(علاء عبد الهادي نموذجاً )

الدكتور فاضل سوداني
مخرج وباحث مسرحي
fasoudani6@hotmail.com

فاضل سودانياستنطاق الصمت, وروح الشعر:

لا تُفهم أبدية الشعر إلا من خلال علاقته بالمجهول, والمستحيل, والسري, واللامرئي، وهذا يفرض أحيانا استعارة بصرية مركبة باستخدام وسائل تأويل أخرى متعددة, مثل تركيب المعنى الذي يتكون بين اللغة الأدبية ووسائل أخرى كاللوحة التشكيلية والصورة الفوتوغرافية. وفي هذا الصدد هنالك تجربة متفردة في الشعر العربي المعاصر, وأعني بذلك تجربة الشاعر علاء عبد الهادي، في ديوانه (شَجـِن) حيث رافقت الصور الفوتوغرافية كل قصيدة في الديوان، فاستخدم الشاعر إمكانيات تأويل الاستعارة البصرية في الجملة الأدبية, وفي الصورة الفوتوغرافية, على نحو أدى إلى تكوين علاقة متداخلة وإيحائية, بين النص الشعري والبصري, بالرغم من اختلاف احدهما عن الآخر في معنى كل منهما التأويلي المنفصل، وذلك إذ لم يفسر احدهما الآخر .
خلق الشاعر هوة بين القصيدة الشعرية والصورة الفوتوغرافية كي لا يكون أحد النصين البصري أو اللغوي تعليقاً على الآخر, على نحو لابد فيه للناقد أو للقارئ أن يملأها. وفي هذا المثال فإن مهمة استخدام الصورة الفوتوغرافية هنا هو إبراز المعنى البصري المستتر للقصيدة (المعاني الإيحائية, والأسطورية, والتأويلية) وكذلك إبراز المعنى الاستعاري البصري في الصورة الفوتوغرافية, حتى وإن كانت الصورة لا تعبر عن القصيدة وبالعكس. وبالرغم مما يؤكده رولان بارت بأن النص اللفظي يوجه إدراك المتلقي, ويقود قراءته للصورة، أما النص اللغوي هنا فيمارس سلطة على الصورة مادام يتحكم في قراءتها. والشئ المهم هو أن الشاعر والناقد د.علاء عبد الهادي واع لهذا الدور الذي يلعبه النص اللفظي, وكذلك تعدد الدلالات والتأويل الذي تتسم به الصور في هذا الديوان، لهذا فإن قصيدته تفرض على الدارس أو الناقد الذي يبغي أن يوصل رؤاه النقدية إلى القارئ المتفاعل أن يكون منهجه وتحليله واضحاً. فمن الضروري إذن قراءة هذه القصيدة من خلال التطرق إلى الوحدات التي تشكل الخطاب الشعري عنده, وأعني: الأبعاد السردية(النصية), والأبعاد البصرية, والأبعاد الصوتية (أصوات القصيدة), والأبعاد الإيقاعية أي تأويل الحركة الداخلية, والمقصود هو (المعنى الداخلي, والتأويل الشعري, سواء كان المعنى مستتراً أم معلناً), وهذا ما يجعل النقد والقراءة التأويلية المبدعة معتمدةً على التزام الشك بالنص, على نحو يساعدنا على اجتياز تلك المنطقة العمياء للوصول إلى استقلالية النص, ووضوح تأويله، فضلاً عن امتلاك وسائل العبور بالنص من كونه خطاباً شعرياً واحدياً,(وما ينتج عنه من تأويلات واحدة تجعل منه نصا شعريا مغلقا) إلى النص الشعري البصري. إذ إن الشاعر في ديوانه "شَجِن" قد استخدم وسيلتين منفصلتين لتحقيق الوصول إلى قصيدة شعرية حداثية، هما الكلمة والصورة الفوتوغرافية , ولهذا سأعتمد في هذه الدراسة التحليلية على ما ندعوه: بالتأويل البصري للنص; يقوم تحليل القصيدة إذن على الرؤيا المتفاعلة, لقصيدة متفاعلة، أي تلك القصيدة التي تفرض على القارئ التفاعل مع كينونتها، وهذا يشكل ما ندعوه بمبدأ: التفاعلية الشعرية، على نحو يفرض أن تصبح القصيدة رؤية شعرية كاملة بذاتها، أي أن القصيدة تفرض روحها الشعرية، فروح القصيدة تكمن في مواجهتها للزمن، وتحولها إلى بعد شعري وبصري رابع للزمن في القصيدة.
يكشف النقد الحديث روح القصيدة وليس روح الشاعر, مادامت القصيدة تتخلى عن شاعرها لحظة تكاملها، وما دام الشاعر يصغي لصوت القصيدة ولإيقاعها الداخلي حتى بعد كتابتها، وهذا يعني ، صوت الرسالة الشعرية السرية, أو صوت السر الخفي. ومن هنا فإن القصيدة المتفاعلة تمتلك سريتها وغموضها وتجليها، وإذا قدر لها أن توجد فلا يمكن أن توجد إلا في هذه التجليات التي تشكل التفاعلية الشعرية المستندة على البعد الشعري الرابع لزمن القصيدة، أي أن تكون القصيدة هي الزمن بامتداده أي أنها تكون شعراً عندما تختصر لحظة ولادة الكائن وموته في لحظة واحدة، إنها القصيدة التي تُكتب تحدياً للموت والزمن في آن واحد.
إذاً هل مازال السؤال الجوهري الذي طرحه هيدجر حول عودة الآلهة قائماً؟ وهل مازال الزمن يمتلك استعادته من جديد في عصور وأمكنة متشابهة؟ وهل هو ذاته الذي يصبح جزء من تلك القوة التي تخلق شاعراً يشابه شاعراً آخر عاش في زمان ومكان مختلفين ؟ وفي إجابة هذه الأسئلة يمكننا القول إنه: إذا كان الزمن يمتلك القدرة على الاستعادة, فإن القصيدة البصرية تمتلك القدرة ذاتها فتفرض حضورها البصري في كل أوان .
إن روح القصيدة وروح الشعر عموماً سواء كانا في الفن, أو في الجمال, أو في الحياة, أو في الطبيعة, هما اللذان يشكلان الإبداع الذي يمتلك زمنه الخاص، فهو ذلك الشعر الذي انبثق في فجر الإنسان البدائي، وخريف إنساننا المعاصر الذي خربته الآلية, وشيئية الوجود. ولهذا فان القصيدة تشكل رؤيةً, ووجوداً بصرياً أمام الصمت, وعزلة الشاعر أو عزلة الإنسان عموماً, إذ إن أحد أهداف الشعر هو ذاك الذي يساعد الشاعر المبدع على التخفيف من قسوة معاناته من ثقل الوجود من حوله.

بصريات الشعر, وشاعرية الصورة:

يفرض علينا هذا المدخل أن نفكر بالعبور من النص الشعري, ونص الصورة الفوتوغرافية(التي فرضها الشاعر في ديوانه بوصفها لغة, ووسيلة موازية للكلمة) إلى نص آخر، أي العبور إلى لغة التأويل البصري، وبهذا يمكننا التأثير على مصير القراءة والقارئ. وهذا ما يجعل من النص البصري بكل وحداته (الكلمة، الصورة الفوتوغرافية المرافقة كما في ديوان شَجِن لعلاء عبد الهادي), لغة غنية وحية وقابلة للتأويل بصرياً من أجل تحليل نص الصورة الفوتوغرافية, بالإضافة إلى النص اللغوي الشعري، فيصبح النص الشعري مفتوحاً، يقبل أن تتداخل فيه أنساق كثيرة, وتتعدد فيه وسائل لغة التعبير واختلافها بما في ذلك الصورة الفوتوغرافية. وهذا موجود في نص الشاعر(خصوصاً في ديوانه "شَجِن" الذي يدل على امتلاك الشاعر لوعي مكثف بوظائف هذه الأساليب الإبداعية والتأويلية), فهو نص مفتوح لجميع القراءات، وهذا بالتأكيد ما يتجاوز النص الشعري المغلق الذي يحاول الكثيرون من خلاله رؤية العالم كله في حبة عنب صغيرة وجافة.
إن اختلاف نسق خطابين أو نصيين مختلفين ومدلولاتهما (الصورة الفوتوغرافية والنص الشعري) يشكل حضورهما أولاً, مثلما يشكل حضورَ نص ثالث عند تماس هذين النصين(زمنياً), وهو النص الذي سينتجه التأويل البصري, وتعدد أصوات القصيدة ومعانيها. وهذا النص الثالث يوصلنا إلى فكرة ميتافيزيقيا الحضور الشعري الإبداعي. فلا يمكن أن يوجد الشعر من خلال الحضور فحسب, وإنما يوجد ويفسر ويتوصل إلى معانيه من خلال الغياب أيضاً, أي تأكيد ثنائية الحضور والغياب في اللحظة ذاتها والتزامها للوصول إلى معنى الشعر، فهذا الحضور/ الغياب هو ما يؤكد تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة, وأحياناً في المقطع الشعري الواحد. فالشعر لايجب أن يعتمد على قراءة واحدة, بل يجب أن يعتمد على قراءات مختلفة، واختلاف القراءة يفرضه النص الشعري -على نحو غير مغلق- لا يعتمد على إبراز المعنى من خلال تأكيد صوت المؤلف فحسب, وإنما من خلال تعدد الأصوات التي تكمن في انزياح النص, والرجوع إلى عوالم ماضية لها علاقة بالشعر والتراث والميثيولوجيا والأسطورة...الخ.
يعطي النص الثالث (التأويل البصري) معنى لكينونة النص الأول أو الأصل الذي كتبه الشاعر في الماضي، ولهذا فان هذا (التأويل) أي النص الثالث هو الذي يشكل حضوراً زمانياً آنياً (الآن وهنا) في لحظة القراءة التحليلية, كذلك يشكل النص الثالث التأويلي ميتافيزيقيا حضور الغياب; حضور ذلك المعنى الذي كان غائباً ومستتراً (في النص المكتوب) قبل تأويله, ليكتشفه الناقد صاحب الرؤيا البصرية. فيغيب النص الأول ليشكل النص الثالث كينونة جديدة, مادام الشك في كل شئ يفرض التأويل البصري الذي يحلل (في اللحظة الراهنة) ماورائية النص, والكلمات, والوسائل الأخرى، ومادام الشك قد ألغى -أو غيّب- أحادية المركز المحوري للكلمات والأفكار والأنساق. (فما هو حقيقي يعني ماهو حاضر في لحظة زمانية معينة لأن اللحظة الحاضرة تبدو مطلقاً بسيطاً لا يقبل التفتيت، الماضي هو حاضر سابق، والمستقبل حاضر متوقع، لكن اللحظة الحاضرة كائنة فقط في معطى مستقل) (دريدا عن د.عبد العزيز حمودة)

إن الشعر حسب بودلير هو الشاعر, هذه الفعالية المبدعة التي تصهر العالم الخارجي والشاعر (أي الموضوع والذات) في خيال مبدع أشبه بالسحر, يضع فيه الشاعر كل ما في كيانه من إحساس وعاطفة، لأنه مستمد من أعماق الوجود, ومن الجوهر السرمدي الذي يجري في كل كائن، ومفهوم الشعر هذا هو مفتاح السر لديه. فالشعر الذي يتحقق من مختلف الوسائل سواء كان باستخدام الكلمة أو الصورة الفوتوغرافية أو أية وسيلة أخرى، هو الشاعر في اللحظة ذاتها. هذا ما كنت أشعر به وأنا أقرأ علاء عبد الهادي وسره الشعري الخفي.
وقبل الدخول في هذا أود أن أؤكد حقيقة هي أن الشاعر كان واعياً لمهمته بوصفه شاعراً بصرياً, وبالإمكانات الإبداعية في استخدامه لنسقين تعبيريين مختلفين، فهو يعرف كيف يجعل من الشعر واقعاً حقيقياً، وجوهراً وكينونة وجودية، ولهذا فانه لا يفرض مفردات لغتنا على الشعر, وإنما يجعل من الشعر خروجاً على الأيقونة اللغوية الساكنة, مما يجعلنا نحلم ونحن في يقظة. وفي ديوان علاء عبد الهادي "شَجِن" يمكننا أن نتناول ست مهمات أساسية للوصول إلى شعرية العمل والتأويل البصري فيه وهي:

1- العلاقة بين الشعر, واللون, والإيقاع:

عند استخدام وسائل تعبيرية مختلفة يكون من السهولة أن ترى ألواناً متعددة وخاصة, وتسمع إيقاعاً متفرداً في الشعر، ولكن الألوان ليست هي ذاتها التي نراها في الطبيعة, وإنما هي ذلك الأشياء اللامرئية التي يكتشفها الشاعر في الأشياء والأشكال والكائنات الأخرى , وفي همس روحها , مما يمنحها الحياة من جديد ويجعل وجودها ديناميكياً, فتشكل بعداً شعرياً جديداً.
فإيقاع الزمن في شعر علاء عبد الهادي يتحدد من خلال الصوت واللون, لذلك فإن الشاعر يجعل دفوف الزمن تصرخ ملتاعة فينفرط الظلام لكن يتكثف ثقله ويكون فارضاً لكينونته. فالظلام يفرض لونه الأسود وكذلك الحالة الخاصة التي يتكيف الإنسان فيها لجوّ الليل (بدايته ومنتصفه ونهايته), ولا يتوقف الأمر عند هذا, بل يتعداه إلى أن يتحول اللون الأسود إلى ترددات إيقاعية، فعند كلمة الظلام تبدأ الذاكرة البصرية بالرؤى المتخيلة, فالظلام عادة يوحي بالليل, ولكن هذا التكرار الإيقاعي يوحي أيضاً بتكرار الألوان التي يفرضها النهار, ومن ثمّ الليل, ومرة أخرى النهار.. وهكذا. ومثل هذا التعاقب يشكل إيقاعاً بصرياً وتواتراً. يبتعد الزمن هنا عن واقعيته ليشكل زمن القصيدة, إنه الزمن الإبداعي الشعري. هذا الزمن لا يمكنه أن يمتلك ديمومته بعيداً عن تجلّي الذات الشعرية المبدعة, التي تمنح تأويلاً بصرياً للنص.

2- ذاكرة الأشياء:

نلاحظ في ديوان (شَجِن) أيضاً، هناك كثير من القصائد التي تكتشف الأشياء في الطبيعة من جديد من خلال تكوين علاقة جديدة, وبوعي جديد. فالوعي التقليدي وغير الإبداعي عادة يرى الأشياء في الطبيعة, ويتعامل معها بوصفها أشياء مهملة ثقيلة وفائضة، أو على الأقل يراها وجوداً وظيفياً فقط. إلا أن الشاعر البصري يرى كينونتها المتوهجة, على نحو يعيد وجودها, ويمنحها ذاكرة مطلقة(يمكن أن نطلق عليها ذاكرة الأشياء المطلقة) أي ذاكرة وجود الأشياء، فيتجوهر وجودها, وتتوهج وكأنها تشع في البرزخ. إضافة إلى أن الشعر المبدع هو الذي يحول الأشياء إلى كائن, ويتعامل معها و كأنها تمتلك أحاسيس إنسانية(بوصفها جزءاً من ذاكرة الأشياء) وهذا ما يجسد كينونتها وذاكرتها المطلقة التي تؤدي بالشاعر إلى الانغمار ليس في المرئي فحسب, بل في اللامرئي أيضاً، ذلك المستور عن الرؤية الواقعية وهو الذي يشكل جوهر الفعالية الشعرية كما في:

(حَجَرٌ.. صَغَيرٌ
يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ
دُونَ أنْ يَلْمَحَهُ أَحَدْ
كَي يَصِلَ عَاشِقَةً.. كُلَّ يَوْمٍ..
بِعُبَّادِهَا التَّائِهِين).

أو:

(أقْفِلِ النَّافِذَةْ
رُضُوضٌ فِي هَوَاءِ الْمَدِينَة
وَغُرَبَاء شَرسُونَ
يَتَكَاثَرُونَ
تَحْتَ وِسَادَتِي)

أو:
(الحَدِيقَةُ المَهْجُورَة
يَافِعَة
بَْدَ أَنْ صَادَقَتْ أَسْوَارَهَا!
فَالمَدِينَةُ مُلْتَاعَةٌ تَعْدُو
مِثْلُ كَلْبٍ مُدَرَّب).

ولكن من جانب آخر يخلق فعل الصداقة بين الحديقة المهجورة وأسوارها والمدينة التي تعدو ككلب لاهث مسعور لكنه مدرب شعوراً لدى القارئ بغربته وتوهانه في عالم غامض. ومن الملاحظ أن هنالك وعياً مستمراً للذات الشعرية التي تجعل من الكتابة طقس وجودي للشاعر، وهو الذي يخلق من خلالها وجوداً شعرياً للأشياء والذوات الأخرى; (أبْرَأتُ قلبِي بالنَّشِيجِ/ وَكَتَبْتُ مِنْ عَرَقِي قَصِيدَة/ فَقَامَتْ مِنْ دَمِي الْكِتَابَةُ/ وَاسْتَبَاحَتْنِي الْحُرُوفْ)

3- تجلي ذات الشاعر والآخر:

وهذا واضح في عموم قصائد (ديوان شَجِن ) , كما في ديوانه (النشيدة), إنه القرين أو الذات الأخرى المتربصة بالشاعر, فيتحول كل شئ كأنه جحيم، نعم إنه جحيم المكيدة التي من خلالها تستطيع الذات الأخرى أن توقع بالشاعر، والمكيدة والذات الأخرى تأخذ صفات وأشكالاً عدة ومختلفة، فقد تكون هي البعد ألتدميري للزمن (الموت...الخ) اوالطبيعة الساكنة (غير المبدعة, أو الوجود غير الديناميكي , أو ثرثرة الوجود... وغيرها) ولكن هنالك تجلي للذات يكشف لنا دائماً ذاتَه الأخرى بطريقة التماهي مع القرين الداخلي:

(تَمَاهَيْتُ دَاخِلِي/ مَعَ مَنْ اسْتَيْقَظَََ فِي تَحْلِِيقِهِ/ مَنْ غَابَ فِي الكَونِ/ وَأْفسَدَهُ الحُضُورُ)
ومن هنا يكون حضور الشاعر فهو خالق الاشياء المحيطة به، ومن ثم يقوم بمراقبة حضورها ليجعل لها فاعلية من جديد; (وَحِينَ أكْمَلَ المَطَرُ قِيَامَهُ/ سَقَطَتْ مِنْ خَلْفَِي الأمَاكِنُ/ فَمكَثْتُ فَوْقََ التُّرَابِ/ أرْقُبُ الوَقَائِعَ/ وَمَسِسْتُ هَيْئَتِي/ فَشَملََنِي الحُضُورُ بَالْمُبَاغَتَة)
بالرغم من أن الشاعر يجعل من جسده قرينه وصفيِّه أحياناً مثل:

(يشُدُّنِي جَسَدِي إلَيْ/ وما مَدَدّتُ لَهُ يَدِي)

هنا يتوهج الشاعر بذاته الشعرية التي يقذفها متعمداً في كون شعري بصري:

(وَحْدِي أنَا, هَذِي يَدِي مَسْكُونَةٌ بَالرّيح/ فَأرِفُّ بَينَ اصَابِعِي.. وَأدُورُ/ أُخْفِي مَلامِحِي, فَتَلُمّنِي وَتَطِيرُ/ كَمْ خُدْعَةٍ قََطَََرَتْ عَلََي........../أرْضِ الكَهَانَةِ والتّصَامُتِ والعَمَى)
لكن هذه الذات الشعرية المتفردة تعيش حد التماهي في أحلام تخص ذواتاً أخرى التقاها الشاعر في الحلم, أو عرفها واقعياً أو بالبصيرة, فبالإضافة إلى الإدراك والمعرفة بالتصوف وتاريخه، نجدها تشير إلى ذوات كالحلاج, والسهروردي وغيرهم. وذوات أخرى ذبحت أيضاً ولم تتخل عن ذاتها الحقة.
(أنَا غَريِبُ مَوَدَّتِي/ وَهَدِيلِي.. يَحْمِلُهُ الأنِينْ/ هَذَا أنَا الْحَلاجُ أجْرَحُ صُحْبَتِي)

(يَحْتَلُّنِِي صَوْتِي/ وَيُدْرِكُنِي الصَّدَى/ عَلى سِينِ السُّكُون/ فَلَكَمْ تَهَاوتْ نَشْوَتِي/ فَوْقَ عَجِينِ السَّامِعِين/ مِنْهَا الحَريِقْ/ وَلَمْ ُتمَنَّـي نَارُهَا, مِنِّي ارتِباكَاتُ الدُّخَان).
وتتجلى ذات الشاعر بوضوح كما في
;(ثُمّ كَمْ/ عَيَّرْتُمُونِي انْتِمَائِي لِلْمَدَى فَلَرُبَّمَا أدْرَكْتُهُ/ وَلَرُبَّمَا أدْرَكْتُنِي/ لأهِمَّ عَلّـنِي أرْتَوي/ وَأسُمِّي مَا أخْفَيْتُه/ لمَّا تَقَضَّى الليلُ/ وَاختَنَقَ المَدَى/ هَذَا هُوَ جَدَلُ الفَتَى مُتَجَلِّدٌ/ وَأنينُ شَكْوَاهُ.. صَهِيلٌ.. فِي البَرَاح)

4- المفاجئة غير المتوقعة:

هنالك دائماً شئ يفاجئنا به الشاعر, يؤدي إلى قطع السياق أوالحدث, كأنه الموت , أو كالمقصلة التي تهبط بلا مبالاة على رقبة قارئ لامبالي:

(قَالَتِ الْحَكِيمةُ
الثَّائِرَاتُ لا يَقُلْنَ وَدَاعاً
فَدُلِّينِي.. مِنْ أيْنَ يَطْلَعُ الْمَدَى؟
قَالَتْ:
مِنْ بُقْعَةٍ غَامِضَةٍ
فِي أَعْيُنِ التَّائِهِين)
أو:

(فَقَدْ كَانَ النِّسْيَانُ ذَاكِرَةً/ والضَّوْءُ مُقًَشَّراً/ والحَوَاسُ مُعْتِمَةً/ حِينَ أَرْهَفَ الليلُ قوامَهُ/ فنضَحَ طَيفُها/ وطَفقَ يجمَعُ فَي مَائِهَا بَحْرَهُ).

يتميز شعر علاء عبد الهادي بالحكمة, والأمثولة, والهمس الفلسفي, كما في مقطع القصيدة التالية:

(قَالَتِ الْحَكِيمَةُ للشّاعِرِِ:

(اِخْجَلْ مِنْ تَأَمُّلِكَ،
وَلا تَكُنْ كَمَنْ يَبْحَثُ..
فِي أحْشَاءِ العَنَادِلِ
عَنْ غِنَاء)
أو:
(هُوَ الأَمْرُ سِيَّانُ
لافَرْقَ بَيْنَ الْقَتِيلَيْنِ
أَلْفٌ سَيَسْعَى إلَيْهَا الْقَتِيلُ
وَيَاءٌ سَيُبْرِمًُهَا قاتِلُه).

وفي قصيدة مقام العشق, الطويلة, نلاحظ حضور قوي للسرد العربي بأدواته وتكنيكه ونداوة العشق فيه, في محاولة للاقتراب من الليالي العربية.
هنالك سؤال جوهري عن جميع الأشياء التي تقلق الشاعر ومعاصريه فكلمة لماذا بارزة في تلا فيف القصائد, فهو يجعل من القصيدة ندًّا للزمن، قرين الشاعر, وعدوه في الآن ذاته. بالرغم من انه يعرف أن الزمن في النهاية قادر على إفناء القصيدة الثرثارة عندما تكتب في زمن ثرثار، أما القصيدة البصرية فإنها تؤكد ذاتها بوسائل عدة. لكن زمن الشاعر الإبداعي هو زمن خانق: (فَلَمْ يَكُنْ/ قَدْ تَبَقَّى لِي/ سُوى دَقَّةٍ وَاحِدَة).

ونلاحظ في ديوان النشيدة اختلافا جوهريا في الأسلوب عن ديوان (شَجِن), سواء في كتابته, أو وسائل تأويله. فإذا كان الشاعر في ديوانه السابق مهتماً بمنح إمكانات لتأويل الصورة الفوتوغرافي المتضمنة في الديوان, وتأويل الكلمة, وخلق العلاقة بين النص وخارجه; أي بين القصيدة ـ الكلمة وبين الصورة الفوتوغرافية المرافقة، فإنه في ديوان (النشيدة) يقترب من الحكمة والتفلسف في الوجود عموماً, الوجود الإبداعي بخاصة, ذاك الذي يُمَكِّنُ الذات الإبداعية من أن تمتلك القدرة على التحول إلى ذات جديدة, ببعد بصري يتخلق شعراً, لا يستقيم إلا في وجود إبداعي بصري.
إن هذا الديوان (النشيدة) ليس قصيدة نثر ممزوجة مع كلاسيك الشعر العربي فحسب, وإنما هو ديوان متنوع الأشكال الشعرية التي تهدف إلى تأكيد أن الشعر لا يقتصر على لغة واحدة, وإنما يأخذ أبعاداً متعددة وجديدة, فليس هنالك حدود ما; قد يمتزج السرد وقصيدة النثر والصورة الفوتوغرافية, وطرائق أخرى. وكذلك يمكن أن تُؤسْلـَب القصيدة والكلمة إلى أقصى درجات الأسلبة والتكثيف, حيث تتعدد إمكانات التأويل الذي تتطلبه قصيدة النثر. إضافة إلى هذا نرى الشاعر علاء عبد الهادي يمزج كل هذا بمعجمية وبداوة خاصة به تختلف عن معجمية القصيدة الكلاسيكية. إنها قصائد بدوية حديثة ومتصوفة تغزو مفاهيمنا الثقافية المعاصرة.
في هذا الديوان (النشيدة) ينبئنا الشاعر بلهيبه الداخلي بوصفه إنساناً، وبلهيب آخر هو الشعر الذي لا يفهمه إلا أولئك الذين (اصْطَفَتْهُمُ الحَرَائقُ لِسَهْرَتَهَا الدَّائِمَة), إنه شعر يمنح أفقاً كبيراً للتأويل. وفي هذا الديوان مقاربة إبداعية لسريات التصوف لدى النفري, ولكن بروح المعاصرة وقلقها، وهذا واضح من عنوان القصائد في الديوان، وبالرغم من أن الديوان يبدو قصيدة واحدة بنبض إبداعي متميز, جاء ممزوجاً بنعيم وعي الكتابة، فإن الشاعر قسّم الديوان وبشكل واع إلى أبواب: مقام الحرف/ مقام الحلم/ في مقام العشق/ مقام الكتابة/ في مقام البلاد/ مقام القصيد). فهو يشاهد في رؤاه النِّفري يسخر من ذوات الشاعر, حيث عمد هنا أن يخرج قرين (ذاته الأخرى) إلى العلن، ولا يتعامل مع ذاته الأخرى المجسدة بحنو بل بترقيع مجنون, لأنها لم تفهم ما دعا إليه النفري في قوله (فقيمَةُ كلِّ اِمْرئٍ حَديثُ قلبِه).
في هذه المقاربة يحاول الشاعر أن يكتب شعراً قريبا من شعر الحكماء و المتصوفة، شعر مبثوث فيه الكثير من الخيال العلمي, والدلالات والمعاني المتوازية لتصوفية النفرّي الحكيمة والمستفزة وكلامه الذي يكشف عن جهالة الكائن, بالرغم من أنها مستعصية على الفهم. (الحرف ناري, الحرف حجاب, وكلية الحرف حجاب, وفرعية الحرف حجاب, اخرج من بين الحروف تنجُ من السحر, فالحرف فجُّ ابليس, أما علامة مغفرتي في البلا ء فأن اجعله سببا لعلم).

الشاعر في داخل علاء يدعونا إلى تأويل خاص و متفرد, لا يعتمد على كلمته وحرفه فقط, بل على قدرة القارئ المتذوق صاحب الخيال الثاقب، بالرغم من أنه يحتاج إلى قاموس لغوي ليجاري انتقاء الشاعر لمفردات ذات معان عدة في الوقت ذاته. أما الناقد فعليه أن يمتلك تقنية حرفته والأفق الأوسع, فالشاعر هنا يستفزنا بما يدعوه "قراءة ضالة" في كتاب مخاطبات المواقف للنفري بقوله(المعرِفَةُ بَلاءُ الْخَلْقِ خُصُوصُه وَعُمُومُه. وَفِي الْجَهْلِ نَجَاةُ الخَلقِ خُصُوصُهُ وَعُمُومُه) وجهل الجهالة هنا هو جهل التزام القبح وليس الجمال، إنه جهل العدم وليس الحياة، جهل اللامبالاة والخطايا السبع وجهل حكمة الجهلاء، فيأمرنا الشاعر ويأمر قرينه أيضاً; (فاكْتُبْ مَنْ أنْتَ/ لِتَعرِفَ مَنْ أنْتَ/ فالحَقُّ. لايستَعِيرُ لِسَانًا مِنْ غَيْرِه).

5- إمكانات السرد الدرامي ـ الشعري:

من أجل أن يمارس الشاعر خيالاته وولعه, وحسه الدرامي, فإنه استخدم السرد الدرامي شعريا لتتحول القصائد إلى سرد شعري متعدد الأصوات والفضاء آت كما هو الحال في القصيدة الدرامية الحديثة.
فنحن نرحل مع الشاعر من مكان إلى آخر وكأنه راوٍ بدوي جوّال, يقلقه الزمن والموت, وفضاءآت الصحراء, وغثاثة الوجود ولزوجته, ويلتقي بمختلف مجالس الناس, فيتورط بمصائرهم ويتورطوا هم لوجوده الشعري, إلا أنه متورط أصلاً بوجوده القلق، ففيه يتبعه قرينه وذاته الأخرى أينما حل، مرة يورطه، و أخرى ينقذه. وفيما يهيم الشاعر في براري الحياة والوجود والعدم، يُكْسِب قصيدته لغة جديدة. إضافة إلى تضمينها لغة من التراث العربي الكلاسيكي في محاولة مزج القصيدة مع شعر الكلاسيكيون العظام أمثال المتنبي وجرير وابونؤاس وغيرهم . لقد احتوى الديوان على قصيدة مقام العشق, وهي لوحدها تحتاج إلى قراءة بصرية خاصة للوصول إلى تكنيكها وجمالياتها والى تأويلها البصري المستتر. لأنها مزيج من السرد العربي التراثي ومقومات قصيدة النثر المعاصرة.
إن هذا الشعر الذي يكتب بطريقة السرد العربي بالرغم من أنه متعدد الأصوات, والتداخل بين الحاضر والماضي, والحياة والموت, والوجود والعدم، وقصيدة النثر وكلاسيكيات الشعر العربي، فإنه يعد تجربة تثير الدهشة, وتؤكد التفرد، لكنها غير قابلة للتكرار، إذا كُتبَ مرة أخرى, غير أن شاعراً مثل علاء عبد الهادي يمتلك هذا الغنى اللغوي والفكري والحس الدرامي لهو قادرٌ على أن يكتشف فضاءًَ لشكلٍ ومضمونٍ جديدين لقصيدته . إن شعر علاء عبد الهادي شكل آخر متفرد يتداخل فيه صدى الروح الشعري مع صدى ارتدادات الفكر, فيبدو شعراً لا يقع تحت أية تسمية, إنه شعر فحسب, وهذا هو مكمن تفرده.

6- التأويل البصري والشعري للصورة الفوتوغرافية:

من المعروف أن (تاريخ الصورة بدأ قبل تاريخ الكتابة حين كان الإنسان الأول يكتب بالصورة جميع أفكاره سواء في الكهوف أو على أوراق الشجر والجلود) وكما يقول ابن عربي (كل مشهد لا يريك الكثرة في العين الواحدة لا تعول عليه, فالصورة عالم يضم الإنسان وما يحيطه, وهي مرآة للوجود سواء كان وجوداً صغيراً أو كبيراً، لأنه ما مِن موجود مخلوق إلا وهو صورة, وما مِنْ صورة مخلوقة إلا وهي تجل لوجود).

يتجاوز الشعر -في اعتقادي- دائما اللغة المقننة إلى الصورة الشعرية اللامرئية أي الصورةـالشعرـالسر, لأن للشعر علاقة بالمجهول والمستحيل, ولا يُفهم إلا من خلال أبديته، ولهذا فإنه يهز دائماً ويقلق آقانيم اللغة, ويتجاوزها إلى مزج وسائل أخرى متعددة تؤدي الى تأويل غني وجديد, مثل تركيب المعنى الذي يتكون بين اللغة الأدبية ووسائل أخرى كالصور الفوتغرافية التي رافقت كل قصيدة لغوية في ديوان (شَجِن)، حيث استخدم الشاعر المفردة الأدبية, وحولها إلى لغة بصرية مركبة في فضاء بصري, مما أدى إلى تكوين علاقة متداخلة وإيحائية بين النص الشعري والبصري.
يفرض الشعر البصري شكلاً مستقلاً, لكنه في الوقت ذاته يوحي بوحدة الفن البصري والأدبي من خلال المزج والمقارنة بين وسائل متعددة; بين الصورة الشعرية والفوتغرافية, أو مكونات اللوحة التشكيلية وإيحائها التأويلي. وفي هذا المجال تكون عين الشاعر موازية لعين الكاميرا المتقنة الصنع أو تفوقها ، لأنها تؤكد المعنى الإيحائي للإشارة المتأتية من إيحاءات ما موجود في الصورة, ومن المؤكد أن التأويل البصري هنا لا يكتفي بالمعنى الإشاري (المكونات المباشرة لإطار "كادر" الصورة) أو الإيحائي (المعنى المستتر) وإنما يتعداه لتأكيد المعنى الأديولوجي, والأسطوري للرسالة (الصورة), وهذا يؤدي إلى فهم معناها, وتناولها كونها لا توحي بالوجود الثابت لمكوناتها, وإنما تشير إلى وجود لذاته, أي إلى وجود ديناميكي متحرك. لكن المهم في هذا السياق هو السؤال عما تعنيه صورة فوتغرافية ما ؟ وكيف استخدمها الشاعر في ديوانه الشعري؟ وما دلالاتها؟
فإذا اعتمدنا على تفسيرات رولان بارت في كتابه (العلبة النيرة) لاستطعنا القول إن الصورة الفوتغرافية هي مغامرة عندما يختارها الشاعر, ومن ثمّ يقرأها المتلقي، وعندما تصبح موضوعاً للبحث بوصفها نسقاً خطابياً ،إذن هي مغامرة عندما تكتب ومغامرة عندما يتمثلها القارئ، و إنها مغامرة لأن انتقاء الصورة يخلق لذة التأويل الذي يحدد المعنى المستتر في الصورة. وبما أن الصورة الفوتغرافية التي ارفقها الشاعر علاء عبد الهادي مع كل قصيدة في ديوانه(شجن) ليست شخصية, وإنما تحدد رؤيته في تعدد خطابه الشعري، انطلاقاً من أن الخطاب الشعري والسردي يحتاج إلى خطاب آخر, هو خطاب شعرية الصورة أو الخطاب البصري للصورة الفوتغرافية, فإن هذا ما يمنح إمكانيات جديدة, حيث تخترق الصورة وعي القارئ وشعوره, مؤثرةً على عاطفته من خلال شيئين هما:

  1. الانجذاب النفسي والعاطفي الذي من خلاله تثير مكونات الصور وعي المتلقي، الذي يسميه رولان بارت بالستوديوم (وهو الانجذاب والميل نحو شئ ما).
  2. الوخز وهو العنصر المثير والمتميز في الصورة الذي يجرح ويوخز, والذي من خلاله تؤثر الصورة في المتلقي وتثير انتباهه.
    هنا يكون السؤال الذي يوصلنا إلى تحليل الصورة إضافة إلى أسئلة أخرى:

أين يكمن الانجذاب والوخز في هذه الصورة أو تلك؟ وماذا تعني هذه الصورة أو تلك؟ وما الأشياء المهمة التي تثير انتباهنا وذاكرتنا في هذه الصورة أو ذلك المشهد؟ وكيف نفهم هدفها؟ ونحن نبحث عن معنى الصورة ومحتواها, أي تحليل المحتوى وإشاراته المرموزة وتأويل معناه؟.
وبما أن الكثير من الصور تحوي دائماً عنصرين; إما الانجذاب أو الوخز (لأن بعضها يثير القارئ, ويجذبه دون أن يتوافر عنصر الوخز أو العكس، فإن الصورة المثيرة هي التي تحوي هذين العنصرين معاً. واكتشاف أن تأثير الصورة كتأثير لذة المغامرة، يحدث من خلال اكتشاف الوخز، أي من خلال وجود عنصرين مختلفين ومتنافرين جذريا مثلاً، لا ينتميان إلى العالم نفسه، أو أن يكون هنالك حضور متزامن ومستتر لعنصرين مختلفين, فضلاً عن التأثير الكبير الذي يحدثه استخدام التركيب بين صور عدة للتعبير عن موضوع واحد, فالتأكيد والانتباه إلى الثنائية في الصورة أو تركيبية ومكونات الصورة، والاهتمام بالعناصر أو الحركات الخاصة للأشخاص, وتأكيد وجود الأشياء التي تحدث اضطراباً في وعي المتلقي، هو ما يثيرنا ويساعدنا على تناول الصورة بوصفها موضوعاً ومعنى, فتصبح الصورة مغامرة تشكل وخزاً عندما تؤكد ذاتيتي في القدرة على اكتشاف النسق العلمي والاكاديمي الذي من خلاله أفهم مكونات الصورة ومستقبلها "لا صورة دون مغامرة").

إذاً يمكننا القول إن الصور الدلالية والإيحائية المختارة من قبل الشاعر علاء عبد الهادي بوصفها خطاباً يوازي الخطاب الأدبي هي صور تؤثر كجرح، أي أنها تشير إلى استعادة ما يدعوه رولان بارت (الزمن الميت), وهذا ما يمنحنا القدرة على أن نلامس هدف رؤيتنا لها, وكيفية تناولها. ويؤكد –في الآن ذاته- تمايز الصورة سواء كانت فوتغرافية أو شعرية ـ تأويلية عبر مقاومتها للزمن وللموت. وفي هذا المثال فإن مهمة استخدام الصورة الفوتغرافية لدى علاء عبد الهادي هي إبراز المعنى المستتر للقصيدة (المعنى الإيحائي ـ والأسطوري, وما يؤكد ثقل الزمن وكثافته) حتى وإن كانت الصورة لا تتطابق بيسر مع القصيدة. واستخدام الشاعر للصور يؤكد أن الشاعر يكون هو الموضوع، لأنه ليس ذاتاً مرئية ومقروءة فحسب, وإنما هو ذات رائية أيضاً (عندما يطرح على القارئ أفكاره و صوره) .

إن الصورة هنا هي انفعال بصري ـ سميائي للغة، كما أن اختيارها هي بالذات ومن زاوية النظر هذه, مع تحديد بؤرة الصورة في الحدث الشعري وتغير ظلالها يعد تكثيفاً لانفعال الشاعر بهذه الرؤيا ـ الرؤية. ومن هذا المنطلق فان كلاً من القارئ المتفاعل والناقد, يحصل على نوعين من التأويل البصري واللغوي باختلاف عالمهما, وتأثيرهما على مشاعره وسلوكه. إن إرفاق صورة مع كل قصيدة قصيرة في ديوان(شجن) هو تكثيف التأويل البصري واللغوي، وهي تعد أيضاً عودة للماضي بوصفه زمناً مؤثراً في الحاضر, وبما أن هذا الماضي غير شخصي بالنسبة للقارئ، فإنه سيعمد -بالضرورة- إلى البحث عن التشابه بين زمن الصورة الفوتوغرافية وموجوداتها، وبين اللحظات الزمنية في حياته, وزمنه.

إن الصور المنتقاة ومصاحبتها للنص الأدبي اللغوي تتجاوز المعنى الاشاري إلى المعنى الإيحائي, مما يحتم البحث عن معناها الأسطوري.
الصورة مرآة الذات كما يقول ابن عربي, وهي أيضاً مرآة الواقع والطبيعة، لكن ضمن مفهومنا المعاصر, وما بعد الحداثي, فإن الإمكانات الإيحائية للصورة تجعلنا نعمل على أن نمد البعد الإيحائي للصورة إلى البعد التأويلي الذي من خلاله تتحول الصورة إلى تأويل شئ موجود فيما وراء الصورة, وما تشير إليه, ثم إلى المعنى الأسطوري بعد ذلك.
إذا لم يستخدم الشاعر علاء عبد الهادي (كما في ديوانه النشيدة) مستويات متنوعة ومتباينة في القصيدة الواحدة (مثل الكلمة، الصورة الفوتوغرافية، التأويل البصري، المعنى الإيحائي, واستخدامها في آن واحد)، فإنه يعمد إلى بصريات الكلمة، أي تلك الكلمة التي تمتلك كينونتها ليس في اللغة المعجمية، وإنما تمتلك كينونتها الوجودية، أي كونها مفردة, أو لغة صادمة, مستفزة للحواس، مثيرة للقلق، وبهذا يمكن أن تؤدي وظيفة جديدة للكلمة, من خلال غنى تأويلها.
في استنطاق الصمت وروح الشعر البصري :

إن مايفرضه البحث السميائي للصورة الفوتوغرافية هو الكشف عن البعد الدلالي/ التأويلي, وسبر المعنى المستتر للصورة ومحتوياتها, والسر الخفي لموضوعها، انطلاقاً من أننا يجب (أن نتعلم كيف نتخيل عندما نقرأ الصورة) كما يكتب مارل فندرميلن. إذن هنالك لغة أخرى تأتي من خلال التناقض بين معنى المفردة الأدبية ومعنى الصورة الفوتوغرافية (كما استخدمها الشاعر) مما يجعل من المفردة الأدبية مفردة لغة بصرية وفي فضاء بصري. المهم هو أن يكون ذلك السؤال الجوهري واضحاً, ذاك الذي يساعدنا على قراءة الصورة مثل :

ماذا تعني هذه الصورة أوتلك؟ وما الأشياء المهمة التي تثير انتباهنا وذاكرتنا في هذه الصورة, أو ذلك المشهد؟ وكيف نفهم هدفها؟ وبمعنى آخر نحن نبحث عن معنى الصورة ومحتواها. أي تحليل المحتوى وإشاراته المرموزة وتأويل معناها. ومن الضروري تأكيد أن دراسة الصورة تعتمد إضافة إلى المعنى الإشاري أي المعنى المباشر (مكونات الصورة المباشرة ), والمعنى الإيحائي الماورائي, الذي يمكن أن نصل اليه عن طريق وضعية التقاط الصورة/ التاثيرات الخاصة/ والمعايير الجمالية/ المشاهد المتعاقبة/ ونوعية الصورة/ دلالات الألوان أو اللون الأبيض و اللون الأسود ...إلخ. فإن اكتشاف البعد التاريخي والسياسي يعدان عاملين أساسيين لتفسير الرسالة المصورة. كما أن حركة الجسم و انطباعات الوجه والإيماءات...إلخ. كلها عناصر تساعد الباحث أو القارىء على تحليل الشفرات الثقافية لمجتمع ما، بما تتضمنه من قراءات ايديولوجية أو اسطورية, بالرغم من أن كل صورة تمتلك بعدها الاشاري والإيحائي, وتأويلها الاديولوجي والاسطوري الخاص، فإنني سأعمد إلى تفكيك الصورة ذاتها وتأويلها و كذلك التفكيك والتحليل والربط بين أكثر من صورة بسبب موضوعاتها المشتركة, وهذا يحتم علينا الإتيان ببعض الامثلة, وتحليل بعض الصور الفوتغرافية في ديوان شَجِن:

أ- المرآة .. الصورة والمظهر:

أن العلاقة بين شعر علاء والمرآة علاقة خاصة ومتفردة، فالمرآة بالنسبة له عالم متكامل ومتنوع، فلو أخذنا الصورة رقم (1) والتي تظهر لنا إمرأة, وثلاث رجال طائرون في الهواء بحركة راقصة، وما يدل عليه النص اللفظي المرافق للصورة ، هو نوع من التناقض بينها وبين النص ، بالرغم من أن النص يتحدث عن مرآة تعكس ليس عالما واحدا وانما عوالم متعددة:

(فِي مِرْآتِي..صَخَبٌ مَحْبُوسٌ,
فِي مِرْآتِي قََوَّادَةٌ..وَفَرِيقَانِ;
"أَحَدَ عَشََرَ رَجُلاً,
وَإِحْدَى عَشْرَةََ صَرْخَةً غَائِرَة",
فَِي مِرْآتِي امْرَأَةٌ..اِشْتَعَلَتْ.. وَغَرِيقْ..
فِي مِرْآتِي رُوحٌ تَلْعَبُ..
بِحَقِيبَةُ جِلْد!)

في مرآتها روح تتحكم, تلعب بالجسد المحوط بصخب محبوس. وبالرغم من عالم الحركة والصخب هذا إلا أن المرأة تتحدث عن مرآتها برغبة أن تتخلص من هذا الضجيج الصوتي والإيقاعي ومن ضجيج الأجساد البشرية(العالم الخارجي), التي تتراءى في مرآتها .

وهنا يبدو التماهي بين المرآة والمرأة، فصفاء المرآة روح تجعل من الجسد يطير عندما يدخل في عالمها ويفقد وجوده الحقيقي ويتحول الى وجود آخر أي الى جسد ـ حقيبة. ولهذا فان المرأة تريد ان تتخلص من هذا العالم المتعدد والصاخب لأنها تحلم بالصمت الذي يعبر عن كل شئ والذي هو لغة الروح الشفافة ، و أن المرادف لثرثرة الأجساد وصخبها هو الصمت.
وفي صورة (رقم 2) وهي اللوحة الوحيدة في الديوان والتي تعكس فتاة تنظر إلى مرآتها نظرة خاصة تشكل علاقة لامرئية وغير مباشرة مع صورة لامرأة تبدو في الكتاب الذي تتصفحه الفتاة ، وحركة الفتاة توحي أما كونها حزينة لفقدانها لصاحبة الصورة العزيزة عليها، أم أن الفتاة تحاول أن تقارن نفسها بجمال صاحبة الصورة؟

ولكن النظر إلى المرآة يشكل التعرف على عالمين تضج فيهما ذوات متعددة، وليس ذات واحدة. وهذا يوحي لنا بمفهوم القرين او الذات الأخرى. فالفتاة تبدو حالمة وكذلك المرآة فهي أكثر حلمية منها لانها تمتلك القدرة على عكس دواخل الذات الصادقة التى ترغب في رؤية دواخلها الذاتية وليس فقط ذاته الخارجية (الداخلية والخارجية) فالانسان في عزلة مع المرآة تتحول الاخيرة إلى صندوق الأسرار، إن الناظر إلى المرآة أحيانًا يرهبها عندما يحاول ان يستذكر ذاته الداخلية، لأنه يعرف بان المرآة كاتمة لأسرار جسده الفيزيقية، وأسراره الداخلية. المرآة تفرض على الانسان التعري امامها سواء واقعيا أم داخليا أم خفية . وفي مثالنا هذا فان الفتاة تنظر الى ذاتها الداخلية وفي الوقت ذاته فان المرآة تنظر الى ذات الفتاة فتسبر أعماقها ، لكن الفتاة أيضا تقوم برد فعل ما لتسبر أغوار مرآتها وبهذا فإنها تقوم بتأمل ذاتها في الواقع و ذاتها الأخرى (في المرآة). عندما يتأمل الإنسان مرآته يتحول التأمل إلى رغبة للهمس السري، فكم من البشر يهمس أسراه الى مرآته. لكنّ, من هنا يتأمل الآخر المرآة أم الفتاة؟ وكأننا نرى قرائن وعدة ذوات في ذات واحدة، هي ذات الفتاة وذاتها الأخرى المعكوسة في المرآة، و ذات المرآة أي سر( الذات ـ المرآة) أيضا.

إن هذه الذوات تتبادل الادوار والهمس والتأمل والكلام السري، وفي هذا يحدث نوع من العلاقة بين خارج الذات وداخلها، بمعنى بين ذات المرآة وعالمها الخارجي عندما تعكس ما يحيط بها . وكذلك بين ذات الفتاة وعالمها الخارجي والداخلي (السري) في آن واحد. وما يحدث هنا هو نوع من التلصص الذاتي بين خارج الذات(الفتاة في عزلتها) وبين داخلها، أي أن المرآة تتلصص على الذات الداخلية للفتاة وبمعنى آخر فأن الفتاة تتلصص على مرآتها (ذاتها) الداخلية، وكذلك فإن المرآة تتلصص على عالمها الخارجي المحيط بها والذي يشمل الفتاة والمكان وما يحيطها. ومن خلال حركة يدي الفتاة وتكرار جسدها بوصفه قرينًا معكوسًا في المرآة، يتم تكرار الذات او المشهد في الحاضر و(الآن) بخاصة، لأن التكرار عادة ما يتم من خلال التحول من الماضي واستذكاره في الحاضر، لكن تمتلك المرآة هنا القدرة على تجاوز الماضي, وعدم تكراره, وتأكيد الحاضر, وتكراره, مرة أخرى.
ولهذا يمكن القول إن كلا من المرأة والمرآة له فلسفته, وشعوره, ومثيولوجيته، وهذا مايؤكده شعور الفتاة بوجودها أمام المرآة, وشعور المرآه بوجودها أيضا. وكذلك العلاقة بين موت المرآة, وموت الفتاة بالرغم من أن النص يؤكد وجود المرآة عند رفضها لعالم الذكورة, ولجميع مكونات عالم لا ينظر إلا إلى نفسه, ولا يعترف بوجودها, (هو الأمر سيان/ لا فرق بين القتيلين) فالقاتل والقتيل ينتميان الى عالم الذكورة، عالم الرجل الذي يمكن أن يدمر كل شئ بما في ذلك المرأةـ المرآة, أو المرآةـ المرأة, وسيكون الأمر اكثر وضوحا عندما نعرف أن قصائد ديوان (شجن) كتب بصوت امرأة.

(لا فرقَ بينَ القتيلين
ألفٌ سيسعى إليها القتيلُ
وياءٌ سيُبرِمُها قاتله)

والقاتل (الموت ـ الخراب) سيبرم الياء فتتحول الى ألف (سلاح التدمير) التي سيسعى لها القاتل ذاته; قـ(ا)تل, قتـ(ي)ل. المرآة في هذا العمل قرين الإنسان، والإنسان قرين المرآة، وأحدهما يؤكد الآخر. وبهذا فإن هذا القرين أوالذات الداخلية والخارجية وكذلك كشف الأسرار أمام المرآة قد أكد ذات المرآة وخلق وجودها.( وما يعكسه عالم المرآة وفلسفتها تذكرنا بلوحة الوصيفات للرسام الاسباني (1599 ـ 1660) دييغو فيلاسكيز, والتي من خلالها شرح ميشيل فوكو ـ في كتابه الاشياء والكلمات، فلسفة اللوحة المعكوسة في المرآة وخلق عالمين هما عالم الرسام وهو في قصر الملك أثناء الرسم، والعالم المعكوس في المرآة).

ولكن في آخر قصيدة في الديوان يتم التعامل مع المرآة, والقرين بطريقة أخرى من خلال الكشف عن البعد النفسي للأشياء (المرآة), وتأكيد ذاتها, إن المرآة هنا هي التي ترفض رينها البشري وليس العكس، بعد أن أهملوها طوال حياتهم, لايتذكرونها إلا عندما يرغبون برؤية ذواتهم الخارجية. وهنا يمكننا أن نؤكد على (غربة المرآة) أي أن المرآة تشعر بغربتها عن أصحاب البيت, ولكن من المتكلم هنا المرآة أم المرأة:

أَنَا لَسْتُ مِرْآةً!

(أَقْفَلَتُ بَابِيَ دُونَهَمْ,
فَاخْتَفَتِ الْعُيُونُ الَّتِي..
وَقَفَتْ أَمَامِي طَوِيلاً;
عشْرُونَ عَامَاً..وَأَصْحَابُ الْمَكَانِ..
يَدْخُلُونَ..دُونَ إِذْنِي..وَيَخْرُجُونَ,
عشْرُونَ عَامَاً دُونَ هَدِيَّةٍ..وَاحِدَة,
حَتَّى الطِّفْلَةٌ الَّتِي حَمَلْتُهَا صَغِيرَة ً,
وبَثَّتْ لَي..ذَاتَ مَرَّةٍ أَسْرَارَهَا..
لَمْ تُلْقِ..يَوْماً..
تَحِيَّةَ صَبَاح!)

أما عنوان القصيدة (أنا لست مرآةً) الذي ينفي وجود المرآة, فيؤكد وجودها في الوقت ذاته, النفي يؤكد الوجود، ومن خلال حوار المرآة مع نفسها, ومع القارئ نفهم البعد النفسي, والاجتماعي, والآيديولوجي, لأصحاب المرآة ـ البيت ـ العائلة الذين كانوا دائما يصبون غضبهم أمامها (أمام الآخر ـ القرين) دون الاهتمام بوجودها، على نحو يتم فيه إلغاؤها تماما. وما تؤكده المرآة هو أن أهل الدار قد أهملوها لأن الجميع لا ينظرون إليها, بل ينظرون إلى ذواتهم الخارجية فيها (وجوههم, وأجسادهم)، أي لا يهتمون بالنظر إلى المرآة بوصفها كائن, هم جزء منه، بوصفه شيئًا له القدرة على عكس منظر الذات الناظرة, فالمرآة موطن أسرار، فهل يعرف أهل الدار أن المرآة تمتلك القدرة على مراقبتهم, وتنتظر منهم تحية الصباح على أقل تقدير عرفانًا لخدماتها .

ب- الإحساس بالزمن:

في صورة رقم 3 يتم تأكيد الإحساس بالزمن; نرى في الصورة شاب يركض كما في المسافات الطويلة. في حالة من الضبابية والغشاوة، وبما إننا نعرف بأن الشاعر قد تدخل في عمل الصور وتغيير ألوانها وأحجامها للوصول الى تأكيده الخاص، يمكن ان نستنتج ومن خلال التمعن في اللغة اللفظية المرافقة لها أن الشاعر يحدثنا عن الزمن الذي يسرع لأنه يخضع لقانونه الخاص ، أما نحن (كائناته المتمردة ـ والخاضعة) فمتمهلين، ومن كثرة تمهلنا اصبحت صورتنا او حياتنا مغبشة، ما عدا الموت الذي أصبح واضحا فيها, وعلى بعد خطوات! ولكن هل يمكن الهروب من شبكة الزمن هذه؟ مادام الانسان غير قادر على الهرب من الموت ـ الزمن أو من الزمن ـ الموت. اذن ما تؤكده ضبابية الصورة هو تفكيك القصيدة, إعادة صوغها بلغة بصرية، ومما يؤكد مفهومنا هذا هو الكلمات التالية :

(أَنَا مُثْقَلَةٌ..
بِرَصِيدٍ هَائِلٍ..
مِنَ خُطُوَاتٍ,
يَجِب عَلَيَُّ..صَرْفُهَا..
..
قَبْلَ الرَّحِيل)

هو الهروب السريع ـ من الموت او من الزمن ـ في عالم ضبابي, دون وضوح رؤيا, في خطوات عبثية يجب حرقها قبل الرحيل (الموت).

جـ ـ الهمس الإستعاري السري:

تأكيداً للعنوان الذي أراه مناسباً لمحتوى الموضوع. فالهمس السري هنا توحي به صورتان على قدر كبير من التشابه والاختلاف في الشكل والمعنى. فالبعد الإشاري للصورة رقم (4), وما يوحي به موضوعها, ترينا كفاً نسائياً مقلوبة على ظهرها وفوقها كف طفل صغير, وكأنها تتحرك ببطء على الكف الأولى. فالكفان يوحيان بالعافية, والعيش الهادئ المستقر، وهذا يؤكد البعد الطبقي والايديولوجي والنفسي والاجتماعي. ولكن النص اللفظي مختلف تماما.

(بَعْدَمَا مَاتَ..زَوْجُهَا..
غَطَّتْ شَفَتَيْهَا بالصُّرَاخِ,
فَقَدْ كَانَ العَشِِيقُ حَاضِراً..
وَهِيَ..
تَسْتَدْعِيَ أَمْطََاراً غَزِيِرَةً,
كَي تُخْفِيَ فَرَحَهَا)

ومانراه فان العشيقة بعد أن مات زوجها, لابد ان تكثر من الصراخ لتمويه شعورها, فالعشيق كان حاضرا. ولكن بالرغم من الصراخ (الهمس السري) فان دواخلها السرية تستدعي أمطارا غزيرة "دموعاً" حتى تخفي فرحها بموته (همسها ـ نصف الجريمة) الذي كان سكون موت الزوج سببا للقائها العشيق في مأتم هو العرس بعينه لأن العشيق سيكون حاضرا ولابد من استدعاء المطر ـ الفرح ـ القناع من جديد.
وقد استخدم الشاعر اليد ذاتها, وكذلك الصورة ذاتها في مكان آخر من الديوان ولكن مع نص لغوي آخر, فهنالك همساً سرياً بين اليدين, يؤكد طبيعة العلاقة بين طفل مغمور بالحنان والعافية, مع أم معافاة في ظروف طبيعة دون حروب أو مجاعات من خلال تلامس الأيدي (الجزء) الذي يعبر عن (الكل). لذا فإننا نشعر وكأن حركة يد الطفولة تلامس يد الأم ببطء, وكأنها تريد أن يأخذ الهمس وقته الكافي، إنه همس طفولي يوحي بحنين الطفل إلى رحم الأم غريزيا. وما يوحي به النص اللفظي والصورة..

(عَلَى الرُّغْمِ مِنْ أَنَّنَا نَنَامُ..
عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ..
فَإِنَّ..
أَحْلامَنَا..
مُخْتَلِفَة)

وإذا قارنا هاتين الصورتين مع صورة أخرى (رقم 5) , لها ذات الحركة لكن مكان يد الطفولة في الصورة الأولى والثانية حلت محلها يد توحي بأنها يد طبيب تمسك يد صغيرة سوداء معروقة وكأنها محروقة (بسبب المجاعة والمرض) لدرجة أنها تبدو مثل يد مخلوق يعيش خارج كوكبنا. فإن مثل هذه اليد بخشونتها وضعفها تذكرنا بتاريخ الحروب, والأمراض والمجاعات والاستغلال في عالنا هذا، وكذلك بأزمنة الاضطهاد والنهب والعنصرية التي كانت تمارس ضد القارة السوداء. يشكل كل هذا موضوعاً مغرياً لشاعر يعبر من خلال الجزء عن الكل و يبحث عن ذاته, أو عن سبب البؤس في العالم الذي يحوطه, إنه همس سري خاص بين عالمين متناقضين.

(حِينَ تَقَافَزَتِ الصُّوَرُ بَيْنَ أَنَامِلِي; أدركتُ
أنَّ دَاري..يَمُرُّ فِي وَسَطِهَا الطَّرِيقُ,
وَأَنَّ القَبِيلَةَ الجَائِعَةََ الَّتِي الْتَهَمَتْ طَوْطَمِي,
عَلَى مَائِدَتِي..كُلَّ يَوْمْ,
وَأَنَّ هُنَاكَ مَنْ عَبَثَ بِرَائِحَتِي..
فَأَصْبَحْتُ أَبْيَضَ,
وَأَنَّ لِكُلَِّ حقيقةٍ وَهْمَهَا..
بَعدَ أَنْ أَضلَّنَا..لَوْنٌ وَاحِد,
وَأَنَّنِي..
لَمْ أَفْعَلْ شَيْئاً!).

دـ البحث عن الحقيقة والتسامح:

هنالك صورتان: صورة (رقم 8), وصورة (رقم 9) توحيان إلينا بموضوع من أهم الموضوعات التي تقلق الإنسان عندما يحاول البحث عن حقيقته, او جنته، وعندما يجدها سرعان ما يطرد منها. وتأكيدًا لتعميق الجانب الإيحائي والاسطوري للصورة سأعمد إلى مقارنتهما مع صورتين لذات الموضوع من خارج الديوان الشعري. ففي كتاب Tolerance وهو كتاب مصور عن موضوع التسامح أصدرته اليونسكو عام 1996.

فالصورة الأولى هي لوحة ( رقم6) مرسومة لطرد آدم وحواء من جنتهما, وفوقهما ملاك يهددهما بسيفه وهي لوحة موجودة في كنيسة سانتا ماريا دي كارمن في فلورنسا. يبدو الملاك من خلال حركته غاضبًا، وهذا ما توحي به ملابسة وأجنحته الحمراء وسيفه الذي يشهره عاليا في يده اليمنى ويؤشر في اليسرى بإصبع غاضب بالطرد من الجنة الى المجهول (الأرض)، و لكن في الوقت ذاته تحمل ملاحمه التسامح والمغفرة.

ونرى بأن آدم يخفي وجهه بيديه خجلا من فعلته فيبدو أنه هو الذي كان السبب في هذا النفي او الطرد . فتاريخيا نعلم بأن حواء هي التي دفعت آدم إلى هذه المغامرة التمردية ـ الوجودية، ولكننا نجد بان آدم لابد من أن يمتلك الرغبة المترددة في خوض مغامرة هذه المعرفة ـ الخطيئة مادامت تحمل أسرارا معرفية جديدة، وتمنحه أيضا الانغمار بالحرية, ورغبته المشتعلة غريزيا بالشهوة الجسدية. لكن من خلال الحركة ألإيحائية لأيديهما ( آدم يغطي وجهه وحواء تغطي نهديها و موطن أسرارها) ونكتشف بان الاثنين كانا متفقان على ارتكاب الخطيئة، فالإنسان دائما يغامر لاكتشاف المعرفة المؤسسة لأفق بشري جديد والتي تبتدأ بإشباع المعرفة وأسرار الحياة والكون واكتشاف أسرارالجسد. وحواء أيضا تشعر لأول مرة بالخجل والعار من خلال حركة يديها ووجهها ملآن بالدموع والصراخ واليأس, والقوة التي تطردهم (الملاك بأمر الله وروحه المعبر عنها بريح سوداء تلسع ظهريهما) تحاول إن تجعلهم مثالا لإرتكاب الإثم .
إنه خروج يوحي بالذنب والخجل نتيجة فعلتهما, والشعور بالخوف لما ينتظرهما من عذابات في المجهول الذي طُردا إليها. أنه خروج كان سببه هاجس البشر المتمرد للبحث عن الحقيقة أو امتلاك ثمرة المعرفة. ولكن في الوقت ذاته يعتبر المنفى الأول الذي هو أيضا عقاب نتيجة الضلالة والغرور وخيانة العهد.

فإذا خلقنا علاقة تأويلية ـ إيحائية مع صورة أخرى من الكتاب ذاته (رقم 7 عبور الحدود) الذي نشاهد فيه امرأة صحراوية متلفعة بعباءتها السوداء ومعها مجموعة من الأطفال العراة يحاولون الفرار من الجحيم و عبور حدود دولة ما, إن حركة سيرهم السريعة وسط العاصفة, وشمس الظهيرة الصحراوية الحارقة التي تؤكد الجحيم الصحراوي ، توحي بأنهم يردون أن يصلوا إلى الجنة النائية, أنه خروج ونفي, وهروب من الجحيم الى جحيم آخر يبدو كالجنة. إن بحث هذه العائلة عن جنتها الجديدة هو حث آخر للخروج من الجنة! لكن هل يمكن أن يصلوا الى جنتهم عندما يعبروا الحدود؟ فلوحة الطرد من الجنة ، توحي بحياة الرغد التي كان يعشها آدم وحواء في الجنة وذلك من خلال جسديهما الممتلئين على عكس الأسرة الصحراوية التي يمكن ان نرى الجوع والعوز من خلال أجسادها، وبهذا فانهم يفرون من جحيم الى جحيم آخر. وما يؤكده أيضا هو التناقض بين بياض الصحراء اللاهب وملابس النساء السود وبين الالوان الزرقاء والحمراء في لوحة الطرد من الجنة .

إن التأمل والتأويل هنا يدفعاننا إلى مجازفة أن نخلق هذه العلاقة بين صورة العائلة الصحراوية ولوحة خروج آدم إلى الجحيم الأرضي من جانب، وربطهما مع الصورتين التي أرفقهما الشاعر في ديوانه والتي تعبران حقا عن هذا الجحيم, ففي (صورة رقم 8) نرى أنقاض بيوت قد خربها القصف العشوائي, وتناثرت بقايا مدينة كانت مأهولة بالسكان للتو، مع ظهور جلي لدخان أسود طلي هذه الأنقاض, ولكن وسط هذا الخراب هنالك امرأة تشبه النساء الأفغانيات متلفعة بعباءتها البيضاء, وقد غطت نفسها حتى وجهها, بالرغم من عدم وجود غيرها في هذا الخراب، فإن حركتها توحي بأنها لا تريد أن ترى هذا الواقع, أو هذا الخراب. وعباءتها البيضاء تتناقض مع السواد الذي يلف تلكم الأنقاض لأنها تعبر عن النقاء والطهارة ، فهذا "التعارض" البرادوكس هو الذي يمنحنا التأويل المكثف. وتخبرنا مكونات النسق الإيقوني ـ الصورة، أن وجود المرأة بين الدمار هو من أجل البحث عن شئ مصيري مفقود, وهذا واضح في حركتها وتوهانها، وأن الأنقاض والخراب هو دلالة عن الخراب الذي امتد إلى الأمل الذي كانت متعلقة به، إضافة إلى أن القصيدة المرفقة بالرغم من قلة مفرداتها توحي بالكثير وصولاً إلى دلالة خارج النص اللفظي :

(أنَقِّبُ عَنْ مَوْعِدٍ لِلْفَرَحْ
عَنْ آثَارٍ خُلِقَتْ للتَّوِّ
عَنْ مَكَانٍ خَارجَ سَجَّادَتِي
لا يَدَّخِرًُ رَحْمَتَهُ
وَلا يَخْتَبئُ فِي هُدوءٍ وََقَسْوَة).

بالتأكيد أن هذه المرأة تبحث عن الأمل, أو عمن ينقذها خارج إرادة من تمسكت به سابقا وحتى اللحظة, والذي راودها حلمها في يوم ما أنه القادر على الإنقاذ ،وبدل هذا فإنه ازداد إمعانا في الصمت إزاء التدمير والاختباء، أنه ليس الأمل فقط, وإنما كل ما يختبئ عندما يرى الخراب ولا يحاول أن يمد يده لمساعدة هذه المرأة ـالإنسان. لذلك فإنها لابد ان تبحث من جديد. وهنا نلاحظ بأن النسق اللفظي لا يفسر النسق البصري او بالعكس, وإنما يوحي بأن علينا أن نملأ الفجوة التي تركها الشاعر متعمدا. إذن هذا التأويل الأسطوري والإيحائي الذي أغنى النص اللفظي والايقوني، هو ليس حالة من التناقض وإنما هو حالة نطلق عليها التكامل المركب، أي التكامل بين نسقين .
الصورة الأخرى في الديوان (رقم 9) ترينا طفلين ميتين ومقذوفين على الأرض بشكل مروع نتيجة لقصف كيماوي بالتأكيد. وبالرغم من اختلاف الزمان والمكان والموضوع فان هنالك علاقة ما بينهما. فالطفلان يوحيان إلينا, وكأنهما نائمان ببراءة, لولا آثار الدم على ملابسهما, ولولا خيط الدم المنساب على طول الخد الأيسر للفتاة, والذي يشكل وخزاً بالنسبة إلى القارئ. إن البلوزة البيضاء التي ترتديها الفتاة تحيلنا إلى بياض عباءة المرأة الباحثة بين الانقاض (رقم 7) وإلى البياض اللاهب في الصحراء كما في صورة ( 6)، كما أن قبضتي الطفلة والطفل المضمومتين تتشبثان بالأرض بالرغم من جحيمها.

أما الملابس فتوحي بأنهما طفلان فلسطينيان أوكرديان, وهذا يحيلنا إلى العدوان الإسرائيلي, أو القصف الكيميائي لمدينة حلبجه, أو الى اطفال هوريشيما وناكازاكي بعد قصفهما, أو الى عارنا في الحروب الطائفية في افريقيا أو العراق. إن موت الطفلين أولاً, والأنقاض التي تسير وسطها المرأة المتلفلفة بعباءتها البيضاء ثانياً, وجحيم الصحراء التي تبحث العائلة الصحراوية وسطها عن المنقذ او إله آخر غير الاله المختبئ ثالثاً، وطرد آدم وحواء من الجنة رابعا, ومحتوى هذه الصور, هي التي دلت على أن الجحيم هو الجحيم الأرضي الذي نُفِيَ إليه آدم وحواء، فهما عندئذ لم يكونا قد عرفا في أي جحيم سيعيشان، لكن آدم عرف أيضاً كيف يكون الشقاء والعذاب, عندما يصر الإنسان على امتلاك ثمرة المعرفة.
وهذه الصور بالذات هي التي دفعتنا أن نرجعها إلى مرجعيتها, إلى الماضي ومثيولجياته، وبهذا خلقت وجودها بوصفها صور واخزةً ومؤثرة، ومن خلال مكوناتها, ومرجعياتها, وترابطها مع صور أخرى فرضت وجودها وغنى تأويلها، مادامت أي صورة لا يمكن أن تؤول ما لم توجد أولاً بوصفها نسقاً, أوأيقونة مستقلة التأويل والمعنى .

هـ ـ الانتظـار:

في الكثير من الصور الفوتغرافية سواء كانت بورتريهاً شخصياً, أو صورة عامة, فإن حركة الجسم وانطباعات الوجه والإيماءات... الخ. عناصر تساعد الباحث أوالقارىء على تحليل الشفرات الثقافية لمجتمع ما، (وكذلك القراءات الأيديولوجية أوالأسطورية) وفي ديوان (شَجِن) توجد العديد من هذه الصور التي يمكن أن نضعها تحت العنوان أعلاه، وبما أن الصور متعددة فإنها تمنحنا إمكانية فهم اختلاف هذه الجوانب الثقافية, وعادات الجسد, وطبيعة الملابس التي تعبر عن الحالة النفسية, إضافة إلى تكنيك الصورة الذي يكثف المعنى الذي يريد المصور تأكيده. في الديوان هنالك خمس صور مشتركة و في كل منها امرأة، هذه الصور تشترك في حالة واحدة هي الانتظار, وما يعبر عن هذا هو طبيعة جلوس جسم كل واحدة منهن, وحركته.
ففي صورة (رقم 10) نرى امرأة تجلس على شرشف فراش ملآن بالزهور, شابكة يديها على ركبتها، وهذه الحركة تدل على الانغلاق, وعدم السماح للآخر باقتحام عالمها، وكذلك غطاء رأسها, وثوبها الأبيض, ووقار الشيخوخة, ووجهها، الذي يوحي بالجَلد, كل هذا يحد من حيوية الانسان, وهذا ما يؤدي بها غلى أن تغلق عالمها, وتركن إلى العزلة, بعيدة عن هذا العالم الجديد الذي لاتفهمه. يؤكد عزلة هذه المرأة النصُّ اللفظي أيضاً, فما يحدث أمامها لا يمكن أن تتفاعل به, لأن وجودها بوصفها إنساناً أصبح فائضا, بعد ان كانت هي التي تلد الحياة وتخصبها. إن النص يؤكد موت الخصوصية بالنسبة للمرأة بحيث أن كل شئ يمر داخلا وخارجا دون إذن سيدة الخصب.

(هَوَاءٌ لا يَنْتَهِي,
يَمُرُّ..
دَاخِلا ً..
خَارِجاً..

دُونَ إِذْنِي)

ولكن المهم أن ملامح هذه المرأة وحركتها تشترك مع الملامح الحزينة لامرأة أخرى في صورة رقم (11)، بالرغم من أن الحركة والجلوس والملامح في هذه الصورة توحي بأكثر من الحزن, فهذه المرأة بغطاء رأسها الأبيض, وحركة يدها المستندة على ركبتيها وقد أمسكت بها رأسها المائل بإيحاء الحزن , وحركة الأصابع التي تسند الرأس, ودموع عينيها, تزيد من تكثيف التعبير عن الحزن، فإن غطاء الرأس يوحي إلينا بمرجعية ميثيولوجية, حيث هو يشبه حركة الغطاء على رأس مريم العذراء, الذي يمكن أن نشاهده في صورها, ولوحاتها وإيقوناتها الشهيرة.
وجلوس هذه المرأة على أنقاض بيتها (كما توحي الصورة) يشكل السبب الرئيس لحزنها. ولكن النص يدفعنا الى التفكير بأن سماء الرحمة امتلأت بالطير, الذي هو الحلم، بالأفق، والحرية، والحياة ولكن المشكلة انه كلما سقط طائر من طيور الرحمة تضيق هذه السماء بالتدريج حتى يأتي يوم تختفي هي والرحمة إزاء جبروت الشر, وقوة التدمير، وهي ساذجة بالفعل لأنها تمتلك كل هذه النجوم (العيون) ولا ترى حقيقة ما يحدث.

ولا يختلف الأمر كثيرا لو نظرنا إلى صورة (رقم12) وقد جلست أربعة نساء من شمال أفريقيا بملابسهن البيضاء (وهو لون مشترك في هذه الصور) ونقابهن الذي لانرى منه سوى العيون. إنهن جالسات في حركة انتظار الغائب، المخلِّص، الأمل...الخ. وهم يمثلون ألام التي تهجسنا دائما, أو الرحم الذي نحّنْ في حاجة إلى أمانه دائما. أما انتظار هذه النسوة شبيه بانتظار المرأة التي نراها في صورة (رقم 13), وهي تجلس متلفعة بعباءتها, أمام الأسلاك الشائكة, وبجانبها ابنها الصغير وقد وضعت أطراف أصابعها على شفتيها ونظراتها توحي بعدم التصديق لما ترى, إضافة إلى أن هذه الصورة تذكرنا بالمرجعيات التاريخية للاضطهاد، فوضع اليد أمام الفم يعبّر ولا شعورياً عن إجبار الإنسان على التزام الاضطهاد الصمت.
إن الأسلاك, وحركة الجلوس, توحي إلينا بأنها تنتظر أمام سجن, أو معسكر للحجز أو هي في داخل هذين. إن نظرة ابنها الصغير هذا الذي يرافقها إليها, برأسه المائل خلقت علاقة وحواراً صامتاً عن عذاباتها. وما تفكيك النص اللفظي يدفعنا الى القول بان المرأة كفراشة سقطت, وبالتأكيد فإن الفراشة بهذا ستُحرم من فضائها, كما المرأة كذلك من أفقها الإنساني.
وفي صورتين تعبران عن موضوع الانتظار ولكن بمعنى آخر، يمكننا أن نصل إلى العلاقة التي تربط بينهما، وبالرغم من اختلافهما في مرجعيتهما الاجتماعية, وأبعادهما الاديوليوجية أوالأسطورية, فإنه يمكننا الحديث عن عافية الطفولة القلقة.

ففي صورة (رقم 14) طفلة صغيرة ـ غُلامة (مؤنث الغلام) تجلس على أريكة فخمة, وبملابس بيضاء أنيقة, وحركة يدها اليمنى تضع شئ ما في فمها، لكن الوخز الذي يكتب عنه رولان بارت والذي يعد عنصراً يثيرنا في موضوع الصورة يكمن في نظرة الطفلة الغاضبة والحادة, والتي لا تواجه الكاميرا, وإنما تتجه عيناها إلى زاوية أخرى خارج الكادر, وبهذا فإن هذه النظرة, وسَّعت من مدى مجال الكادر, وخلقت علاقة أخرى مع الشيء الذي سبب نظرة الطفولة الغاضبة، ألا يمكن أن تكون سبب نظرتها هو موت أبيها الذي فقد جسده لكنه مازال ينبض! كما جاء في النص.

إن الطفلة تجلس القرفصاء وهو جلوس مشابه لجلوس طفلين في صورة(رقم 15), والصورتان مختلفتان في المرجعية, فمن خلال البعد الإشاري للصورة نستطيع القول إن الطفلين العاريين من أفريقيا, وهذا ما يدفعنا إلى التفكير في تاريخ الجوع والحروب في هذه القارة. إن نظراتهما الخائفة والغاضبة شبيهة بنظرات الطفلة في الصورة السابقة, كما أن وضع يد أحد الطفلين مضمومة بشدة على فمه, ومسكها باليد الأخرى, تدل على الخوف من حدوث شئ ما. أما الطفل الآخر فقد وضع يده على رأسه بحركة تدل على الحيرة والقلق والانتظار، وانتفاخ بطنه بشكل غير طبيعي يدلَّ على تاريخ المرض والجوع, وهما جزء من استغلال هذه القارة ونهبها.
إن تكوَّم الطفلين وكأنهما يحتميان يبعضهما, يذكراننا بتاريخ الحروب والصراعات في القبائل الأفريقية، وحركة الطفلين توحي بأنهما يتوقعان أن يدخل عليهما أحد المحاربين من قبيلة معادية فإما أن يقتلهما, أو يأخذهما للسبي. ولهذا فإن هذه الصورة توحي إلينا, وتذكرنا بالماضي الذي كانت فيه تجارة العبيد رائجة. ويمكن القول إن الصورتين تعبران عن الانتظار، لكنه انتظار طفولي غاضب وعنيف وانتظار قد يبدو كما ينتظرالإنسان قدرة أو ينتظر الموت مجبرا.
وفي صورة (رقم 16) لامرأة أفغانية, وهذا ما توحي به ملابسها السود, وربطة الرأس التي لا تسمح لنا بأن نرى شيئاً من وجهها أو جسمها، نراها وقد جلست في المقبرة أمام شاهدة قبر. إن حركة يد المرأة وانسيابية أصابعها وهي تلامس شاهدة القبر توحي إلينا بعلاقة الحب والحنين بينها وبين صاحب القبر. ومما يزيد هذا هو رباط الحب الأبيض الملفوف حول شاهدة القبر، فإذا كان الهواء (الحب) الذي كانت تتنفسه هذه المرأة مع حبيبها، هو الذي يخلق وجودها، وتحاول أن تستبطئ الزمن عندما شعرت بأن حياتها ستتأكسد, وستُفرغ من ذلك الأمل (الهواء) الذي يود المغادرة. أن هنالك إحساس بعبثية الموت وهذا ما تؤكده خلفية الصورة التي امتلأت بشواهد قبور كثيرة تعبر عن عبث الموت ـ الحرب. ويمكننا القول إن موضوعات جميع هذه الصور, وكذلك نصوصها اللغوية المرافقة هو الانتظار والموت, وتاريخ الاضطهاد, وقد منحتنا أيضاً معرفة مرجعيتها المثيولوجية والآيديولوجية والميتافيزيقية .

و ـ البحث عن الحرية:

في شعر علاء عبد الهادي نجد كثيراً من القصائد التي تلامس موضوع الحرية بوصفها حقيقة ليست أيديولوجية فقط, وإنما بوصفها حرية فيزيولوجية لتحرر الجسد من تاريخة الواقعي اليومي, لأنه يجعل إمكاناته التعبيرية محدودة. وهذا ما تدلّ عليه الصور المرفقة بالقصائد.
فهاجس الحرية هو الموضوع الذي فرضه الشاعر ـ المصور. ففي صورة (رقم 17) التي مزج فيها بين نساء يسرن بعجلة وسط مجموعة من الحمائم البيض التي تفر منهن, وتطير في باحة مزار تبدو زخارفه الشرقية واضحة. إن المعنى الذي اعتمده الشاعر ـ المصور هو هذا التناقض بين عالمين مختلفين في آن واحد، عالم الانغلاق المتمثل بالنساء الملتفات بالسواد, الذي يوحي بفقدان حرية الاختيار, التزاما بتقاليد أخلاقية محددة، وبين الحمائم التي لا يمكنها أن تتحمل العيش في الأماكن المظلمة والمغلقة, وإنما تطير في فضاء رحب وسط سماء صافية, إنها تصبو إلى الحرية. إن الجمع بين عالمين مختلفين; عالم النور وعالم الظلام, يشكل الوخز الذي يجعل أية صورة أكثر انجذاباً وإثارة. فهل يمكن القول بان هنالك تأويل للعلاقة بين ضعف الارادة وتلك القوة التي تحمل الانسان على تغيير أقنعته في كل لحظة, وكأنه يستخدم علبة متعددة الالوان كما يوحي به النص اللغوي.
وفي صورة (رقم 18) يتأكد موضوع الحرية أيضاً; عندما يركض شاب وحبيبته على ساحل البحر بحركة طائرة وفرح يغمر كيانهما, ويفجر أحاسيسهما, وكأنهما يرقصان في الفضاء ومن حولهما وفوق رأسيهما تطير نوارس البحر جذلة. إن البحر والنوارس والحبيبين، كل هذا يشكل حلم الإنسان في الحرية، السفر، الحلم، الزمن, وحلمه الدائم للإبحار في مجهول أبدي. فالحرية الذي يؤكدها طيران النوارس والحب بين الحبيبين, وطيرانهما في داخل السعادة يوحي بنص بصري, يختلف عن النص اللغوي الذي يؤكد أن سعادتهما قد تسربت ذات يوم من الأبواب التي تركت مفتوحة دون قصد. وبهذا فاننا نلمس موت السعادة وهي مازالت في لحظة ولادتها .

(كُلَّمَا اخْتَرْتُ طَرِيقاً,
اخْتَارَ لِي الزَّمَنُ حَارِساً,
أَمَّا السَّعَادَةُ فَانْسَرَبَتْ ذَاتَ يَوْمٍ..
مِنْ أَبْوَابٍ مَطْمُورَةٍ..
تُركَتْ..مَفْتُوحَةً..
دُونَ قَصْد).

يحاول الجسد عموماً, سواء في الحياة أو في الفن أن يتخلص من تاريخه الذي يشكل سجنه اليومي. أما في الفن فيتحول بمساعدة حركته الإيقاعية المرنة إلى موسيقى، ويصبح أكثر قدرة على التعبير عن أسراره, والتأثير في وعي المتلقي عندما يمتزج مع الضلال الشفافية وتناقض الألوان الأبيض والأسود بخاصة.
إن هذا ما نراه في صورة (رقم 19) لراقصة الباليه, بحركتها الرشيقة, والتفافها على العمود الابيض, وهي تمسكه بيديها, وتنحني لتميل بكل جسدها نحو الارض فيطلق شعرها الأسود الطويل أسطورته, ليكمل استمرارية انحناء الجسد وتكامل تفرده، فيتحول الجسد إلى توهان موسيقي من خلال تناقض اللون الأسود في ملابسها مع اللون الأبيض, والظلال المتدرجة في مكونات المكان, مما يزيد من إيقاع التعبير عن شفافية حركة الجسد وانفلاته في الفضاء, فنسمع صوت الشاعر كأنه إيقاع دفوف في البعيد:

(الانْثَى تَحْنُو.. مِثْلُ لَيْلٍ
هِيَ صَوْتُ أذَانِ
وَنُورْ,
الذَّكَرُ..
زَيْتُ مِصْبَاحٍ
وَمِئْذَنَة)

وشاعرية الكلمات وصوفيتها مثل (تحنو، ليل، نور، زيت، مئذنة) تؤكد حضور الأنثى (حواء) التي تشبه الموسيقى بحركتها، فهي ليل بكل صفائه وهدوئه، وهي في الوقت ذاته نور يبدأه الأذان. لكن هذا النور لا يمكن أن يؤكد إلا بالظلام, وبالزيت الذي هو الذكر (آدم), وهو أيضا (المئذنة). إذن بما أن الانثى والذكر يشكلان الحياة، الليل، النهار، النور، الزيت.. والمئذنة بالرغم من رمزها الديني، لكنها مرموزة توحي بالذكر، ولا يمكن للنور أن يضئ إلا بزيت مصباح ومئذنة وليل ليتلقي الرجل بالمرأة أي (الأمينا بالأمينوس).

ز- وحدة الأشياء ووحدة الجسد:

من خلال استخدام تقنيات التصوير وإمكاناته, وقدرة الشاعر ـ المصور الفنية على استخدام الزاوية الخاصة التي تجعل من الظل والضوء عنصرين للتعبير عن موضوع أو مشاعر إنسانية خاصة يمكن للصورة أن تعبر عن أشد الأحاسيس الإنسانية سرية.
هذا ما نكتشفه في صورة( رقم20) إذ نرى فيها زورقًا وحيداً وسط البحر, فيه إنسان غير واضح الملامح بسبب استخدام الظل والضوء، والانسياب الخفيف للأمواج التي تبدو وكأنها تتحرك برقة متناهية وسط الضباب الشفيف، وانعكاس ظلال الرجل والمجدافين والزورق في الماء, مع إطراقة لرأس الرجل وكأنه يفكر في البقاء في هذا المكان وحيدًا إلى ما لانهاية، إنها وحدة الإنسان والأشياء ووحدة البحر. ليس مهماً أن يكون الوقت غروباً أو شروقاً, فهنالك شعور بغربة الرجل والزورق في الوقت ذاته.
إن حركة الرجل الساكنة, والمجدافين توحيان بيأس الرجل, أو بحدوث شئ ما قريباً, إنها الغربة, أو انتظار عودة الغائب, انتظار من نوع آخر..وهذا كله لا يمكن أن يكون له معنى إلا إذا شاهدناه من خلال تلك المرأة التي تنتظر وتسترق السمع بعد أن قررت (أنْ ُتنْصِتَ. لِسَطْحِ البُحَيْرَة, لِصَوْتِ مِجْدَافِهِ) وبهذا فان الصورة التي اختارها الشاعر تكون رسالة إيحائية وعنصر جذب, بالإضافة إلى النص :

(قَرَّرَتْ..
أنْ تُهْمِلَ كُلَّ شَئٍ،
أنْ ُتنْصِتَ. لِسَطْحِ البُحَيْرَة,
لِصَوْتِ مِجْدَافِهِ.
وَهُوَ يَبْحَثُ فِيهَا.
عَنْ سَمَكَةٍ سَاقِطَة).

ح- أسطورية التاريخ والزمن:

يرى رولان بارت أن التركيب (syntax) من العناصر المهمة التي تؤثر في إنتاج المعاني الإيحائية وتعميقها في الصورة الفوتوغرافية، ويعني اجتماع عدد من الصور المتلاحقة لحدث ما من التاريخ المؤثر في حقب زمنية غابرة، أو من الواقع المعاصر، من أجل أن يكون تأثيرها الإيحائي واضحاً.
وفي ديوان( شجن ) هنالك نص بصري مكون من صورة مركبة تمثل شخصيتين ينتميان إلى ثقافتين أو إلى حضارتين مختلفتين (صورة رقم 21). وجمع الصورتين في صورة واحدة بالتأكيد يساعدنا على أن نفكر بمرجعيتهما التاريخية والأيديولوجية والأسطورية.
إحدى هاتين الصورتين كانت لأحد الهنود الحمر بشعره الطويل, وبقلائده المتنوعة ووجهه الأسمر المعروف الذي تشعر بسماحة دواخله, وطيبة روحه, بالرغم من قسوة ملامحه بسبب الحذر والخوف من التهديد بالإبادة التي تعرضت لها القبيلة الهندية دائماً، وفي وجهه المدور عينان صغيرتان حادتان كأنهما عينا الصقر الذي يعتبره رسول إلهه الأثير. هنالك قسوة أخرى بسبب العيش في طبيعة غاضبة في الكثير من الأحيان.
إن ملامحه هنا هي عكس الصورة التي رسمتها السينما الهوليودية للشعب الهندي الأحمر, الذي استغلته الأقوام الأخرى التي نزحت إلى أرضه, واحتلتها بحجة إنقاذه من التخلف, ومنحه إمكانية العيش في حضارة الرجل الابيض، وصورته كما لو كان لايُتقِن سوى القتل والسرقة, وأن وجوده على الارض غير ضروري مالم ينتمِ إلى الحضارة البيضاء. بجانب هذه الصورة صورة أحد فرسان السلاح الامريكي, بكل رفعته وتكبره, ومن السهولة أن يتبادر إلى ذهن القارئ اختلاف الحضارتين، حضارة تعتمد الحس في تفسير جميع الظواهر الطبيعية، وحضارة أخرى مرشدها القمر أوالشمس أوالليل أوالنهار والنار, بوصفها أسراراً معقدة, لايفهمها إلا رئيس القبيلة (السحابة الحمراء), وساحرها المقدس صاحب الكلمة ـ القانون. إنه يمتلك القدرة على الإصغاء لروح هائمة في الأثير ترعاه وترشده مستجيبةً إلى من يناديها من القبيلة.
هذا هو الهندي الأحمر بخياله الواسع الذي يمنحه قدرة الامتزاج بالطبيعة ومكوناتها، فالأرض عنده هي الرحم والأم الأولى. إنه الهندي الاحمر الذي يعتبر الكون والارض والسماء ملك للجميع يمكن أن يعيشوا بسلام ، فينتمي إلى شعب يضيق بالمكان الواحد، يلتحف السماء ويتوسد رحم الارض، شعب يحمل خيامه ورماحه وخيله ليبارك أرض أخرى. وفي الليل يجعل من النجوم أرواحاً نيرة تضيء روحه, تقول إحدى اغانيهم (إنهم/ هناك قلوبنا/ في تلك السموات التي لانهاية لها). فهل تعكس ملامحه كل هذا الذي ذكرناه ؟
صورة الفارس الأمريكي تجعله يبدو وكأنه كان يقود للتو فرقته للبحث عن الشعب الأحمر ليصطادهم كما الأرانب، إنه أحد ضباط جيش الفرسان الأمريكي بملابسه العسكرية الزرقاء المعروفة وقبعته العريضة المائلة إلى الجانب الأيسر, على شعر طويل, وربطته الملفوفة على عنقه، ونظرته الحادة الثاقبة، وشاربه الطويل المفتول، وقد عقد يديه بحيث كانتا مطويتين على صدره بكل عنجهية وصدود وتفوق، محاولة للاختباء من موقف غير مريح، وهو شعور ورد فعل سايكولوجي كما يؤكد ألن بيز في كتابه المهم (لغة الجسد), فصاحب هذه الوقفة بذراعين متصالبين يجعل منهما درعاً على صدره للدلالة على عدم قبول الآخر, وللدلالة أيضاً على الموقف الدفاعي والعدائي والسلبي، ربما كان ذلك نتيجة لشعور هذا الضابط بأنه يدافع عن الحضارة الغربية ضد السكان الأصليين، وهو في الوقت ذاته صاحب موقف سلبي إزائهم.
إن هذه الصورة لابد أن تحيلنا إلى تاريخ الإبادة الطويل حد الإلغاء ضد الشعب الهندي الاحمر، هذا هو الوخز الخفي الذي يجرح القارئ ويجذبه في آن، فهو لابد أن يرفض هذا التاريخ المتوحش. والقصيدة المرفقة تعبر وتتطابق مع هذا التاريخ:

(كُلُّ ظفْرٍ قَاطِعِ.
لَهُ ذِكْرَى..
لاتَحْتَفِظُ الْيَدُ بِهَا ،
إنْ فَتَحَتْ.. قُبْضَتَهَا
لِغَريبْ)

لدينا إذن إشارات, ودلالات, توحي بتأويل سميولوجي في مثل هذا الشعر البصري, أوالصورة الشعرية الأدبية, والصورة الفوتغرافية بوصفها فضاء دلالياً بصرياً.
وفي صورة (رقم 22) وهي صورة طفل صحراوي يبكي، وقد غطى عينيه الدامعتين بيده اليسرى في حركة تجعلنا نؤكد أنها تشي بالوخز الذي يثير إنتباه القارئ او الدارس. والصورة وكذلك النص الغوي يجعلاننا نشعر أن السماء تخلت عن الرحمة (لأنها يابسة ولا تشعر بالخجل) إزاء دموع طفل وحيد ، لكن السحابة اكثر رحمة لأنها تتعاطف مع مأساة الأرض الجافة في عالم انقلبت موازينه (أرض قاحلة، وسماء يابسة) في مواجهة طفل فقد طفولته, فهل ستكون دموعه بديلة لرحمة السماء؟
يمكننا القول إن القراءة السميولوجية, والتأويل البصري للصور الفوتعرافية واللوحات التشكيلية والمعمار والنحت, تمنحنا مجالات, وفضاءات مهمة لدراسة أيديولوجيات, وأساطير المجتمعات. لهذا فإن تحليل الصورة الفوتغرافية المرافقة للنص الشعري, يجعلنا نؤكد أنها تشكل لغة بصرية رفيعة مرادفة للغة الأدبية. وفي هذا المجال فإن الإمكانات التي يمنحها شعر علاء عبد الهادي للتأويل البصري في هذا العمل المتفرد, لا تخضع إلى استعارات لغوية فحسب, بل إلى لغة بصرية تؤدي إلى تأويل بصري غني بالرمز والدلالة، وهذا متأت من خلال وعي الشاعر بثقافته البصرية, وخلفيته الدرامية بصفته شاعراً وناقداً مسرحياً أكاديمياً، وهذا ما يمنح مجالاً للتحليل, فأنت ترى ما بعد الحدث أو ما بعد المفردة من خلال تجاوز تقنين اللغة الأدبية المعجمية المغلقة في كثير من الأحيان.
كان استخدام الصورة الفوتغرافية في ديوان شجن لعلاء عبد الهادي بوصفها لغة كائنة بذاتها, وليست لغة تفسير لمعنى الكلمة فحسب، مما منحها أفقاً شعريا. وبلاغة الصورة وسريتها هي التي تمنحها سمتها المرئية من خلال تأكيد بصريات التأويل الشعري, ومن خلال التراسل البصري بين الصور. (فالصورة احتفاء بالأشياء والجسد، وهما أساس الصورة وجوهرها, هذه الصورة التي غالباً ما تكون مقاومة للموت وللزمن) .

المصادر

ميشيل فوكو الكلمات والاشياء مركز الانماء القومي بيروت 1990
د. ملك احمد ابو النصر / تحقيق الوجود الانساني . الاسكندرية
رايموند وليامز / طرائق الحداثة . عالم المعرفة ـ الكويت
محمد بن حموده قضايا الاستطيقيا من خلال النصوص / تونس 2001
كيرن برينتون / تشكيل العقل الحديث / عالم المعرفة . الكويت 1984
غاستون باشلا ر شاعرية احلام اليقضة المؤسسة الجامعية للدراسات بيروت 1991
غاستون باشلار جماليات المكان المؤسسة الجامعية للدراسات بيروت 1984
ميرسيا إلياد ملامح من الاسطورة . دراسات اجتماعية . دمشق . 1995
سعيد توفيق ـ هرمنوطيقيا النص الادبي . مجلة نزوى
فيسيفولد مايرهولد .في الفن المسرحي دار الفارابي بيروت ج 1+2
بول ريكور(نظرية التاويل ـ الخطاب وفائض المعنى.ت: سعيد الغانمي.المركزالثقافي العربي. بيروت 2003
جورج لايكوف ومارك جونسن. الاستعارات التي نحيا بها.ت : عبد المجيد جحفه. توبوقال للنشر 1996
كتاب Tolerance كتاب مصور عن موضوع التسامح أصدرته اليونسكو عام 1996 .
علاء عبد الهادي, النشيدة, الطبعة الثانية, مكتبة الأسرة, الهيئة العامة للكتاب., 2005.
علاء عبد الهادي, شجن, مركز الحضارة العربية . القاهرة 2004
Ladislav matejka Semiotics of Art Frank Popper Kinetic Art studio Vista London 1968