من المعلوم أن الشاعر حسن نجمي راكم إلى جانب مساره الإبداعي ـ الشعري تعددا في الاشتغال والاهتمام، اشتغال على صلة قوية بالشأن العام، وبالأخص منه الشأن الثقافي من خلال تأسيسه وفعاليته في مؤسسات ثقافية كاتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر.
هذا فضلا عن ممارسته الصحافية الدؤوب بمنابر عديدة ( مجلة الرائد، النشرة، جريدة الاتحاد الاشتراكي) لفترة ليست بالهينة. وقد ساعده ذلك على التداول والحراك الثقافي من خلال إدارته وكتابته لمساحات ثقافية لها رسوخها في الذاكرة الجمعية لهذا البلد، دون أن نترك في الثلاجة وعيه السياسي وتجربته الحزبية أيضا. كل هذا وذاك بلور وعيا معرفيا بالعالم سمته الحوار والجدل، انطلاقا من أفق إنساني غني بالقيم العقلانية والديمقراطية والحداثية أيضا. إنه بهذا الصنيع، نموذج الشاعر المثقف المنخرط والفاعل في صيرورة الفعل الثقافي بالعطاء المتواصل والوعي النقدي المعرفي الملازم.
في هذه الوقفة، أتناول مساره الشعري، ضمن هذا السياق المركب والذي بلا شك أغنى ويغني كتابته الشعرية القلقة، والمرتهنة لأفق شعري وإنساني عميق له خياراته الجمالية والمعرفية، فـ 'كتابة الشعر تظل بحاجة دائمة إلى وعي نقدي ومعرفة جمالية'. (1)
أصدر الشاعر حسن نجمي في نوع الشعر لحد الآن مجموعات شعرية وهي:
'لك الإمارة أيتها الخزامى' ( 1982)، 'سقط سهوا' ( سنة 1990)، 'الرياح البنية' ( 1993)، 'حياة صغيرة' ( 1995) ، 'المستحمات' ( 2003)، 'على انفراد' ( 2007). طبعا لا يمكن التعامل مع هذه المجموعات تحت أية أداة نظرية ومنهجية دفعة واحدة، دون مراعاة البنية المكانية والزمانية؛ وبتعبير أوضح اللحظة المشهدية التي عاشها المبدع ضمن سياق مركب. وهو ما يثبت أن الدواوين لحظات مكانية وزمانية، تصاغ عبر اللغة، لتصريف خيارات جمالية ومعرفية معينة. هنا نتساءل على عتبة هذه الورقة: ما هي الرهانات والأسئلة التي راكمتها هذه التجربة؟ وهل في جماعها طريقة في الاشتغال لها نوعيتها وأفقها الرؤيوي؟
في المقابل اخترنا في تعاملنا مع هذه التجربة مفهومي الذات والرؤيا باعتبارهما من المرتكزات الأساسية لمسيرة شعرية، تبئر الذات؛ ليس بالمعنى الدائري والوظيفي؛ بل كأداة بحث سابحة في الواقع والمرجع أو قل عين الذات انطلاقا من نقطة ما ترقب من خلالها ذاتها والعالم. وهو ما يقتضي جدلا الرؤيا كإطار يسوق الكل عبر تهذيب فكري أساسه التوق المستقبلي الذي يعلي من شأن التجربة المتشابكة بالآخر. يقول الشاعر حسن نجمي في كتابه 'الشاعر والتجربة': إن الشعر المؤهل أكثر، في ظني، لتحقيق التواصل الإنساني هو الشعر الذي يراهن على البساطة والتجربة وثراء الصورة الشعرية. '. (2)
ـ قيم التجربة الشعرية:
ينبغي كما أسلفنا استحضار السياق المركب الذي ظهرت فيه كل مجموعة شعرية، باعتبارها علامة ما، للتعبير عن موقف ورؤيا بصيغة إبداعية لها طريقتها في تقطيع العالم. فديوان 'لك الإمارة أيتها الخزامى' الصادر سنة 1982، هو أول مجموعة تمثل لصرخة الشاعر حسن نجمي في وجود القصيدة وفي المجتمع. فحصل التوازي بين الوظيفة التوجيهية والوظيفة الشعرية. وفي الكثير من الأحيان، تطغى الأولى وتذوب ضمنها الثانية. وقد يكون لتلك الصياغة الشعرية أكثر من مبرر كون الأمر يتعلق بالبدايات وحرارة الأفكار؛ ولذلك امتداد طبيعي في المجتمع المغربي والعربي. المجموعة تلك، مسكونة بالرفض والاحتجاج، بكيفية تعلي من شأن الوظيفة التوجيهية، نظرا لملابسات المرحلة ( الرمز النقابي والحزبي..). هل أسس هذا الديوان لطريقة في الاشتغال، لها خيارها، في أفق رؤيا ما؟. لأن الرؤيا ليست بالضرورة أن تتأسس انطلاقا من ديوان واحد. الشاعر حسن نجمي بجرأة الشاعر ( التجاوز الخلاق والانتساب للقصيدة..) يعيد النظر في هذه الخطوة، ويعتبرها وعيا شعريا مغلوطا على هدي الشعر أو أن التصور المتبلور بعد ذلك، يطرح تجاوزا شعريا يستند على تصور آخر للشاعر والنص والقارىء في المرحلة الراهنة. فالشاعر كهوية يتموقع خارج الأنساق، وفي مواجهة دائمة للعالم. وعليه، فإنه يأتي للغة والمخيال بعدة متشابكة، تخلق مجراها الخاص. يقول الشاعر حسن نجمي في أحد حواراته: 'لقد اشتغلت طويلا وتعلمت كثيرا وتتلمذت كثيرا من أجل أن أكتب نصا شعريا أثق في نوعيته وطبيعته وفي خياراته الجمالية'. بهذا المعنى، يكون النص تشكيلا وتهذيبا لتشعبات التجربة والمقروء ومشهدية اللحظة. بناء عليه، فنص الشاعر حسن نجمي يغذي غنائية متشظية، انطلاقا من حوارات إبداعية مع جغرافيات شعرية وأسماء وصداقات. من هنا يمكن تجلية بعض السمات اللغوية والتخييلية والرؤيوية في تجربة حسن نجمي الشعرية بعد ديوانه الأول.
أعتبر بخلاف بعض المقالات والدراسات التي مرت من هنا، ديوان 'سقط سهوا' بمثابة جسر واصل، في مسار الشاعر حسن نجمي، ديواناً عبارة عن لقطات ومشاهد مكتظة تقع على حد بين الواقع والمتخيل. الديوان ككل بمثابة ومضات تتصيد المفارقات بأشكالها المختلفة، لتصريف مكنون الذات كتأملات وانفلاتات ولعب حاذق وسخرية أيضا..يقول الشاعر في ديوانه 'سقط سهوا' (3):
ينام على كفه
يطوي كل القرى والمدن
يطوي الشجر والبشر الحجر والإسمنت
يشرب الماء
يطفئ آخر لهيب في النار
يدس العالم في جيبه...
ويمشي..
وقد تعمق هذا المنحى الإنساني الذي يمجد الجانب الداخلي في الإنسان المعرض للعطب في علاقته باليومي واستلاباته، فيما سيأتي من الدواوين الشعرية، انطلاقا من مجموعته المعنونة بـ 'حياة صغيرة' حيث الاستغراق في التفاصيل والقفز في روح الأشياء. فكلما مرت الذات على شيء أردته جسدا ضمن تراسل الحواس وتواصل الصور.
في سياق هذه التجربة، أعتبر ديوان 'الرياح البنية' المشترك مع الفنان المغربي محمد القاسمي مساحة مشتركة، لفتح الشعر على التشكيل كخيار جمالي. وبالتالي، محاولة خلق ذاك التوازي بين النص والتشكيل، خلق موجه ككينونة مندغمة تجاه الحرب وجرافاتها، الحرب اللاهبة على العراق في 1993. هنا تأمل ذاتي ـ تخييلي في الحرب والإبداع .الديوان مجد الجانب الإنساني من خلال استحضار خلاق لشعراء من أمثال السياب بلند الحيدري...فكانت هذه المجموعة بمعنى ما، مقاومة لفعل الخراب الذي سيطمر الذات لولا إبراز القيم الأصيلة والنبيلة كعلامات بارقة تطلع من الذاكرة الرمزية الموغلة في الأرض والمعنى. تقول مجموعة 'الرياح البنية' في الصفحة 16: 'لم أتمكن من إحداث فضاء عازل بيني وبين الحدث'.
النص الشعري اليوم مع حسن نجمي يكتب ببلاغة جديدة، تعيد خلخلة ثوابت الخطاب الشعري العربي التي ظلت جاثمة على صدر القصيدة ومحنطة لأصولها التي غدت هشة من كثرة المشي دون الالتفات. ومن سمات هذه البلاغة تبئير الذات وانفتاحها على اليومي والمنسي والساقط..القصيدة وفق هذا الإطار، تسوق الأشياء على تبعثرها، لكن عبر خيط ناظم ماثل في تلك الروح التي تخيط أعضاء المشهد، لتمنح وجودا عميقا للأشياء. هنا يتم إسناد كل ما هو حميمي، للرفع من شأن الدفء ( صداقات، يومي..). وهو أفق يشترك فيه الكثير من الشعراء المغاربة ابتداء من ثمانينيات القرن السالف؛ لكن بنبرات مختلفة، فالتركيز على اليومي والمنفلت ضمن تجربة ما، قد يكون موجها بحس رؤيوي على قدر كبير من الشفافية والحدة، لتأسيس بلاغة شعرية جديدة، لها قيمها اللغوية والتخييلية. من هذا المنطلق، الشاعر حسن نجمي يكتب قصيدة لها أفق جمالي مغاير يؤسس لمساحة شعرية، مطبوعة بالتعدد المركب. وفي المقابل، يمكن تتبع ذلك، لرصد وحدة ما.
يقول الشاعر في 'حياة صغيرة' (4):
وأنا هنا بلا صوت
أكلم الأشياء كلها
ولا أكلم نفسي
ـ جدلية الذات والرؤيا:
واضح هنا ، أن العودة للذات ومركزتها، إذا لم تغذ نقديا ومعرفيا وإبداعيا، تكن هذه الذات عالة على صاحبها وعلى نصها ككتلة من المشاعر الغافلة دون رصد ولا حوار. هنا نجد الشاعر حسن نجمي على وعي حاد بهذه المسألة، لأنه يعرف ملامح القصيدة التي يكتبها كقيم وصياغة ورؤيا لها مكانتها المخصوصة ضمن منجز القصيدة المغربية المعاصرة. وفي المقابل وغير خفي أن الشعراء اليوم يكتبون قصائد ولو ضمن قصيدة النثر بصيغ مختلفة. الشاعر حسن نجمي سعى إلى التخفف من إطارات القصيدة العربية التي تجعل النص الشعري يتحرك بالكاد وفي المتاح والمشترك، تخفف يسند الانفراد، ليس كعنوان لديوان فقط، بل كميسم للتجربة الشعرية لدى حسن نجمي. أكيد أن هذه الزاوية هتكت آفاقا وآفاقا بين التأمل والاستغوار، بين المرئي والمتواري ...
في صميم قصيدة مرتعشة تسند جوانب الداخل، يعمق الشاعر حسن نجمي نصه دون غموض أعمى أو تأليف بارد خال ٍ من الأعصاب الشعرية، وهو نص متشابك العلاقات، من ذلك العلاقة بالمكان، فيغدو هذا الأخير منطلقا من خلال تأثيث إبداعي له فعاليته الإبداعية، العلاقة بالتشكيل كرهان وأفق، العلاقة بالمرأة دون مثاليات تطمر الأصل، السفر المتلون والمتعدد. الصداقة بمعنى المصاحبة الوجودية، الكتابة المربع الذي يجذب كل شيء ويعيده على ذات... إن التأمل ضمن متخيل شعري عميق المشروع الجمالي يمنح معنى جديدا، لا يعطى؛ بل يستجمع من خلال ملاحقة الصور المتواترة والمتراسلة ضمن سياق خفي كحدود لزجة..
ـ على سبيل الختم:
الشاعر حسن نجمي واحد من الشعراء الإشكاليين، يخطو على درب القصيدة الطويل، برهانات وتجاوزات شعرية تنهض على أساس من التجربة والمقروء والإنصات لما يعتمل في القرار؛ بعد أن تلوذ الذات بذاتها التي تبحث عن استقلالها الرمزي الذي لا ينتهي في السفر. هنا تكون الممارسة الشعرية كسؤال يخلخل النمط والمتكلس. ويجعل الحياة طرية وصلبة الدواخل. في هذه الوضعية، تتحول القصيدة إلى أداة بحث في الحياة والوجود؛ بل في الكتابة نفسها. وذاك قلق لا ينتهي.
القدس العربي
2011-06-08