إلى صنوف الحبر، السائل أو الجاف، لم يتقاعس الإنسان، بما هو مخلوق كاتب، أو يتحرج عن / في تسجيل، أو رسم، أو حفر، ما يخالطه من تهيؤات و تداعيات إمّا في هذه الأفضية أو في أخرى بديلة، ثابتة: كحيطان السجون و المدارس و القاعات السينمائية و المراحيض و الدروب و الأزقة.. أو متحركة - عتبانية: كهياكل الحافلات و القطارات و مقاعدها.. لم يشأ لها أن تفضل حبيسة دواخله، و ذلك عنادا منه إمّا لعامل المنع الذي تباشره، عادة، في هذه الحالة منظومات السلط المادية و الرمزية: سياسية كانت أم إيديولوجية أم دينية أم أخلاقية أم ثقافية.. تجاه الذات الكاتبة أو الموضوع المكتوب، و إمّا بسبب من عجزه عن الوفاء بمستلزمات المكتوب الذي ترتضيه هذه المنظومات و تجيز له الانضواء إلى شبكتها الترويجية و التداولية. لكنه في الحالتين كلتيهما نلفيه، أي المخربش، حريصا على الاستتار، أو مستهيما إياه، باعتبار الفعل الكتابي يعثر على معناه الثقافي المتراكب في عمومية مكان هذه الكتابة و مشاعيته، درءا منه لرقابة فعلية أو متوهمة، و تحاشيا للمنع أي لانجهاض تحقق الكتابة و المكتوب. فالاستتار يقوم، في معظم الأحايين، مقام إوالية تأطيرية للحظة الكتابة، إذ يحفز مسلسلها الإنجازي و يكيّف أوجه تمظهرها، تكييفه لبياضاتها و تخرّماتها، تماما كما يسهم، بشكل أو بآخر، في بناء مخططها الدّالي، و من هنا حميمية هذه اللحظة، بله صميميتها، إذ هي، في الجوهر، لحظة مخاصمة مع إملاءات الأنا الأعلى الجمعي، و هي الحميمية التي يمكن تتعدى، أحيانا، نطاق الذات الواحدة، الكاتبة، فتطول أشخاصا عديدين، يصيرون ذاتا كثارية، يؤالف بينهم سياق كتابي رصين (مثلما هو الأمر عند الراشدين) أو استهتاري (كما هو الشأن لدى الأطفال)، لكن من غير ما استهتار مضاعف، نقصد دونما تهوين من جدية هذا السياق أو تنقيص من إشارية منتوجه التدويني الغاصّ، من جهته، بوفرة من القيم الأدائية و التيماتية و التخييلية.
و هكذا فمن الجسوم و المحفورات و الخلقات التشكيلية التي اندمغت، عفو الذهن البدائي أو بوازع من تمعنه و تدبّره، في صلادة الكهوف و السراديب الجبلية إلى الخطابات العشقية، المتكمة، المنقوشة هيروغليفيا بإحدى المسلات الفرعونية، التي تبادلها الزوج الملكي "خفرع و مينا".. من التعابير التقريفية و الهجائية لمظالم و موبقات النظام الشيوعي التي انكتبت، على مرّ السنين، على جدار برلين، أضخم سبورة / متحف للخربشات في العهود الحديثة إلى ما لا يحصى من سجلات الإخبار و البوح و العفة، أو القذف و الشتيمة و البذاءة التي شكلت حيطان السجون و المدارس و القاعات السينمائية و المراحيض و الدروب و الأزقة، أو هياكل الحافلات و القطارات و مقاعدها أرضيتها التدوينية نجدنا أمام صنوف من الأساليب و المحمولات و البلاغات، بإزاء طروس متعددة، متراكبة، و متعالقة، و بالتالي حيال تجاور مذهل لآثار متباينة و توقيعات شتى.. ظلت، فيما خلا استثناءات قليلة، بمثابة كمّ كتابي مهمل في دوائر البحث اللساني و السيميولوجي و النقدي، و الثقافي بعامة، و بصيغة أخرى بمثابة اقتصاد تعبيري وقع العزوف عن استثماره بما فيه الكفاية و ذلك نتيجة الزراية بأدائيته و تيماته و خياله، و التسفيه القبلي لمنتجيه و منعشيه.

(2)

إن السمة الأساسية للخربشة أن منتجيها و منعشيها كانوا في الغالب الأعظم، و على مدى التاريخ، إمّا من الفئات المعيقة عن امتلاك جدارة تأليفية معيارية و إمّا من الزّمر المؤهلة، أصلا، لتلمس هذه الجدارة فيجري إقصاؤها، لهذا الاعتبار أو ذاك، و تعليق حقها المشروع في مباشرة التعبير الكتابي. و إذن فالهامشية لهي التوصيف الأليق لهذا اللون من الإنتاج الكتابي، على أن هامشيته لا تعني انغلاقه، بالمرة، في وجه ذوات كاتبة تنشط، أولا و قبل كل شيء، في حقل الكتابة الرائجة عبر الدواليب المرعية، المتواطأ عليها بين أطراف محددة: مؤلفون / وسائط نشر جماهيرية / قراء قائمون أو مفترضون. إن قسما لا يستهان به من الكتاب و المبدعين مارسوا، باعتبارهم متعلمين، فيما نرجح الخربشة، في أثناء طفولتهم أو شبابهم، عاملين، هكذا، على مراكمة ذلك الكمّ الكتابي المهمل، بيد أن الشيء المفارق، و المثير فعلا، هو أن يركب كتاب و مبدعون، في حد ذاتهم، مخيّرين أو مرغمين لا فرق، هذا المسلك الكتابي في فترة ناضجة، و إن كانت ملتبسة، من سيرتهم الكتابية، كما لو أنهم يتصالحون، من حيث لا يدرون، مع ذاكرتهم الكتابية، أي مع ذلك الزمن المتصرّم، العصي على التشخيص، الذي خامرتهم في غضونه رغبة عارمة، غير موصوفة، في الإفراج عن مخزون تعبيري ضاغط على مخيلتهم، و ترجمته إلى علامات كتابية على صفحة الطاولة المدرسية التي يجلسون إليها، أو صفحة أيّما حائط يمرون، قصدا أو مصادفة، بمحاذاته.
نادرة هي حقا الوقائع الكتابية من هذه العيّنة إلا أنها ثابتة و ناجزة، و لعل هذا ما يضفي على هذه الاستعادية التعبيرية، إن شئنا، أهمية فائقة يلزم تقديرها حق قدرها، ذلك أن المسألة تتصل، جوهريا، بإبدال ما يصح اعتباره، إجمالا، أنامل غير خبيرة، راعشة، و متلعثمة، بأخرى محنكة، عالمة، و احترافية.. إبدال ذات كاتبة بأخرى.. مقصدية بأخرى، مع ثبات مجال الكتابة من ناحية و استقامة اشتراطاتها و موجباتها من ناحية ثانية، و لكأنما هذا الإبدال نزوع إلى تحيين الذاكرة الكتابية و ابتعاث لمقتضاها الماضوي.

(3)

انطلاقا من هذه الزاوية الخاصة يمكننا التعاطي، مثلا، مع بيتين شعريين ذائعين، اتخذا من خربشيتهما و عمقهما في آن، صبغة القول الشعري المسكوك، السائر، كتبهما الشاعر الروسي سيرغي يسنين قبيل انتحاره، بوقت ضئيل، على أرضية الغرفة التي شهدت انتحاره هذا. فقد (… كان وحيدا يائسا.. و لم يكن أمامه، مثلما صورت له أزمته، غير بصيص ضوء ناعم في الليلة الخريفية المدلهمة: باب حانة موارب. و في الثامن و العشرين من كانون الأول عام 1925، في ليلة شمالية باردة، في غرفة بفندق [أنكلتير] في لينينغراد، كان يسنين قد انتحر، شانقا نفسه. قبل انتحاره أراد أن يكتب شعرا، و لم يكن معه أو في الفندق من حبر، فجرح يده و كتب بدمه هذه الأبيات الشعرية:
وداعا، وداعا
يا صديقي، أنت في القلب مني.
إن افتراقنا المحدد هذا
ليعدنا بلقاء فيما بعد.

+ + + + + + + + + +

وداعا، صديقي، دون مصافحة، دون كلمات،
لا تحزن، و لا تقطّب حاجبا.
ليس جديدا أن نموت في عالمنا هذا
و ليس أكثر جدة، بالطبع، أن نعيش.
و عرّج على أصدقاء له في مطعم.. فأعطاها لأحدهم ليقرأها بعد ساعات. و كان الصديق قد نسي أمر هذه القصاصة، و لم يتذكرها حتى جاءه نبأ انتحار الشاعر. و هكذا انطفأت هذه الشعلة التي خفقت باهرة، و جديدة، على التماعات الجليد الروسي) .
و إن نحن كنا قد آثرنا إيراد هذا الشاهد، على الرغم من طوله، فذلك كيما يتأتى لنا الإلمام بحيثيات كتابة النص الشعري الختامي في سيرة سيرغي يسنين الكتابية، و استشفاف الأسباب الكامنة خلف انتحاره، ثم، و لربما كان هذا أكثر الاعتبارات جدوى في الإطار الذي يعنينا، معاينة المآل التقبلي، الثنائي، الذي سوف يتهيأ للبيتين الأخيرين من القصيدة. ذلك أنه بمجرد عودة الشاعر إلى غرفته بالفندق، مصوّبا مشيئته في اتجاه حتفه الإرادي، عمد، طبقا لما تجلوه اللحظات الأخيرة من حياته، و لكأنما حدس مسبقا سهو الصديق المذكور عن القصيدة / الوديعة و تغافله المحتمل عن شأنها، إلى إعادة كتابة / خربشة البيتين الأخيرين، دون غيرهما، بذات الدم / الحبر الذي سلف و أن كتب به سائر أبيات القصيدة، على أرضية الغرفة، و دلف، إثرها، إلى مماته دون تردد. و رغما من تدارك الصديق، و لو بعد حين، لشأن القصيدة و انضمامها، بالتالي، إلى تراثه الشعري الكامل، فإنهما سيستأثران، فيما بعد، بكثير من التركيز و الاهتمام من لدن الباحثين و الدارسين و الشعراء و القراء، أولا للخاصية التبئيرية التي اكتسباها، دون باقي أبيات القصيدة، بفضل المقصدية الاصطفائية السافرة للشاعر في موقف كهذا، أما من جانب آخر فبسبب ما ارتدياه من لبوس خربشي بيّن كان لابد و أن يستدرج مقروئيتهما، بقوة الأشياء، إلى الدائرة الميثاقية لتلقي الخربشات و التواصل معها: تدوينهما، من طرف شاعر، بالدم و ليس بالحبر، فخامة هيئتهما التدوينية و بروزها، افتراشهما لأرضية الغرفة عوضا عن فضاء الصفحة، زد على هذا اندغامهما الوطيد، إن دلاليا أو ترميزيا، في صميم تلك البرهة البرزخية، المقدامة و المذهلة، بين الحياة و الموت في السيرة الوجودية و الإبداعية لشاعر من هذا الطراز، و تعيينهما الكثيف لما ران عليها من احتقانات كيانية متعالية و ارتجاجات رؤياوية حدودية.
و في مضمار المفارقة و الإثارة، دوما، و على الغرار ممّا أومأنا إليه قبل حين، لنسجل كيف عمد شاعر من هذه الطينة، توزعته، برهتها، رغبتان جامحتان، ندّيتان، و متقاطبتان: الرغبة في الموت و الرغبة في الكتابة، إلى ترضية الرغبتين كلتيهما، بحيث سيفضي تفاحش رغبة الجسد، المزمع على انقضائه، في الانكتاب، أو، بالأولى، على حفر بصمته / وصيته المأساوية، إلى مغالبة فقدان مادة الكتابة باستدراره، أي الجسد، للدم، سائله الحيوي، مسخرا إياه حبرا اصطناعيا ينوب مناب الحبر الطبيعي. بل أو ليس أقسى مفارقية و أقوى إثارة، بله شماتة و نكاية، بالكاتب و المكتوب سواء بسواء، أن يخذل الحبر، في هذه البرهة بالذات، الشاعر الراغب في الكتابة، هو من قضى ردحا من عمره القصير عاملا في إحدى المطابع الموسكوفية، أي في اللب من أحدث، و أيسر، و أبذخ الوسائط الكتابية !؟

(4)


إن ما انزلق إليه سيرغي يسنين من مصير فاجع لا يكاد يشذ، في الواقع، عن الوضعية الأليمة التي عاشتها الأسماء اللامعة التي شكلت نخبة الشعر الروسي. فمن مصرع ألكساندر بوشكين، إثر مبارزة شرف، عام 1837، إلى موت ألكساندر بلوك عام1921، ميتة تراجيدية و لو أنها طبيعية، إلى إعدام نيكولاي غوميليف، زوج الشاعرة آنا أخماتوفا، عام 1921، و موت فيليمير خليبنيكوف عام 1922، في معمعان الأوبئة و المجاعات و الانهيارات التي رافقت الحرب الأهلية، فانتحار فلاديمير ماياكوفسكي، قطب الحداثة الشعرية الروسية، بطلقة رصاص عام 1930، ثم انتحار الشاعرة مارينا تسفيتاييفا عام 1941.. إذ أيّا كانت طريقة تصريف ممات كلّ منهم، احتضارا وئيدا على سرير كئيب أم إعداما في ردهة أحد المعتقلات أم انتحارا إراديا في غرفة مقفل بابها بإحكام، فإن ما يؤالف بين هذه الميتات كافتها هو كنهها و مغزاها الفادحين، هو تأشيرها على قدر رهيب واحد لازم حيوات هؤلاء الشعراء. و إذا ما تجاوزنا الشاعر الرومنتيكي، ألكساندر بوشكين، و اقتصرنا على الآخرين المحدثين فلن يعز علينا تحميل جريرة هلاكهم هكذا على حين غرة، واحدا تلو الآخر، و هم في الأوج من تفجرهم الشعري و ارتقائهم الرؤياوي، إلى مختلف مغبات التحول التاريخي المهول الذي عاشه بلدهم، غداة قيام ثورة أكتوبر البلشفية، و إلى ما أرخته سياسة القبضة الحديدية الستالينية من مناخات قامعة و قاتمة في الثقافة الروسية، علاوة على ما خلفته الرقابة الإيديولوجية على الإبداع من انحباسات و إعاقات في أرواح الشعراء و مخيلاتهم. إن (يسنين ولد و شبّ و ترعرع في الأجواء الثقافية التي سادت روسيا القديمة، و إن جذوره عميقة فيها عمق شجر البتولا. فهو بتكوينه النفسي و السلوكي و الفكري يمتّ إلى روسيا البائدة، رغم نظمه العديد من القصائد التي مجّد فيها الثورة، غير أن أجمل قصائده هي التي تغنّى فيها بقريته و غاباتها و أهلها) .
من قرية كونستانتينيفو، إذن، القابعة في نقطة ما من إقليم ريازان الريفي، من عالم رعوي خالص: طازج، بكر، و سحري، يؤثث أرواح ساكنته الوديعة إيمان يقبس من صفاء الأورثوذكسية و أصوليتها العقدية، و لا تزال فيه نبالة القيم و العلائق، و سلطة الأبوة.. المرويات الشعبية، و الفولكلور.. أمورا قائمة، مرعية، و بتعبير رديف من عالم مغموس، عن الآخر، في يناعة مجالية و روحية طافحة، تتنفذ في معيشه و متخيله أسطورة روسيا القيصرية، إلى موسكو و لينينغراد، أي إلى عالم نقيض تطبعه كثافة العمران و زحمة الأبدان.. اكفهرار المصانع و زعيق الآلات.. تأنق القيم و زيف العلائق.. ارتسمت رحلة الشاعر القلق، المشتت، و المضطرم صوب الأفق المسدود المتوقع، في حالة كهذه تحديدا، بمعنى نحو مدار السؤال الهاملتي، الأكبر و الأشقّ: "أكون أو لا أكون !". فلقد (كان طيرا قرويا شاردا، وجد نفسه في حفل من الأقنعة و الدخان.. فرقص، دون أن يحفل أحد برقصته المأساوية، على الحبل الممتد فوق الهاوية المروّعة التي تراءت له.. في "قاع زجاجته" المحطمة) .
مقتلعا من روسيا رحمية، تليدة، كانت في طريقها إلى التلاشي، و مطوّحا به، عنوة، إلى تاريخ غامض تشاءه له الآلة الإيديولوجية المتجبرة، كما تشاءه لمواطنيه جميعا، لم يكن للشاعر من ملاذ رمزي سوى عتمة الحانات المنزوية و التسكع في الجغرافيات التحتية، القذرة، اللامرئية، لموسكو أو لينينغراد، آخذا مسافته الروحية الواقية، على هذه الشاكلة، من وجود مخملي مفتعل أحسه مجافيا لأشواقه الرعوية المعتنفة، زاده ألمه العميق على حال روسياه، المحلوم بها، تمحوها جرافة الثورة، اقتسارا، من مخيلته الرعوية و تحيلها حديقة بشرية صمّاء تقطنها أرواح مكدودة، تعسة، و أبدان إسبرطية، قتالية، منذورة لشريعة الإنتاج و الانضباط. من هنا لم يكن مستغربا أن يصيح، ملء خياله، "أنا آخر الشعراء القرويين".. أو أن يعلن، متجاسرا، "إني أشرب لكي أنسى".. لكنه، أي النسيان، في موقف رؤياوي تخومي كالذي استشرفه يعني التطهر الخلاق من أدران واقع صاعق و الانتماء اللامشروط إلى حلمية النشوة الخمرية.
إن شعره ليعبّر، بوجه عام، عن خصام روحي مستفحل مع ما بدا له خواء و تسطحا ذريعين يرشح بهما الزمن الحديث، الشيء الذي يجعله نوعا من نوستالجيا رعوية مدمرة، و يجعلنا، كقراء، (نتفهم هذه الحسرة المحرقة التي تلتهم أعصابه، و تشدها إلى البيت القروي الخشبي.. و حديقة الزيزفونات الأليفات القريبات إلى قلبه كأخواته الصغيرات) ، فهو، أي (يسنين، يمثل تلك النظرة الغنائية إلى الوراء، في حين يجسد بيته الشعري، و شعره برمته، ضجر جيل شعري و انكساره) .
شاعر بهذه الرهافة الأونطولوجية، و بذلك القدر من الاندهاش الطفولي إزاء عالم لا يهب إلا الألم و المرارة تحتم ألاّ تدوم عشرته للحياة طويلا، و إذ لم تمنحه لا بوهيميته الرائقة، و لا ارتباطه بثلاث نساء متتاليات: زوجته الأولى، و الراقصة الأمريكية الذائعة الصيت إيزادورا دانكان، ثم حفيدة الروائي ليون تولستوي، و لا أيضا سياحته في آفاق أرضية مغايرة (سفره إلى ألمانيا و إيطاليا و بلجيكا و فرنسا و الولايات المتحدة)، و لو نزرا قليلا مما كان يبحث عنه من طمأنينة كيانية انوجد، جراء يأسه، كما قلنا، في مدار السؤال الهاملتي المزلزل "أكون أو لا أكون!": أأوجد أم أموت؟، أو، بالأدق، أأوجد وجودا ركيكا، رخيصا، و منحطا، أم أوجد وجودا أصيلا، ممتلئا، و جوهريا؟ تلك كانت مشكلته العويصة. أمّا لماذا اختار المخرج الصعب، أي الكينونة من خلال الموت، فلكي يعثر على أصالة و امتلاء و جوهرية لا قبل لعالم الأحياء بها. و بحسب مارتن هايدغر فنحن (من خلال الموت ننسحب من كلّ ما هو زماني و نلحق بكل ما هو أبدي، أي نلحق بالوجود ذاته) .

(5)

و الآن لنحاول، بادئ ذي بدء، استحضار السياق الذي انشرطت به كتابة البيتين الشعريين المخصوصين و تمثل عناصره و مكوناته المفترضة، و ذلك حتى تستقيم أمام ناظرنا الإشارية البعيدة الشأو لهذا المنجز الكتابي المتفرد، متمعنين في جملة من الإبدالات الإنجازية القائمة في هذه الإطار: فالدم، العنصر الحاسم في الاستمرارية الحياتية للجسد، و المستثير، بأثر من حمرته الغامقة، لاستيهامات السخونة و التأجج و الفوران.. يصير بديلا للحبر، العنصر الاصطناعي، الأسود أو الأزرق، مادة تجسدن الكتابة و تعينّها خلقة دالة. و بالإضافة إلى هذا هناك إبدال لورقة الكتابة بأرضية الغرفة المحتمل أن تكون إمّا إسمنتية أو خشبية أو من الزليج و إن لم يكن فمن الرخام.. هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فلا مندوحة لنا، كذلك، عن ترتيب افتراضي للوضعية القرائية في سياق محدد كهذا، إذ بصرف النظر عن كون البيتين المخطوطين بالدم قد كتبا وفقا للألفباء الروسية، الآيلة إلى شجرة اللغات السلافية، مع ما تقتضيه الأمر من مراعاة لشعرية البيتين الكاليغرافية و التوليفية، ليس هناك مانع من افتراض قارئهما، مثلا، مقتعدا كرسيا، موضوعا في الغرفة، أو جالسا، أو ممتدا، على السرير، الجاثم، من باب التخمين دائما، في محل آخر غير محل الكرسي المردوف، كما هو العرف، إلى طاولة، متواضعة و لكنها عملية.
هذا بخصوص المعطى المكاني، و فيما يهم زمن الكتابة فممّا هو معلوم أن الشاعر انتحر ليلا، و بما أن فعل الكتابة سبق فعل الانتحار بقليل لعله من حقنا أن نتساءل هل كتب البيتان في جنح الظلام أم أن ضوء الغرفة كان مشتعلا، بحيث لابد و أن تخامرنا، في حيثية وقتية ليلية، مسألة العلاقة الواردة بين لون الكتابة، الذي هو الأحمر القاني، و بين حدّي الظلمة و الإنارة؟ وضمن هذه الوجهة التساؤلية يظهر أنه لا محيد لنا عن تساؤل أساسي آخر يمسّ تموقع الشاعر، حين قيامه بشنق نفسه، بإزاء المكتوب، هل اتخذ موقعا يمكنه، و لو لهنيهة مسترقة، من إعادة إبصاره، و ضمنيا إعادة قراءته، ومن ثم يلزمنا احتساب هذا التفاعل السريع بين الكاتب / القراءة و المكتوب / المقروء آخر عهد الشاعر ببيتيه، أم أنه اتخذ موقعا معاكسا، إدباريا، مكتفيا، على هذا النحو، بقراءتهما الأولية، المتضمنة أصلا في عملية الكتابة ؟ بل و إذا ما توخينا تمطيط الرقعة القرائية الافتراضية، التي أسّسها من الفور حادث انتحار الشاعر، فلنا أن نتساءل، محقين، حول ثبات أو انتفاء تلقّي البيتين، لأول وهلة، من لدن عيّنة قارئة محتملة، سواء من حيث انتماؤهما لهذا السياق القرائي الخاص أو من حيث كونهما كذلك جزءا من قصيدة تامة مخطوطة بالدم، لكن على قصاصة ورق، أودعها الشاعر صديقا / قارئا حصل أن لم يطلع عليها إلاّ بعد فوات الأوان. فواقعة، في جسامة الانتحار، تستدعي، كما ندري، انكشافها من قبل أطراف ذات قرابة ما إن من شخص المنتحر أو من مكان الانتحار، و في مكان عمومي، كالفندق، غير مستبعد، تبعا لمنطق الأشياء، أن يكون أحد مستخدميه هو من اكتشف الواقعة و وقف، ضمن مجريات هذا الاكتشاف، على منجز نصي، لشخص قد لا يغرب عن باله أنه شاعر، و ذلك بسبب شهرته العريضة، و من غير المستبعد، أيضا، أن يتساءل عن مغزى إشاحة المكتوب عن الحبر و توسله بالدم من جانب، و عن معنى استنكافه عن ورقة الكتابة، بما هي فضاؤه المناسب، و اختياره لأرضية الغرفة فضاء بديلا. أفلا تماثل ملابسات هذا الموقف القرائي المتصور، خاصة و أن القارئ فيه ينتسب، لكونه مستخدما بسيطا، إلى شريحة نتوسمها غير جاهلة بالمرة، و إن لم يكن لها تماسّ مقنع مع الشعر، ذات المواصفات التي تطبع المواقف القرائية للخربشات بمختلف تلوناتها ؟ و من ثم فهو، أي المستخدم محط التخمين، لم يحقق، بناء على ما سطرناه من مشخصات تواصلية مسعفة، سبقا قرائيا، للبيتين، على صديق الشاعر، المؤهل لقراءتهما قبل أيّ كان، و كفى، و إنما اقتدر، انطلاقا من التفضية الكلية للمنجز النصي: كتابة، و مكانا، و مرفقات، على تشييد عين المعادلة التواصلية القائمة في أيّما تواجه مع الخربشات في مظانها التدوينية المألوفة، و تكريس قابلية المكتوب الشعري للنهوض كخربشة: تجسيم، أو رسم، و ذلك في تواز مع مقوميتهما الكتابية المشبعة، تنقفل بها حياة شاعر كان يسترجع، من حيث لا يعي، في تضاعيف تلك البرهة البرزخية، كما وصفناها، زمنا ذاكريا، طفوليا، متنائيا، و من أدرانا أن طاولة ما، جدارا ما، أو شجرة ما، في قرية كونستانتينيفو كانت لا تزال، و إلى حدود تلك البرهة، تحتلها خربشة، كيفما اتفق، صدرت عن مخيلته الواعدة في تلك الفترة الباكرة من حياته !

(6)

فضلا عن هذه القراءة الفضائية المقترحة دعونا، الآن، نقرأ البيتين بحسبانهما مكتوبا شعريا و لا شيء غير ذلك، بمعنى تجريدهما من فضائيتهما المزيدة و التعامل معهما كتحقق إبداعي خالص. و في هذا الصدد نقول من المحقق أن (الشعر ميتافيزيقا فورية. عليه أن يقدم، في قصيدة قصيرة، سرّا نفسيا، و رؤية للكون، أن يقدّم الكائن و الأشياء في آن (…) إنه (…) مبدأ تزامن جوهري، حيث يحظى الكائن الأكثر تبعثرا و تفككا بوحدته) ، فأحرى تحميل بيتين شعريين اثنين، مقتطعين طبقا لانتواء الشاعر و مقصديته من قصيدة قصيرة بالأساس، عبء أدوار تخييلية و استبصارية من هذا الحجم، مع ذلك فقد كانا، بالنظر إلى كثافتهما الرؤياوية و نفاذهما الفلسفي في مستوى هذا التكليف الأدائي، بحيث يتراص في مساحتهما النصية المتضايقة سرّ نفسي غائر، و رؤية للكون من الشسوع بمكان، و الكائن و الأشياء، تماما كما ينطويان على خصيصة التزامن الجوهري و يجلوان وحدة الكائن الأكثر تبعثرا و تفككا:
ليس جديدا أن نموت في عالمنا هذا
و ليس أكثر جدة، بالطبع، أن نعيش
فمن مقتضيات أية قراءة منتجة و فاعلة كوننا (لا نلتقي بالنص بانفتاح صامت، و لكننا نلتقي به متسائلين) ، سواء عن سياقه الإنجازي، و هو ما سعينا إلى بسطه، أو عن مقوله و عن منحى تلفظه. و باعتبار البيتين هيئة لغوية في المبدأ فإن هذا لممّا يعطي الوحدات اللفظية / التركيبية المحورية، في نسيجهما التعبيري المتكامل، صفة شبكة علامية تأخذ داخلها وحدة "أن نموت" موقع نواة علامية صلبة، فاعلة في / منفعلة ب، بطبيعة الحال، في الوحدات الثلاث الأخرى التي هي من حيث السلّمية العلامية: "أن نعيش"، "ليس جديدا / و ليس أكثر جدة "، "في عالمنا هذا"، المنصبة، بالتتابع، في ماهيات: الحياة، الزمن، ثم المكان. و لمّا نقرن اللفظية بالتركيب فلأن ما من علامة علامة إلاّ و هي مدعوة إلى المواظفة من خلال منسقية قد تكون مصغرة أو مكبرة، و لذلك فإن (العلامة تهيئ للمؤوّل معرفة شيء قد لا يكون متاحا التلفظ به سوى عن طريق علامات أخرى. فعلا إن هذا المتلفظ ليس مستوجبا بالمطلق لكنه يظل ممكنا من حيث المبدأ) .
و مثلما يصدر المؤلف، أيّ مؤلف، عن انتواءات و مقاصد كذلك يحوز النص حقوقا تأويلية، قد تتطابق مع استهدافات صاحبه و قد تجافيها، غير قابلة للتصريف. و الظاهر أننا هنا بصدد نوع من التماثل الدال بين الطرفين، بحيث تكاد تأخذ مكونات البنية العلامية للبيتين تراتبية دلالية و مجازية و ترميزية تجسم تنازعات اللحظة الرؤياوية التي غشيت انتحار الشاعر. إن تعبير "ليس جديدا" يفيد القدامة، كما يبدو، و إذن ف "أن نموت" ليس أمرا مستحدثا أو عارضا، فهو ليس من قبيل الخطب المباغت و إنما هو أمر قديم، متأصل في عراقة الزمن، و سريانه من سريان الزمن، و نفس الشيء بالنسبة للحياة، ف "أن نعيش" هو أمر "ليس أكثر جدة" من "أن نموت"، بمعنى أنه يساويه و يماديه، من حيث القدامة، المؤشر عليها بواسطة صيغة المفاضلة "أكثر" اللاغية بأثر من عاملية "ليس" النافية. مفاد هذا التقاطب بين القدامة و الراهنية، أو بين البلى و الجدة، أننا نموت، مثلما نحيا، خضوعا لجوهر الكينونة في حد ذاته، إذ يواري هذا الجوهر وجه الكينونة العدمي خلف وجهها الأونطولوجي و لا يطمسه تماما. فعمقيا إن الموت هو الأصل و ما الكينونة إلا انبثاق من صلب السديم، ذلك الهباء الكوني السحيق، لذا ف "أن نموت" ليس أكثر من تعبير عن ملاقاتنا لجانب من حقيقتنا، أمّا "أن نعيش" فلا يتعدى هذا مجرد فجوة في سماكة المطلق العدمي. بيد أنه ما من موت أو عيش إلاّ و يلقى معناه، خارج معطى الزمن، داخل مكان، هذا المكان، الذي هو مرقد أبدي في حالة الموت بينما هو مهاد عريض للعيش الإنساني، هو ما ينعته البيت الأول ب "عالمنا"، مشخصا حالية الموت و العيش في جوفه بحرف التدخيل "في" و مومئا إليه، زيادة في التعيين، باسم الإشاره "هذا".
لكن هل من خصوصية للموت و العيش في هذا الموقف التلفظي ؟ نقصد هل بالإمكان تلمس منسوب تخييلي تذويتي، تغريبي يغدق على الملفوظ تلوينا انزياحيا و ينتقل به من العلامية إلى المجازية ؟ إن الشعر ليس أكثر من كلام يذكّر الآخرين بجوهرهم المنسي و يستنهض في أرواحهم المغبرة قيم الحب و الفرح الحزن و اليأس و الموت.. و في هذا الموقف لا تعمل الفاعلية المجازية فقط على تشييد دائرة استعارية، محكومة بفاعلية تركيبية مقننة ما دامت (كل استعارة تستدعي تركيبا) ، بؤرتها مجاز الموت و محيطها مجازات العيش، و الزمن، و المكان، تسفر للقراءة، دلاليا و ترميزيا، عن أولية الموت، طردا للنسيان، و تابعية العيش في عالم متراوح بين دلالة / رمزية المهادية و دلالة / رمزية الجدثية، بل و تبين، في نفس الوقت، عن قدر من التجنيح، إذ عند ربط البيتين بسائر القصيدة، و مراعاة كون المخاطب فيها هو صديق الشاعر الذي يمنّيه "بلقاء فيما بعد"، و يوصيه قائلا: "لا تحزن، و لا تقطّب حاجبا"، يغدو مستساغا من الوجهة الاستيهامية تأويل جمعية الضمير المتصل "أن نموت" و " أن نعيش" بالدلالة الثنائية المستقاة من اشتغال ضميرين اثنين في القصيدة هما الأنا الشعرية و ضمير المخاطب المفرد. فالموت، قبل العيش، لا يهمّ، في هذا الموقف التلفظي، أيّا كان و إنما هو ينطلي على ذاتين، يصيران إلى ذات واحدة من خلال تعبير "أنت في القلب مني". (فكما أن الوجود الإنساني هو وجودي أنا على وجه التخصيص فكذلك حادث الموت) ، إنه موتي أنا و ليس موت غيري من زاوية النظر الهيدغرية، و بما أن الصداقة هي، في العمق، استمراء للذات في ذوات أخرى فما من شك أن ذاتا لم تلق نفسها في ذوات أنثوية معشوقة، أي في الحب - ثلاث زيجات / خبرات عاطفية فاشلة - و لا في التاريخ، أي في الثورة، كان ضروريا أن تمركز مشاعرها في قيمة الصداقة، و تلجأ، من ثم، إلى إدماج الذات الصديقة، المرجأ موتها الفعلي إلى حين، في جمعية الضمير و ضمها إلى طقس موت شخصي، يلح عليه الشاعر راينر ماريا ريلكه في ديوانه العميق "مراثي دوينو"، تنوب فيه ذات مفردة مناب ذاتين اثنتين، تشعرنه، بله تخصصه، الكتابة الشعرية، و تهجس، عبره، بموت فعلي لاحق، للذات الشاعرة، لا يخلو بدوره من الشعرية و الخصوصية.
و فيما يتعلق بالشعرية و الخصوصية أو ليس شاعريا و خصوصيا أن ينتقي الشاعر المنتحر، شنقا، لذاته ميتة مكابرة، متشامخة، و عمودية، كما الأشجار تموت واقفة ؟ ألا يعكس هذا منزع تسام حتى و الذات في العز من مماتها ؟ لقد (كان يؤمن في صباه بالأسطورة الشعبية القائلة بأن أصل الإنسان شجرة، و كانت مبعث صور عذبة جميلة يحفل بها شعره) ، و هي أسطورة ترتبط بفكرة الشجرة الكونية، التي اعتنقتها حضارات و ثقافات قديمة متعددة كما يرى عالم الأسطوريات ميرسيا إلياد، هذه الشجرة النابتة في الوسط من الكون و التي تعتبر همزة الوصل بين سفول الأرض و سموق السماء، و بصيغة موازية بين الانحدار الحسي و التعالي الروحي. فإذ هو يجنب ذاته ميتة انبطاحية، خنوعة، و أفقية إنما هو يتلافى إسقاط دلالة الجثة البذيئة، المقزّزة، على ذات رهن الإيلاج، واعية، متطاولة، إلى موتها / وجودها الأصيل، الممتلئ، و الجوهري، ف (النفاية مثلها مثل الجثة لا تستنكفان عن تعيين ما يجب تحاشيه، على الدوام، ابتغاء أن أعيش) .

(7)

في مرثاته البليغة لسيرغي يسنين لم يتورع الشاعر المستقبلي، فلاديمير ماياكوفسكي، عن تأنيب صنيع زميله داعيا إلى ضرورة التشبث بالحياة و عدم التفريط، قيد أنملة، بنعمائها و مباهجها. كان ذلك عام 1926 بحيث كان الشاعر الراثي لا يزال مؤملا في حياة آتية تبدعها الأدمغة العلمية النابهة و سواعد العمال و المزارعين و خيالات الشعراء و الفنانين. لم يكن ساعتها قد بلغ منه اليأس الرؤياوي مبلغه النهائي و لم يكن يخطر بباله أن تأزم وجدانه، الذي هو من تأزم تاريخ عام، سوف يقتاده هو الآخر إلى ضفاف مماته المأساوي منتحرا، كما زميله المرثي، و إن تباعد الوقت و اختلفت الوسيلة. كان في تلك الأثناء لا يزال متوهجا، متوقدا، ينتظر قدوم المستقبل الذي تخيله في شعره زمنا متعاليا تأخذ فيه البشرية بزمام وجودها الأقصى، لذا لم يجد أدنى غضاضة في أن يقول، و يقوّل زميله و شعبه معه، هذه الأبيات المتفائلة التي نجتزئ بها من المرثاة المذكورة:
لماذا الإكثار
من عدد المنتحرين
لنشجع بدلا منه
إنتاج الحبر !
……………………
إن الحياة قد صنعت ثانية
لتكن هديتنا إليها أناشيدنا
……………………………….
في حياتنا هذه
ليس هناك ما هو أيسر من الموت
بينما صنع الحياة ثانية
هو المشقة عينها
لكن ما هي إلاّ أربع سنوات حتى اكتشف أن سبيله الأجدى هو سبيل الغياب، و أن رصاصة واحدة قد تفوق في نجاعتها الألوف المؤلفة من قناني الحبر، و أن الفرق، إن كان هناك فرق حقا، بينه و بين زميله الملوم على غيابه الجسدي، المعاتب على استقالته الروحية ، تحت ضغط لحظة ذاتية و تاريخية لوّنتها البشائر و الأماني، هو أن سيرغي يسنين (.. كان يصيخ السمع مفجوعا إلى خطوات الموت الشبحية.. في منتصف ليل الحانات) ، في حين كان هو يستنصته في وضح نهارات المصانع و المزارع و الإدارات، نهارات كانت تعيث فيها البيروقراطية الستالينية الجامدة سخرة للأبدان و تخريبا للأرواح. لمّا حلت برهة انتحاره لم يفكر، شأن زميله، في تدبيج قصيدته / وصيته الأخيرة، و لم يشغل ذهنه بمخرج لانعدام الحبر، كما في حالة زميله دائما، إذ كفاه أنه قال كل شيء في قصيدته / وصيته الاستثنائية، "غيمة في بنطلون"، إحدى أبدع قصائد القرن العشرين، و أنضجها بناء و تعبيرا و تخييلا، و أوغلها في الباطن من المعنى المأساوي لعلاقة الإنسان بالعالم.

  • سيرغي يسنين (1895-1925) أحد أبرز الشعراء الغنائيين، الرعويين، في الشعر الروسي الحديث، من فرط توجسه من تلاوين الحياة الحديثة و ارتعابه أيضا من هول الثورة البلشفية سينخرط في تجربة شعرية فريدة تزاوج موضوعاتيا، في جانبها الأوفى، بين تمجيد المعيش الريفي الطازج و بين شعرنة عوالم السكر و الدعارة و الصعلكة و البوهيمية، بينما تستند، جماليا، على سجلّ لغوي، ذي مذاق رعوي رفيع، و على صور استعارية و كنائية مبتكرة تتلامح، من شدة انزياحها، أسّ القصيدة و قوامها الأسلوبي، الشيء الذي سيمنحه مكانة أساسية في الاتجاه الشعري الصّوري الروسي شبيهة بالمكانة التي حظي بها الشاعر عزرا باوند ضمن الاتجاه الشعري الصّوري الأمريكي. من مجموعاته الشعرية: "رادوينتسا"، "دعاء قروي"، "اعتراف صعلوك"، "موسكو الحانات"، "أشعار رجل مشاغب"..


- يسنين، قصائد مختارة، نقلها عن الروسية: حسب الشيخ جعفر، دار الرشيد للنشر، بغداد 1980، ص 25-26.
- د. حياة شرارة: يسنين في الربوع العربية، مجلة "الأقلام"، السنة 24، ع2، فبراير 1989، ص 55.
- حسب الشيخ جعفر، مرجع مذكور، ص 27.
- نفسه، ص 14.
- Roman Jakobson: La génération qui a gaspillé ses poètes, in: Questions de poétique, Paris, coll. Poétique, Ed. Seuil, 1973, p. 74
- جاك شورون: الموت في الفكر الغربي، ترجمة: كامل يوسف حسين، مراجعة و تقديم: د. إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة (عالم المعرفة)، ع 76، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب، الكويت، أبريل 1984، ص 253.
- غاستون باشلار: اللحظة الشعرية و اللحظة الميتافيزيقية، ترجمة: أدونيس، مجلة "مواقف"، ع 44، شتاء 1982، ص 94.
- نصر حامد أبو زيد: إشكاليات القراءة و آليات التأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء 1999، ص 33.
- Charles Morris: Fondaments de la théorie des signes, traduction de Victor Guérette, François Latraverse et Jean-Pierre Paillet, in: revue (Langages), N 35, intitulé " Problèmes et méthodes de la sémiologie ", septembre 1974, p. 19
- Joelle Tamine: Métaphore et syntaxe, in: revue (Langages), N 54, intitulé " La Métaphore ", juin 1979, p. 79
- جاك شورون، مرجع مذكور، ص 248.
- د. حياة شرارة، مرجع مذكور، ص 59.
- Julia Kristeva: Pouvoirs de l'horreur, Paris, coll. Points, Ed. Seuil, 1980, p. 11
- V. Maiakovski: A Serguéi Issénine, traduit par Alice Orane, in revue (Lettres soviétiques), N 294, intitulé " Maiakovski et notre temps ", 1983, p. 66-68
- حسب الشيخ جعفر، مرجع مذكور، ص 24.