صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

قصيدة المرأة في الإماراتتسعى هذه الورقة (*) إلى رصد المشهد المعاصر لقصيدة المرأة في دولة الإمارات، من خلال مناقشة عدد من التجارب الشعرية الراهنة التي إذا كانت تتباين أو تتقاطع أو تلتقي في الخصائص الأسلوبية الفردية لهذه الشاعرة أو تلك، فإنها في الإجمال تشكل ظاهرة فريدة في الصورة الأعرض للمشهد الشعري الخليجي تحديداً، والعربي المعاصر إجمالا. فمن المسلم به أن الشعر في الإمارات، وفي منطقة الخليج العربي عموماً، ينفرد عن سواه من المناطق الشعرية العربية (بلاد الشام أو العراق أو مصر أو المغرب العربي) بوجود عدد كبير من الأصوات الشعرية النسائية التي حققت درجات عالية من التنامي والتجدد والتطور.
وإذا وضع المرء بعين الاعتبار حقيقة الظروف، الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي أعاقت ظهور مشهد شعري نسائي في هذه المنطقة إبان سنوات التجديد العارم التي اجتاحت الشعر العربي منذ أواسط الخمسينيات وحتى أواخر السبعينيات، فان المستوي المتقدم الذي تبدو عليه اليوم تجارب عدد من الشاعرات المعاصرات في الإمارات إنما يدل علي مقدار التقدم الكبير الذي حققنه في زمن قصير نسبياً، بالقياس إلى تجارب أقرانهن في مناطق شعرية عربية أخري.

كذلك فان شيوع قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر في الكتابة الشعرية يدل من جانب آخر علي أن تلك التجارب الشعرية بدأت ثورية في الأساس، أو هي أنجزت ما يشبه حرق المراحل حين انتقلت مباشرة إلى التحديث والأشكال الحداثية، فتفاعلت سريعاً مع منجزات تيارات التجديد العربية دون المرور بمراحل انتقالية. وبهذا المعني يبدو شعر المرأة هنا تحررياً، أو ربما انعتاقياً ، أكثر من أي موقع شعري آخر في العالم العربي، خصوصاً إذا تذكرنا ثانية أن العديد من الأسباب الثقافية والاجتماعية - وأحياناً الجمالية - المحلية كانت كفيلة بإعاقة تقدم هذه التجارب، أو علي الأقل تأخير وصولها إلى الحداثة مباشرة وسريعاً.

وفعل الانعتاق هذا مقترن، في قناعة كاتب هذه السطور، بأدب المرأة أينما كانت، سواء في بلدان تسودها ثقافات تقليدية وتقاليدية، أو في بلدن أخري تتحرك ثقافتها في فضاء ليبرالي مفتوح. والأمر ببساطة، ودون الخوض في الكثير من تفاصيل التيارات النقدية النسوية، يعود إلى الموقع الاجتماعي الذي تشغله المرأة بالقياس إلى الرجل، والي انعدام التكافؤ في اقتسام علاقات القوة علي الأصعدة المختلفة، السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية. ما تكتبه الشاعرة في الولايات المتحدة لا يقل نزوعاً إلى الانعتاق عما تكتبه الشاعرة في الإمارات العربية المتحدة، مع حفظ فضيلة خاصة للشاعرة الإماراتية لأنها إنما تخوض معارك الانعتاق في شروط أصعب، وأكثر تطلباً للمثابرة والعزم والمقاومة.

وسوف نتوقف عند خصائص هذا الشعر في مستوي بعض الموضوعات الأساسية المتكررة، وكذلك في مستوي التجريب والأشكال التي تصنع المبني الذي يحمل معني ذلك الشعر. ولعل الموضوعات الشائعة في قصائد معظم شاعرات الإمارات هي الدليل الأفضل إلى تلمس فعل الانعتاق ذاك، والتماس أشكاله المتعددة التي تبدو ـ هنا أيضاً ـ وكأنها تتباين أو تتقاطع أو تلتقي لا لشيء إلا لكي تصنع مشهداً متجانساً في نهاية الأمر، جدلياً في اختلاف الشاعرات واتفاقهن، وحيوياً في تعبيره عن البُني الشعورية المعقدة للمرأة الخليجية المعاصرة. وسأحاول حصر الموضوعات التي تتناولها قصائد بعض شاعرات في ثلاثة مفاهيم ذات طابع كوني إنساني عريض، وتأخذ غالباً شكل الهواجس الوجودية الكبرى: الجسد، اللغة، والمكان.

الجسد: مقام الذات ومنفاها

وفي سياق فعل الانعتاق الذي تمارسه الشاعرة الساعية إلى تحرير الذات فان الجسد ليس موقع الرغبة الحسية أو مادتها أو موضوعها، ولهذا فانه ليس الجسد بمعناه الجنسي أو البهيمي. انه مقام الذات ومنفاها في آن معاً، ولا سبيل إلى تحرر الذات وخروجها من منفاها هذا إلا إذا تحول الجسد إلى نص ناطق بدل بقائه ـ أو إبقائه ـ كتلة من اللحم والأعضاء. وهكذا فان تحرر الشاعرة من صورة الجسد المسخر لإشباع الرغائب البهيمية وحدها هو في الآن ذاته تحرير للذات من المنفي، وهو عتبة إطلاق النص وانطلاقه. وهكذا تقول ميسون صقر في قصيدة بعنوان رماية ، من مجموعة جريان في مادة الجسد :

كلما صدني هذا الجسد الناحل عن أحلامي
اختبأت في ركن داكن ومعتم ورطب،
ثم صوبت جيداً حتى أُسقط آخر علامات
انهزامي
وأرحل إلى هذا الجسد الواهن في أيامي. (1)

وفي قصيدتها الطويلة جريان في مادة الجسد ، التي تحمل اسم المجموعة، تتابع صقر هذه العلاقة بين الجسد والانعتاق، وتقول بوضوح تام: والجسد لغة بها ابتدئ/ كل قبيلة مسودة لتاريخ قمعي/ كل ضلفة باب يسد علي قامتي ، قبل أن تختتم القصيدة هكذا: فليس كل هذا التشتت/ كل هذا الطلوع لمعرفة الحقيقة/ كل هذا الجريان في مادة الجسد/ حادثاً عرضياً .
الشاعرة ظبية خميس تقول في قصيدة ولادة جديدة ، من مجموعتها القرمزي:

تعيد المرأة ترتيب أعضائها
ترمم دارها الخَرِبة
تتم إعادة ولادتها
رافسةً تلك الولادات القديمة الناقصة
أحتاج إلى أعضائي هكذا هي نطقت
أنوي استعادة الكرمة الإلهية هكذا هي نَوَت. (2)

خلود المعلا تذهب إلى حد استخدام مفردة وأد ، في قصيدة تحمل هذا العنوان من مجموعتها وحدكَ ، حيث يمتزج حس رثاء الأنثى بروحية التطلع إلى الانعتاق:

مَن يحملني الليلة إلي الأرض الرابعة
ويقرأ النهاية
امرأةٌ وأدتْ سراً
واستراحت.
وردةٌ تلبس الوقت
تتلون بالبرق
تطلق الضفائر للظل
وترفع راية العشيرة.
لم يبق في الأنوثة سوي نونها
وللنون نقطةٌ قديمة
منها يبدأ قاع
وينطفئ قلب
معها،
تظهر وجوه خمسة
لها صفة الريح والبكاء
وميمُ الموت. (3)

لكن الجسد لغة كما تقول ميسون صقر، واللغة في قصائد شاعرات الإمارات ليست مجرد استخدام من نوع آخر لمفردات القاموس ــ الذي قد يصح القول انه ظل ذكورياً أمداً طويلاً ـ بل هي في الآن ذاته محاصصة للمعني، واقتطاع لما يمكن اعتباره حصة الأنثى من دلالة المفردات والمصطلحات والأفكار. اللغة هنا مطالَبة بإعادة صياغة كامل التجربة الإنسانية للأنثى ـ من موقع الأنثى هذه المرة ـ ومطالَبة بتحويل هذه الصياغة الجديدة إلى أداة للحوار مع الرجل، وربما مع العالم الخارجي بأسره.
ذلك لأن اللغة الأخرى، لغة الرجل بمعني ما، هي اللغة السائدة للنظام السائد الذي تحاول الشاعرة الانعتاق من إساره بوسيلة كتابة القصيدة. انها أيضاً واحدة من أدوات تنظيم القهر وتعميمه، ولعلها الأكثر قدرة علي التوغل إلى أعماق النفس، وتكبيل الأحاسيس والرؤى والأحلام، والانقلاب إلى قيد ثقيل لا يعيق الانعتاق فحسب، بل يحول المعني إلى سجن لغوي، والكلام إلى صمت. والشاعرة نجوم الغانم تقول، في قصيدة غياهب من مجموعتها منازل الجلنار :

ليست اللغة قلعتي لأشعل قناديلها في حجرة القلب
ولا الكتابة جنتي أخلد علي أرائكها
وأترك للخيالات أن ترعي في مآدبها.
ليس المداد ريق القصائد،
لن يكون العزاء ولا المعزين
وإذ أحار كيف أرتق الجنائن في غياب الغائبين
فلأني مكروبة من وقع الأسنة في قوافلي. (4)

واللغة أيضاً وسيلة الشاعرة إلى الانفتاح علي ذاتها، بلغة ذاتها، بدل مقارعة العالم الخارجي بلغات يصعب أن تنفصل عن أنظمة القهر السائدة في العالم الخارجي. وكتابة القصيدة قد تكون واحدة من أرفع حالات حوار الشاعرة الأنثى مع ذاتها، بعيداً عن الكوابح والمحظورات والمحرمات، مادية كانت أم معنوية. واللغة، أخيراً، وسيلة الشاعرة في تحويل انفتاحها علي ذاتها إلى صوت جماعي بمعني ما، ينطق بما هو أوسع من مجرد الهواجس الشخصية الذاتية، ولعله سوف يفلح في مصالحة الذات مع العالم الخارجي، بحيث تصبح الذات ــ أو تسعى إلى أن تكون ــ صوتاً للآخرين.

المكان: مقام التفاعلات

وليس في وسع الجسد، في ذاته أو متحولاً إلى لغة، إلا أن يكون في مكان، وجزءاً من مكان. وهذا المفهوم الثالث في موضوعات قصيدة المرأة في الإمارات، وفي الخليج إجمالا، يرتدي أهمية خاصة بالمعنَيين الجمالي والفكري. ذلك لأن انقياد المرء إلى أطروحة ثقافة الصحراء يمكن أن يقود إلى افتراض لاحق مفاده أن جغرافية المكان في شعر الخليج هي جغرافية صحراوية بالضرورة. وإنني شخصياً أختلف تماماً مع أصحاب هذه الأطروحة، وسبق لي أن أعربت عن هذا الاختلاف في دراستي لاثنتين من أهم التجارب الشعرية في الخليج العربي: الشاعر العماني سيف الرحبي والشاعر البحريني قاسم حداد.
وليس المقام مناسباً هنا للدخول في تفاصيل هذا الاختلاف، غير أنني أشير سريعاً إلى أن أطروحة ثقافة الصحراء ، التي بدأها الناقد السعودي عبد الله نور وطورها بعدئذ الناقد السعودي عبد الله البازعي، تحتاج إلى كثير من التدقيق في ما يخص النصوص الشعرية المعاصرة علي الأقل. انها، من جانب آخر، يمكن أن تنتهي إلى ذلك النوع من التعميمات الاستشراقية التي تسبغ علي البيئة الجغرافية سمات مطلقة، وتلتمس فيها القدرة علي تكييف الميول الإبداعية والأسلوبية. ومن جانبي، وبعد تأمل طويل في قصائد الشاعرات الخليجيات إجمالا، لا أجد نفسي منضوياً في صف الفريق الذي يري أن الصحراء هي المكان الأثير في تلك القصائد.
في المقابل، أري أن مكان قصائد الغالبية الساحقة من شاعرات الإمارات هو مكان مجازي ومتَخيل، وهو موقع افتراضي يشهد جدل الشد والجذب بين الموضوعيَن السابقيَن (الجسد واللغة)، وهو بدوره مادة ثالثة لفعل الكتابة، وفعل الانعتاق. انه ليس المشهد الأرضي أو التضاريس الطبيعية أو البيئة، بل هو مزيج معقد من تفاعلات الذات والتاريخ واللغة، وهو أشبه بفردوس مفقود يُري كحاضنة لأحاسيس الغربة أو القهر أو الضياع، وهو بالتالي جزء لا يتجزأ من الأسباب العميقة الدافعة إلى التحرر.
وها هي عائشة البوسميط، في قصيدة الغرفة من مجموعتها سيدة الرفض الأخير ، تحلم أن يكون العالم بأسره غرفتها:

أفيق أبداً
علي شباك الليل
وأحلم..
أن العالم غرفتي
زاويتي التي أحببتُ
منذ عشرين عاماً
أغوص في رحابها
أبحث عن الدانة
أطلق جسدي في بحر الدهشة
علني ألقاها... (5)

والشاعرة الإماراتية برهنت علي نضج رفيع في التعامل مع المكان ضمن سياقات هذا المفهوم التحرري، فلا هي وقعت في إغراء تأثيمه أو النظر إليه كسجن ومفازة ومتاهة، ولا هي انساقت وراء التنميطات الاستشراقية التي صورته أما في هيئة الحجاب الذي يخفي المرأة أو الخباء الذي يخفي مطارحات الغرام.
وفي ختام هذا الجزء من الورقة، يتوجب أن أشير سريعاً إلى عدد من الخصائص الأخرى التي ـ علي العكس ـ تغيب عن موضوعات قصيدة المرأة في الإمارات، وتشكل بالتالي سمات ايجابية:

  1. أنها قصيدة لا تضطر إلى استخدام الأقنعة، والشاعرة إجمالا هي الصوت الناطق في القصيدة، وهي الظاهرة فيها سافرة من غير قناع.
  2. وهي قصيدة يندر أن تلجأ إلى الأساطير والرموز، وكأن الشاعرة الإماراتية تقول ان الموضوع رامز بذاته، أو هو غير مضطر إلى الترميز في الأساس.
  3. الشاعرة لا تلعب دور الضحية المجانية، كما أنها لا تتكلف العصيان لمجرد العصيان، ويندر أن تقف موقفاً عدمياً من الحياة والوجود.
  4. والمرأة في القصيدة ليست موضوعاً للتفجع الوجداني أو الوعظ الأخلاقي، وهي في الآن ذاته ليست مادة للغزل ــ عذرياً كان أم حسياً ــ لأن موضوعة الحب تميل عموماً الي ترجيح التوازن العاطفي بين الرجل والمرأة.
  5. يحدث، غالباً، أن تلجأ الشاعرة الي تغييب الصوت الشخصي عن طريق استخدام ضمير المخاطب في صيغة المفرد المذكر، وذلك لتحقيق غرضَين في آن معاً: إقامة حوار مع الرجل بوصفه الآخر المخاطَب، وإقامة حوار مع الذات المؤنثة بوصفها طرف الخطاب الأول، أو آخر الآخر إذا صح القول.

الأشكال: هيمنة قصيدة النثر

شكل قصيدة النثر يبدو اليوم الأكثر شيوعاً لدي الغالبية الساحقة من شاعرات الإمارات، وثمة مَن يواصلن الكتابة في شكل قصيدة التفعيلة، وأما عمود الخليل فقد تراجع كثيراً، إذا لم يكن قد انقرض تماماً. وهكذا فان مشهد الأشكال الشعرية يبدو وفياً للمشهد الشعري العربي إجمالا، حيث تهيمن قصيدة النثر، ويشكل شعراء التفعيلة صف الأقلية، ويقف شعراء العمود في خنادق الدفاع الأخيرة. لكن هذه الحال تشير الي حقيقة أخري، وهي أن استقرار شكل قصيدة النثر لم يكن سهلاً علي الدوام، وأن الشاعرات اللواتي اخترنه مباشرة كن ـ هنا أيضاً ـ يمارسن فعل الانعتاق علي مستوي الشكل والمبني، بل وعلي نحو أكثر راديكالية من انعتاقهن علي مستوي المحتوي والموضوعات والمعني.

هالة حميد معتوق تكتب طرازاً خاصاً من قصيدة التفعيلة، لأنها لا تقطع النص الي سطور بل ترسله علي هيئة متصلة تشبه المقطع النثري، وتضحي أحياناً بضرورات علامات الوقف، وأحياناً أخري بالتدفق المتلاحق للجملة الواحدة الطويلة ذات الأفكار المتباعدة. غير أنها تنجز، في المحصلة الأخيرة، قصيدة متوازنة إجمالا، خصوصاً حين يأخذ المرء بعين الاعتبار صعوبة تركيب مقطع موزون من عشرة سطور متصلة. تقول معتوق في قصيدة بعنوان نقوش علي رمل المراثي:

أبوح لكِ الآن والبوح مكتمل بهديل شفيف علي شفة الارتباك الحقيقي يا خنسُ للعشق دمع خفي كنوز مخبأة في مرايا النساء وأعناقهن تعالي إذا الدمع أسبل أجفانه نطوف بادية الشام، نحن سبايا القطيعة نفرش رملاً لغفوة عشاقنا ونقلب رجة هودجنا فوقه، راجلات سنرحل صوب الشمال الي سفح نجم هوي ونعلقه في لهاث الثريا سنرحل في الشوك والقلق الأنثوي الي ما تبارك من دمنا الطفل، فوق السيوف سنرحل صوب الشمال ونحفر ساقية الارتعاش لنبني لأسرارنا القدسية هيكل قافية أُترعت بالبروق وبالقصب الغض، نكتبها في حواشي المواثيق والاندهاش وماذا سنملك غير حواشي الرمال لنكتب لون المساء وعادات هذي البيوت، فيا امرأة الحزن هذا الذبيح سأضجعه في خبائي وأحنو عليه كأم مبجلة، سأدفئه بلهاث الطقوس وفتنتها الطاغية . (6)

نجوم الغانم، في مجموعتها الجرائر ، استخدمت سلسلة من الألعاب الطباعية داخل النص: تبديل أحجام الحروف، استخدام المساحات السوداء، والمساحات البيضاء، والصورة الفوتوغرافية. وفي قصيدتها مملكة الظنون قسمت النص الي جزء أيمن يشغل ثلث الصفحة، مطبوع بحروف صغيرة ويتابع حكاية ذات خط سردي؛ وجزء أيسر يشغل الثلثَين الباقيين، مطبوع بحروف كبيرة ومحصور داخل شكل هندسي مغلق. (7)

ولن يكتمل مشهد الشكل دون الحديث عن هدي أمين الزرعوني، التي تكتب قصيدة تفعيلة متينة تنطوي علي الكثير من سمات الجزالة والفصاحة والتشكيلات الايقاعيات الجذابة، التي تدنيها كثيراً من ألق الكلاسيكية الجديدة، ولكن دون تكلف أو تنميق أو صنعة مجانية، ورغم الإفراط في إطلاق العنان للنبرة الرومانسية الذاتية. تقول في قصيدة أرجوحة الروح ، من مجموعتها الليل يغني وحيداً :

يا فاطمة
لو شرفةُ الأيام تُهدي
أشتري بالعمر شرفاتِ الشموس الغائمة
الهمسُ مرمرْ
يغري الكلام فكرريه
وكرري الرقص الصغيرْ
البر أخضر
فانصبي في الثغر دارَ السوسناتْ
لا شك أن الغيمَ في كلماتكِ
والحقل في لثغاته، قطرٌ وريفْ (8)

وبصفة عامة يمكن القول ان الشكل مستقر نسبياً عند شاعرات الإمارات، ومن النادر أن نشهد نقلات أسلوبية وتجريبية مفاجئة. غير أن هذا الاستقرار يخفي، من جانب آخر، حالة من الركود التعبيري يمكن أن تنقلب سريعاً الي جمود ومراوحة في المكان، خصوصاً إذا سلم المرء بالحقيقة الفنية التي تقول ان شكل قصيدة النثر العربية أخذ يعاني من التماثل والتشابه، وأخذت أسراره تنكشف بالتدريج، وتحولت بعض تقاليده الكتابية الي تمارين لغوية صرفة يستسهل القيام بها أي مبتدئ أو مبتدئة. الأمر، بالتالي، يفرض علي الشاعرات إبداء المزيد من الحرص علي تطوير أشكال وأدوات وطرائق التعبير، وإلا فان الهوة ستزداد عمقاً - وخطورة - بين المحتوي والشكل، وبين المعني والمبني. (9)

القدس العربي
2005/05/10